فرحات عثمان - بمناسبة سان فالنتين: الحبّ عند العرب والمسلمين

يحتفل العالم، خاصة بالبلاد الغربية، بعيد الحبّ، وكأن الحبّ حكر على اليهودية والمسيحية، إلى حدّ إكساب اليوم المخصّص له اسم القديس المسيحي فالنتين.

ولا شك أن سبب هذا خور فكرنا الإسلامي اليوم، وقد «تدعدش» وتزمّت إلى حد نكران من أهم ما في الإسلام، صفة الحبّ فيه؛ فقد أصبح المسلم لا يرى في الحبّ إلا علامة للاستلاب الفكري والانبتات.

بعضنا يُشيطن هذه النّزعة البشرية العالمية كأنها غريبة عن عاداتنا الشّعبية والدينية، متناسيًا أن الإسلام أساسًا دين المحبة، إذ الله في الإسلام رحمان رحيم، محبّ لخلقه، خلافًا لإله اليهودية مثلا.

حقيقة، إن أهل الإسلام لهم أحقاء قبل غيرهم من الملل والنّحل بالاحتفال بعيد الحبّ والمُجاهدة لتوطينه في أرض دين جاء سلامًا وراحة نفسية؛ فليس هذا الحبّ الذي يتغنى به العالم اليوم تحت رسم القديس فالنتين إلا كذلك. فعدد الهائمين والمتيمين العرب ثم الإسلاميين لا يحصى ولا يُعد؛ فالغزل من أفضل ما راج عالميًا من أدب العرب قبل وبعدالإسلام، وقد تربّع منذ العصر الجاهلي على عرش الشّعر إذ كانت كلّ قصيدة لا بدّ وأن تحتوي على أبيات في الغزل، وهو قمّة الحبّ، حتى ولو لم يكن ذلك غرضها الأساسي.

عيد الحب في العالم

تعود طقوس الاحتفال بعيد الحبّ، أو القديس فالنتين، إلى العهود الغابرة، إذ كانت روما الفديمة تحتفي في منتصف هذا الشّهر بإله الخصوبة والرّعاة لتوديع السّنة المنقضية والاحتفاء بالسّنة الجديدة التي تبدأ مع أول شهر مارس.

لقد دام هذا الاحتفال بعد انتشار المسيحية كمظهر من مظاهر تعلّق أبناء الشّعب بتقاليدهم. ذلك لأن الكنيسة سعت لاحتواء الظّاهرة بأن نصّرتها فاختارت لها يوم الرّابع عشر من الشّهر وأعطتها اسم القديس فالنتين الذي أصبح بذلك حامي المحبين والحبّ.

هوية هذا القديس لا تُعرف بصفة قاطعة، إذ كما هو معلوم يحمل كلّ يوم في المسيحية اسم قديس، بينما ليوم الرابع عشر من فيفري أكثر من قديس بالإسم نفسه. ثم لم تكن العلاقة وثيقة منذ البداية بين الحبّ وفالنتين القديس، فلم يتأكّد ذلك إلا في القرون الوسطى؛ ولعل هذا لم يكن ليتمّ على الحال التي نعرفها اليوم إلا بعد انتشار ظاهرة الحبّ العذري العربي التي روج لها الصليبيون بعد عودتهم من الشّرق وإعجابهم بما وصلت إليه الحضارة العربية الإسلامية من تحضر، رغم بداية انحطاط تلك الحضارة في ذلك الوقت.

معلوم أن القرون الوسطى الغربية التي كانت ظلامية أولعت بما كان في الحضارة العربية الإسلامية من تنوير، إذ كانت الأمور كما هي اليوم ولكن معكوسة، أي كانت الحضارة والتّّقدم عند العرب والتّأخر عند الغرب.

ولا شك أن العشق والحبّ كانا من أهم مظاهر الحياة العربية المترفة. فنحن نعلم، مثلاُ، ما كان لزرياب من تأثير على مظاهر الغندورية أو التّأنق المغالى فيه(Dandysme)، بشبه الجزيرة الأندليسة ثم بأوروبا عامة فالغرب بأكمله.

