كلاديس مطر - النعامة الرقابية العربية أو حين يتحول النص الايروتيكي إلى بعبع

كلاديس مطر - النعامة الرقابية العربية أو حين يتحول النص الايروتيكي إلى بعبع


لم يكن في نيتي ان اكتب عن النصوص الايروتيكية وما لها وما عليها.. ولم يكن واردا ان أرى اسمي بين عناوين مثيرة للجدل و للاخذ و الرد ..فهذا عالم لا اعرف كيف ادخله و لا اعرف كيف اخرج منه سالمه ...! ولأني امرأة فان الإشكالية اعقد و سوء الفهم اكبر. ليس هذا فقط ، فلقد كتبت الكثير عن الأدب النسائي الجريء الذي لا يفعل شيء سوى الصدمة المتأتية عن عرض العضلات اللفظية ومراكمتها من دون أي داع روحي أو فني أو اختباري ،فقط لان صاحبته تريد ان تنطلق في عالم الأدب معولة على لقب ( كاتبة جريئة ) و ذلك بغض النظر ان كانت هذه الجرأة قد وصلت الى حد التشريح لظواهر المجتمع المرضية الجنسية و تقديم الحلول من اجل تبديل القائم و دفعه في ركب افضل و احسن . كما انني هاجمت مترجم معروف لنصوص أجنبية جنسية لم اجد فيها إلا مرادفات محضة لأسماء جنسية و شتائم من دون أي رابط بينها ومن دون أي توظيف فني ...أو حتى عمق روحي ..و رأيت اننا عبيد للغرب حتى في اختيارنا لنصوصه و كأن ما تخطه (أياديهم) أيا كانت هذه الأيادي لهو منزل أيضا مثلة مثل كتبنا المقدسة . و تساءلت لما هدر الوقت في ترجمة حوار جنسي بين رجل عابر و مومس في لحظة من لحظات الزمن الهارب اذا لم يكن الحوار ( أيضا ) كاشفا لأزمتيهما معا و اذا لم تكن هذه الازمة تأريخا للفترة الزمنية التي تشكل خلفية لوجودهما معا ، و اذا لم يكن الحوار إنسانيا بمعنى قابل للحدوث و واقعيته هي فنيته بالذات !!

و لا اخفي ايضا ، أنني اختلفت مع روائي مميز و مجتهد و معروف حول نص مشترك بيننا فقط لأنني لم اجد في توصيفه للفعل الجنسي أي بعد فني و إنما وجداته فجا ، محضا من دون أي حد أدنى من الصياغة الشعرية و كأننا نقرأ في مجلة جنسية رخيصة !

و فوق هذا و ذاك ، لن يعثر القارىء في كتبي و نصوصي على أيه آثار ايروتيكية بالمعنى المتعارف عليه للكلمة و إنما هموما اخرى كانت تنقر شبابيك روحي من اول يوم كطيور الشؤم في شرقنا العربي المتألم هذا .


لكني ، قرأت في ساعة من ساعات الزمن الغاضب ، ان ديوان الشاعرة الأردنية منى طاهر ( أصابع ) قد تم منعه من قبل وزارة الثقافة لاحتوائه على ألفاظ جنسية خارجة عن الحياء و منافية للدين .


لست ممن سمعوا بمنى طاهر من قبل ، و لم اقرأ ديوانها ابدا ..و لكني توقفت عند الخبر كثيرا !! و فكرت ، ترى كيف يستطيع الأدب ان يتحدث عن الجنس و مشاكله و تداعياته بلغة الإحصاء و البحث المقبولة و المباركة كما هو الحال في تقارير الامم المتحدة و منظمة الصحة العالمية و الهيئات و الجمعيات اللاحكومية لكي يحظى بمباركة قلم الرقيب ! لم ترعب الشعرية و التناول الفني للجنس الموظف جيدا الرقابة العربية !!!

اليس الجسد البشري حالة ثقافية بكل ما للكلمة من معنى ! أليس هو ابن بيئته و ابن القوانين الاجتماعية و الفكرية التي تتحكم في هذه البيئة و هو ، لهذا ، حالة ثقافية متكاملة تتبدى فيها كل المتغيرات و المتحولات التي تطرأ على بينان المجتمع خلال حركة الزمن و صيرورته !

أليس للجسد شيفرته الخاصة التي يجب على الأدب أن يعبر عنها في أشكاله كلها ، و ان يفكها و يترجمها من اجل المزيد من الكشف عن علم تشريح لا الجسد البشري فحسب و إنما أولا النفس الإنسانية التي تقود هذا الجسد و تحركه !

