محمد حجيري - "الرقّاصة": "أفعى النيل".. أو "تنويم مغناطيسي"

لا يمكن الحديث عن الاغراء في العالم العربي، من دون التطرق إلى عوالم الرقص الشرقي، فهو العمود الفقري للاغراء وله قاموسه وناسه وتعابيره وعالمه وخصومه وقصصه. وعلاقة المجتمع بالرقص الشرقي ملتبسة. ثمة جمهور يسعده نموذج سامية جمال، وهند رستم، ونجوى فؤاد، وتحيّة كاريوكا، ونعيمة عاكف، وداني بسترس، وصولاً إلى هويدا الهاشم، لكن هذا البعض يقابله فريق آخر، نتيجة للثقافة البطريركيّة السائدة، يبتذل مهنة الرقص و"الرقّاصات" (بحسب التسمية العاميّة و"الشعبوية")، باعتباره أكثر أشكال الإغراء "سلبيةً" و"فحشاً". ولا يمكن الاحاطة بالرقص والراقصات من خلال عجالة عابرة أو مقاربة سريعة، لكن التأمل في فكرة محددة، قد تعطي اشارات عن روحية الاغراء في الرقص الشرقي.


فقد ربط بعضهم بين أفعى النيل وبين بعض الحركات التي اشتهرت بها الراقصات أو الغوازي في مصر، وتتمثل تلك الحركة في رفع الذراعين إلى أعلى ثم إنزالهما تدريجياً بانحناءة تشبه تلوّي الأفعى، وهي حركة تحمل من الإثارة والإيحاء ما يضعها في مرتبة الإغواء. وحتى مع تطور الرقص الشّرْقيّ وظهور مدارس عدّة له، استمرت هذه الحركة تيمة أساسية وثابتة مع بداية كل رقصة، واستخدمتها راقصات مشهورات مثل تحيّة كاريوكا وزينات علوي وسهير زكي وغيرهن. فهي تدلّ على غواية المرأة للرجل، وإغرائها له، وتعبيرها عن حركة الأفعى أثناء زحفها بما تحمله تلك الأفعى من ميراث في الأذهان يرتبط بالغواية والخطر هو الأقرب من إعطائها أي تفسيرٍ آخر. وما يرجح ذلك أن ربط حركات الراقصات الشّرْقيّات بالأفعى لا يقتصر على حركة أذرعهن في بداية الرقصة أو وسطهن فقط بل يتمثل في حركة الجسد كلّه.

نجمات الرقص الشرقي هن صانعات قاموس الاغراء في العالم العربي، هل ننسى سامية جمال بجسدها الطاغي والهادئ كالفراشة، وامتلاكها الأداء الشهواني في الرقص في بعض المشاهد، حتى من دون تحريك الارداف او الثياب المثيرة؟ كانت نظرة سامية وحركة جسدها أول غيث الرغبة لجيل كانت يتابع التلفزيون في زمن الأبيض والأسود. وهل ننسى أيضاً تحيّة كاريوكا، التي يقول المخرج يوسف شاهين عنها "جسمها شِعر"، وهي قدمت في العام 1956 فيلميها "سمارة" و"شباب امرأة"، جسدت فيهما النموذج الأكمل للجسد الأنثوي، والمرأة التي تعرف كيف تسيطر على الرجال بجسدها وكيف تستمتع بتنافس الرجال على حيازة هذا الجسد. يقول أمين يوسف غراب كاتب فيلم "شباب أمرأة": حاولت أن أقدم نموذجاً للأنوثة في نضجها و"الإثارة الجنسية " من دون ابتذال. واخترت لهذا الدور تحيّة كاريوكا دون غيرها التي ذابت في شخصية "شفاعات" ونسيت شخصيتها الحقيقية، لسنوات"... وبمجرد النظر إلى ابتسامة تحيّة يتذكر المشاهد ذلك الجسد الجذاب والطربي والمنسجم على نعومة آخاذة وساقين وجدتا لتكونا للرقص من دون ذرة ابتذال.