إن كان هناك ما يُعاب عليه عيد الحبّ كما هو اليوم في العالم، فلا شكّ أنّه يخصّ الصّبغة التّجارية البحتة التي أصبح عليها، إذ فقد العيد كلّ ما كان يختصّ به من شعائر منذ القدم. نعم، هناك العديد ممن يتغنّى بالحبّ لا محالة، إلا أنّه الفرصة السّانحة للتّجارة وللرّبح باسم العواطف ومشاعر الحبّ هي الطّاغية رغم وجود، في بعض البلاد، بعض البقايا لأصل العادة كما هو الحال بألمانيا حيث يقترن العيد بمرضى الصرع والحثّ على مدّ يد المساعدة لهم، أو باليابان حيث في هذا اليوم يتمّ التّشجيع على تحسين العلاقات بالشّغل.

الحبّ عند العرب والمسلمين

قلنا أن العرب كانوا أول من تعاطى الغندورية ببلاد الغرب، إذ بدأت هذه الظّاهرة بالأندلس قبل أن تتأصل بالغرب الأوروبي. أفليس العربي شديد التأنق تحت غطاء التّأصّل، إذ يعتقد أنه أفضل الأمم، هذا الذي جاء الإسلام فأكده بأن جعل أمّة الإسلام خير أمة أخرجت للناس؟

إن كانت أمّة الإسلام كذلك، فلأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، لا محالة؛ إلا أن فهم هذه الخصلة صُرفت حسب معايير غير إسلامية ولا عربية، بل انطلاقا من رواسب الإسرائيليات في ديننا. ذلك لأن المعروف هو ما عُرف وتعارف النّاس عليه والمنكر ما أنكروه ولم يعملوا به، حتى وإن كان صائبًا، فالقضية بالأساس قضية ذوق وحسّ شاعري؛ ونحن نعلم قيمة الذّوق والحسّ عن العربي وعند أهل التصوف الإسلامي.

ثم من يتكلم بالذّوق لا بدّ له أن يُعطي المشاعر النبيلة في الإنسان أعظم دور، خاصة في أهمّ تجلياتها، متمثّلة في الحبّ وتنمية الإحساس به. فهذا من المعطيات الثابتة عند العرب وعند أهل الإسلام الصّحيح، أي أهل التّصوف خاصة، ولكن أيضا عند عموم الشّعب في حياتهم اليومية.

سنعود للإسلام الصّوفي لاحقًا؛ لنقلّ أولاً في هذا الحبّ كلمة عن العرب الذين لعلهم لم يذعنو للقرآن إلا لروعة حرفه وبلاغة نصه، لما كان فيه من البيان السّاحر الذي لم يكن لهم أن يتجاهلوه إلى حدّ أنهم جعلوا معجزة دينهم بلاغته الإلهية. العربي محبّ بطبعه. هو يحبّ الحرية أولاً، مطلقة لا حدود لها، لأن الحبّ الصّحيح لا حدود له. فهو الشّغف الذي يُقال لحجاب القلب، ومنه الشغاف وهو داء. لذلك يقال لمن شغفه الحبّ واصلا إلى شغاف قلبه أنه دخل تحت الشّغاف، فغشى الحبّ قلبه فأعماه وأمرضه إلى حدّ القتل. ومن قصص الحبّ المحبين الأكثر تداولا، لنذكر عشق عنترة لعبلة؛ ولنا أيضا العديد غيرها كحبّ عروة لعفراء أو عمرو بن الملك النعمان لعقيلة أو عبد الله لهند، وهذا الحب من مآسي المحبة في الجاهلية وهي تذكّر بحب قيس للبنى في الإسلام.

ولنسأل بعضنا: من لا يعرف في الإسلام هيام قيس بن ذريح هذا للبنى، وهو أحد المجنونين، وهو طبعا جنون الحبّ والهيام؟ ومن يغيب عنه حبّ الثّاني، وهو طبعا مجنون ليلى قيس بن الملوح؟ إن عدد الشعراء المتيمين الذين تبادلوا الحبّ العظيم في الإسلام لكبير؛ نذكر منهم أيضا جميل بن معمر مع بثينة بنت الحباب وكثير مع عزة؛ فلا شكّ أن العديد من العرب، من المعروفين وغير المعروفين، كانوا أبطال عشق، مثلهم في الحياة مثل عمر بن أبي ربيعة أو مسلم بن الوليد الذي من شدة هيامه لُقب بصريع الغواني لهذا البيت الذي فيه أفضل تلخيص لروح عيد الحبّ:

«هل العيش إلا أنْ أروحَ مع الصِّبا/ وأغدو صريع الكأس والأعين النُّجْلِ».

