فرحات عثمان - في الجنس.. المحور السادس في القرآن (قراءة ثورية تثويرية)

فرحات عثمان - في الجنس.. المحور السادس في القرآن (قراءة ثورية تثويرية)

مدخل في ضرورة الاجتهاد

نبدأ بخير ما يُبتدأ به في الإسلام، ألا وهو كلام الرسول الأكرم في ديننا الحنيف الذي يبقى – رغم ما طالته من تشويه أيادي الأعداء من الداخل والخارج – هذه الثورة الروحية الكبار على كل ما يتحجر في المخلوقات إذا نضبت من ماء الحياة. فالإسلام روحانيات قبل أن يكون شكليات، إذ هو ثقافة علمية وعالمية قبل صفته الشعائرية الخاصة ببعض البشر..

يقول خاتم الأنبياء : «من أراد العلم فليثوّر القرآن»، وتثوير القرآن هذا هو قراءته ومفاتشة العلماء به في تفسيره ومعانيه. وقيل : لينقّر عنه ويفكّر في معانيه وتفسيره وقراءته.1

ويقول الرسول الأكرم مشجعا على الاجتهاد : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»؛ وإذا كان هذا في الحكم، فما بالك في الاجتهاد في الفكر وبالرأي؟

وقد كان للرأي المكانة الفضلى عند السلف، حتى أن أصحاب المذاهب، مثل مالك وأبي حنيفة والليث، كانوا يتتلمذون على ربيعة بن فرّوخ فيلجؤون إليه ليجتهد برأيه في كل أمر أشكل عليه فيأتيهم بالحكم فيما على وجه تركن إليه نفوسهم وتطمئن له القلوب. لهذا لقب ربيعة الرأي.2

وبعد، تقول الحكمة االسنية : ما زال العالم عالما ما دام يطلب العلم، فإن ظن أنه علم فقد جهل.3 فمهما علم ابن آدم، ما أوتي من العلم إلا قليلا : «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» (الإسراء، 85).

ما يلي إذاً هو من باب الاجتهاد الذي فيه على الأقل الأجر الوحيد مضمون لا محالة، متعنا الله بالثاني إن شاء الله، وهو أعلم في كل الأحوال!

قناعني أن مثل هذا الاجتهاد بمثابة الواجب العيني اليوم نظرا لما آل إليه حال الإسلام وليس داعش ببعيد! ولعل في ذلك يقول الحسن بن يسار البصري في البعض من رقائقة : ويحنا، ماذا فعلنا بأنفسنا؟ لقد أهزلنا ديننا، وسمّنّا ذنيانا، وأخلقنا أخلاقنا وجدّدنا فرشنا وثيابنا!

1 – في محورية الدين اليوم

إن المقالة تندرج ضمن ما يسميه الشيخ الدكتور عبد الرحمن رأفت باشا المذهب الإسلامي في الأدب والنقد.4 وهو هذا المنهج الإسلامي في الأدب والنقد الذي أصبح من أهم ميادين الدراسات في العالم الإسلامي، إلا أنه لا يقوم إلى الآن إلا على رجل واحدة، تماما كما كان الحال مع الفقه الإسلامي من الشافعي إلى الشاطبي حتى أهداه هذا الأخير رجله الثانية، ألا هي مقاصد الشريعة التي لا يمكن فهم الدين إلا بها. ورغم ذلك، لا نعمل بها أو بصفة غير كافية ولا شافية للمنطق وللعقل السليم.

فهذا العمل ينطلق من روح الموافقات ليضيف له لبنة من لبنات علم الإسلام حتى يكون اليوم موافقا لا للعقل الغربي كما عهدناه وكما لم يعد له كل العلمية والموضوعية، بل للعلم الحسي الفهيم، وهو تمام الأخذ بالمعقولات دون تجاهل ما كان يعد من غير المعقولات، وليست هي إلا معقولات لم تعقلن بعد ولا مناص من ذلك لما يميز العقل البشري من تطور مستدام.

