عمار بن طوبال - الحب في الثقافة العربية

ظل الحب محورا أساسيا دارت حوله الإبداعات البشرية لكل الحضارات الإنسانية، وقد مثل حضوره الدائم في وجدان الفرد والجماعة دافعا من دوافع سعي الإنسان للرقي بإنسانيته نحو الكمال المنشود، فنحن نقرأ في ملحمة جلجاميش كيف أن أنكيدو ذلك الآدمي المتوحش الذي تربي بين الحيوانات واكتسب صفاتها، يسترد إنسانيته الضائعة من خلال الحب:
ستة أيام وسبعة ليال ضاجع المرأة
تنور ذهنه وقلبه
الحب كعلاقة روحية وجسدية أعادت أنكيدو إلى إنسانيته ، لذلك فالحب في كل الحضارات والديانات دائم الحضور بتنويعات مختلفة .
الثقافة العربية الإسلامية لم تكن نشازا في تعاطيها مع موضوع الحب، بل إنها أبدعت من خلال معجمها اللغوي الثري بتعابير الحب والعشق، ومن خلال التراث المكتوب والشفوي الذي وصلنا. أبدعت في تمجيد هذه العاطفة وكذا في محاولة فهم وتحديد ماهية الحب.
ونحن من خلال هذه المقالة نحاول الاقتراب من تمظهرات الحب في الثقافة العربية من خلال الابداعات التي خلفها لنا الإنسان العربي عبر مسيرته التاريخية.

الحب العذري:
مثل الشعر الجاهلي بتصوريه الصادق للحياة العربية في البوادي وثيقة تاريخية نستطيع من خلالها تكوين صورة تقريبية عن طبيعة حياة العرب ونظرتهم للأشياء. والحب لم يكن غريبا عن الحياة العربية بل كان مكونا أساسيا من مكوناتها وهذا ما نلمسه في أشعار الكثير من الجاهليين الذي صورا صباباتهم وعشقهم. وبكاءهم على أطلال الحبيب صار لازمة في الشعر العربي لم يتمكن الشعراء اللاحقون من التخلص منها بسهولة.
ما نلحظه عن الشعر الجاهلي الذي تناول الحب أنه لم يتناوله كعاطفة روحية بمقدار ما تناوله كرغبة جنسية.
هذا ما نجده في أشعرا ومغامرات إمرىء القيس وحبيباته المتعددات اللواتي يغرقن معه في الملذات المسروقة بعيدا عن أعين الرقيب
فالحب في الشعر الجاهلي كما صوره لنا ما وصلنا من شعر يتناول هذا الموضوع؛ لم يكن عفيفا بل كان عاطفة روحية تخالطها علاقات جنسية ومتع حسية؛ إي أنه كان عشقا متعويا
وعلى عكس العلاقات الحسية والجنسية التي مثلها أحسن تمثيل بعض الشعر الجاهلي وخصوصا عند أمرىء القيس، وتم تم إحياءها وتمجيدها لاحقا في العصر العباسي خصوصا على يد أبي نواس ومن سار في فلكه من ممجدي الشهوة بكل صنوفها الطبيعية والشاذة.
قلت على عكس هذا نجد نوعا آخر من الحب في الشعر العربي القديم هو الحب العذري ( نسبة لقبيلة بني عذرة التي اشتهرت – حسب ما تزعم الروايات – بالجمال الفاتن لنسائها من جهة وتعفف رجالها من جهة ثانية).
هذا النوع من الحب يعلى من شأن الصفات المحمودة في العلاقات الغرامية مثل الوفاء والصدق، ويجعل لهذه الصفات مقام القدسية في أي علاقة، وهي- أي هذه الصفات- تزداد بروزا في حالات صد ونأي الحبيبة أو حدوث خطوب معينة تفرق ما بين المحب ومحبوبه، وهذا ما يحدث في أغلب علاقات الحب العذرية. فافتراق المحب عن محبوبه هو الذي يلهب قريحة الشاعر للتعبير عما يكابده من الشوق والوجد، وتأكيد وفائه وبقاءه على عهد المحبوب برغم الصد وبرغم البعد.
الحب العذري حب مأساوي نهاياته مفجعة وفي أحسن الأحوال غير سارة، لأن الفراق هو الخاصية المشتركة بين أغلب قصص الحب العذري التي وصلتنا أشعار تمجدها وتخلدها.