مع العلم أن الحبّ لم يقتصر عند العرب على الرّجال، إذ عُرفت النساء أيضا بحبهن الجامح؛ فقد نبغت النساء أيضا في الغزل والشّعر مثل ليلى الأخيلية، الشّاعرة المفلقة المعروفة بجمالها وقوة شخصيتها وفصاحتها في العصر الأموي وعشقها المتبادل مع توبة بن الحُميّر، حبّا عذريًا لا حدّ له.

الإسلام دين الحبّ

الحبّ العربي ثم الإسلامي لهو مثال عن الحبّ العالمي؛ فهل رأى الحبّ تجليا في العالم أعظم من حب هؤلاء: المجنون لليلاه أو لبناه وجميل لبثينة أو الصريع للغواني؟ إنهم بحقّ لأمثلة رمزية للحبّ والعشق البشري. وذاك لهو الدّليل على أن الحبّ يُغذي الحياة العربية الإسلامية في حياة المؤمن الشّعبية، إذ لم يأت ديننا إلا ليأجج نار الحبّ في القلوب، فإذ حبّ الحق، أي حبّّ الحب، من الجنون بما أن لا وصال فيه إلا بالفناء كما نراه عند أهل التّصوف، أفضل من أخذ بتعاليم الإسلام على قاعدة.

فما من شك أن الحبّ الصّوفي أعلى وأكبر مرتبة في هذا الحبّ، وقد مثله المتصوّفة خير تمثيل، فأعطوا أفضل مثال بشري عالمي لإناسة ثيمة الحبّ في روحانيته إذ علوا بالحبّ البشري في سموّه الإلهي، أي علوّ لم يصله أحد بعدهم في الإسلام! ومن أعظم عشاق الله: رابعة العدوية، وهي أم الخـير، العابدة المسلمة؛ رسالة محبتها لكلّ مسلم، بل لكلّ إنسان، إذ على العبد أن يحب من أحبه فخلقه، وهو الله، وأن نحب خلقه أي إخوتنا في البشرية في حبّ قوي دفاق، هذا الحبّ الخالص، الذي لا تقيّده رغبة سوى حبّ الله وحده وحبّ من أحبّهم بخلقه لهم محبين لبعضهم وله.

لا شك أن قمّة هذا الحبّ الصوفي لم تأت بصفة عفوية، بل تجذّرت في أرضية مفعمة أحاسيس ومشاعر وحبّ وعشق وغزل. لذلك، لا غرابة في أن فيلسرف الغرب العظيم جوتة كان مهيما أي هيام بالغزل العربي، وهو أفضل نتاج حبّّهم الشعري الشّاعري، لا يمكن إذن أن نتنكر اليوم لكل هذا المخزون الحضاري بدعوى أن أهل الإسلام كفّوا عن تعاطي الحبّ، بينما ليس هذا إلا في البعض منهم من المتزمتين الذين لا يمتون بأية صفة للإسلام الصّحيح، أو في بعض أهل الرّسم ممن جهلوا أو تجاهلوا الإسلام الصحيح.

من الثّابت أن الله محبة كلّه وهو الرّحمن الرّحيم، وهو بدون أدنى شكّ يعطي للحبّ وأهل الحبّ أي قدر وتقدير؛ أفليس من أسمائه الودود، أي المحبّ؟ إن من يجعل الكراهة والحقد ديدنه في الإسلام لا يأخذ بدين القيمة بتاتا، بل بما رسب فيه من إسرائيليات، أما الله في الإسلام فهو حبّ كلّه ورحمة لا حدّ لها وود خاصة للبشرية قاطبة. وقد كان الأمر أيضا هكذا في المسيحية الصّحيحة.

لنتذكر إذن في عيد الحب لهذه السنة أن الإسلام حبّ قبل كل شيء، بل هو لأسمى عبارات التقوى كما عبّرت عنها رابعة العدوية، مؤسسة مذهب الحب اللاهي، فقالت وحبّها لخالقها مثل حبّها لخلقه:

«عرفت الهوى مذ عرفت هواك/ وأغلقت قلبي عمن سواك
أحبك حبـين حب الهـوى/ وحبا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حبّ الهـوى/ فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنـت أهل له/ فكـشـفك للحجب حتى أراك».

- عن نفحة
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...