نقوس المهدي
كاتب
تعقيبا على مقالات الأديبة لميعة عبّاس عمارة:
أتابع بمتعة كبيرة، هذه المقالات« المتنبّي والحبّ»، التي تكتبها لـ«للقدس العربي» الشاعرة العراقيّة المعروفة لميعة عبّاس عمارة. وهي على طرافتها، قد تحتاج أحيانا إلى شرح وفضل إبانة، من ذلك أنّ ما سمته الكاتبة «حوار أبي فراس مع نفسه» في قوله:
أراك عصيَّ الدمعِ شيمتُك الصبرُ
أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ؟
نعم (أو بلى) أنا مشتاقٌ وعندي لوعةٌ
ولكنَّ مثلي لا يُذاعُ له سرُّ
هو في بلاغة العرب، يُسمّى «الالتفات»، وهو من لطائف العربيّة؛ وذلك كلّما عدل المتكلّم، وهو يتحدّث عن نفسه؛ من تكلّم (أنا) إلى خطاب (أنت) أو غيبة (هو)، أو العكس. وأمّا اعتبارها «نعم» تساوي «بَلَى»، فغير دقيق، ولا وجه له. وهو خطأ وقعت فيه أمّ كلثوم؛ عندما أجازت لنفسها ما لا يجوز لغة، بسبب اللحن الموسيقي، على ما نرجّح، أو ربّما هي استثقلت «بَلى»، أو وجدتها نابية، ليس فيها متعة للأذن أو لذّة للسمع. ومن معاني «بلى» أنّها حرف جواب لِلتّصْديق يقَع بعد لا النافَية فيجعلُهُ إِثْباتا، كما في القرآن (التغابن آية 7) «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لتُبْعَثُنّ»َ. ووضْع «نعم»، وهي حرف جواب من معانيه التصديق؛ محلّ «بَلى» يفسد معنى البيت، فكأنّ الشاعر يقول «نعم، ليس للهوى نهي عليّ ولا أمر»؛ وهو عكس ما قصد إليه تماما؛ من أنّ للهوى سلطانًا عليه، وأنّه يأمره وينهاه، ولكنّه يكتّم ما به.
على أنّ ما يعنيني هنا هو إشارة الكاتبة، إلى أنّ في غزل المتنبّي ـ وهو في الحقيقة نسيب، ومقدّمات أو فواتح طلليّة غزليّة، ولا أثر في ديوانه لأيّ غزليّة ـ «مبالغات كاريكتيرية». وتمثّلت بقوله:
بجسميَ من برتهُ، فلو أصارتْ وشاحي ثقْبَ لؤلؤةٍ لجَالاَ
وشرحته هكذا «أي أفدي بجسمي ـ والناس تقول أفدي بنفسي وبروحي ـ الحبيبةَ التي جعلت هذا الجسم ضعيفاً هزيلأ؛ لو دخل في ثقب لؤلؤة، لكان الثقب أوسع منه فهو يجول في اللؤلؤة كما يجول الجسم في الرداء الواسع».
والحقّ أنّ هذه الصورة، وهي في البلاغة الحديثة أو «الأسلوبيّة» صورة افتراضيّة، أو هي من «اللامتصوّر»؛ تنويع على بيت لأبي تمّام. يقول الآمدي في الموازنة «إنّ أبا العبّاس (أحمد بن عبيدالله بن محمّد بن عمّار القطربلي) أنكر على أبي تمّام قوله:
من الهيفِ لو أنّ الخلاخلَ صُوّرتْ لها وُشُحًا جالتْ عليها الخلاخلُ
وبنى نقده على ما في الصّورة من إحالة أخرجها الشّعر مخرج الحقيقة أو ما يقارب الحقيقة. وهي في نظره أقبح من الإحالة في ما مخرجه مخرج التّوسّع.
