حمدي الشريف - السلطة - الجسد - المقدس-... عرض وتحليل كتاب دوائر التحريم للدكتور حسن حماد

تستحق أعمال الأستاذ الدكتور "حسن حماد" في مجال الفلسفة المعاصرة وعلم الجمال وفلسفة الفن والنقد الأدبي العرض والتحليل والدراسة؛ لما تتضمنه من رؤية مستنيرة في معالجة القضايا التي يتناولها، وأسلوب علمي ومنهجي رصين، وجرأة فكرية اقتحم من خلالها أفكاراً مسكوتاً عنها كثيراً في الفكر والثقافة والدين والسياسة.
و"حسن حماد" لمن لا يعرفه هو أحد أبرز أساتذة الفلسفة المستنيرين في مصر والعالم العربي، ويشغل حالياً أستاذ ورئيس قسم الفلسفة في جامعة الزقازيق، كما يشغل أستاذ كرسي الفلسفة لليونسكو فرع جامعة الزقازيق. وفي مجال الفلسفة المعاصرة قدَّم دراسات عديدة، منها: "النظرة النقدية عند هربرت ماركيوز" (1993) - "الاغتراب عند إريك فروم" (1995) - "الإنسان وحيداً، دراسة في الاغتراب الوجودي" (1995) - "الخيال اليوتوبي" (1999) - "آفاق الأمل" (1999) - "بحثاً عن المعنى والسعادة واليوتوبيا" (2003). أما في ميدان علم الجمال وفلسفة الفن فقد قدَّم العديد من الإسهامات البارزة، من أهمها: "الخلاص بالفن، التراجيديا نموذجاً" (2001) - "النقد الفني وعلم الجمال" (2002) - "فنون مصر التشكيلية في العصر الحديث" (2008). وفي ميدان النقد الأدبي كتب: "محنة العبث ورحلة البحث عن خلاص، قراءة وجودية في أدب نجيب محفوظ" (2013)، وقد نال به جائزة الدولة التشجيعية لعام 2014. وفي مجال دراسته للتراث الإسلامي والحركات الإسلامية كتب: "ذهنية التكفير، الأصوليات الإسلامية والعنف المقدس" (2014). هذا بالإضافة إلى العديد من المقالات التي نُشرت في الصحف والدوريات والمجالات المتخصصة.
وسنقتصر في هذا العرض على دراسته: "دوائر التحريم، السلطة- الجسد- المقدس"، وقد صدرت باللغة العربية عن دار مصر العربية للنشر والتوزيع في القاهرة عام 2016.
- أهمية الدراسة.
بادئ ذي بدء فإن أهمية هذه الدراسة تأتي من كونها محاولةً جادةً من جانب الكاتب لاقتحام ذلك الثالوث القديم المعادي للإبداع والعلم والفن، إنه ثالوث "السلطة" و"الجنس" و"المقدس". والدراسة، كما نطالع الصفحات الأولى لها، هي عبارة عن دراسة فلسفية وجودية اجتماعية وسياسية وأخلاقية تكشف عن دوائر القهر والقمع الجهنمية التي أعاقت سبل التقدم والتحرر الإنساني. كما يكشف الكتاب بصفة خاصة عن مدى سيطرة الثقافة الذكورية في المجتمعات العربية وما تتعرض له المرأة المصرية من جراء انتشار هذه الثقافة، وكم القهر والتسلط والجحود الذي تعيشه ليل نهار.
