نقوس المهدي
كاتب
مر عام على الظهور الأول للراقصة الأرمينية صافيناز أو "صوفينار".
الحدث المدوي خارج جحيم السياسة، الراقصة الأنثى هائلة التفاصيل خرجت في لحظة عندما كان اليأس على وشك أن يُطبق على المصريين وينسيهم حيواتهم وكيف يمكن أن يستمتعوا بها، ظهرت صافيناز كعنصر من عناصر النجاح السينمائي، كأحد مقومات بنائه وأعمده بقائه. فيلم "القشاش" لم ينجح، على عكس كليب أغنيته الذي تسوقه "مقدمة" صافيناز الريانة وهي تلوّح بها بلا اكتراث، بموروث من الحذر في عرض المفاتن.. هكذا ببساطة.
نجح الكليب، كتوحش رقصها وحدّته، نجاحاً مشمولاً بالفزع الاجتماعي الحامل لتناقضاته: مشاهدته تعدّت ملايين المرات، مصحوبة باللعنات: مرة "لتشويه التراث" الذي فعله المغني حمادة الليثي عندما أعاد غناء "على رمش عيونها"، وقد تزامن ذلك مع رحيل وديع الصافي فأعطى الدعوى قداسة الموت. ومرة أخرى لهذا الجسد المتحرر تماماً، كما لم يتخيل أحد وجوده، ليس تحرر الإيحاء الإيروتيكي، بل عنفوان الجسد كتحدٍ لرتابة قيم آسنة.
تمثل صافيناز نموذجاً للأنثى "الرجراجة"، الأنثى كثيرة المحاسن، غزيرة اللحم كما في وصف محيي الدين ابن عربي لحبيبته نظام:
بِرِدْفٍ مَهُـولٍ كَدِعْـصِ النَّقَا تَرَجْرَجُ مِثْلَ سَنَـامِ الفَنِيـقِ
يشبّه ابن عربي مؤخرة حبيبته، بسنم الجمل، هذه "الغزارة" التي تقتحم العين دونما استئذان. وهكذا هي صافيناز، المرأة الأرمينية التي اقتحمت غزارتها العين المصرية المعتادة على رقص ذي إيحاء ناعم، بتعبيرات الوجه والتمايل اللين، لا برجة الصدر العنيفة كما في كليب "على رمش عيونها".. لا تحتاج صافيناز إلى "الإيحاء" طالما أن الجسد يحمل وحيه وحده.
يرى نيتشه الرقص تعبيراً عن الإرادة، وهو الذي لم يقدر على الاعتراف بإله لا يحب الرقص، الجسد الراقص لديه قدرة على الفن "وما الجسم المرن الذي ينطوي على قوة الإقناع إلا كالراقص الذي يرمز بحركاته عن مسرة نفسه، وهل المرح الأناني في مثل هذه الأرواح والأجساد إلا الفضيلة بعينها؟!".
وإذا كان الرقص تعبيراً عن هوية "الأنا" واحتمائها الوجودي، فالرقص "الشرقي" بمفارقة تتعلق بارتباطات قومية، صار جزءاً من نسيج "هوياتي" مصري، وصار مرتبطاً بمجموعة من الخرافات تختصرها مقولة صارت تنتقل كبداهة مسلّم بها: "الرقص الشرقي فن مصري". يمكن للعابرين بتعالٍ أخلاقي ألا يرون في الرقص الشرقي فناً، لكن يتشبثون بهويته المصرية في مفارقة هي الأغرب في العقلية المصرية، هذا التمسك بمصريته نابع من فزع لاواعٍ وإصرار على قالب صارم لمعنى أن يكون الفن مصرياً، كأن لسان حالهم: "الرقص مصري ونحن فقط من يرفضه ويحدد إن كان فناً أم لا".
مع أن مأسسة الرقص، وتحويل مساره من نشاط إيروتيكي على هامش الموالد، إلى فن ذي طقوس محددة وبزيٍّ محدد، هي "اللبنانية" بديعة مصابني. هذه المرأة التي تحتاج إلى كتابة منفصلة ودراسة مستفيضة لتأثيرها في الفن في بدايات القرن الماضي، وهي التي خرج الرقص من الكازينو الذي أسسته في شارع عماد الدين قطبي: تحية كاريوكا وسامية جمال.