ولكن ماهي خصائص الحب العذري كما مثله جميل بثينة ومجنون ليلى وغيرهم من الرواد الأوائل الذين وضعوه في قوالب جاهزة ( من خلال الممارسة لا من خلال التنظير)؛ هذه القوالب التي أصبحت مثالا يقتدى من طرف اللاحقين، وخصوصا المتصوفين الذين حاولوا تمثل تجربة الحب العذري في أشعارهم من خلال قصر شعرهم -كما فعل العذريون- على محبوب واحد دون غيره في إشارة إلى الذات الإلهية: المحبوب الأول والأخير.
إن اللاحقين الذين حاولوا تقليد العذريين الأوائل في عشقهم ومن تم في أشعارهم؛ لم يستطيعوا إضافة جديد لهذا النوع من الحب لأنهم افتقدوا للصدق الذي ميز الرواد الأوائل؛ فهم _ أي اللاحقين _ أبناء مدرسة الصنعة والتكلف التي لا تتماشى وطبيعة الشعر العذري الذي هو تصوير لوقائع حدثت فعلا بعيدا عن أي نوع من أنواع التكلف.
بالعودة إلى ما سبق ما هي خصائص هذا الحب العذري؟
في معرض حديثه عن جميل بثينة يشير المستشرق الألماني " غابرييللي" إلى أن " جميل بثينة أول شاعر يصور الحب على أنه قدر تكتبه السماء على الإنسان".
هذه الملاحظة الدقيقة لطبيعة الحب العذري يؤكدها قيس بن الملوح (مجنون ليلى ) في من خلال قوله في أحدى قصائده:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها = فبأي شيء غير ليلى ابتلانيا
إن هكذا حب يظل مرافقا للمحب طوال حياته دون أن يستطيع منه فكاكا، بل إن الشاعر/المحب يتمتع بعذابه لأنه قدر من الله وهو راض بهذا القدر؛ إنه نوع من "الرضى الصاخب" بهكذا قضاء، فالعاشق العذري يتمنى لو أن كل العالم يسمع عن حبه وهو من خلال شعره يجتهد في وصف كل ما يعانيه من عذابات الحب ولواعج الشوق. لذلك نجد أن الشعراء العذريين يخافون أن يباغتهم الموت وجدا، قبل أن يقولوا كل ما يريدون قوله عن المحبوب الأسطوري الذي اختصر كل العالم في ذاته.
تشكل الحب العذري كمدرسة بطريقة عفوية في البادية العربية، دون أن يتحول إلى مذهب يمتد إلى ما غيرها من المناطق المحيطة؛ فظروف المعيشة وكذا المتغيرات السياسة والاجتماعية التي كانت تميز البادية عن الحواضر الإسلامية تبقى جوهرية. وهذا ما لم يسمح باستنساخ تجربة الحب العذري في تلك الحواضر التي أخذت في التوسع والانفتاح خلال العصرين الأموي والعباسي بعيدا عن ذهنات البادية المحافظة؛ تلك الحواضر التي كانت تشهد ميلاد الكثير من أنواع الحب التي تتسم بالمجون والشذوذ والانفلات المفرط.
ويكفي لتقريب صورة الاختلاف بين البوادي والحواضر في النظر لموضوع الحب إيراد هذا الحوار الموجز بين الأصمعي وامرأة من بني عذرة:
سأل الأصمعي: ما هو الحب عندكم
قالت: الغمزة والقبلة والضمة. فما هو عندكم؟
قال: أن يرفع رجليها ويدفع بجهده بين شفريها.
إن هذه المحاورة تبين بجلاء طبيعة الفرق الشاسع في النظرة للحب بين سكان البادية من جهة وسكان الحواضر من جهة ثانية.
وقبل التطرق لوجه آخر من وجوه الحب في الثقافة العربية الإسلامية وهو الوجه الذي يتسم بالكثير من تمجيد الملذات على حساب العلاقة الروحية الصافية. نتطرق لنظرة أخرى للحب ولو أنها متأخرة زمنيا عن المرحلة التي شهدت عنوفان الحب العذري, وهي نظرة ابن حزم الأندلسي في كتابه الموسوم "طوق الحمامة في الألفة والإلاف"؛ لأن نظرة هذا الفقيه الأندلسي للحب تتقاطع في بعض تفاصيلها مع نظرة العذريين دون أن تتطابق معها.
