نقوس المهدي
كاتب
يبدو التّراث الغراميّ عند العرب المسلمين على غاية من التّنوّع والغنى، وهو يناظر في تشكلّه التّنوّع والغنى اللّذين أسهما في بناء الحضارة نفسها. بيد أنّنا لا نروم في هذا المقال الإلمام بكلّ ضروب الحبّ عند أسلافنا، ولا يعنينا أن نستخلص نظريّتهم في الحبّ،
فذاك مطلب عزيز تجشّم عناءه غيرنا، وكان لصديقتنا الكاتبة رجاء بن سلامة قصب السبق فيه. إنّما نحن نحاول أن ندفع الجهلة من "الإسلاميّين" و"السلفيّين" إلى قراءة تراثهم العظيم، عسى أن يدركوا أنّ ثقافة الإسلام أرحب ممّا يتصوّرون، وأنّها لا تنحصر في العبادات والطقوس والشعائر الدينيّة على جلالها. إنّما هي تتعدّاها إلى ضروب من الحب يتداخل فيها النّفسيّ والجسديّ في منحى يخفّف من المغالاة في روحنة الحبّ؛ مثلما يتجلّى ذلك في ما يرد من قصص "الحبّ الحضري" وفي التّعفّف عن شهوانيّة الجسد على نحو يتجلّى في قصص "الحبّ البدويّ" حيث التغنّي بالجسد في بعض نصوص الشّعر العذريّ وتكثيف الاستعارة بشأن بعض أعضائه مناسبة لكشف شوق يغلب على النّفس أكثر ممّا يغلب على ميول الجسد.
لكن مقابل هذا الخطاب، كان ثمّة صنف آخر من الكتابة الأيروتيكيّة يتنامى في تراث العرب ضمن سياق من تعاقب الظّهور والضّمور بحسب التّعاقب بين شدّة الأعرافوصرامة الأحكام وبين تراخي القوانين ومرونة القيم؛ وهي كتابة مفرطة في "إباحيّتها". وقد لا يمكن تنزيلها باصطلاح اليوم إلاّ ضمن مجال البورنوغرافيا، نظرا إلى "إباحيّتها" المفرطة وإلى كونها لا ترى غضاضة في عرض أسماء الأعضاء الجنسيّة بأسمائها التي تمجّها الأسماع عادة بحكم عوامل أخلاقيّة. كما أنّها لا تتردّد في وصف مفصّل دقيق لأوضاع من الجماع مختلفة، بل هي تتقصّد ذلك وتتعمّده. وقد يكون صحيحا أنّ مثل هذه الكتابة الجنسيّة المكشوفة التي تنتسب إلى فترات متأخّرة من تراث العرب تبلغ ذروتها في عصر "الانحطاط "؛ إلاّ أنّه قد لا يكون من المجدي أن ننظر إليها بعيني الازدهار والانحطاط. وإنّما قد يكون من الأجدر النّظر إليها من زاويتين
أولاهما راجعة إلى ما يسمّيه الشّيخ الفاضل بن عاشور "التّناسب الوضعي التّوالدي" الذي يربط بين الفنون والعلوم المتنوّعة في وحدة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة. وهو التّناسب "الذي بمقتضاه اتّخذ كلّ فنّ من الفنون الشّعريّة والأدبيّة والحكميّة زيادة على كيانه الذّاتي قواما تناسبيّا في ما يصل عامّة الفنون بعضها ببعض…وهو المعرفة العالميّة الكلّية، فإنّ كلّ علم من العلوم قد اكتسب من استناده إلى العلوم الأخرى من فصيلته ومن غير فصيلته ما جعله في غاياته واستعداداته مرتبطا بوضع عامّ تتصرّف بمقتضاه تصرّفا تناسبيّا توالديّا." (انظر مقدّمة منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجنّي)
وثانيتهما كونها تنضوي إلى طقس من طقوس الكتابة الاحتفائيّة بالحبّ أو بالجنس. وهذا ممّا يدفعنا إلى ترجيح القول بمثل هذه الكتابة الاحتفائيّة المكشوفة وما ينعقد بينها من أواصر بين ما هو احتفائيّ وما هو لعبيّ في عمليّة أقرب ما يكون إلى مناظرات لعبيّة تستكمل ما أُثِر عن المسلمين عامّة من أنّهم كانوا ينظرون إلى المرأة،من بين ما كانوا ينظرون به إإليها، على أنّها لعبة الرّجل
ومن هنا تتحوّل صورة الجسد في أدب الحبّ عند العرب وفي الكتب التي تدور في فلكه أو في أدب الجنس إلى نوع من اللّعب الكنائي أو الرّمزي، بالمعنى الدّقيق للكلمة. ولعلّ خير مثال لذلك كتاب الإمام جلال الدّيـن السّيوطي (849هـ/1445م ـ911هـ/1505م) الموسوم بـ"رشف الزّلال من السّحر الحلال". وهو يضمّ عشرين مقامـة تتفاوت طولا وقصرا، أسـندها الكاتب إلى علماء من اختصاصات ومشارب مختلفة، وموضوعها أن يتحدّث كلّ منهم عمّا اتّفق لـه ليلة زفافه مع امرأته، مكنّيا أو موريا بمصطلحات علمه. وللسيوطي ولا ننسى أنه صاحب "الإتقان في علوم القرآن" و"الدر المنثور في التفسير بالمأثور" وغيرهما وهو كثير من مصنفات في الحديث والقرآن، مؤلفات جنسيّة غير قليلة مثل "الوشاح " ونواظر الأيك " و"الإفصاح " ومباسم الملاح ومناسم الصباح " و"الزنجبيل القاطع " (قصيدة في مئة وخمسين بيتا) و"نزهة المتأمّل ومرشد المتأهّل" و"المستطرفة " و"نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسود والسمر" و"اليواقيت الثمينة في صفات السمينة.