يحاول كثيرون ممن ينتقدون ظاهرة صافيناز أن يرموها باتهام الإثارة الجنسية والإغراء، كأن الفن في عمومه منزّه عن الشهوة، وكأن أي نشاط إيروتيكي ينتقص من جودته ويهدم قواعده، فماذا إذن يمكن أن يقال عن أفلام المخرج الإيطالي بيرتولوتشي المليئة بالأجساد العارية، مثل فيلمي "الحالمون" و"التانغو الأخير في باريس"؟!
يكاد القرن يكتمل بين ظهور "كازينو بديعة" وظهور صافيناز، وما بينهما عُمر من البديهيات التي تحتاج إلى مساءلات جادة.. كتب شريف صالح في موقع "قل" أن "للجسد المصري حضوره الروحي، فهو جسد شهوي لا شهواني، بمعنى أنه لا يعرض ذاته عرضاً صريحاً وخاماً، بل موارباً ولماحاً. وهنا مفارقة وفتنة جسد المرأة المصرية عموماً، التي قد لا تحصل أبداً على أي لقب جمالي عالمي، وتبدو بعيدة كلياً من مقاييس الروميات والعارضات الأوروبيات، لكنها تتفوق على معظمهن بتلك المواربة الساحرة، وهو ما يفسر أدبيات كثيرة حول جاذبية المرأة المصرية، وخفة ظلها ودفئها.
لذلك، وبصفة عامة، تعجز أي راقصة أجنبية، مهما أوتيت من براعة وإتقان في الحركات، أن تمتلك تلك الخلطة السحرية للراقصة المصرية. ينطبق ذلك بالتأكيد على صافيناز التي، إن قورنت مثلاً بالراحلة زينات علوي، ستحسم صافيناز المقارنة جسدياً لصالحها بالمطلق، بينما تحسمها زينات لصالحها بالمطلق، كراقصة. فرقصة واحدة لزينات، في أسوأ حالاتها، تساوي كل ما يمكن أن تؤديه صافيناز في عمرها الفني كله.
ما الذي يتراكم، بعد مشاهدة تابلوه أو كليب لصافيناز، عدا الاستثارة الشهوانية؟ لا شيء! فمع افتقارها لسحر الأنثى المصرية، وكل هذه الفوضى في الحركة وعرض الأجزاء، لو تمعنّا قليلاً سنجد أنها "لا ترقص".. بل فقط "تقوم بتحريك وتنطيط أجزائها. ولا تستطيع أن تسمو بجسدها في علاقة خاصة مع الموسيقى، ومع ذاته".
يحمل شريف صالح في كلامه كل عناصر المشكلة، فلا يرى في الرقص سوى حضوره الهوياتي الضيق، وبمسحة فاشية يخلع عن الراقصات أي ملامح غير "مصرية"، ولا نعرف على وجه الدقة ما هي الملامح المصرية تحديداً. كما ينفي عن هذا الفن إيروتيكيته. الفن، بحسب كلامه، "سمو" فوق الجسد وانفصال عنه، كما أن الفوضى التي ينتقدها تفترض وجود نسق ما، يحيل إليه، فأي نسق يمكن الإحالة إليه؟ زينات علوي أو سامية جمال أو سهير زكي أو كاريوكا.. ولكل واحدة منهن طريقتها المختلفة –ربما جذرياً- في أدائها الراقص. تكشف صافيناز هذا "العوار". صحيح أنه لا قواعد صارمة للرقص الشرقي مثل الأنواع الأخرى، لكن هناك إطاراً عاماً يمكن من خلاله الحكم. وصحيح أن الإيروتيكية هي جزء أساسي فيه، لكنها ليست الوحيدة، وإلا تحول إلى عرض تعرٍ واضح، وحتى التعري لا يمكن طرده من مملكة الفن بجرّة قلم.