يعد كتاب "طوق الحمامة" من أهم المراجع حول الحب في الثقافة العربية الإسلامية، فهو يتصدى لمحاولة تحديد جادة وعلمية لماهية الحب ووصف لأعراض وصنوف الحب المختلفة؛ فقد أفرد الفقيه الأندلسي بابا في كتابه لكل علامة من علامات الحب مدللا عليها بأبيات شعرية من نظمه في الغالب.
ولكن ما يؤخذ على كتاب ابن حزم - برغم أهميته وأصالته - أنه كتاب "طبقي": بمعنى أن ابن حزم الأندلسي قد صور لنا الحب تصويرا دقيقا في قصور الأمراء والملوك وعلية القوم دون أن يلتفت للعامة من الناس البسطاء الذين قد تكون لهم رؤية مغايرة لماهية الحب عما هي لدى القوم المترفين؛ فأغلب قصص الحب التي أوردها ابن حزم عبر صفحات كتابه - المتفرد في بابه - تدور حول الجواري والقيان, ونحن نعلم من خلال التاريخ الذي وصلنا عن تلك الأيام أن اقتناء الجواري والقيان هو ترف لا يقدر عليه إلا ذوي الجاه والسلطان أما عامة الناس فإنهم محرومون في الغالب من هذه المتع.
ابن حزم يلتقي مع الشعراء العذريين في التأكيد على أن الحب إنما يكون لمحبوب واحد وأن ارتباط الرجل إنما يكون بامرأة واحدة دون سواها. ومع هذا فهو لا يعد من زمرة العذريين لأنه يتجاوزهم من خلال طرحه لقضية الحب, فطرحه علمي تثقيفي بالأساس هذا من ناحية المضمون, أما من ناحية الشكل فالفقيه الأندلسي -على خلاف سابقيه - لم يضمن كتابه منتخبات شعرية فقط, بل إن عمله محاولة نثرية جادة ورصينة للاقتراب من موضوع ظل ولفترة ليست بالقصيرة حكرا على الشعر لوحده.
إن ابن حزم وهو يسجل ويحلل ما عاشه بنفسه أو ما وصل إلى سمعه من أخبار وقصص يسعى عبر أبواب الكتاب المتعددة لتعداد وتحليل العلامات والصفات التي عن لاحظناها على شخص ما قلنا عنه بكل ثقة غنه عاشق.
إن ما يميز طوق الحمامة هو قدرته الفائقة على سبر أغوار النفس البشرية وشرحه الدقيق والموفق في الغالب لطبائع الرجال والنساء. وإذا كان الشعراء العذريين قد أوصلوا صوت الرجل وشرحوا حاله وهو يعاني ما يعاني بسبب الحب, وحللوا نفسيته وكل ما يختلج بدواخله التي لم تكن سوى دواخلهم في حقيقة الأمر, فإن المرأة: حالها ووضعها وما يختلج بداخلها, ظلت مبهمةوغامضة لأنها وبالرغم من كونها الموضوع الرئيسي لكل أشعارهم ظلت صامتة, ولأنها صامتة ظلت مجهولة لدينا كقراء. هنا وفي هذه النقطة أيضا يتميز ابن حزم عن الشعراء العذريين بكونه يشرح ويحلل لنا نفسية المرأة عاشقة كانت أم معشوقة؛ فالفقيه الأندلسي يؤكد على أنه أعلم من غيره بطبائع النساء: " لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن مالا يكاد يعلمه غيري, لأنني ربيت في حجورهن, ونشأت بين أيديهن, ولم أعرف غيرهن, ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تفيّل وجهي وهم علمنني القرآن وروينني كثيرا من الأشعار, ودربنني في الخط, ولم يكن وكدي وإعمال ذهني منذ أول فهمي, وأنا في سن الطفولة جدا, إلا تعرف أسبابهن والبحث عن أخبارهن وتحصيل ذلك".
