منصف الوهايبي - في ثقافة الإسلام الرحبة : حبّ بدويّ أم عذري؟

يثبت أدونيس في تعريف الحبّ العذري أنّه الصّدق في الحبّ و الاخلاص لامرأة واحدة، دون أن يستتبع ذلك ضرورة نفي الحسيّة و الشّهوانيّة. وهذا تعريف سائغ مقبول، ولعلّه أكثر دقّـة من تعريفات أخرى عامّة تذهب إلى أنّ الحبّ العذري هو الحبّ الطّاهر العفيف البريء مقابل الحبّ الحسّي أو الماجن المتعهّر، إلّا أنّ استخدام أدونيس لعبارات مثل الصّدق و الإخلاص تخلّ شيئا ما بدقّته

فهذه العبارات مسلّطة على النصّ من خارج، و لا صلة لها بمفاهيم الأدب والشّعر عامّة ولا بالغزل أو الحبّ وبخاصّة عند العرب، فضلا عن أنّ مصدرها نظرة أخلاقيّة معياريّة لا نخالها تخفى. و اذا أمكن تقدير الحبّ العذري و تقييمه باعتماد "المعايير" الأخلاقيّة فما الذي يحول دون اعتمادها في تقدير الحبّ الحسّي و تقييمه؟ و لماذا لا يكون عمر بن أبي ربيعة صادقا في حبّه الحسّي ؟

لهذا نقترح مقتربا مختلفا بحيث ننظر إلى الحبّ العذري على أنّه "حبّ " طفولّي " أموميّ"، ولكنّه "حسّي" هو أيضا. ففي التـّعـلّق بالقسم الأعلى من جسد المرأة ـ على نحو ما نجد في كثير من قصص العذريّين الذين يصفون القبلة ورضاب المرأة وصدرها ومعصميها ـ ارتداد، على ما يبدو، إلى مرحلة من مراحل الطّفولة الأولى و حنين إلى صدر الأم ّ أو حضنها . و ليس الإعراض عن القسم الأعلى إلّا إعراضا عن الجزء المحرّم من جسد الأمّ ، قد يكون مصدره الخوف من صورة "المرأة ذات القضيب " بتعبير علماء النّفس أومن صورة الأب من حيث هو رمز الثّقافة القامعة. و هذا الإعراض لا ينفي الجانب الحسّي في الحبّ العذري بل لعله يؤكّده و يثبته" فكلّ ما ليس تناسليّا في الحبّ إنّما هو جنسيّ" كما يقول جورج باتاي.

و على هذا الأساس يمكن القول إنّ الحبّ العذري أو البدوي لا يقع في الطّرف الاخر من الـحبّ الجسدي، كما توهم بذلك شتّى التّعريفات التي نجدها عند العرب المعاصرين، و إنـّما يقع في الطّرف الآخر من " الحبّ الخلاعي " ،فما أن تظهر الخلاعيّة أو الإباحيّة، حتّى يضمحلّ العشق أو الغرام

وللحبّ شطر مطلق من عقاله وللبعل شطر ما يرام منيع

أمّا إذا حصرنا تأويلنا في سياق هذه القصص وما يرفدها من شعر، فإنّ هذه المرأة الرّمز و هذا الجسد الاستعارة ليسا إلاّ" لعبة شعريّة " لها قواعدها المحدّدة التي لا ينبغي الحياد عنها ، فإذا حيد عنها أو استبدلت قواعدها بقواعد أخرى ، كان المستمع او الناقد من النّصّ ، بإزاء حكمين : إماّ أن يعتبره "لامألوفا" أو أنّ صاحبه خارج على النّموذج عابث بأصوله. و إماّ أن يعتبره محدثا ويعتبر صاحبه مجدّدا للأصول. ذلك أنّ اللّعب بما هو لعب، يقتضي مشاركة الآخر(السّامع أو المتلقّي)، وتواصله عنصر لا غنى عنه. ويفترض فيه أن يضع نفسه في الصّميم من هذا "اللّعب" حتّى يتسنّى لـه أن يقف على لعبة القصّاص أو الرّاوي، ويدرك الطّريقة التي يلعب بها. وفي هذا السّياق يتواشج "اللّعب" و"الرّمز"، ومن الصّعوبة بمكان أن نفصل بينهما في هذه القصص.

من أهمّ هذه القواعد قواعد اللّعب القصصي أنّ الرّجل هو الذي ينسب بالمرأة أي يتغزّل بها أو هو الذي يبادر بإعلان حبّه ، و لا ينبغي للمرأة أن تشبّب بالرّجل فالعادة عند العرب أنّ الرّجل هو"المتغزّل المتماوت، وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطّالبة و الرّاغبة المخاطبة و هنا دليل كرم النّحيزة عند العرب و غيرتها على الحرم".