ربما وجود صافيناز يحرك الراكد في مفاهيم بالية لا تريد أن تختفي.
.
الحدث المدوي خارج جحيم السياسة، الراقصة الأنثى هائلة التفاصيل خرجت في لحظة عندما كان اليأس على وشك أن يُطبق على المصريين وينسيهم حيواتهم وكيف يمكن أن يستمتعوا بها، ظهرت صافيناز كعنصر من عناصر النجاح السينمائي، كأحد مقومات بنائه وأعمده بقائه. فيلم "القشاش" لم ينجح، على عكس كليب أغنيته الذي تسوقه "مقدمة" صافيناز الريانة وهي تلوّح بها بلا اكتراث، بموروث من الحذر في عرض المفاتن.. هكذا ببساطة.
نجح الكليب، كتوحش رقصها وحدّته، نجاحاً مشمولاً بالفزع الاجتماعي الحامل لتناقضاته: مشاهدته تعدّت ملايين المرات، مصحوبة باللعنات: مرة "لتشويه التراث" الذي فعله المغني حمادة الليثي عندما أعاد غناء "على رمش عيونها"، وقد تزامن ذلك مع رحيل وديع الصافي فأعطى الدعوى قداسة الموت. ومرة أخرى لهذا الجسد المتحرر تماماً، كما لم يتخيل أحد وجوده، ليس تحرر الإيحاء الإيروتيكي، بل عنفوان الجسد كتحدٍ لرتابة قيم آسنة.
تمثل صافيناز نموذجاً للأنثى "الرجراجة"، الأنثى كثيرة المحاسن، غزيرة اللحم كما في وصف محيي الدين ابن عربي لحبيبته نظام:
بِرِدْفٍ مَهُـولٍ كَدِعْـصِ النَّقَا تَرَجْرَجُ مِثْلَ سَنَـامِ الفَنِيـقِ
يشبّه ابن عربي مؤخرة حبيبته، بسنم الجمل، هذه "الغزارة" التي تقتحم العين دونما استئذان. وهكذا هي صافيناز، المرأة الأرمينية التي اقتحمت غزارتها العين المصرية المعتادة على رقص ذي إيحاء ناعم، بتعبيرات الوجه والتمايل اللين، لا برجة الصدر العنيفة كما في كليب "على رمش عيونها".. لا تحتاج صافيناز إلى "الإيحاء" طالما أن الجسد يحمل وحيه وحده.
يرى نيتشه الرقص تعبيراً عن الإرادة، وهو الذي لم يقدر على الاعتراف بإله لا يحب الرقص، الجسد الراقص لديه قدرة على الفن "وما الجسم المرن الذي ينطوي على قوة الإقناع إلا كالراقص الذي يرمز بحركاته عن مسرة نفسه، وهل المرح الأناني في مثل هذه الأرواح والأجساد إلا الفضيلة بعينها؟!".
وإذا كان الرقص تعبيراً عن هوية "الأنا" واحتمائها الوجودي، فالرقص "الشرقي" بمفارقة تتعلق بارتباطات قومية، صار جزءاً من نسيج "هوياتي" مصري، وصار مرتبطاً بمجموعة من الخرافات تختصرها مقولة صارت تنتقل كبداهة مسلّم بها: "الرقص الشرقي فن مصري". يمكن للعابرين بتعالٍ أخلاقي ألا يرون في الرقص الشرقي فناً، لكن يتشبثون بهويته المصرية في مفارقة هي الأغرب في العقلية المصرية، هذا التمسك بمصريته نابع من فزع لاواعٍ وإصرار على قالب صارم لمعنى أن يكون الفن مصرياً، كأن لسان حالهم: "الرقص مصري ونحن فقط من يرفضه ويحدد إن كان فناً أم لا".
مع أن مأسسة الرقص، وتحويل مساره من نشاط إيروتيكي على هامش الموالد، إلى فن ذي طقوس محددة وبزيٍّ محدد، هي "اللبنانية" بديعة مصابني. هذه المرأة التي تحتاج إلى كتابة منفصلة ودراسة مستفيضة لتأثيرها في الفن في بدايات القرن الماضي، وهي التي خرج الرقص من الكازينو الذي أسسته في شارع عماد الدين قطبي: تحية كاريوكا وسامية جمال.