إن الميزة الأساسية لكتاب ابن حزم جول موضوع الحب, أنه لم يكن بحثا نظريا أو فلسفيا محضا, ولا سردا ورصفا لأخبار وقصص وأشعار دون أن يكون هناك رابط شديد بينها؛ بل هو مزج بين هذا وذاك, فهذا يشرح ذاك, وذاك يوضح هذا.الحب ذو الطابع الإباحي
بعيدا عن البادية وما تتميز به من محافظة أخلاقية تؤطر العلاقات بين الرجل والمرأة وتضع لها حدودا يصعب تجاوزها، رغم حرية الاختلاط النسبية التي تتفاوت من قبيلة لأخرى.
قلت بعيدا عن هذه البوادي، أخذت تنشأ الحواضر الإسلامية الكبرى وتتوسع ( بغداد، دمشق ، نيسابور) جالبة إليها أخلاطا بشرية من كل الأعراق؛ مما اوجد ثقافة متعددة ومنفتحة وذات مرجعيات متعددة.
في ظل هذه الحواضر نشأ نوع من الحب مختلف تمام المخالفة لما هو عليه في البادية؛ إنه حب ماجن وداعر يستمد مفرداته من المعجم اللغوي العربي الثري بمفردات الإيروسية والاحتفاء بالجسد.
ميزة هذا الحب أنه يختصر العلاقة بين الرجل والمرأة في جانبها المتعوي ملغيا بصفة شبه كلية الجانب الروحي لهذه العلاقة وإن تم استحضاره فبوصفه وسيلة موصلة للجانب الآخر من العلاقة، أي جانب المتع الحسية.
مثل هذا النوع من الحب شعراء كبار لهم مكانتهم التي لا تنافس في المتن الشعري العربي القديم؛ وإن كنا سنقصر حديثنا هنا عن الشعر فقط فذلك لأن الثقافة العربية ظلت ولقرون طويلة ثقافة شعرية بالأساس، ليس للنثر فيها سوى مكانة ثانوية.
كان أبو نواس واحد من كبار شعراء العربية في العصر العباسي الأول الذين تناولوا الحب في أشعارهم؛ وقد تناول الشاعر الحكمي الحب بنظرة خاصة تجعل منه - أي من الحب - فعل مركب من علاقات سوية وشاذة هدفها الأسمى هو الوصول إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المتعة الجنسية فقد كان يتحدث في شعره بنحو داعر وفاحش وبصور تنم عن روح عابثة تعكس حياته الجنسية عامة ولوطيته على وجه الخصوص.
بعد أبي نواس بقرابة القرن راح ابن الحجاج ( المتوفي 1001) يكتب الكثير من القصائد تفوق فيها على سابقه من حيث المجون والتحلل التام من الأخلاق؛ فهو كان يستعمل لغة أبناء الشوارع الجارحة والفاضحة؛ ابن الحجاج لم ينل شهرة سلفه الشاعر الحكمي إلا لأنه قصر " ثورته الشعرية" إن صحت التسمية على مستوى المضمون فقط بحيث نلحظ أن كل قصائده تقريبا تنضح بكل أنواع ومفردات الفسق والمجون، دون أن تكون له نظرة متناسقة اتجاه الذات والعالم؛ فهو لم يكن صاحب مذهب في الحياة كما كان أبو نواس، بل مجرد شاعر يرى في المجون شيئا يستحق التمجيد بالكلمات على الأقل.
أما النواسي فقد كان على العكس من ذلك برغم مجونه الذي لا يضاهى، إلا أنه كان يملك نظرة فلسفية عميقة اتجاه الحياة بثها في معظم أشعاره.
ولكن لماذا نحشر أبا نواس في موضوع عن الحب؟
هل كان أفسق شعراء العصر العباسي عاشقا كبيرا في أشعاره على الأقل؟
هو لم يكن كذلك بكل تأكيد، إنه لم يعشق في حقيقة الأمر سوى ذاته وملذاته وإن كتب في العشق ووصف حال العاشق أفضل وصف. حديثه عن الحب لم يكن نابعا من خفقات القلب بقدر ما هو استجابة لرعشات الجسد المحمومة، الحب عند أبي نواس لقاء جسدي بين رجل وامرأة أو بين رجل وغلام أمرد؛ فعند النواسي لا فرق بين العلاقة الجنسية السوية والعلاقة الجنسية الشاذة مادامت قادرة على تحقيق اللذة؛ لذلك ظل يجهر بعلاقاته اللوطية دون خجل سواء كان فاعلا في هذه العلاقة أو مفعولا فيه.
