نقوس المهدي
كاتب
تحكي الأسطورة عن نساءٍ جميلاتٍ يشحذنَ صوتهنَ بزبدِ البحرِ و لهنَ فطرةُ الموجِ في العزف على قيثاراتٍ ذهبية كُنَ يكسِرنَ بها قلوبَ بحارةٍ أشداء استطاعوا ترويضَ الأعاصير لكنهم لم ينجوا من غواية المغنيات المفترسات "السيرينيات" كما يُطلق عليهن
كان الرجالُ يذهبونَ إلى أعماقِ المحيط في شبهِ غيبوبةٍ دونَ أن يمسهم الموت , هم فقط لا يعودون إلى الأرض , بل يذهبون إلى الغواية التي لا تأخذهم إلا حيث يريدون .. من حيثِ لا يدرون قليلون أولئك الذين يذهبون إلى الغوايةِ بملءِ إرادتهم أعني دونَ أن تسيطر عليهم حالة سلبية من التنويم المغناطيسي ..في تتمةِ الأسطورة أضاع "أوديسيوس" على نفسه فرصةً نادرة في أن ينصاعَ مختاراً لغواية "السيرينيات" حيث طلب من بحارته أن يصبوا الشمع في آذانهم و أن يربطوه على الصارية كي يستمع للغناء في حالةٍ من التحدي الجلف للغواية . "أوديسيوس" الذي أمضى عشر سنوات في حرب طروادة و الذي كانت له طاقات هائلة في الإستئساد و السيطرة استحالت سيطرته إلى استبدادٍ و هو يدمر الصارية ثم ما لبثَ أن شدَ شعره و أخذ يضرب نفسه بقسوة كي لا ينصاعَ للغواية و تنتهي الأسطورة حين يمسك به رجاله و هو يقاومهم بعنف إلى أن يبتعدوا عن صوت "السيرينيات" فينجو من الغواية كمثلِ الواهم الذي أمضى الليل كلهُ واقفاً على رؤوسِ الأصابعِ و متشبثاً بكل ما يملك من قوة خشيةَ أن يقع في الهاوية و ما أن طلعَ الفجر حتى اكتشف أن الهاوية لم تكن أكثر من حفرةٍ بعمقِ متر
.....................
يأتي معنى الغوايةُ في العهدِ القديم و الجديد مرافق لمعنى الخطيئة الجنسية التي ألصقت بالمرأة و بالرغم من أن القرآن برءَ حواء من فكرةِ الخطيئة و أشركَ آدمَ في الغواية إلا أن الأدبيات العربية و الإسلامية لا زالت مليئة بأفكار التوراة و الإنجيل حول الغواية "الخطيئة" و يتم التعامل معها على أنها أفكار إسلامية .. و في أحد تفاسيرِ القرطبي أن حواء عبَت كأساً من خمر الجنة لآدم و من ثم قامت بحركات إغراء -هي أقرب إلى المخيال الشعبي منها إلى الأسطورة - ثم ما فتأت تعضُ على لحاءِ شجرة الغواية "المعرفة" حتى سال الدمُ من الشجرة و سيصبح هذا الدم فيما بعد رمزاً للطمث الذي يُذَكر المرأة بخطيئتها الأبدية و يحمِّلها تبعات جسدها -العورة .. الحرام .. المثير .. الخ - حتى يومنا الحاضر
ومن هنا تُجمِع قواميس اللغة العربية على أن الغواية هي معنى مرادف للضلالة و في معظم الأدبيات سنجد مفهوم سطحي للغواية يرتبط بغواية المرأة الجنسية للرجل علماً أن الغواية حدثت قبل أن يرى آدم و حواء سوأتهما و بالتالي فهي كانت بعيدة كل البعد عن معنى الغريزة الجنسية .. و الأكثر من ذلك أن عقوبة الغواية كانت بإظهار ما يسمى جوازاً "العورات" .
.........
الغواية هي شرارة المعرفة التي أوحى بها كائنٌ نوراني لحواء التي كانت أقل سيادة من آدم و بالتالي كانت سريعة التأثر .
آدم لم يكن "أوديسيوس" الذي استبد بغوايته فمزَق نفسَه .
آدمُ الذي اصطفاه الله و سجدت له الملائكة كان قد تعلم الأسماء جميعاً و يعرفُ معنى أن يذهب إلى غوايته سيداً . آدمُ ليس ذلك المسكين الأخرق الذي تلاعبت بعقله امرأة ماكرة فطردته من الفردوس كما تصورهُ الأسطورة .