ولقد غاض بنا الكاتب في حقل شائك من الألغام في مناقشته لدوائر التحريم الثلاث في الفكر الإنساني، وضرب أمثلة عديدة من الحضارات والثقافات القديمة والحديثة والمعاصرة. هذا هو الثالوث المعادي للإبداع والعلم والتقدم، والذي يمثله رجل السياسة ورجل الأخلاق ورجل الدين. فالسياسي يريد الاستقرار ويعادي كل فكر جديد وكل ممارسة تريد تغيير المجتمع والدولة معاً، ورجل الأخلاق المتزمت يريد الحفاظ على منظومة التقاليد الأخلاقية التي عفا عليها الزمن، ورجل الدين المتشدِّد يريد أن يحصر المقدس في فهمه هو للدين، وبالتالي يدّعي امتلاكه الحقيقة المطلقة من خلال الزعم بأن تفسيره للدين هو التفسير الوحيد الصحيح وبقية التفسيرات الأخرى باطلة! وهكذا يغدو من يعارض السلطة شيوعياً فوضوياً، ويُوصف من يبحث في قضايا الجسد ومساواة المرأة بالرجل بأنه شخص إباحي، ويُتهم من ينتقد بعض التقاليد والممارسات الدينية، أو بالأحرى المنسوبة زوراً وبهتاناً إلى الدين، يُتهم ذلك الشخص بالإلحاد والهرطقة!
وإذا كانت المجتمعات الأوروبية قد تجاوزت إلى حد كبير ثلاثية التحريم هذه، بفضل عوامل عديدة يقف على رأسها التطور الثقافي والعلمي، فإن المجتمعات العربية والإسلامية لا تزال تسبح في هذه الفضاءات الثلاثة: السلطة، الجسد، المقدس.
- التقاطع بين الدوائر الثلاث.
وقد تجتمع الدوائر الثلاث فتتداخل وتتشابك بصورة يصعب مناقشة أيّ منها بمعزل عن الآخر، وهي في تداخلها وتشابكها تُشكِّل مزيجاً قوياً لمواجهة أي أفكار تقدمية، وصداً منيعاً أمام حركة التغيير والإبداع. فالدائرة الأولى، وهي دائرة السلطة وخاصة بالمعنى السياسي، إذا ما كانت سلطة دنيوية ستبدو سلطة مدنسة من وجهة نظرٍ لاهوتية، أما إذا امتزجت بالدين ستصبح سلطة مقدسة ومطهرة لأنها ستحكم حينئذٍ باسم الإله. أما الجسد بشكل عام فينتمي إلى دائرة المدنس، إلا أنه قد يكتسب صفات المقدس بالوضوء والطهارة والصلاة، والغُسل في حالة الموت. أما الدائرة الأخيرة وهي المقدس فظاهرياً تبدو مبرأة تماماً من كل ما ينتمي إلى دائرة المدنسات سواء شملت هذه الدائرة الأخيرة ما هو إنساني أو ما هو غير طاهر، ولكن التحليل الأنثروبولوجي لفكرة المقدس سوف يكشف لنا أن دائرة المقدس ليست منفصلة عن الدنيوي أو المدنس.
- معنى كلمة التحريم.
يقف الكاتب على معنى كلمة "التحريم" في اللغات البشرية، كما يسعى إلى تأصيل هذا المعنى في الحضارات والثقافات الإنسانية. فإذا نظرنا إلى كلمة "مُحرم" في اللغة العربية سنجدها ذات دلالة مزدوجة، حيث تشير إلى كل من "المقدس" و"المدنس" على حد سواء، أو "الطاهر" و"النجس" معاً. فالحرام هو ما يُحظر لمسه أو الاقتراب منه أكان مقدساً أو رجساً، وسواء أكان شخصاً (الله، أو الملك)، أو مكاناً (المسجد الحرام، البلد الحرام)، أو زماناً (الأشهر الحُرم)... إلخ.
