منصف الوهايبي - كتّاب متلصّصون (Voyeurs ): فوزيّة الزواري والطبري

كنت عام 2009 قد ترجمت رواية الكاتبة التونسيّة فوزيّة الزواري" لمتورنة" بطلب من المركز الوطني للترجمة، لمّا كان يديره صديقنا الأستاذ محمّد محجوب. وأذكر أنّ بعض الذين قرأوا الرواية استغربوا جرأة فوزيّة أو "تلصّصها"؛ ومثاله هذا النصّ المقتطع من فصل طويل: "ينغلق الباب ذو المقبض النحاسيّ دون صرير. أمشي، تتقدّمني يداي لأفتح لي مسلكا في الظلام. أولّي وجهي شطر المقام مستسلمة لغريزتي ذاهبة إلى وجهة قاتلة كثور الأضحية. يتعقّبني زوج أختي “توفيق”.

أعرف ذلك، لا من صوت ما، لكن بصدى أفكاره في أفكاري،ولا ينتابني هذه المرّة خوف ولا ضيق. وإذ أجلس بالقرب من مقام سيدي الميزوني يقترب منّي وئيدا في حذر دون أن ينبس بكلمة. أتلفت نحوه وبعنف أمسك به. نفس القوّة التي كانت لي وأنا صغيرة في الحلم السّابق، صلّبت أصابعي التي طوّقت عنقه. لم يعد زوج أختي سوى شيء أعرّيه وأعنّفه وأمزّق جلده. مزّقت بأسناني قميصه الذي ينفتح أخيرا. يغمض عينيه ولا يكاد يدافع عن نفسه وقد أخفى وجهه بين يديه وضمّ رجليه إلى صدره. هاهو عار. أنثر ملابسه حولي فيجثو كحيوان جريح . أركبه، مثبّتة يديه إلى الأرض، نازلة بكلّ ثقلي على حوضه. تصّاعد أغنية في أعماقي و ترتدّ في الوادي. لا أعلم أخرجت من صدري أم من هضبة للّا شاردة لتكن النّجوم شهودي! يعتريني شعور أنّني سيّدة الليل وربّة القرية. عشيقة سيدي الميزوني أرمق العالم بعيني جنيّة بريئة. وأجلس... فوق ... رجل خاضع. يستسلم توفيق لي. لا أرى قسمات وجهه المخفيّ وراء يديه وقد استطاع أن يخلّصهما من قبضتي. لا أسمع سوى حشرجته التي لم يعد يخفيها. أمتطيه كما أرغب. أجعل من جسده المنتصب كضوء في الظّلام وشعره الذي يسيل عرقا ومطرا، مضجعي..." Fawzia Zouari,La retournée,Editions Ramsay,Paris 2002 2006,Editions Ramsay pour l’édition de poche.. وربّما غاب عن بعضهم أنّ الكتابة تلصّص وأنّ التلصّص يكون مهنة الكتاب والفنّانين والشعراء، فأيّ منهم لم يتلصّص ولم يفعل فعلته في ستر أو لم يتخلّق بأخلاق اللصّ، كما يقول العرب؟ بدءا بأبي نواس وهو يرقب من كوّة في شبكة اللغة المغتسلة وقد نضت عنها القميص لصبّ ماء... قصيدة برع سي توفيق بكار في شرحها، وصولا إلي جيمس جويس في روايته "فينـجان يستيقظ "حيث نتلصّص مع الكاتب، في فصل منها علي أنّا ليفيا بلورابيل وهي تتهيّأ لملاقاة عشيقها، فتتعرّي، وتغتسل بالماء البارد والطّمي المعطّر، وتتزيّن بأوراق النّبات وحشائش المروج وأعشاب البحر.. فرواية الياباني ميشيما "البحّار الذي لفظه البحر" حيث يتلصّص نبورو كيرود ابن الثالثة عشر علي امّه التي يعيش وحيدا معها، ويكتشف علاقتها بضابط في البحريّة التّجاريّة. ويكاد لا يساورني شكّ في أنّ صنع الله ابراهيم تلصّص في روايته: "التلصّص"، على رواية الياباني ميشيما، واستبدل الأمّ بالأب؛ عسي أن يمحو أثرا؛ فيما المحو أدلّ علي الأخذ وأنمّ. وفيها نرى بعيني طفل مصر الأربعينات في زواياها وتفاصيلها وشواردها ..أخبار القصر والأحزاب وفساد السّلطة والعرب وإسرائيل والاخت والأمّ التي نحار أهي ميّتة أم مطلّقة، ثمّ نكتشف أنّها في مستشفي المجانين... ونرى نجيب الريحاني وليلي مراد وصالح عبد الحي وسلامة موسي وطه حسين، ومحمد القصبجي والأوبرا. وهو تلصّص علي الماضي، من ثقب الباب لعلّه باب الحاضر، يلازم الطّفل كما الأب، وبخاصّة في المشاهد المضحكة السّاخرة: الأب العاري وفاطمة الشغالة، أو وهو يتلصص علي أخته عند زيارتها في منزلها، فيذرع أنحاء الشقة ويطلّ من الفتحات على الغرف المغلقة التي تتكشّف أمامه ويعرّي الناس من ملابسهم، وأقنعتهم فنري زوج أخته يجري وراء الخادمة ثمّ يعود لوقاره المتصنّع أمام الطّفل، وكأنه لم يأت شيئا. أمّا عند العرب القدماء فما أكثر النصوص التي تنضوي إلى طقوس الكتابة الاحتفائيّة بالحبّ أو بالجنس.