و قد يسأل سائل لماذا لم يغوِ الشيطان آدم مباشرةً و الجواب أبسط بكثير من البحثِ و المناقشة , إنها مكانة آدم التي لم يستطع أحد التعدي عليها , و بوضوح أكثر الشيطان لم يكن نداً لآدم لذلك هو احتاج أن يُغوي "حواء" – النصف الأنثوي من آدم - لأنها كانت كالماء الذي يشقُ الصخرة
.....................
الغوايةُ تصغي للسيطرة لا الاستبداد .. تنصاعُ للإرادة لا الاستغلال .. تزدهي بالشجاعة لا الضعف .. تسبحُ في محيطات الخيال لا في الضحالة
......
عندما يغويني مكانٌ جميل فلأنني أرى قدرة البشر في السيطرة على جمال الطبيعة و العكسُ ليس صحيح فحين أكون في مكانٍ مزدحم و عشوائي ينتابني نوعٌ من فقدان السيطرة على المكان و يصبح المكان أشبه بالطَرقَات الخفيفة على الجليد التي ستجعلني أنهارُ عما قليل
.......
المرأة التي تأخذ الرجل نحو الغواية يجب أن تعامل معاملة المليكة لأنها تفتح الرؤية على الدهشة و تكسِّرُ الأبواب الموصدة , و الرجالُ الأذكياء فقط هم من يرفعونَ ذيلَ قفطانِ المليكة و يسيرون وراءها و يوصدون باب الكونِ عليهم و هم بكاملِ إرداةِلاوعيهِم
الغواية القائمة على الاستغلالِ بين الجنسين تقودُ إلى التهلكة و هي أشبه بغواية الناي الذي يجر الجرذان إلى ماء النهر .
ما بينَ غرفةِ المليكة و ماءِ النهر شيطانٌ يُجلدُ في الخطيئة و ينتظرُ الإنصاف
.........
في الحريةِ غوايةٌ لا يعرفُها إلا من تذوق طعمها , إنها صوت الغناء الذي يُهدي البحارة الأشداء إلى أعماق المحيط و النقطة التي يتحد فيها الوعيُ باللاوعي
عند من تأسرهم غوايةُ الحرية يصبح الجسد أداةً من أدواة الحياة و لا تبقى الحياة تحت رحمة الموت و من تنازل عن حقه في الحرية لصالحِ الحياة يصبح بليداً مثل بغلةِ الحرب العجوز , فغواية الحرية تضع العقل في مساحاتٍ أوسع من مساحاتِ التفاهة اليومية لأنها صوت بوق الحرب الذي يضخُ الدماءَ في الجيادِ و المقاتلين و هي الانتشال الحاسم للدماغ من مياههِ الآسنة
.........................
الشعراء يتبعهم الغاوون أي المهتدينَ بهدايتهم لا الضالين بضلالهم
إن قصيدةً يكتبها شاعرها دونَ غواية هي أشبه بفتاةٍ حسناء مختونة .. " جبلٌ من نار يغطية شلالٌ بارد "
الغوايةُ هي الجحيمُ الأعلى في فردوسِ الشاعر .. " يقظةٌ هائلة في غياهبِ الذاكرة"
طفلٌ يضعُ الملحَ في كأسِ ماء و يجلسُ في الحديقةِ تحت وهجِ الشمس و هو على يقينٍ كامل أن خيالَه سوف يسعفه بقطعةٍ من البحر .يحكى عن موتزارت أنه كان يصغي إلى غواية اللحن و من ثم يضعه على الورق لكأن اللحن كائنٌ هناك في غرفة الذاكرة . " في آخر مقطوعةٍ له أخذته الغوايةُ إليها قبل أن يتم عمله " كان هناكَ إلهاً عجوزا يتربعُ على سطحِ الماء أصاب منهُ الضجر مبلغاً كبيراً أخذته الغواية فاستعادَ شبابه و فاضت منهُ الأسرار فكان الكون .
...............
يبلغ عمر الشمس بحسب الفلكيين حوالي ستة بلايين سنة و يُقَدر عمر الأرض بثلاثة بلايين سنة البليون الأول من عمرها كان عبارة عن طواف في الكون و حول المجرات إلى أن برُدَت تدريجياً و دبت الحياة في النصف بليون الأخيرة من عمرِ الأرض و قد بدأت بامتزاج الذرات مع الجزيئات التي تسمى أحماض أمينية و هذا الاقتران سيسميه دارون في المدرسة التطورية " صدفة عارضة" و هذا أشبه بمن يقول أن كلمات هذا المقال كانت موزعة و تجمعت من تلقاء نفسها لتصبح بالشكلِ الذي هي عليه الآن
ليست الصدفة .. بل قُل هي الغواية التي كانت تنغرس تدريجياً في النواة إلى أن شقت لها منفذاً و خرجت منها .