كذلك فإن كلمة المحرم أو "التابو" Taboo في اللغة الإنجليزية ذات دلالة مزدوجة، حيث تعنى كل من المقدس والملعون، كما أنها تشير بالمثل إلى كل ما يتصف بالإلوهية والتحريم. إذن فالمحرم هو دائرة التقاء المقدس بالمدنس. وهذه الدلالة المزدوجة لكلمة "مقدس" أو "محرم" تكشف عن أن الكلمة كانت تُستخدم أحياناً للتعبير عن "الانتهاك" أو "نزع القداسة" Desecration بنفس القدر الذي تستخدم فيه للدلالة على تقديس تلك "القداسة" Consecration. وما يؤكد هذه العلاقة أيضاً هو النتيجة التي تصدر عن الاقتراب من المعنى (المحرم) بشقيه. ففي الحضارات والثقافات القديمة، نجد أن الخطر الذي ينجم عن الاقتراب من المقدس يماثل تقريباً ذلك الخطر الذي ينجم عن الاقتراب من المدنس أو الأشياء النجسة. ومن الملاحظات اللافتة للنظر أن الثقافات القديمة التي كانت تُضْفي على الملوك صفاتاً إلهيةً كانت تقوم بعزل القداسة التي يتمتع بها الملك الإله بعيداً عن اللمس والمس. فملوك الحضارة المصرية القديمة- على سبيل المثال- كان يُنظر إليهم على أنهم آلهة أو أشباه آلهة بوصفهم من سلالة الإله الأعظم "رع". ولذلك كان شخص الفرعون الإلهي أقدس من أن يخاطبه أحد بصورة مباشرة، فمن كان فرداً عادياً لا يستطيع التحدث مع الملك، وإنما يتحدث في حضرة الملك، وعلى المرء أن يلجأ إلى أساليب ملتوية ومراوغة ليتجنب الإشارة المباشرة للملك مثل: "فلتسمع جلالتك" بدلاً من "فلتسمع". كما لم يكن يجرؤ أحد على الدنو من شخص الملك أو حتى من الأشياء التي يستخدمها. وعلى هذا النحو كان الاقتراب من الأشياء المقدسة والمدنسة يؤدى حتماً إلى هلاك الشخص، وبذلك يكون أثر الإلهي والملعون واحد، فالمقدس والمدنس الملعون هما ما يُحظر أو يُحرم ملامسته أو حتى مجرد الاقتراب منه.
وإذا كان الله في الإسلام وغيره من الأديان السماوية هو وحده المنوط به تحديد دائرة الحرام، إلا أن واقع الممارسة الدينية يؤكد أن الفقهاء ورجال الدين المتشددين على مدار التاريخ وحتى هذه اللحظة قد اغتصبوا هذه السلطة المطلقة لله ونسبوها لأنفسهم، حتى طالت التحريمات كل التفاصيل الصغيرة في حياة الإنسان وأبسط سلوكياته، بل وامتدت إلى الأفكار والتصورات أيضاً.
وقد تتسع دوائر التحريم لدى المتطرفين الدينيين الجدد لتصبح مجرد "الفكرة" أو "الخاطرة" وسوسة من وساوس الشيطان! بل حتى الكلمة تصبح في ثقافة التحريم المتطرفة بديلاً سحرياً للواقع، فهي التي تقرر مصير الإنسان وتحدد حياته ووجوده. أما الكلمة المقدسة فلها من القوة والجبروت والسلطان ما لا يمكن تخيله أو إدراكه.
ولكن هذا لا يعني أن دوائر التحريم تقتصر فحسب على السلطة الدينية، وإن كانت السلطة الدينية هي أكثر السلطات قدرة على تعزيز المشاعر التحريمية. وفي هذا الإطار، ينبغي أن نشير إلى أن السلطة الدينية ذات قوة كبيرة في تشكيل وعي الناس والسيطرة عليهم وتعبئتهم وحشدهم وتحويل أفكارهم ومشاعرهم نحو هدف مُحدَّد. ويقول العلامة "جوستاف لوبون" Gustave Le Bon حول هذا المعنى: تُسخِّر السلطة الدينية الناس غير مستعينةً بالعقل، وعندها من القدرة ما يكفي لتحويل الأفكار والمشاعر نحو غرض واحد. ولا تضاهي قوة العقل المطلق قوتها(1).