هذا بالرّغم من أنّ المرء لا يعدم في الوفرة من قصص الحبّ ومن شعر الغزل عند العرب ، حكايات وقصائد و أبياتا متفرّقة ، تشبـّب فيها المرأة بالـرّجل أو تتغزّل به أو تفصح عن رغائبها، ولكنّها من النّدرة بحيث لا يعتدّ بها و لا يحتجّ في نفي القاعدة السّائدة . فالمرأة في أكثر هذه القصص موضوع و ليست ذاتا . وعلى هذه القاعدة تتحدّد صورتها و تقاس مهارة القصّاص الفنيّة و وفاؤه للنّموذج، على نحو ما كانت تقاس مهارة الشّاعر.

فاذا كان غياب المرأة من حيث هي كائن اجتماعي يقابله، في قصص الحبّ الحضري، حضور جسدها الشّهواني المتخيّل ، فإنّ حضور الرّجل من حيث هو ذات فاعلة يقابله غياب جسده من حيث هو موضوع لرغبة المرأة، إلاّ في حالات نادرة كتلك التي نقف عليها في القصص المنسوبة إلى امرئ القيس أو سحيم عبد بني الحسحاس، أو عمر بن أبي ربيعة. فهذه الرّغبة لا تظهر في قصص الحبّ ،لأنّ العرف عند العرب ـ على ما أسلفنا ـ يجعل من المرأة وحدها موضوع رغبة.

وعلى أساس من هذه القاعدة يمكن أن تلمّ بأظهر الخصائص في قصص الحبّ العذري مثل إصرار العاشق على التّعلّق بالمحبوبة حتّى وهي متزوّجة، في عصمة رجل آخر، ممّا يحرّمه الشّرع والمجتمع، أو موت العاشق أوالاثنين معا، موتا أبيض" يشهق شهقة فيموت"، أو صورة العاشق أو جسده الذي ينحل حتى يكاد لا يرى . و هي الصّورة التي تعاقبوا عليها و احتالوا لها بطرق فنّية شتّى عسى أن يجدّدوا فيها أو يضيفوا إليها .وأمثلتها أكثر من أن نلمّ بها في حيّز كهذا.

ومنها ما جاء في قصّة مرقّش الأكبر. فقد زوّجوا معشوقته أسماء في سفره. ثمّ ذبحوا كبشا ودفنوا عظامه، حتّى إذا قدم المرقّش أخبروه أنّها ماتت وأتوا به موضع القبر. فصار بعد ذلك يعتاده ويزوره، "وقد ضني ضنا شديدا". ثمّ يعرف الحقيقة، ويذهب في طلب المرادي زوج أسماء. وفي الطّريق يمرض "حتّى ما يحمل إلاّ معروضا". وتنتهي القصّة بموته في بيت أسماء..

وربّما اختلفت قصّة عبدالله بن عجلان و هند قليلا، فلعلّه الوحيد من بين هؤلاء العشّاق، الذي تزوّج بمحبوبته. ولكنّه طلّقها ليعيش مكابدا المحبّة وغصّة العشق ثلاثين سنة، حتّى ضرب به المثل كما ضرب بعروة. وبالرّغم من أنّ قصّته تبدو مختلفة، كما أشرنا، فإنّنا نعتبرها من قصص الحبّ البدوي، لسبب واحد، على الأقلّ، وهو وفاؤه أو إخلاصه لامرأة واحدة. فما يميّز حبّا بدويّا من حبّ حضريّ، أنّ من سمات الأوّل الوحدانيّة في الحبّ، دون أن يستتبع ذلك نفي البعد الجسدي ضرورة، فيما التّعدّديّة في الحبّ، من سمات الثّاني، دون أن يستتبع ذلك نفي البعد الرّوحي أو العفّة ضرورة..

يروي داوود الأنطاكي صاحب "تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشّاق"، أنّ عبد الله بن عجلان أحبّ هندا أوّل ما أحبّها، وقد رآها تغتسل في ماء يقال له نهر غسّان، كانت بنات العرب تقصده. أي أنّ الصّورة الأولى التي ترتسم لهذا العاشق الشّهير، هي صورة "المتلصّص" الذي يستمتع بالنظر إلى مشهد غراميّ مثير.

وهذا النّظر ليس الا نظرا شهوانيا، دون أن تعنى الشهوة بالضرورة في هذا السياق؛ امتلاك الموضوع امتلاكا فيزيائيا، فهي إدراك لجنسيّة الآخر وانكشاف جسمه وجسم المشتهي معا. لذلك فان قراءة هذه اللغة ، هي قراءة في جسد الحب من حيث هو جسد المرأة العاشقة/ المعشوقة و جسد الرجل العاشق/المعشوق معا ، و اصغاء لجسد اللغة في وضعية معينة وحالة مخصوصة . وعلى هذا الاساس فان كل خطاب عن الجسد لا يمكن الا ان يكون خطابا في جسد اللغة ولغة الجسد معا


منصف الوهايبي
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...