في الغوايةِ كان البدء .
أحمد عزام *
- عن موقع الف لحرية الكشف في الكتابة والانسان
كان الرجالُ يذهبونَ إلى أعماقِ المحيط في شبهِ غيبوبةٍ دونَ أن يمسهم الموت , هم فقط لا يعودون إلى الأرض , بل يذهبون إلى الغواية التي لا تأخذهم إلا حيث يريدون .. من حيثِ لا يدرون قليلون أولئك الذين يذهبون إلى الغوايةِ بملءِ إرادتهم أعني دونَ أن تسيطر عليهم حالة سلبية من التنويم المغناطيسي ..في تتمةِ الأسطورة أضاع "أوديسيوس" على نفسه فرصةً نادرة في أن ينصاعَ مختاراً لغواية "السيرينيات" حيث طلب من بحارته أن يصبوا الشمع في آذانهم و أن يربطوه على الصارية كي يستمع للغناء في حالةٍ من التحدي الجلف للغواية . "أوديسيوس" الذي أمضى عشر سنوات في حرب طروادة و الذي كانت له طاقات هائلة في الإستئساد و السيطرة استحالت سيطرته إلى استبدادٍ و هو يدمر الصارية ثم ما لبثَ أن شدَ شعره و أخذ يضرب نفسه بقسوة كي لا ينصاعَ للغواية و تنتهي الأسطورة حين يمسك به رجاله و هو يقاومهم بعنف إلى أن يبتعدوا عن صوت "السيرينيات" فينجو من الغواية كمثلِ الواهم الذي أمضى الليل كلهُ واقفاً على رؤوسِ الأصابعِ و متشبثاً بكل ما يملك من قوة خشيةَ أن يقع في الهاوية و ما أن طلعَ الفجر حتى اكتشف أن الهاوية لم تكن أكثر من حفرةٍ بعمقِ متر
.....................
يأتي معنى الغوايةُ في العهدِ القديم و الجديد مرافق لمعنى الخطيئة الجنسية التي ألصقت بالمرأة و بالرغم من أن القرآن برءَ حواء من فكرةِ الخطيئة و أشركَ آدمَ في الغواية إلا أن الأدبيات العربية و الإسلامية لا زالت مليئة بأفكار التوراة و الإنجيل حول الغواية "الخطيئة" و يتم التعامل معها على أنها أفكار إسلامية .. و في أحد تفاسيرِ القرطبي أن حواء عبَت كأساً من خمر الجنة لآدم و من ثم قامت بحركات إغراء -هي أقرب إلى المخيال الشعبي منها إلى الأسطورة - ثم ما فتأت تعضُ على لحاءِ شجرة الغواية "المعرفة" حتى سال الدمُ من الشجرة و سيصبح هذا الدم فيما بعد رمزاً للطمث الذي يُذَكر المرأة بخطيئتها الأبدية و يحمِّلها تبعات جسدها -العورة .. الحرام .. المثير .. الخ - حتى يومنا الحاضر
ومن هنا تُجمِع قواميس اللغة العربية على أن الغواية هي معنى مرادف للضلالة و في معظم الأدبيات سنجد مفهوم سطحي للغواية يرتبط بغواية المرأة الجنسية للرجل علماً أن الغواية حدثت قبل أن يرى آدم و حواء سوأتهما و بالتالي فهي كانت بعيدة كل البعد عن معنى الغريزة الجنسية .. و الأكثر من ذلك أن عقوبة الغواية كانت بإظهار ما يسمى جوازاً "العورات" .
.........
الغواية هي شرارة المعرفة التي أوحى بها كائنٌ نوراني لحواء التي كانت أقل سيادة من آدم و بالتالي كانت سريعة التأثر .
آدم لم يكن "أوديسيوس" الذي استبد بغوايته فمزَق نفسَه .
آدمُ الذي اصطفاه الله و سجدت له الملائكة كان قد تعلم الأسماء جميعاً و يعرفُ معنى أن يذهب إلى غوايته سيداً . آدمُ ليس ذلك المسكين الأخرق الذي تلاعبت بعقله امرأة ماكرة فطردته من الفردوس كما تصورهُ الأسطورة .
و قد يسأل سائل لماذا لم يغوِ الشيطان آدم مباشرةً و الجواب أبسط بكثير من البحثِ و المناقشة , إنها مكانة آدم التي لم يستطع أحد التعدي عليها , و بوضوح أكثر الشيطان لم يكن نداً لآدم لذلك هو احتاج أن يُغوي "حواء" – النصف الأنثوي من آدم - لأنها كانت كالماء الذي يشقُ الصخرة
.....................