وهذا ممّا يدفعنا إلى ترجيح القول بمثل هذه الكتابة الاحتفائيّة المكشوفة وما تعقده من أواصر بين ما هو احتفائيّ وما هو لعبيّ في عمليّة أقرب ما يكون إلى مناظرات لعبيّة تستكمل ما أُثِر عن العرب عامّة من أنّهم كانوا ينظرون إلى المرأة، من بين ما كانوا ينظرون به إليها، على أنّها لعبة الرّجل. ولكنّها نصوص ـ ونحن لسنا بصدد البحث في مضمونها أو مَقول قولهاـ حرّة لا قيد علها ولاحدّ. الطبري يتلصّص على يوسف وامرأة العزيز "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ" قال الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة: إنّ راعيل [زليخة] أخذت تذكر ليوسف محاسنه وتشوقه إلى نفسها أي تتحرّش به، بلغتنا نحن اليوم قالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك قال: هو أول ما ينتثر من جسدي قالت: يا يوسف ما أحسن وجهك قال: هو للتراب يأكله فلم تزل به حتى أثارته، وفي رواية الطبري "أطمعته" ونزعت نفسه إليها شهوة لها. فهمّت به وهمّ بها فدخلا البيت وغلّقت الأبواب وذهب ليحلّ سراويله فإذا هو بصورة يعقوب قائما في البيت قد عضّ على أصبعه يقول: "يا يوسف تواقعها؟ فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يُطاق. ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه. ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه. ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه. فربط يوسف سراويله واندفع ليخرج فأدركته راعيل فأخذت بمؤخّر قميصه من خلفه فخرقته حتى أخرجته منه وسقط وطرحه يوسف وجرى نحو الباب..." و قد انزوى أسلافنا في التفاصيل والشوارد؛ وكأنّهم من "المتلصّصين" فقال ابن عباس إنّ يوسف جلس من "راعيل" مجلس الخاتن [الطهّار] .وقال ابن عباس: "استلقت له على قفاها وجلس بين رجليها ،وحل ثيابه أو ثيابها..." وأخرج آخرون أنّها تزيّنت له ثم استلقت على فراشها،

وهمّ بها فجلس بين رجليها، يطلق تكّة سراويله ويحلّ ثيابه حتى بلغ الإليتين، وقعد بين شُعبها[اليدان والرجلان]؛ فنودي من السماء: يا ابن يعقوب لا تكن كطائر نتف ريشه فبقي لا ريش له. فلم يتعظ على النداء شيئاً حتى رأى برهان ربه إذ تمثّل له جبريل في صورة يعقوب عاضاً على أصبعه، ففزع فخرجت شهوته من أنامله. وهكذا نرى كيف أنزل الطبري النبيّ يوسف، سهلَ الأباطح.. بعد أن رفعه القرآن إلى أعلى عليّين، حتى ليتهيّأ للقارئ ..كما لو أنّه كان يراقب المشهد من كوّة في بيت عزيز مصر ولكنّه كتب لنا مع ذلك، نصّا قصصيّا ممتعا، وهو يفسّر نصّا مقدّسا، أداره على ضرب من التلصّص
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...