لقد كان لأبي نواس نظرة خاصة اتجاه الحب وهي ليست نظرة ابتدعها بنفسه، بل إنها نظرة ميزت عصره وتحديدا في إطار محيطه الجغرافي ( الحواضر الإسلامية). نحن نعثر على نفس النظرة اتجاه الحب لدى الكثير من الشعراء والفلاسفة والكتاب الذين عاشوا في العصر العباسي الأول، نظرة تجعل من الحب مجرد وسيلة لغاية أسمى هي الرغبة والجسد ولا قيمة للحب إذا لم يوصل إلى الوصال الجسدي؛ وإذا نأى المحبوب وجفا فالشاعر مستعد للاستنجاد بالشيطان ذاته لتمكينه من محبوبه والتمكين هنا بمعناه الجنسي المحض، فأبو نواس في الأبيات التالية يصور وبطرافة مستملحة ما يفعل به الشبق وكيف يدفعه لأحضان إبليس طالبا منه أن يفعل ما بوسعه من أجل أن يعود المحبوب إليه: لما جـفاني الحبـيب وامتنعت عنـي الرسالات منه والخبرواشتد شـوقي فكاد يقــتلني ذكر حبيـبي ، والهم والفكردعـوت إبليس ثم قلت له في خـلوة ، والدمـوع تنـحدر أما ترى كيف بليت وقد أقـرح جفـني البـكاء والسهر ؟إن أنت لم تلق لي المودة في صــدر حبيبي وأنت مقتدرلا قلت شعراً ، ولا سمعت غناً ولا جرى في مفاصلي السكرولا أزال القــرآن أدرســه ، أروح في درسـه وأبتـكروألزم الصـوم ولا صـلاة ولا أزال دهــري بالخير أأتمر فما مضت ، بعد ذاك ثالثة حتى أتـاني الحبيــب يعــتذر
على عكس ما ميز الحب العذري من عفة وطهارة تحول الحب في أزمنة لاحقة وخصوصا في الحواضر الإسلامية الكبرى إلى مجرد رغبة جنسية. لقد عمل الشعراء على تغييب الجانب الروحي في الحب مكتفين بالجانب الحسي/الجنسي الذي يظل ملازما لطبيعة الحب السوية التي هي روح وجسد.

الحب في الثقافة العربية الحديثة
لا يمكن الحديث عن الحب كموضوع أدبي وفلسفي في ثقافتنا العربية دون أن يتبادر إلى ذهننا اسم الشاعر نزار قباني، هذا الشاعر العاشق الدمشقي ظل لقرابة الخمسين عاما يهدينا الفرح الجميل وهو يتسلل لقلوبنا ليعبر عما بداخلها بصدق وعفوية وشاعرية تقطر عذوبة.
نزار قباني قال: إن الحب في بلادنا عبد يحتاج إلى تحرير. وهو قد حاول تحرير هذا العبد بالكلمات على الأقل. ربما يشكل نزار قباني استثناء يكاد يكون وحيدا بين أدباءنا، فهو قد قصر معظم نتجاجاته الشعرية على موضوع واحد تقريبا هو الحب، وهو في هذا يلتقي مع الشعراء العذريين مع بعض الاختلافات الطفيفة؛ فهم قد نظموا أشعارهم كلها على محبوب واحد دون غيره، أما نزار فقد جعل أشعاره كلها ناطقة باسم الحب والمحبين جميعا وأعطاهم صوته وقلمه، لهذا نلحظ تعدا ملفتا للحبيبات في شعر نزار، فهو حتى في قصائده السياسية لم تغب عن قريحته تعابير الحب الممزوجة بعبق الأنوثة ولم يتخلى وهو يكتب عن السياسة عن أسلوبه الغزلي الذي يفصح عن نفسه في حبور.