إن السلطة الدينية هي أكثر السلطات قدرة على تعزيز المشاعر التحريمية، لأن المعتقدات الدينية، إذ تنفذ إلى قلب وأعماق الإنسان تتحول إلى سلطة باطنية مطلقة لا يجب مناقشتها ولا يجوز فهمها. أما السلطات الأخرى التي تنافس السلطة الدينية في فرض تحريماتها ومحظوراتها، فيأتي في مقدمتها السلطة السياسية بكل مؤسساتها وأجهزتها وأدواتها إلى جانب السلطة الاجتماعية ممثلة في العرف والتقاليد، وكذلك سلطة الرأي العام والسائد والمألوف. إن هذه السلطات كثيراً ما تدخل في منافسة وصراع مع السلطة الدينية من أجل فرض نموذجها ومثالها التحريمي على الأفراد والجماعات. ولكن عندما تكون السلطة السياسية والسلطات الثقافية والتربوية التابعة لها في حالة من الضعف والهشاشة والرخاوة، هنا تصبح المؤسسة الدينية لها الكلمة العليا في حياة الإنسان. وكذلك فإن ثمة علاقة طردية في أغلب الأحيان بين القمع السياسي وبين التشدّد الديني، فكلما تقلصت مساحة الحرية اتسعت دائرة الإرهاب والتطرف الديني، وبالتالي تتسع دوائر التحريم بحيث يصبح التفكير جريمة تساوي التكفير، ويصبح كل جديد أو تجديد بدعة وضلالة ينبغي قذفها في النار!
- السلطة، الجسد، المقدس.
يجيء القسم الأول من الكتاب أو الدراسة ليناقش دائرة السلطة السياسية، ويتضمن فصلين: يناقش الفصل الأول علاقة اللغة بالسلطة، ويحاول أن يكشف عن ذلك التواطؤ الخفي بين ثقافة المهمشين والثقافة الأصولية، مبرهناً على أن ثقافة الانحطاط لا تتناقض بأي صورة مع الثقافة الأصولية؛ لأن كليهما ينبع من مصدر واحد، وهو "البعد الهمجي في الإنسان"، وكلاهما يمكن أن يؤدي إلى الآخر. فالانحطاط الثقافي والأصولية إذن وجهان لعملة واحدة هي الطغيان والاستبداد بكل أطيافه الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
وفي هذا الإطار يكشف الكاتب عن تجليات السلطة السياسية والاقتصادية على مجالات الفكر والثقافة والفن والأدب...إلخ، ويذهب إلى أن ثمة علاقة طردية بين تقدمية السلطة السياسية والاقتصادية وبين نمو الإبداع، والعكس أيضاً فهناك علاقة طردية بين رجعية السلطة وبين التدهور الفكري والتدّني الثقافي واضمحلال الأدب. ومن اللافت للنظر أن الفترات السياسية التي شهدت النمو الشرس للرأسمالية الطفيلية، قد بدأت تشهد في المقابل تراجع للفن والإبداع والعلم. وفي المقابل فإن ثمة علاقة طردية أيضاً بين تقدمية السلطة السياسية وبين سيادة التعددية الدينية وفكر التسامح، مثلما أن هناك علاقة طردية بين رجعية السلطة والاستبداد وبين ظهور الجماعات الدينية الأصولية والتطرف الديني، حيث يبدو التطرف الديني في هذه الحالة نوعاً من التكفير عن الذنب والتطهر من رجس الانحلال الخلقي والديني، والاستبداد السياسي، والتدهور الاقتصادي!!
كذلك يكشف الكاتب عن أن أخطر أنواع السلطة التي تمارس قهراً على الإنسان هي السلطة اللاهوتية- السياسية، لأنها تستند إلى نوع من القمع الرهيب الذي يستند بدوره إلى سلطة الإلهي والمقدس، وهي تعتمد في هذا على جبروت وإرادة الرب، لتصبح بذلك سلطة أبوية مطلقة لا تكتفي بالسيطرة على المؤسسات السياسية والاجتماعية، بل تمتد سطوتها أيضاً إلى السيطرة على العقول والضمائر والأنفس والأبدان. ومن ثم يجيء الفصل الثاني من القسم الأول ليؤكد أن قتل الأب بدلالته الرمزية المتعددة هو المقدمة الضرورية للتمرد وكسر دوائر التحريم بحثاً عن تحقيق الإنسان لذاته وحريته وحقوقه، وهو ما يمثل بالتالي المدخل إلى التحرر الإنساني من كل الأوهام والأصنام الدينية والسياسية والاقتصادية والفكرية...إلخ.