هكذا الحال أيضا لكل قراءة للإسلام إذ هي في تطور لا ينتهي ما دامت تأخذ بروحه، أي لب لبابه، بما أن كل مقاصد الشريعة فيها، إذ هي تختزلها بحكمة ربما تفوت لبيب اليوم ولا تفوت لبيب الغد. ولا غرو، ليس اللبيب هذا الجاهل الذي يغتر بلبه فيجعل منه صنما معنويا لا مكان له في دين حطم كل الأصنام بلا استثناء.

إن الدين محوري في حياتنا، ولكن ليس كنص لا يتطور حسب روحه المتأقلمة مع مقتضيات الزمن بما أنه أزلية، بل كحرف في تناغم مستديم مع كل ما يقبله العقل البشري وتستسيغه فطرته أيا حدث ذلك من أصقاع الأرض بما أن الإسلام عالمي التعاليم كوني المباديء.

2 – الجنس كمحور سادس في القرآن

في كتابه المحاور الخمسة للقرآن الكريم، يقول محمد الغزالي أن الله الواحد، والكون الدال على خالقه، والقصص القرآني، والبعث والجزاء، والتربية والتشريع هي المحاور الخمسة التي أفاض القرآن في ذكرها، إذ يرى أن كل ما عدا ذلك يندرج تحت أمهات المسائل هذه.5

ونحن نعتقد أن الأستاذ لم يعر أهمية كبيرة محورا آخر يُعد اليوم من أهم ما في الإنسان، بله الحياة، لأنه قوامها، ألا وهو الجنس. وليس هو كما نفهمه اليوم، أي مجرد ما يطاله الفكر القاصر مما بين السرة والفخذين، بل هو كل هذا الزخم الذي يحرك الإنسان في لاوعيه ويمكنه من الدوام في دنيا لا ينعدم منها الجنس بأشكاله المختلفة وإلا انعدمت الدنيا.

فإذ كان حال الناس اليوم الأخذ بمباهج الحياة ومتعها، فما الذي يفرق المؤمن الحقيقي عنهم إذا لم يكن زهّادا بما في أيدي الناس رغّابا بما عند الله، معرضا عن الدنيا وزينتها، مقبلا على الله ومرضاته؟ وكيف يكون له هذا إذا لم يحكّم سلطانه على نفسه، فلا يدع لها سبيلا لترتع فيما لا ينفع؟

ولا شك أنه لا أهم في ذلك من عدم الاكتراث بعته الناس وغيّهم ومداومة إعطاء المثل؛ وهذا لا يكون إلا بإحكام سلطانه على وقته فلا يهدره في فضول الكلام والتصرف فلا يزيد عن الحاجة فيهما بأن ينزه يده ولسانه عن كل ما يعيبه عند غيره.

وهذا لا يكون حقا حسب الدين وروحه إلا ممن يخشى الله حقا فيغشى وغى الدنيا كما يغشى وغى الحرب على النفس وقد عف عن المغنم ولم يجاهد إلا نفسه، لا غيرها، إذ فيها التزكية لا المراءاة. ذلك لأن مجاهدة النفس هي الجهاد الحق، أما مجاهدة الغير فهي لا تعدو أن تكون إلا من الخداع ما دامت لم تتم بقبول الآخر كما هو وإعطاء المثل الحسن لابتغاء أن يغير بنفسه ما بنفسه، فيكون الجهاد الأكبر منه أيضا.

وأي جهاد أفضل من جهاد عفوي يصبح سليقة في الإنسان إبتغاء مرضاة ربه دون اغتصاب لمبادي الدين؟ فغير ذلك ممن يدّعي الإيمان لا يعدل قلامة ظفر، لأن مثل عمله ذلك لمما يراد منه الحمد والتقريظ وليس هذا ما يرجوه المؤمن الحقيقي من الله.