واشتهرت راقصات ايضا كسهير زكي، ونعيمة عاكف وهند رستم. وهذه الاخيرة كانت تنضح اغراء من لحم ودم وهي ترقص للرجال، عبر جسدها الهادر بالفتنة والقادر على الاستيلاء على عيون الرجال وعقولهم، خصوصاً حين تكون على الشاطئ وتخرج مبللة بالماء. هذا دون ان ننسى نجوى فؤاد التي تدعي ان رقصها (الشرقي) يرجع الى الرقص الفرعوني، وذلك ما تؤكده في احدى مقابلاتها ولكنها لم توضح أي أسس تعتمد... وهناك العشرات من الراقصات اللواتي لهن دورهن في التاريخ الاجتماعي، لكن الابرز في تاريخ الرقص يبقى الثنائي تحية كاريوكا وسامية جمال.

وتظل "أفعى النيل" (عنوان كتاب للمستشرقة وندي بونافنتورا صدر عن دار الساقي) تمثّل النموذج المثالي الذي تجسده الرقصات الأفعوانيّة، نظراً لرشاقة هذه الأفعى وسرعة التوائها وتجسيدها للخطر اللذيذ غير المؤلم، وهو المنطق الذي يقوم عليه الرقص عموماً، وهو منطق "إماتة الجسد وتصفيته من كل الشوائب المتراكمة داخله" ومحاولة مصالحته مع الروح، وفقاً للرقص في المفهوم الصوفي أو رقص المولوية والدراويش. وتلعب حركات الأفعى أكثر من دور في تهيئة المشاهد وتوجيهه ومنحه كل ما يرغب فيه من متع وتشويق وإحساس بالخطر، ومع أن دورانات الجذع والردفين تثير التخيلات الجنسيّة والاستيهاميّة، فإن الحركات الجميلة للذراعين واليدين مهمّة للراقصة الجيدة أهمية تلك لها، وهي شهوانية من دون أن تكون مصبوغة بصبغة الجنس بصورة مباشرة.

الراقصة ترقص رقصاً منفرداً وتتحرك بطريقة شجاعة ومتحديّة، تواجه المشاهدين والحاضرين بطاقة جسمانية أفعوانية، تنظر إليهم إلى درجة يشعر كل رجل أنها تنظر إليه وتريده. ويساعد الزّي الذي تلبسه الراقصة الشّرْقيّة على جعلها لا تكشف عن أجزاء كثيرة من جسدها، وهي تتوصل إلى التأثير الجنسيّ عن طريق تحريك جسدها أكثر منه عن طريق عرضه فحسب. والرقصة بمزجها بين الحشمة والعرض وبحركاتها المنسابة المتموجة، لها صفة مهدئة مسكنّة تخفف ما فيها من إثارَةٍ جنسية. على أن إثارة الرغبة الجنسية تقابلها وتصدّها اللذّة البصرية الصرف في الحركة السلسة الصافية والاستمتاع الصوتي، بالموسيقى، وهذان معاً يبعثان أحياناً هدوءاً يكاد يكون منوماً ومغنطيسياً، يقطع حبله الاستعجال في سرعة الموسيقى والتغيير في الإيقاع. وحين كتبت وندي بونا فنتورا، عن الرقص الشرقي، وجدت ان انجذاب النساء لهذا الرقص هو انهن يجدن في الأوراك المتمايلة شبها بالتنويم المغناطيسي. والتموجات الجسدية هي خلاصة الأنثوية والترفع والرقة والقوة، الى جانب حركة الاوراك المتحدية تشكل جاذبا كبيرا للراقصة التي تتعرف على نفسها كامرأة، ويتم ذلك بقلة الحركات لا في كثرتها.

نقول أن رقص سامية جمال أول غيث الرغبة، وتحية "جسمها شِعر"، ونستدرك حين نصل إلى الراقصة دينا، لنشعر أن الإبتذال يسبقها في الرقص، "تدلق" صدرها العارم وتظهر أشكالاً من الثياب، تجعلنا ننفر منها، وإن سماها بعضهم الراقصة الأخيرة، وهي نموذج ساطع لقافلة من الراقصات اللواتي سامهن في ابتذال اللذة البصرية.





* الحلقة (11) من ملف "الاغراء العربي في صوره المتعدّدة"، والمقاربة استندت في جوانب منها إلى بعض الدراسات المخصصة عن الرقص الشرقي.


.
- عن موقع المدن
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...