قال: «هذا الذي وصفه أبو تمّام ضدّ ما نطقت به العرب، وهو أقبح ما وصف به النّساء؛ لأنّ من شأن الخلاخيل… أن توصف بأنّها تعضّ في الأعضاد والسّواعد، وتضيق في الأسوق (ج. ساق)، فإذا جعل خلاخيلها وشحا تجول عليها فقد أخطأ الوصف؛ لأنّه لا يجوز أن يكون الخلخال ـ الذي من شأنه أن يعضّ بالسّاق ـ وشاحا جائلا على جسدها ؛ لأنّ الوشاح هو ما تقلّده المرأة متّشحة به فتطرحه على عاتقها، فيستبطن الصّدر والبطن، وينصبّ جانبه على الظّهر حتّى ينتهي إلى العجز، ويلتقي طرفاه على الكشح الأيسر…»، وعليه يرى أنّه من غير الجائز أن يوصف الوشاح بالسّعة والطّول، ليدلّ على تمام المرأة وطولها، وإنّما يوصف بالقلق والحركة ليستدلّ بذلك على دقّة الخصر وضمور البطن. «وإذا كان الخلخال- وهو الحلقة المستديرة المعروف قدرها- وشاحا للمرأة فإنّه يأخذ أعلى جسدها كلّه، وإذا كانت كذلك فقد مسخت إلى غاية القماءة والصّغر، وصارت في هيئة الجعل…». وبيت أبي تمّام هو تنويع على قول منصور النّمري:
فلو قِسْتَ يوما حجْلها بحقابِها لكانا سواءً، لا، بل الحجْل أوسعُ على أنّ النّمري جعل الحجْل وهو الخلخال، أوسع من الحقاب الذي تديرها المرأة على خصرها «والوشاح لا يختصّ بالخصر، وإنّما يعلّق حتّى ينتهي إليه إذا كان الخصر دقيقا والبطن ضامرا». وفضلا عن ذلك فإنّ أبا تمّام أغفل، في نظر الآمدي قاعدة في الغزل، أساسها الـتّناسب، فمن عادة العرب أنّها لا تكاد تذكر الهيف وطيّ الكشح ودقّة الخصر إلاّ إذا ذكرت معه من الأعضاء، ما يستحبّ [فيه] الامتلاء والرّيّ.
إنّ في أدبنا القديم، نصوصا كثيرة ترسم صورة دقيقة لجمال المرأة، عند قدماء العرب، من حيث هو مثل أعلى، وتتـّفق كلها في معاييره وعناصره. والشعر قد يكون أدقّ وصفا، مقارنة بالنثر. وممّا يلفت الانتباه في أكثر قصص الحبّ انصرافها إلاّ في ما ندر، إلى الصّورة العامّة الفضفاضة. ومنها ما جاء في قصّة «مسعدة بن واثلة ورملـة بنـت أثيلة: «… شمّرت عن زندين كأنّما حجبت عظامهما بالبلّور الصّافي، ثمّ تناولت القربة فانكشف البرقع عن وجه كأنّما تستعير منه الشّمس الضّياء، فداخلني ما خشيت معه زهاق نفسي».
ولا وجه لهذا التّعميم ـ على ما نرجّح ـ سوى انصرافهم إلى متعة القصّ، حيث القاصّ مأخوذ بقول «الحكاية» أكثر منه بالحكاية، أو لأنّهم مجمعون على أنّ المثل الأعلى لجمال المرأة يتحقّق بتوافر صفات جسديّة معيّنة هي، الجسم البضّ واللّون الأبيض والوجه الصّبحي والعينان الواسعتان والحاجبان الدّقيقان المتقوّسان والخدّ الأسيل والصّدر العريض والنّهدان الضّخمان والبطن المطوي والكفل الناّتئ المرتفع والفخدان اللفّاوان والساّقان الممتلئتان…
صحيح أنّ الذّوق انصرف أكثر، تحت تأثير حضارة الإسلام وتمازج الأجناس، إلى المرأة البيضاء النـاّصعـة والبضّة المعتدلة القامة، ذات الشّعر الأسود المسترسل؛ وأنّ ازدهار الحضارة في العصر العبّاّسي جعل الناس يميلون أكثر إلى المرأة المجدولة التي لا سمن في جسدها ولا ترهّل. وهي المرأة المثال التي جمع الجاحظ عناصر جمالها في قوله: «وأكثر البصراء بجواهر النّساء، الذين هم جهابذة النّقد، يقدّمون المجدولة، وهي التي بين السمينة والممشوقة، ولا بد من وجود القدّ وحسن التّجريد واعتدال المنكبين واستواء الظّهر، ولا بدّ أن تكون كاسية العظام بين الممتلئة والقضيفة، ولذلك قالوا: كأنّـها غصن بان أو قضيب خيزران وجدل عنان». وصحيح أنّ الذّائقة العربيّة في هذا العصر لم تعد تستسيغ كثيرا تشبيه المرأة بالبقرة أو الظّبية، وبالشّمس أو القمر، لأنّ الجارية الفائقة الحسن، كما يقول الجاحظ أحسن من البقرة وأحسن من الظّبية وأحسن من كلّ شيء شبّهت به، وكذلك قولهم كأنها القمر وكأنها الشّمس، فالشّمس وإن كانت حسنة فإنها هي شيء واحد، وفي وجه الإنسان الجميل وفي خلقه؛ ضروب من الحسن الغريب والتّركيب العجيب.