ولأن الجسد هو الساحة الرئيسة التي تعمل عليها السلطة، لذلك كان لا بُدَّ من اقتحام دائرة ذلك العالم المهمل، المستبعد من لغة الخطاب اليومي والرسمي، برغم إنه حاضر وماثل دائماً في الوجود. إنه هو الحاضر الغائب دائماً، الذي يحمل كل متناقضات وكل مفارقات هذا الوجود، فمن خلاله تبدأ دورة الحياة، ومن خلاله يقول الموت كلمته الأخيرة!!
وهنا يغوص الكاتب في قضية الجسد بدءا من الحضارة اليونانية حتى عصرنا الحالي، فلم تكن المرأة عند اليونان تنعم بالحرية وإنما كانت ملكية خاصة يضعها الرجل إلى جانب الأشياء التي يمتلكها. لقد اعتبر الفيلسوف اليوناني الكبير "أفلاطـون" Plato (427/428-347/348 ق. م) الجسد مقبرة الروح. وكان عدواً لدوداً للمرأة، إنه كان يريد محو الأنوثة وطمسها وإحالتها إلى الذكورة، إنه مسكون إلى حد الهوس بنزعة ذكورية أبوية دينية. كذلك فقد كان المعلم الأول "أرسـطو" Aristotle (384-322 ق. م) ينظر إلى جسد المرأة نظرة مماثلة تماماً لنظرته إلى جسد العبد، فسلطة الحر على جسد العبد لا تختلف عن سلطة الرجل على جسد المرأة، لأن المرأة برأيه جسد بلا عقل طالما أن مَلكة التفكير معطلة لديها، مثلما تكون غائبة في العبد.
وإذا نظرنا إلى نصوص العهد القديم سنجد أن صورة النساء فيها تظهر كمخلوقات ذليلة مهملة. وفي المسيحية فقد ربط الكُتَّاب المسيحيون بين خلق حواء وبين الخطيئة، كما حصروا المرأة بين ازدواجية الحياة والموت، فهي سر السعادة وأصل الشقاء، ورمز الحب ومصدر الغواية...إلخ. أما في الإسلام فقد أنصف القرآن الكريم المرأة وأعطى لها حقوقاً لم تكن تملكها من قبل في الحضارات القديمة. لقد كانت الأنثى قبل الإسلام مكروهة موؤدة، فجاء الإسلام وأنصفها، بل إن القرآن جاء بسورة كاملة هي سورة "النساء" بخلاف مواضع عديدة في سور أخرى. ولكن وعلى الرغم من ذلك فقد استغل البعض ما يوجد في كتب التراث من التقليل من مكانة المرأة ورفضوا مساواتها بالرجل حتى في أبسط الحقوق الآدمية، وهو حق الحرية. وفي النتيجة النهائية لقد تم لعن الأنثى: فالرجل عقل والمرأة جسد، هذا ما أعلنته كتابات فحول المفكرين والشعراء والمثقفين: سقراط وأرسطو وداروين وشوبنهور ونيتشه وفرويد والمعرى والعقاد.. وغيرهم).
ثم يصل بنا الكاتب في القسم الثالث من الدراسة إلى الدائرة الأخيرة من دوائر التحريم، وهي دائرة المقدس، ويعرض لهذه الدائرة من خلال (أسطورة الإنسان المُؤلّه عند نيتشه)، ومن خلال (جدلية المقدس والإنساني في فكر إريك فروم). وفي هذا الإطار فقد عرج الكاتب على مسألة تحوُّل المقدس إلى عقيدة متطرفة تُستخدم في تنفيذ الأعمال الإرهابية باسم الله. وقد تناول هذه المسألة باستفاضة شديدة في أحد دراساته الأخرى المهمة، وقد خلص إلى نتيجة مهمة تتمثل في أن «أزمة الإرهابي الأصولي ليست في امتلاكه لفكرة مطلقة فحسب، بل تكمن في أنه يريد فرض مسلماته على الآخرين. إنه لا يطيق أن يحيا في عالم مختلف، ولا يتحمل أن يوجد في هذا العالم حقائق أخرى غير حقيقته. ذلك أنه ذو ذهنية قمعية مسكونة بهوس الاصطفاء والنقاء والطهر والتحريم والاستعلاء على الآخرين؛ ولذلك من السهل جداً أن يدمر نفسه والعالم والآخرين معتقداً أنه بذلك قد حقق خلاصه النهائي»(2)!