نزار قباني هو امتداد لمدرسة في الشعر العربي تضع الغزل في في منتصف الطريق بين العفة والمجون؛ هذه المدرسة التي كان رائدها وممثلها الأبرز الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة وكذلك الشريف الرضي. فنحن نعثر في نصوص هؤلاء الشعراء على عدد لا حصر له من
الحبيبات يصورهن الشاعر تصويرا يمزح بين الرومانسية والاباحية الخفيفة التي لا تخدش الحياء إلا في النادر من بعض القصائد كما نلاحظ في أشعار أصحاب هذا الاتجاه الذي تأثر به نزار قباني خاصية نادرا ما نجدها في أشعار الاخرين وهي أن الشاعر محبوب ومعشوق أكثر منه عاشقا فهم - ومن بعدهم نزار قباني- يكتبون قصائدهم بكثير من النرجيسية. مثال ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:
تقول اذ ايقنت اني مفارقها = ياليتني مت قبل اليوم ياعمرا
وصف الحبيبة عند هؤلاء الشعراء يقف كما قلت في النقطة الواصلة والفاصلة بين العفة والمجون، بين الرومانسية و الإباحية المخففة -على عكس ما نجدها عند أبي نواس مثلا -. ونحن إذ كنا لا نعثر عند عمر بن أبي ربيعة سوى على وصف الحبيبة وصفا جسديا محضا يختزل كل معاني الحب في نظرات وحركات جسدية ذات طابع إغوائي شبقي في الغالب. فإننا وفي الوقت الحاضر نعثر عند نزار قباني وغيره من الشعراء على محاولات رامية لستكناه نفسية المرأة وإثبات حضورها النفسي والعقلي موازاة مع الحضور الجسدي الذي ظل وبرغم تغير النظرة اتجاه المراة ضاغي الحضور بشكل لافت يصعب تجاوزه في النصوص الشعرية خاصة. في حين نجد في حقل اخر من حقول الأدب وهو الرواية محاولات جادة للتخلص من طغيان الحضور الجسدي للمرأة على حساب حضورها كروح ووجدان وعقل، أي كطرف واعي في علاقة الحب.
الحب شكل في النصوص الروائية العربية الحديثة عنصر أساسي ومكون رئيسي في كمياء النص الروائي ضمن عناصر أخرى؛ لكن ما يمكن ملاحظته على هذه النصوص أنها لم توظف الحب لذاته بل استنجدت به للتعبير عن أشياء أخرى، فالحب كوضوع روائي ظل حاضرا بقوة كأطار عام لسير أحداث الرواية وقد ظل وبنفس القوة غائبا كتفاصيل صغيرة، ذلك لأن الرواية العربية لم تعرف أو بعبارة أدق لم تتكرس ضمنها الرواية الرومانسية (ليس بالمعنى المذهبي للكلمة) كاتجاه مستقل عن الاطار العام للرواية ومتصل به في نفس الوقت؛ فالغلبة ضمن المتن الروائي العربي الحديث والمعاصر كانت دائما للراية السياسية والاجتماعية المحملة بالايديولوجيا. هذان الاتجاهان الذين احتويا بداخلهما مواضيع كثيرة كان يمكن - لو توفرت ظروف إبداع مغايرة – أن تشكل اتجاهات قائمة بذاتها داخل المتن الروائي العربي.
إدا فقد عملت الرواية العربية على توظيف موضوعة الحب كرمز دون أن يقصد لذاته. فتأزم العلاقات العاطفية داخل العمل الروائي ما هو في واقع الأمر إلا تعبير عن تأزم الوضع السياسي والاجتماعي؛ والفشل الذريع الذي تمنى به علاقات الحب داخل تلك النصوص لم تكن هي الأخرى سوى رمز يلجا إليه الروائيين للتعبير عن فشل المشاريع التي تستهدف المستقبل. مشاريع النظام والسلطة بالدرجة الأولى.
إذا كانت أسئلة الرواية ما هي - في النهاية وبعد التحليل - سوى أسئلة المجتمع فإن الحب الذي تصوره هذه الرواية يعبر من خلال الأزمة التي يعيشها عن أزمة المجتمع، وهي أزمة ناتجة أساسا عن التمزقات التي خلفها التاريخ في مفاصل المجتمع. ومن هنا ينبرز التاريخ الفردي لأبطال العمل الروائي في تقاطعه مع التاريخ الجمعي للأمة والمجتمع كعائق يقف في طريق علاقات الحب التي يصورها العمل الروائي. تلك العلاقت التي تبدا بعفوية وصدق وحسن
نية، سرعان ما تتدخل الذاكرة وكذا الواقع المعقد وتفقدها طهرها الأصلي وبالتالي تمأزقها بعد أن يصل الحب إلى قمة عنفوانه؛ ولأن الحب بلا أظافر يدافع بها عن نفسه بشراسة فإنه في الغالب يمنى بفشل ذريع ويعلن سقوطه المدوي تحت تأثير التاريخ والواقع المشتبكين بلا هوادة.