الحق ، لا يستطيع الأدب ، من بين مهامه الاخرى ، ان يقف على الحياد فيما يتعلق بأمر يعتبر على هذه الدرجة الرحمية ، الشديدة الصلة بالذات الإنسانية ، و ليس يقبل ان يحيد مواقفه و رؤاه و جهات نظره و ان يتجاهل هذه الأداة – الجسد التي هي صلة الوصل الوحيدة بين عالم الروح و العالم الخارجي . فليست ( الكاميرا السينمائية ) التي بين يدي الأديب كاميرا انتقائية عندما تبدأ العمل . انها تمر على كل شيىء امامها و تسمحه بادق تفاصيله . و لا يعني هذا ان لا دور للأديب في تقديم الواقع برؤاه الخاصة ، ذلك ان دور المونتاج هو بالضبط تقديم المشهد ، مثكفا موحيا من دون شوائب بغرض ايصال الفكرة أو الرسالة المبتغاة من وراءها .

ليس النص الايرويتكي، اذا ، يتمحور حول الجنسانية بمعناها الاغوائي البدائي و إنما يتجاوزه لكشف مكامن الروح و بوصلتها و الولوج الى طبقاتها الاعمق .

من بين هذه الطبقات الهامة جدا هناك الحب بمعناه الأكثر تكاملا بين المراة و الرجل .. ! و غني عن القول ان التراث العربي الشعري و الأدبي يمتلىء بنصوص أكثر ايروتيكية من تلك التي تنشر هنا و هناك على مواقعنا الثقافية العربية اليوم ..بل حتى ان عقيدتنا دلت بدلوها بشكل مباشر في هذا الأمر و تدخلت في اعمق تفاصيل الاتصال الجنسي لتشرح ما هو محرم و ما هو محلل .


أليس الأجدى بالرقابة ان تتحول الى هيئة من النقاد المحترفين فيتناولون الجودة الفنية للنص و القيمة الفكرية بدلا من التلصص على هذا المثلث ( الجنس و الدين و السياسة ) الذي يتم اختراقه المرة تلو الاخرى و بكل مثابرة في كل نص ينشر اليوم اما في المواقع الالكترونية أو النصوص الورقية !!!

زد على ذلك ، ان منع هذه النصوص أصبح امرا تنقصه الدراية البسيطة ... فها هو الانترنيت حاضرا بكل قوته ، كبسة زر واحدة و تنهمر عليك النصوص من كل حدب و صوب بحيث تضيع قرارات الرقابة العربية في شربة ماء .


ليست مقدمتي هذه دفاعا عن النص الايروتيكي مهما كلف الثمن ، ابداً ، و لست اعرف منى طاهر من قبل كما قلت و لم اقرأ ديوانها ..و لكني لست ممن يرون في الإبداع حدا يقف عنده أو سقفا ينحني امامه . لكن، مع ذلك ، ليست كل النصوص الايروتيكية تنطوي على ابداع لا لبس فيه ، و ليس كل حديث يتناول الجسد هو صحيح و مبتكر بالضرورة .. إنما الرؤية الفنية و طريقة التناول هي التي تعطي للكلمة دورها الجميل و تحفر مكانها الصلصالي في جسد النص أو القصيدة بحيث نعرف ان اليد التي كتبتها هي يد عارفه مسؤولة غرضها المزيد من الكشف من اجل المزيد من المعرفة و ليس الابتذال .


لم يعد هناك قراء أغبياء .. أصبحت وسائل المعرفة متاحة للجميع ، بل ان هناك مقدرة لدى بعض القراء على النقد و التفنيد تفوق اكبر الأكاديميين من النقاد . إذاً، نخطىء عندما نستسهل ذائقة القارىء و نعتبره لاه و يبحث عن المحرضات الجنسية من دون مواربة .. ففي بعض المواقع الثقافية العربية التي تنشر نصوصا ايروتيكية فوجئت ان عدد القراءات ضحل جدا بل لا يتجاوز العشرات مع ان النصوص على درجة مهمة من العمق و الجدية ، بينما تجدون آلاف القراءات التي تظهر تحت المقالات أو النصوص السياسية و الأدبية الخالصة .


اعتقد اننا تجاوزنا كقراء و كمثقفين هذه الهرولة باتجاه النص الايروتيكي الجاف و المبتذل و بدأنا نعرف الصالح من الطالح . لهذا لا يجب بعد الآن ان تقوم الرقابة العربية بهذا الدور السخيف فتمنع دواوين و مؤلفات مر من فوقها شبح الجنس المقدس لا لشيىء إلا لانه كان تابوا و بقي تابوا في بيئة تراثية تميزت بمسيرتها الطويلة على حبل التناقضات من الإباحية و الحجاب .


الحقيقة ، اننا لا نريد فقط ،كعرب ، ان نتجاوز تجنب هذه المواضيع ، و إنما نريد ايضا، و هذا الاهم براي ، ان نرى البعد الاخلاقي في تناولنا اياها ! فالحوار و المكاشفة و عدم التستر عن الخطأ ليس من سمات المجتمع المتحضر فقط و إنما سمة لازمة ايضا لبقائه . فحين نكتب عن الجنس فاننا نكتب في نفس الوقت عن جزء كبير من حياتنا و مشاكلنا التي لا يمكن سترها أو حجبها بالمراسيم و البنود ، و لا يمكن التغاضي عن جماليتها و تشوهها و قدرتها على التأثير في كل شيء حولها .




- في05/03/2008


.


صورة مفقودة
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...