وكثيرا ما تقترن هذه الصّورة المرئيّـة بصور مستمدّة من المحسوسات، أو من الظّاهر الماثل للحواسّ، كتشبيه الشّعر بأذناب الخيل، والأنف بحدّ السّيف، والعنق بإبريق الفضّة، والنّهد بالرماّنة والكفل بكثيب الرّمل… وربّما رأى البعض في هذه الصّور المقيّدة بالتّشبيه تقيّدا بحدود الظّواهر الحسّية والمرئيّـة، ومباشرة للمعاني المادية؛ فهي تشبّه المادّي بالمادّي والحسّي بالحسّي، فلا تسبر غورا ولا تستشفّ ما وراء الظّواهر، وبالتّالي فإنّ جهد الخيال فيها معدوم أو يكاد، أو هو خيال تصوّري يأخذ شيئا من المرئيات وشيئا من المحسوسات ثمّ يركّب منها صورة.
صحيح أنّ صورة المرأة في هذه النّصوص موصولة العناصر بالمدركات الحسّية والظّواهر المرئيّة، إلاّ أنّ هذه المدركات وهذه الظواهر؛ ليست «أشياء» تقبع على حافة النصّ أو تقف خارجه؛ وإنّما هي مكوّن من مكوّناته وعلامة من علاماته، من طبيعته تنبثق، وإلى علاقاته تنشدّ. ومن هذا المنطلق يمكن تأويلها على أنها رموز وعلامات تحوي الصّورة المثال، فلا تكتسب معناها إلاّ إذا كانت موسومة بصفاتها، حتّى لكأنها لغتها الخاصّة.
إنّ التّشابيه التي تقوم عليها صورة الجسد المضخّم، كتشبيه الأنف بحدّ السّيف والعنق بالإبريق والنّهد بالرماّنة والكفل بكثيب الرمل… تؤدّي ـ على ما نرجّح ـ وظيفة استعارة جنسيّة للعضو الغائب، لسببين: أوّلهما جسماني يتمثّل في نتوء هذه الأعضاء والأجسام وبروزها (حدّ السيف، الإبريق، الرماّنة، الكثيب ) وإن كانت لا تتماثل والعضو الغائب إلا على قاعدة هذا «الانفصام الاستيهامي» الذي ينشئ الاستعارة. وثانيهما لغوي، نكتفي بملاحظته. وهو يتمثّل في توزّع أعضاء الجسد المضخّم في رموز ذكريّة وأنثويّة، وفي سيطرة الأولى على الثّانية من حيث العدد. إنّ معاينة الصّورة، من هذه الكوة، يمكن، إذا اكتملت لها الأدوات واستتبّت، أن تفضي إلى قراءة مختلفة تجمع بين الذّاتين: ذات العاشق وذات المعشوقة، وجسد هذا وجسد تلك، ولا تقتصر على الثّاني فحسب (المرأة) كما نجد في أكثر الدّراسات.