فالصادع بكلمة الحق ليس المنكر للمنكر والعامل على إزالته بيده ولسانه، إنما بقلبه وبتصرفاته المثلى. فاليد واللسان مما يبدو ويظهر فيخيف ويقهر؛ لذا فهو مما لا يمحو شيئا كما يمحوه المثل إذ الاقتداء به يبقى حرا ودائما بينما نتيجة الأول زائلة ما إن تزول الرهبة من القهر والتسلط أو تحين الفرصة لاتصرف دون مراقبة. وليس هذا بالدين!

وأمور الجنس مما يضعه الله في عبده لامتحانه الامتحان الشديد حتى يتعلم كيف يحترم ذاته والآخرين فيحا بما فيه من فطرة، يعطي لبدنه حقه عليه ولا يعطيه أكثر من ذلك حتى لا يتجاوز حق الله عليه.

3 – الجنس في اللغة وفي الإسلام

الجنس لغة هو الضرب من كل شيء، وهو من الناس ومن الطير ومن حدود النحو والعروض والأشياء جملة، كما يقول اللسان الذي يضيف أن الجنس أهم من النوع، ومنه المجانسة والتجنيس. يقال : هذا يجانس هذا أي يشاكله، وفلان يجانس البهائم ولا يجانس الناس إذا لم يكن له تمييز ولا عقل.6

هكذا إذًا، لا أثر للمعنى الذي أصبحنا اليوم نعطيه للكلمة بأن نربطه ضرورة بما يرمز للعضو التناسلي أي القضيب للذكر والفرج للأنثى. فالجنس يشير لغويا إلى مجموع الصفاة الخَلقية لبني آدم، منها ما هو للذكر ومنها ما هو للأنثى، فلا عيب بتاتا في الحديث عن الجنس كما هو الحال في يومنا هذا. فأنت ما إن تستعمل الكلمة حتى ينظر إليك شزرا وكأنك قلت ما منه شأنه خدش الحياء، بل قل كأنك شتمت محدثك أو على الأقل لم توقره بما يلزم.

وهذا المفهوم للجنس هو الذي نجده في ديننا الذي لا حياء فيه للحديث عنه ما دام ميزة للبشر؛ فالإسلام يفصل كل ما يخص ابن آدم في حياته حتى تفضل وتتزكى خاصة وأن الجنس خاصية للبشر في نوعيه وهوعماد الحياة في تناغم هذين النوعين ووصالهما.

إننا في حديثنا عن مفهوم الجنس في الإسلام نعني به الجنس كما ينبغي له أن يكون، لا كما هو اليوم، وقد بينا في مقالات عديدة سبقت أن هذا المفهوم كما يأخد بعه المسلمون إلى اليوم مغلوط بما أنه من الإسرائيليات، فلا علاقة له البتة لا بنص الإسلام ولا بروحه خاصة.

نعم، للأخلاق القيمة الهامة في ديننا، لكن علينا التفرقة بين ما هو من الفعل الأخلاقي، وما هو من الحكم الأخلاقي. فإذا كان الفعل لا يتغير بتغير البشر ونمط حياتهم، فإن الحكم عليه غير ثابت، لا يفتأ يتقلب مع تقلب الطباع واختلاف الناس، كما أن له دوافع عدة ربما لا علاقة لها البتة بالأخلاق.

لنأخذ على ذلك المثل الأقصى، أي اللواط، بما أنه مما يُعد اليوم عندنا من أنكر الفواحش، فالحال لم يكن كذلك قبل تغلغل الإسرائيليات في دين الإسلام، فكنا نرى كبار الفقهاء في العصر العباسي مثلا يباهون بمغامراتهم اللواطية.