والحقيقة أنه ليس ثمة علاقة ضرورية ومباشرة بين المقدس الديني والتطرف، فالدين في حد ذاته يدعو إلى التسامح، وقد جاءت معظم الأديان مبشِّرة بالمحبة، وداعية إلى توخِّي الحُسْنَى حتى في معاملة الخصوم والمُعْتدين، كذلك فإن الدين في ذاته ضد استخدام العنف في مواجهة المخالفين له في الرأي والعقيدة. ولكن عندما يتحول الدين إلى عقيدة دوجماطيقية في نفوس أصحابه، يكون العنف هو السبيل إلى فرضه بالقوة، وبالتالي يصبح وسيلة لمصادرة حرية الآخرين.
وللأسف فقد حولت التيارات الأصولية والمتشددة الدين إلى مجرد عقيدة للعنف والكراهية والتطرف، واستخدمته كشعار خارجي في لعبتها السياسية للوصول إلى السلطة. «وهذه التيارات تُسمَّى السلفية الجهادية، وهي تُسمَّى بهذا الاسم؛ لأنها تعتمد على الفعل، وليس مجرد العقيدة الفكرية فقط، والمسافة عندها بين الفكر وبين الفعل والممارسة مسافة قصيرة جداً، فمن السهل بالنسبة لها أن تنتقل، فقط بآلية نفسية بسيطة جداً، من حيز التفكير المتطرف إلى حيز التنفيذ المدمر»(3).
وعلى هذا النحو يؤكد الكاتب أن المقدس بصفة عامة يمثل عنصراً من عناصر بنية الوعي الإنساني، فهو أكثر من مجرد مرحلة من مراحل ترقي وتطور هذا الوعي. والناظر في تاريخ الحضارات البشرية سيجد أن الإنسان عبر تاريخه الطويل لم يتوقف قط عن إنتاج ضروب متنوعة من المقدسات. إن المقدس بالنسبة للإنسان يمثل أحد السلطات القاهرة التي تجعله يقف أمامها مرتعداً ولا يجرؤ على انتهاكها أو خرق تعاليمها وشرائعها أو حتى مجرد التفكير في فعل ذلك(4).
وأخيراً يصل بنا الكاتب في نهاية القسم الثالث من الدراسة إلى دعوته للحرية والعدالة والحب، وجعل أعظم القضايا التي تشغلنا هي الروح الإنسانية. إنها دعوة إلى التحرر من كل قيد، وبرهان على أن السبيل إلى الحرية طريقه العقل بغير مذهبية والدين بلا لاهوتية.
- خاتمة.
قد لا تكون هذه الدراسة من جانب الكاتب أول محاولة باللغة العربية تقتحم تلك الدوائر المحرمة، فقد سبقه الكاتب السوري "بوعلي ياسين" في دراسة تحت عنوان: الثالوث المحرم، الذي يتحدث فيه عن الثالوث المحرم المتمثل في: الدين والجنس والسياسة، وعن أثر الدين في التخلف الاجتماعي والاقتصادي(5). ورغم المنهجية الدقيقة التي استخدمها "بوعلي ياسين" في تحليلاته، فإن ما غلب على دراسته هي مناقشة هذه المسائل الثلاث في إطار المجتمع السوري. كذلك لا ينبغي أن نغفل دراسات المفكر السوري "صادق جلال العظم" حول نقد الفكر الديني، وذهنية التحريم، وما بعد ذهنية التحريم. وكذلك كتابات المفكر العلماني الكبير "مراد وهبة، وأيضاً كتابات المفكر الراحل "نصر أبو زيد"، وخصوصاً كتابه "التجديد والتحريم والتأويل"(6). وكذلك أيضاً دراسة الباحث المغربي فريد الزاهي بعنوان: "الجسد والصورة والمقدس في الإسلام"(7).