كاتب تونسي
منصف الوهايبي
أتابع بمتعة كبيرة، هذه المقالات« المتنبّي والحبّ»، التي تكتبها لـ«للقدس العربي» الشاعرة العراقيّة المعروفة لميعة عبّاس عمارة. وهي على طرافتها، قد تحتاج أحيانا إلى شرح وفضل إبانة، من ذلك أنّ ما سمته الكاتبة «حوار أبي فراس مع نفسه» في قوله:
أراك عصيَّ الدمعِ شيمتُك الصبرُ
أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ؟
نعم (أو بلى) أنا مشتاقٌ وعندي لوعةٌ
ولكنَّ مثلي لا يُذاعُ له سرُّ
هو في بلاغة العرب، يُسمّى «الالتفات»، وهو من لطائف العربيّة؛ وذلك كلّما عدل المتكلّم، وهو يتحدّث عن نفسه؛ من تكلّم (أنا) إلى خطاب (أنت) أو غيبة (هو)، أو العكس. وأمّا اعتبارها «نعم» تساوي «بَلَى»، فغير دقيق، ولا وجه له. وهو خطأ وقعت فيه أمّ كلثوم؛ عندما أجازت لنفسها ما لا يجوز لغة، بسبب اللحن الموسيقي، على ما نرجّح، أو ربّما هي استثقلت «بَلى»، أو وجدتها نابية، ليس فيها متعة للأذن أو لذّة للسمع. ومن معاني «بلى» أنّها حرف جواب لِلتّصْديق يقَع بعد لا النافَية فيجعلُهُ إِثْباتا، كما في القرآن (التغابن آية 7) «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لتُبْعَثُنّ»َ. ووضْع «نعم»، وهي حرف جواب من معانيه التصديق؛ محلّ «بَلى» يفسد معنى البيت، فكأنّ الشاعر يقول «نعم، ليس للهوى نهي عليّ ولا أمر»؛ وهو عكس ما قصد إليه تماما؛ من أنّ للهوى سلطانًا عليه، وأنّه يأمره وينهاه، ولكنّه يكتّم ما به.
على أنّ ما يعنيني هنا هو إشارة الكاتبة، إلى أنّ في غزل المتنبّي ـ وهو في الحقيقة نسيب، ومقدّمات أو فواتح طلليّة غزليّة، ولا أثر في ديوانه لأيّ غزليّة ـ «مبالغات كاريكتيرية». وتمثّلت بقوله:
بجسميَ من برتهُ، فلو أصارتْ وشاحي ثقْبَ لؤلؤةٍ لجَالاَ
وشرحته هكذا «أي أفدي بجسمي ـ والناس تقول أفدي بنفسي وبروحي ـ الحبيبةَ التي جعلت هذا الجسم ضعيفاً هزيلأ؛ لو دخل في ثقب لؤلؤة، لكان الثقب أوسع منه فهو يجول في اللؤلؤة كما يجول الجسم في الرداء الواسع».
والحقّ أنّ هذه الصورة، وهي في البلاغة الحديثة أو «الأسلوبيّة» صورة افتراضيّة، أو هي من «اللامتصوّر»؛ تنويع على بيت لأبي تمّام. يقول الآمدي في الموازنة «إنّ أبا العبّاس (أحمد بن عبيدالله بن محمّد بن عمّار القطربلي) أنكر على أبي تمّام قوله:
من الهيفِ لو أنّ الخلاخلَ صُوّرتْ لها وُشُحًا جالتْ عليها الخلاخلُ
وبنى نقده على ما في الصّورة من إحالة أخرجها الشّعر مخرج الحقيقة أو ما يقارب الحقيقة. وهي في نظره أقبح من الإحالة في ما مخرجه مخرج التّوسّع.