ولنأخذ أيضا مثل العري الذي لم يكن مما يُستعار به عند العرب، حتى أن الحج كان يتم وأغلب الحجاج عراة، ودام ذلك حج الإسلام الأول بعد فتح مكة. ثم إن العادات الشعبية لم تكن تستحي من العري كما يروي ذلك مطولا ابن بطوطة في رحلاته7 أو كما رُوي عن ابن الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي قيل عنه أنه كان يُضطر إلى اخلاء الحمام من الناس كلما عزم علي الاستحمام لأن بعض من يرتاده يدخله بغير إزار فيكره عبد الملك بن عمر رؤية عوراتهم كما يكره إجبارهم على وضع الأُزر.8

4 – الجنس سيكولوجيا وسوسيولوجا هو الليبيدو

لقد بين العلم، سواء السيكولوجي أو السوسيولوجي، أن الجنس اليوم بمفهومه الواسع كما نعرفه في ثقافتنا العربية الإسلامية هو أساس الحياة الشخصية والاجتماعية، فلا اتزان للشخصية ولا سلمية في التعايش بمجتمع واحد بدون علاقة للفرد للجماعة مع الجنس تكون متميزة بالصفاء ورصانة التصرف وإلا كانت الهلوسة والعصاب névrose وحتى الذهان Psychose وما إلى ذلك من الأمراض النفسية والجسديفنسية Psychosomatique مما ينشأ عنه هذا الاختلال في التصرف في مجتمعاتنا والاضطراب الشامل في الشخصية، فإذا المرء عندنا عاجز كل العجز عن العيش في سلام مع الآخر والتكيف مع مقتضيات الحياة المجتمعية.

يسمى الجنس في علم النفس الحديث، خاصة بعد أعمال يونغ، بالليبيدو Libido. ولذلك نفس التجليات في علم الاجتماع الفهيمsociologie compréhensive كما سنرى لاحقا.

تعني كلمة الليبيدو في هذين العلمين الطاقة الحيوية التي تتجلى فيها غريزة الحياة. ومثل هذه الغريزة يمكن لها طبعا أن تكون في جوهوها شبقية وشهوانية كما هي عند الحيوان، فإذا الغلمة عند البشر؛ غير أن هذا ليس إلا ما يطفو على السطح، بما أن هناك ما هو أهم، ألا وهو الرابط بين الطرف والآخر الانجذابية من الواحد إلى الثاني والتي لا يقع بدونها أي شيء من شهوة الضراب وهيجانه. وفي ذلك أيضا ولا شك تواصل الحياة.

فالليبيدو، بصفتها طاقة حيوية، مترعة بكل ما يعمّر هذا الجانب النفسي اللامشعور به من الشخصية البشرية، وهو عندنا لجد مثقل بالمركبات والعقد؛ وهذه ليست إلا أنسجة من الأفكار والانفعالات المكبوتة في الشعور لأن حاملها يجد الألم الكبير في الإقرار بها ما دامت القوانين تمنعها والمجتمع يزجرها، لذا، فهي تبقى داخل اللاشعور ولا تشق طريقها أبدا إلى الوعي؛ بذلك فهي كالقيد الذي يمنع من الحركة، أو كمن به قبض فإذا عقل البطن يطغى على عقله وتصرفاته.

وما يجب أن نعلم هنا هو أن علم الاجتماع الفهيم يؤكد على قيمة الفطرية والجبلة في الإنسان حيث يساهم ذلك في تجذيره ورسوخه في ما ثبت في المجتمع من عادات وتقاليد موروثه؛ فهي من هذا التليد الذي لا غنى عنه لتأكيد عرى الترابط وتوطيد لحمة المجتمع.

وليس الحال اليوم بمختلف عما كانت عليه الأمو زمن القبائل، بل إن مافيزولي، عالم الاجتماع الشهير والمنظر الأكبر لما بعد الحداثة يقول بعودة زمن القبائل وقبلانية tribalisation فلا محيد عنه في ما بعد الحداثة.

ولا شك أن هذا حال مجتمعاتنا العربية الإسلامية حيث وطد الدين عرى المؤمنين في نطاق الأمة الإسلامية، إلا أنها لم تكن تلك المجموعة المتصفة بالآحادية نظرا لأنها متنوعة ومتغيره ومتعددة المشرب والمظاهر تماما كالإسلام الذي جاء نصا إلاهيا واحدا ولكن بحروف متعددة قراءات مختلفة.