ولكن ما تتميّز به هذه الدراسة التي نحن بصددها هو الطابع الشمولي الذي يجمع دوائر التقديس والتحريم في رؤية فلسفية واضحة جمعت بين التأصيل النظري، ونقد الواقع التاريخي والاجتماعي، والطرح الفلسفي المستنير من جانب الكاتب للخروج من سلطة هذه الدوائر المُحرمة.
ومن هنا تكمن الأهمية الحقيقة للدراسة في أنها كشفت النقاب عن المحظور والمتخفي في قناع الفكر والثقافة والتاريخ. لقد حاول الكاتب نزع طابع القدسية الذي تغلفت به كثير من الأفكار والعادات والتقاليد التي قيدت حرية الإبداع وأعاقت الإنسانية إلي التقدم إلى حد الآن. ومن الناحية الأخرى فلم يكن اهتمام الكاتب ينصب على مجرد نقد الممارسات التاريخية والمجتمعية لدوائر القهر والهيمنة التي ترسخت في المجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل، بقدر ما كان شغله الشاغل هو تفنيد الأصول الفكرية الحاكمة لهذه الدوائر. وبعبارة أخرى إن أهمية الدراسة تكمن في أنها بحث في الأصول الفكرية والثقافية لدوائر القهر والهيمنة وليست مجرد بحث عن الأسباب التاريخية والاجتماعية لهذه الدوائر القمعية. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أننا نقف أمام عمل متميز يربط الكاتب فيه بين الواقع التاريخي وبين المذاهب الفكرية والدينية التي كانت سبباً مباشراً في تكريس هذا الواقع. وفي اعتقادنا إن هذه الدراسة تُمثِّل إضافة مهمة في مجال الفكر والثقافة عموماً، وإسهاماً بارزاً ليس في المكتبة العربية فحسب، بل في جميع الدوائر الأكاديمية والفكرية والثقافية العالمية.
وأخيرًا، ووفقًا لما سبق ذكره، تتضح لنا قيمة هذه الدراسة، وأهميتها، وإلى أي مدى تُعَدُّ إضافة حقيقية في تعزيز أنماط التعدُّد الفكري والثقافي ذي الطابع العقلاني والمستنير، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنها تُعَدُّ إضافة حقيقية أيضاً في مجال تعزيز الدراسات والأبحاث الفكرية النقديّة والتحليلية للموروث الديني والسياسي والأخلاقي، وتفكيك أُسس وقواعد هذا الموروث والثقافة الأحادية المغلقة والإقصائية التي سيطرت فيه.





الهوامش:
(*) باحث وأكاديمي مصري - مدرس الفلسفة السياسية بكلية الآداب- جامعة سوهاج



(1) غوستاف لوبون: روح الثورات والثورة الفرنسية، ترجمـة:محمد عادل زعيتر، القاهرة: المكتبة العصرية، ط. 2، 1934، ص. 88.
(2) حسن حماد: ذهنية التكفير.. الأصوليات الإسلامية والعنف المقدس، القاهرة: دار مصر العربية للنشر والتوزيع، 2014، ص. 54.
(3) حمدي الشريف: الدين والثورة... بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي، القاهرة: دار مصر العربية للنشر والتوزيع، 2016، ص. 360.
(4) حسن حماد: ذهنية التكفير، المرجع المذكور، ص. ص. 9، 10.
(5) بوعلي ياسين: الثالوث المحرم (دراسات في الدين والجنس والصراع الطبقي) (1973)، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط. 2، 1978.
(6) نصر حامد أبو زيد: التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2010.
(7) فريد الزاهي: الجسد والصورة والمقدس في الإسلام، بيروت: الدار البيضاء، :أفريقيا الشرق، 1999.


.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...