قال: «هذا الذي وصفه أبو تمّام ضدّ ما نطقت به العرب، وهو أقبح ما وصف به النّساء؛ لأنّ من شأن الخلاخيل… أن توصف بأنّها تعضّ في الأعضاد والسّواعد، وتضيق في الأسوق (ج. ساق)، فإذا جعل خلاخيلها وشحا تجول عليها فقد أخطأ الوصف؛ لأنّه لا يجوز أن يكون الخلخال ـ الذي من شأنه أن يعضّ بالسّاق ـ وشاحا جائلا على جسدها ؛ لأنّ الوشاح هو ما تقلّده المرأة متّشحة به فتطرحه على عاتقها، فيستبطن الصّدر والبطن، وينصبّ جانبه على الظّهر حتّى ينتهي إلى العجز، ويلتقي طرفاه على الكشح الأيسر…»، وعليه يرى أنّه من غير الجائز أن يوصف الوشاح بالسّعة والطّول، ليدلّ على تمام المرأة وطولها، وإنّما يوصف بالقلق والحركة ليستدلّ بذلك على دقّة الخصر وضمور البطن. «وإذا كان الخلخال- وهو الحلقة المستديرة المعروف قدرها- وشاحا للمرأة فإنّه يأخذ أعلى جسدها كلّه، وإذا كانت كذلك فقد مسخت إلى غاية القماءة والصّغر، وصارت في هيئة الجعل…». وبيت أبي تمّام هو تنويع على قول منصور النّمري:
فلو قِسْتَ يوما حجْلها بحقابِها لكانا سواءً، لا، بل الحجْل أوسعُ على أنّ النّمري جعل الحجْل وهو الخلخال، أوسع من الحقاب الذي تديرها المرأة على خصرها «والوشاح لا يختصّ بالخصر، وإنّما يعلّق حتّى ينتهي إليه إذا كان الخصر دقيقا والبطن ضامرا». وفضلا عن ذلك فإنّ أبا تمّام أغفل، في نظر الآمدي قاعدة في الغزل، أساسها الـتّناسب، فمن عادة العرب أنّها لا تكاد تذكر الهيف وطيّ الكشح ودقّة الخصر إلاّ إذا ذكرت معه من الأعضاء، ما يستحبّ [فيه] الامتلاء والرّيّ.
إنّ في أدبنا القديم، نصوصا كثيرة ترسم صورة دقيقة لجمال المرأة، عند قدماء العرب، من حيث هو مثل أعلى، وتتـّفق كلها في معاييره وعناصره. والشعر قد يكون أدقّ وصفا، مقارنة بالنثر. وممّا يلفت الانتباه في أكثر قصص الحبّ انصرافها إلاّ في ما ندر، إلى الصّورة العامّة الفضفاضة. ومنها ما جاء في قصّة «مسعدة بن واثلة ورملـة بنـت أثيلة: «… شمّرت عن زندين كأنّما حجبت عظامهما بالبلّور الصّافي، ثمّ تناولت القربة فانكشف البرقع عن وجه كأنّما تستعير منه الشّمس الضّياء، فداخلني ما خشيت معه زهاق نفسي».
ولا وجه لهذا التّعميم ـ على ما نرجّح ـ سوى انصرافهم إلى متعة القصّ، حيث القاصّ مأخوذ بقول «الحكاية» أكثر منه بالحكاية، أو لأنّهم مجمعون على أنّ المثل الأعلى لجمال المرأة يتحقّق بتوافر صفات جسديّة معيّنة هي، الجسم البضّ واللّون الأبيض والوجه الصّبحي والعينان الواسعتان والحاجبان الدّقيقان المتقوّسان والخدّ الأسيل والصّدر العريض والنّهدان الضّخمان والبطن المطوي والكفل الناّتئ المرتفع والفخدان اللفّاوان والساّقان الممتلئتان…
صحيح أنّ الذّوق انصرف أكثر، تحت تأثير حضارة الإسلام وتمازج الأجناس، إلى المرأة البيضاء النـاّصعـة والبضّة المعتدلة القامة، ذات الشّعر الأسود المسترسل؛ وأنّ ازدهار الحضارة في العصر العبّاّسي جعل الناس يميلون أكثر إلى المرأة المجدولة التي لا سمن في جسدها ولا ترهّل. وهي المرأة المثال التي جمع الجاحظ عناصر جمالها في قوله: «وأكثر البصراء بجواهر النّساء، الذين هم جهابذة النّقد، يقدّمون المجدولة، وهي التي بين السمينة والممشوقة، ولا بد من وجود القدّ وحسن التّجريد واعتدال المنكبين واستواء الظّهر، ولا بدّ أن تكون كاسية العظام بين الممتلئة والقضيفة، ولذلك قالوا: كأنّـها غصن بان أو قضيب خيزران وجدل عنان». وصحيح أنّ الذّائقة العربيّة في هذا العصر لم تعد تستسيغ كثيرا تشبيه المرأة بالبقرة أو الظّبية، وبالشّمس أو القمر، لأنّ الجارية الفائقة الحسن، كما يقول الجاحظ أحسن من البقرة وأحسن من الظّبية وأحسن من كلّ شيء شبّهت به، وكذلك قولهم كأنها القمر وكأنها الشّمس، فالشّمس وإن كانت حسنة فإنها هي شيء واحد، وفي وجه الإنسان الجميل وفي خلقه؛ ضروب من الحسن الغريب والتّركيب العجيب.