يحاول كثيرون ممن ينتقدون ظاهرة صافيناز أن يرموها باتهام الإثارة الجنسية والإغراء، كأن الفن في عمومه منزّه عن الشهوة، وكأن أي نشاط إيروتيكي ينتقص من جودته ويهدم قواعده، فماذا إذن يمكن أن يقال عن أفلام المخرج الإيطالي بيرتولوتشي المليئة بالأجساد العارية، مثل فيلمي "الحالمون" و"التانغو الأخير في باريس"؟!
يكاد القرن يكتمل بين ظهور "كازينو بديعة" وظهور صافيناز، وما بينهما عُمر من البديهيات التي تحتاج إلى مساءلات جادة.. كتب شريف صالح في موقع "قل" أن "للجسد المصري حضوره الروحي، فهو جسد شهوي لا شهواني، بمعنى أنه لا يعرض ذاته عرضاً صريحاً وخاماً، بل موارباً ولماحاً. وهنا مفارقة وفتنة جسد المرأة المصرية عموماً، التي قد لا تحصل أبداً على أي لقب جمالي عالمي، وتبدو بعيدة كلياً من مقاييس الروميات والعارضات الأوروبيات، لكنها تتفوق على معظمهن بتلك المواربة الساحرة، وهو ما يفسر أدبيات كثيرة حول جاذبية المرأة المصرية، وخفة ظلها ودفئها.
لذلك، وبصفة عامة، تعجز أي راقصة أجنبية، مهما أوتيت من براعة وإتقان في الحركات، أن تمتلك تلك الخلطة السحرية للراقصة المصرية. ينطبق ذلك بالتأكيد على صافيناز التي، إن قورنت مثلاً بالراحلة زينات علوي، ستحسم صافيناز المقارنة جسدياً لصالحها بالمطلق، بينما تحسمها زينات لصالحها بالمطلق، كراقصة. فرقصة واحدة لزينات، في أسوأ حالاتها، تساوي كل ما يمكن أن تؤديه صافيناز في عمرها الفني كله.
ما الذي يتراكم، بعد مشاهدة تابلوه أو كليب لصافيناز، عدا الاستثارة الشهوانية؟ لا شيء! فمع افتقارها لسحر الأنثى المصرية، وكل هذه الفوضى في الحركة وعرض الأجزاء، لو تمعنّا قليلاً سنجد أنها "لا ترقص".. بل فقط "تقوم بتحريك وتنطيط أجزائها. ولا تستطيع أن تسمو بجسدها في علاقة خاصة مع الموسيقى، ومع ذاته".
يحمل شريف صالح في كلامه كل عناصر المشكلة، فلا يرى في الرقص سوى حضوره الهوياتي الضيق، وبمسحة فاشية يخلع عن الراقصات أي ملامح غير "مصرية"، ولا نعرف على وجه الدقة ما هي الملامح المصرية تحديداً. كما ينفي عن هذا الفن إيروتيكيته. الفن، بحسب كلامه، "سمو" فوق الجسد وانفصال عنه، كما أن الفوضى التي ينتقدها تفترض وجود نسق ما، يحيل إليه، فأي نسق يمكن الإحالة إليه؟ زينات علوي أو سامية جمال أو سهير زكي أو كاريوكا.. ولكل واحدة منهن طريقتها المختلفة –ربما جذرياً- في أدائها الراقص. تكشف صافيناز هذا "العوار". صحيح أنه لا قواعد صارمة للرقص الشرقي مثل الأنواع الأخرى، لكن هناك إطاراً عاماً يمكن من خلاله الحكم. وصحيح أن الإيروتيكية هي جزء أساسي فيه، لكنها ليست الوحيدة، وإلا تحول إلى عرض تعرٍ واضح، وحتى التعري لا يمكن طرده من مملكة الفن بجرّة قلم.
ربما وجود صافيناز يحرك الراكد في مفاهيم بالية لا تريد أن تختفي.
.