هكذا تكون نهايات الحب غالبا في الروايات العربية التي لجأت إلى توظيف موضوعة الحب كرمز للتعبير عن واقع اجتماعي معقد ومأزوم لا تستطيع أن تحتويه أو تشرحه الرواية وهي تستعمل أسلوب تقريري بلغة مباشرة.
وحتى لا يبقى كلامنا مجرد تحليل نظري نوضحه بمثال أرى أنه الأقدر على التعبير عما رميت إليه؛ وهذا المثال نعثر عليه في رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي.
ان اختيار هذه الرواية تحديدا ليس اختيارا اعتباطيا، فذاكرة الجسد كتبت بأسلوب هو أسلوب جيل
بأكمله من الروائيين والشعراء العرب؛ اسلوب يوظف انسيابية الشعر في التعبير النثري. بالإظافة إلى أن من يقرأ هذه الرواية أول مرة يرتبها في خانة الروايات العاطفية، لكنها في الحقيقة ليست كذلك فهي رواية سياسية بامتياز تستعير الحب فقط لتفتح من خلاله مجالات أخرى:
- يا أمرأة كساها حنيني فإذا بها تأخذ تدريجيا ملامح مدينة وتضاريس وطن.
بهذه العبارة التي وردت على لسان بطل الرواية خالد بن طوبال تختصر العلاقة ما بين الحب/المرأة والوطن بهمومه وتمزقاته. ذاكرة الجسد تدور أغلب أحداثها ما بين الجزائر
(قسنطينة) وفرنسا، وهي تروي لنا حياة/مأساة خالد بن طوبال ذلك المجاهد الذي التحق بالنظال من أجل تحرير الوطن وفي خضم معركة التحرير يجرح ويفقد ذراعه. وتلك ( فقدانه لذراعه) كانت فجيعته الأولى التي سترافقه بقية حياته، بعد الاستقلال تتوالى عليه الخيبات بداية من الصراع الذي دار بين إخوة الأمس حول اقتسام السلطة، فيقرر السفر إلى فرنسا لتحقيق
أمنية أخرى ظلت تراوده وتناديه هي الفن. بعد سنوات قليلة يشتهر كرسام ويقيم معارض في أكبر القاعات. يعود للوطن من أجل إقامة معرض للوحاته الزيتية وهناك يلتقي بحب حياته الذي انتظره وحلم به طويلا: أحلام تلك الفتاة التي أحبها من اول نظرة واعترف لها بأنه كان مستعدا منذ الأزل ليحب فتاة تشبهها لأن وجهها كان يطارده في كل الوجوه النسائية التي عرفها. وهنا يصاب بخيبة أمل أخرى لاستحالة ذلك الحب الذي بدأ بعنفوان كبير ثم تضاءل ببطء إلى أن قررت الحبيبة الزواج بشخص اخر ليس مشدودا لماضيه بل يملك حاضره ويتطلع للمستقبل. هذه هي القصة المحورية في الرواية التي تتفرع عنها أحداث وتعليقات ومواقف أخرى لتشكل في النهاية رواية ذات أبعاد متعددة سياسية عاطفية اجتماعية وتاريخية.
إن توظيف الحب في هذه الرواية مثلها مثل الكثير من الروايات العربية لم يكن لذاته بمقدار ما كان بهدف إلباس الأحداث لبوسا أنيقة وجذابة تخفي بشاعتها وتمزقاتها الداخلية.
إن الرواية العاطفة المحضة والقصيدة الغزلية الصافية التي تمجد الحب والمحبوب لذاتهما تظل غائبة بصفة شبه كلية عن الأدب العربي الحديث والمعاصر. أما حقول الثقافة الأخرى كالفلسفة والعلوم الانسانية فهي في بيئتنا العربية قد نسيت تماما أن هناك إحساس جميل بداخل كل منا إسمه الحب يحتاج إلى دراسة وتحليل.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...