الغوايةُ تصغي للسيطرة لا الاستبداد .. تنصاعُ للإرادة لا الاستغلال .. تزدهي بالشجاعة لا الضعف .. تسبحُ في محيطات الخيال لا في الضحالة
......
عندما يغويني مكانٌ جميل فلأنني أرى قدرة البشر في السيطرة على جمال الطبيعة و العكسُ ليس صحيح فحين أكون في مكانٍ مزدحم و عشوائي ينتابني نوعٌ من فقدان السيطرة على المكان و يصبح المكان أشبه بالطَرقَات الخفيفة على الجليد التي ستجعلني أنهارُ عما قليل
.......
المرأة التي تأخذ الرجل نحو الغواية يجب أن تعامل معاملة المليكة لأنها تفتح الرؤية على الدهشة و تكسِّرُ الأبواب الموصدة , و الرجالُ الأذكياء فقط هم من يرفعونَ ذيلَ قفطانِ المليكة و يسيرون وراءها و يوصدون باب الكونِ عليهم و هم بكاملِ إرداةِلاوعيهِم
الغواية القائمة على الاستغلالِ بين الجنسين تقودُ إلى التهلكة و هي أشبه بغواية الناي الذي يجر الجرذان إلى ماء النهر .
ما بينَ غرفةِ المليكة و ماءِ النهر شيطانٌ يُجلدُ في الخطيئة و ينتظرُ الإنصاف
.........
في الحريةِ غوايةٌ لا يعرفُها إلا من تذوق طعمها , إنها صوت الغناء الذي يُهدي البحارة الأشداء إلى أعماق المحيط و النقطة التي يتحد فيها الوعيُ باللاوعي
عند من تأسرهم غوايةُ الحرية يصبح الجسد أداةً من أدواة الحياة و لا تبقى الحياة تحت رحمة الموت و من تنازل عن حقه في الحرية لصالحِ الحياة يصبح بليداً مثل بغلةِ الحرب العجوز , فغواية الحرية تضع العقل في مساحاتٍ أوسع من مساحاتِ التفاهة اليومية لأنها صوت بوق الحرب الذي يضخُ الدماءَ في الجيادِ و المقاتلين و هي الانتشال الحاسم للدماغ من مياههِ الآسنة
.........................
الشعراء يتبعهم الغاوون أي المهتدينَ بهدايتهم لا الضالين بضلالهم
إن قصيدةً يكتبها شاعرها دونَ غواية هي أشبه بفتاةٍ حسناء مختونة .. " جبلٌ من نار يغطية شلالٌ بارد "
الغوايةُ هي الجحيمُ الأعلى في فردوسِ الشاعر .. " يقظةٌ هائلة في غياهبِ الذاكرة"
طفلٌ يضعُ الملحَ في كأسِ ماء و يجلسُ في الحديقةِ تحت وهجِ الشمس و هو على يقينٍ كامل أن خيالَه سوف يسعفه بقطعةٍ من البحر .يحكى عن موتزارت أنه كان يصغي إلى غواية اللحن و من ثم يضعه على الورق لكأن اللحن كائنٌ هناك في غرفة الذاكرة . " في آخر مقطوعةٍ له أخذته الغوايةُ إليها قبل أن يتم عمله " كان هناكَ إلهاً عجوزا يتربعُ على سطحِ الماء أصاب منهُ الضجر مبلغاً كبيراً أخذته الغواية فاستعادَ شبابه و فاضت منهُ الأسرار فكان الكون .
...............
يبلغ عمر الشمس بحسب الفلكيين حوالي ستة بلايين سنة و يُقَدر عمر الأرض بثلاثة بلايين سنة البليون الأول من عمرها كان عبارة عن طواف في الكون و حول المجرات إلى أن برُدَت تدريجياً و دبت الحياة في النصف بليون الأخيرة من عمرِ الأرض و قد بدأت بامتزاج الذرات مع الجزيئات التي تسمى أحماض أمينية و هذا الاقتران سيسميه دارون في المدرسة التطورية " صدفة عارضة" و هذا أشبه بمن يقول أن كلمات هذا المقال كانت موزعة و تجمعت من تلقاء نفسها لتصبح بالشكلِ الذي هي عليه الآن
ليست الصدفة .. بل قُل هي الغواية التي كانت تنغرس تدريجياً في النواة إلى أن شقت لها منفذاً و خرجت منها .
في الغوايةِ كان البدء .
أحمد عزام *
- عن موقع الف لحرية الكشف في الكتابة والانسان
صورة مفقودة