اتبع السيوطي في "رشف الزلال" أسلوب المقامة، وأسند الكلام إلى شخصيّة متخيّلة: أبو الذرّ النفيس بن أبي إدريس وهو يدعو الرجال ـ أسوة بالإمام ـ إلى الزواج. قال: "حكى ابو الدرّ النفيس بن أبي إدريس، قال: خرجنا يوم عيد إلى مسجد بعيد ونحن شببَة متقاربون وعصبة في السنّ متجاذبون... فلمّا كان صبيحة البناء ،اجتمع بعضنا للهناء، فقال قائلنا : ليصف كلّ منّا خبر ليلته وما اتفق له مع حليلته." ويأخد كلّ منهم في سرد قصته.
فالمقرئ يصف ليلته مع زوجته بمصطلحات المأثور في الدّراسات القرآنيّة، فيما يصفها النّحوي بمصطلحات النّحو، والبلاغي بأدوات البيان، وصور القرآن. وهذا ضربمن التّوظيف الأدبيّ، وطريقة خاصّة في تحوير نصّ سابق وإحلاله في نصّ لاحق. فإذا المصطلح (القرآني ـ النّحوي ـ البلاغي ـ العروضي ـ الهندسي …) لا يكافئ مـنـزلة المفهوم الذي وضع لـه، وإنّما يتعدّاه إلى الجسد والجنس، وما هو أوفر حياة وأوفى دلالة، حيث تغدو اللّغة نفسها حـمّـالة "مفاهيم" و"صور" جنسيّة ليس إلاّ، أو هي " الأدب المكشوف" أو "الخلاعي" بعبارة المعاصرين. ولا بدّ من أن نلاحظ هاهنا أنّ مصطلح الجنس موكول إلى استخدام معاصر في اللّغة العربيّة. وهو ما يؤكّده عبد الكبير الخطيبيّ مذكّرا في نفس الوقت بأنّه استخدام حديث كذلك في الثّقافة الغربيّة وهو مرتبط بتحوّل مخصوص في الثّقافة.
وبالرّغم من أنّ هذا النّصّ ينضوي إلى "الأملوحة" أي ما لذّ واستملح من الكلام الذي يتولّد من استعمال الأداة الواحدة استعمالا متعدّدا. وهو ما ينشئ "المعنى المزدوج" ويدفع بالقارئ إلى عقد المعاني المختلفة. فإذا الأداة هي نفسها وغيرها في ذات الآن، كلّما استخدمت في غير ما ألف وعهد. وهذا الاستخدام هو الذي يضفي عليها معنى ويكسبها دلالة. ولعلّ هذا من الحلّ/الحيلة الذي ما فتئ الفكر البشري يفزع إليه كلّما ضاق عليه نسق من الأنساق. ونعني ب"الحلّ/ الحيلة" التجاء النّسق إلى آخره أو خصمه يستمدّ منه عناصر قوّته ويتغذّى بها. هذا ما نتبيّنه في نصّ الٍسّيوطي "رشف الزّلال"، وفي نصوص أخرى كثيرة حيث المسلم يستغرق في المقدّس إلى حدّ الرّهبة التي لابدّ لها أن تتليّن. وليس لها ما تتليّن به غير الفنّ من جهة كونه يجعل "المدنّس" أو "الدّنيوي" يمثل جميلا. نقول هذا مرّة أخرى عسى أن يدرك المتشدّدون من الإسلاميّين والسلفيّين أنّ ثقافة الإسلام أرحب ممّا يتصوّرون.