وكثيرا ما تقترن هذه الصّورة المرئيّـة بصور مستمدّة من المحسوسات، أو من الظّاهر الماثل للحواسّ، كتشبيه الشّعر بأذناب الخيل، والأنف بحدّ السّيف، والعنق بإبريق الفضّة، والنّهد بالرماّنة والكفل بكثيب الرّمل… وربّما رأى البعض في هذه الصّور المقيّدة بالتّشبيه تقيّدا بحدود الظّواهر الحسّية والمرئيّـة، ومباشرة للمعاني المادية؛ فهي تشبّه المادّي بالمادّي والحسّي بالحسّي، فلا تسبر غورا ولا تستشفّ ما وراء الظّواهر، وبالتّالي فإنّ جهد الخيال فيها معدوم أو يكاد، أو هو خيال تصوّري يأخذ شيئا من المرئيات وشيئا من المحسوسات ثمّ يركّب منها صورة.
صحيح أنّ صورة المرأة في هذه النّصوص موصولة العناصر بالمدركات الحسّية والظّواهر المرئيّة، إلاّ أنّ هذه المدركات وهذه الظواهر؛ ليست «أشياء» تقبع على حافة النصّ أو تقف خارجه؛ وإنّما هي مكوّن من مكوّناته وعلامة من علاماته، من طبيعته تنبثق، وإلى علاقاته تنشدّ. ومن هذا المنطلق يمكن تأويلها على أنها رموز وعلامات تحوي الصّورة المثال، فلا تكتسب معناها إلاّ إذا كانت موسومة بصفاتها، حتّى لكأنها لغتها الخاصّة.
إنّ التّشابيه التي تقوم عليها صورة الجسد المضخّم، كتشبيه الأنف بحدّ السّيف والعنق بالإبريق والنّهد بالرماّنة والكفل بكثيب الرمل… تؤدّي ـ على ما نرجّح ـ وظيفة استعارة جنسيّة للعضو الغائب، لسببين: أوّلهما جسماني يتمثّل في نتوء هذه الأعضاء والأجسام وبروزها (حدّ السيف، الإبريق، الرماّنة، الكثيب ) وإن كانت لا تتماثل والعضو الغائب إلا على قاعدة هذا «الانفصام الاستيهامي» الذي ينشئ الاستعارة. وثانيهما لغوي، نكتفي بملاحظته. وهو يتمثّل في توزّع أعضاء الجسد المضخّم في رموز ذكريّة وأنثويّة، وفي سيطرة الأولى على الثّانية من حيث العدد. إنّ معاينة الصّورة، من هذه الكوة، يمكن، إذا اكتملت لها الأدوات واستتبّت، أن تفضي إلى قراءة مختلفة تجمع بين الذّاتين: ذات العاشق وذات المعشوقة، وجسد هذا وجسد تلك، ولا تقتصر على الثّاني فحسب (المرأة) كما نجد في أكثر الدّراسات.
كاتب تونسي
منصف الوهايبي