منصف الوهايبي
.
فذاك مطلب عزيز تجشّم عناءه غيرنا، وكان لصديقتنا الكاتبة رجاء بن سلامة قصب السبق فيه. إنّما نحن نحاول أن ندفع الجهلة من "الإسلاميّين" و"السلفيّين" إلى قراءة تراثهم العظيم، عسى أن يدركوا أنّ ثقافة الإسلام أرحب ممّا يتصوّرون، وأنّها لا تنحصر في العبادات والطقوس والشعائر الدينيّة على جلالها. إنّما هي تتعدّاها إلى ضروب من الحب يتداخل فيها النّفسيّ والجسديّ في منحى يخفّف من المغالاة في روحنة الحبّ؛ مثلما يتجلّى ذلك في ما يرد من قصص "الحبّ الحضري" وفي التّعفّف عن شهوانيّة الجسد على نحو يتجلّى في قصص "الحبّ البدويّ" حيث التغنّي بالجسد في بعض نصوص الشّعر العذريّ وتكثيف الاستعارة بشأن بعض أعضائه مناسبة لكشف شوق يغلب على النّفس أكثر ممّا يغلب على ميول الجسد.
لكن مقابل هذا الخطاب، كان ثمّة صنف آخر من الكتابة الأيروتيكيّة يتنامى في تراث العرب ضمن سياق من تعاقب الظّهور والضّمور بحسب التّعاقب بين شدّة الأعرافوصرامة الأحكام وبين تراخي القوانين ومرونة القيم؛ وهي كتابة مفرطة في "إباحيّتها". وقد لا يمكن تنزيلها باصطلاح اليوم إلاّ ضمن مجال البورنوغرافيا، نظرا إلى "إباحيّتها" المفرطة وإلى كونها لا ترى غضاضة في عرض أسماء الأعضاء الجنسيّة بأسمائها التي تمجّها الأسماع عادة بحكم عوامل أخلاقيّة. كما أنّها لا تتردّد في وصف مفصّل دقيق لأوضاع من الجماع مختلفة، بل هي تتقصّد ذلك وتتعمّده. وقد يكون صحيحا أنّ مثل هذه الكتابة الجنسيّة المكشوفة التي تنتسب إلى فترات متأخّرة من تراث العرب تبلغ ذروتها في عصر "الانحطاط "؛ إلاّ أنّه قد لا يكون من المجدي أن ننظر إليها بعيني الازدهار والانحطاط. وإنّما قد يكون من الأجدر النّظر إليها من زاويتين
أولاهما راجعة إلى ما يسمّيه الشّيخ الفاضل بن عاشور "التّناسب الوضعي التّوالدي" الذي يربط بين الفنون والعلوم المتنوّعة في وحدة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة. وهو التّناسب "الذي بمقتضاه اتّخذ كلّ فنّ من الفنون الشّعريّة والأدبيّة والحكميّة زيادة على كيانه الذّاتي قواما تناسبيّا في ما يصل عامّة الفنون بعضها ببعض…وهو المعرفة العالميّة الكلّية، فإنّ كلّ علم من العلوم قد اكتسب من استناده إلى العلوم الأخرى من فصيلته ومن غير فصيلته ما جعله في غاياته واستعداداته مرتبطا بوضع عامّ تتصرّف بمقتضاه تصرّفا تناسبيّا توالديّا." (انظر مقدّمة منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجنّي)
وثانيتهما كونها تنضوي إلى طقس من طقوس الكتابة الاحتفائيّة بالحبّ أو بالجنس. وهذا ممّا يدفعنا إلى ترجيح القول بمثل هذه الكتابة الاحتفائيّة المكشوفة وما ينعقد بينها من أواصر بين ما هو احتفائيّ وما هو لعبيّ في عمليّة أقرب ما يكون إلى مناظرات لعبيّة تستكمل ما أُثِر عن المسلمين عامّة من أنّهم كانوا ينظرون إلى المرأة،من بين ما كانوا ينظرون به إإليها، على أنّها لعبة الرّجل
ومن هنا تتحوّل صورة الجسد في أدب الحبّ عند العرب وفي الكتب التي تدور في فلكه أو في أدب الجنس إلى نوع من اللّعب الكنائي أو الرّمزي، بالمعنى الدّقيق للكلمة. ولعلّ خير مثال لذلك كتاب الإمام جلال الدّيـن السّيوطي (849هـ/1445م ـ911هـ/1505م) الموسوم بـ"رشف الزّلال من السّحر الحلال". وهو يضمّ عشرين مقامـة تتفاوت طولا وقصرا، أسـندها الكاتب إلى علماء من اختصاصات ومشارب مختلفة، وموضوعها أن يتحدّث كلّ منهم عمّا اتّفق لـه ليلة زفافه مع امرأته، مكنّيا أو موريا بمصطلحات علمه. وللسيوطي ولا ننسى أنه صاحب "الإتقان في علوم القرآن" و"الدر المنثور في التفسير بالمأثور" وغيرهما وهو كثير من مصنفات في الحديث والقرآن، مؤلفات جنسيّة غير قليلة مثل "الوشاح " ونواظر الأيك " و"الإفصاح " ومباسم الملاح ومناسم الصباح " و"الزنجبيل القاطع " (قصيدة في مئة وخمسين بيتا) و"نزهة المتأمّل ومرشد المتأهّل" و"المستطرفة " و"نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسود والسمر" و"اليواقيت الثمينة في صفات السمينة.
اتبع السيوطي في "رشف الزلال" أسلوب المقامة، وأسند الكلام إلى شخصيّة متخيّلة: أبو الذرّ النفيس بن أبي إدريس وهو يدعو الرجال ـ أسوة بالإمام ـ إلى الزواج. قال: "حكى ابو الدرّ النفيس بن أبي إدريس، قال: خرجنا يوم عيد إلى مسجد بعيد ونحن شببَة متقاربون وعصبة في السنّ متجاذبون... فلمّا كان صبيحة البناء ،اجتمع بعضنا للهناء، فقال قائلنا : ليصف كلّ منّا خبر ليلته وما اتفق له مع حليلته." ويأخد كلّ منهم في سرد قصته.
فالمقرئ يصف ليلته مع زوجته بمصطلحات المأثور في الدّراسات القرآنيّة، فيما يصفها النّحوي بمصطلحات النّحو، والبلاغي بأدوات البيان، وصور القرآن. وهذا ضربمن التّوظيف الأدبيّ، وطريقة خاصّة في تحوير نصّ سابق وإحلاله في نصّ لاحق. فإذا المصطلح (القرآني ـ النّحوي ـ البلاغي ـ العروضي ـ الهندسي …) لا يكافئ مـنـزلة المفهوم الذي وضع لـه، وإنّما يتعدّاه إلى الجسد والجنس، وما هو أوفر حياة وأوفى دلالة، حيث تغدو اللّغة نفسها حـمّـالة "مفاهيم" و"صور" جنسيّة ليس إلاّ، أو هي " الأدب المكشوف" أو "الخلاعي" بعبارة المعاصرين. ولا بدّ من أن نلاحظ هاهنا أنّ مصطلح الجنس موكول إلى استخدام معاصر في اللّغة العربيّة. وهو ما يؤكّده عبد الكبير الخطيبيّ مذكّرا في نفس الوقت بأنّه استخدام حديث كذلك في الثّقافة الغربيّة وهو مرتبط بتحوّل مخصوص في الثّقافة.
وبالرّغم من أنّ هذا النّصّ ينضوي إلى "الأملوحة" أي ما لذّ واستملح من الكلام الذي يتولّد من استعمال الأداة الواحدة استعمالا متعدّدا. وهو ما ينشئ "المعنى المزدوج" ويدفع بالقارئ إلى عقد المعاني المختلفة. فإذا الأداة هي نفسها وغيرها في ذات الآن، كلّما استخدمت في غير ما ألف وعهد. وهذا الاستخدام هو الذي يضفي عليها معنى ويكسبها دلالة. ولعلّ هذا من الحلّ/الحيلة الذي ما فتئ الفكر البشري يفزع إليه كلّما ضاق عليه نسق من الأنساق. ونعني ب"الحلّ/ الحيلة" التجاء النّسق إلى آخره أو خصمه يستمدّ منه عناصر قوّته ويتغذّى بها. هذا ما نتبيّنه في نصّ الٍسّيوطي "رشف الزّلال"، وفي نصوص أخرى كثيرة حيث المسلم يستغرق في المقدّس إلى حدّ الرّهبة التي لابدّ لها أن تتليّن. وليس لها ما تتليّن به غير الفنّ من جهة كونه يجعل "المدنّس" أو "الدّنيوي" يمثل جميلا. نقول هذا مرّة أخرى عسى أن يدرك المتشدّدون من الإسلاميّين والسلفيّين أنّ ثقافة الإسلام أرحب ممّا يتصوّرون.
منصف الوهايبي
.
صورة مفقودة