هذه هي الأحدية المتعددة unitax multipex وذاك أيضا التفرد المختلف في ما يعرف بالفكر المركب pensée complexe وهو أفضل فكر للأخذ بمقتضيات الزمن الراهن ونبذ الآحادية التي هي مما أورثه الدين المسيحي للفكر الغربي عامة وأيضا للفقه الإسلامي خاصة لأن الغرب بدأ بعد يتخلص من هذا الميراث الثقيل الذي يتشبث به المسلمون وكأنه فكرهم بينما هو دخيل على الإسلام.

إن الفكر الإسلامي يعترف بالمختلف لأنه لا ينقض المؤتلف بل يتممه، وهذا في الواقع العربي بمتناقضاته التي هي مما يزيده غناء لا فقرا على شرط قبولنا ذلك فلم نعمل على فسخه ومحو كل اختلاف باسم أحادية ورثناها من الفكر المسيحي الذي بدوره أخذها عن الفكر اليهودي.

5 – قيمة الليبيدو في حياتنا اليومية

لم يعد من شك اليوم أن الإحساس بالذات والسريرة وكل ما في الذمة من ضمير يتعلق كله لا بعضه باللاوعي الشخصي الذي لا مناص من ربطه باللاشعور الجماعي وهو مجموعة العوامل النفسية والفسيولوجية غير المحسوسة ولكنها فاعلة في إدراكنا، بل هي كل إدراكنا خاصة بما فيه من اندفاع فوري وعوامل مؤثرة في سلوك المرء. فليس كل ما يفعل المرء يدركه إذ هو دوما صنيعة أحاسيسه اللامحسوس بها واللامشعور بقيمتها رغم أهميتها.

ولربما تتعلق هذه الأهمية بأمور تبدو لنا تافهة لا قيمة لها بينما هي القيمة كلها ولها الأهمية كل الأهمية في تصرفاتنا، الشعورية وخاصة الآلية. ومنها كل ما يتعلق بالجنس بصفته من المسكوت عنه، إذ في ردهات سكون الفكر عن التمعن فيه تتنوع العقبات مانعة التصرف الحر وتتعدد المركبات قامعة كل ما هو من السليقية فينا، تهيمن عليه وتنمّطه حسب ما أفرزته عقد كثرت في مخزون لاوعينا إلى حد أنها تنقلب إلى وساوس وهواجس ثم إلى أمراض إذا لم نسارع بالتيقظ إلى ما تقتضيه من حتميات.

إن الأمر في هذا الجانب من وضعنا البشري وطبيعتا الآدمية هو تماما مثل ضرورة الأكل والشرب أو التبول والتبرز، لا محالة منهم إلا إذا أردنا الهلاك. ولعل لقائل أن يقول أن هذا الهلاك هو من المستحب عند البعض الذين يهبون أنفسهم إلى الله كما يرونه، فيقمعون ما في النفس من خاصيات زهدا في الدنيا وتقربا إلى الله.

نعم، لا شيء نظريا يمنع من ذلك، إلا أنه يخالف روح الدين الإسلامي الذي يلجأ إليه البعض للتدليل على صحة مثل هذا الفعل، لأنه لا رهبانية في الإسلام، وللبدن حظه على المؤمن؛ ثم هو يخالف المصلحة العامة التي يغلّبها العقل والدين دوما على المصلحة الخاصة، إذ مثل هذا التصرف يؤدّي إلى ما هو أدهى من رفض الآخر فالتسلط عليه وقتله.

ولا غرو أن سبب حالات الهلوسة وجرائم القتل الجماعية أو ما يسمى بالقاتل المتكرر الجرائم tueur en série يعود أصلا إلى مثل هذه الأسباب التي تتطور بصفة لاشعورية إلى حد الهيمنة على المتخيل الشعبي. وما شك أن الأخبار اليومية ثرية بالحوادث المريعة التي نستشف من هول كوابيسها عراقتها إذ هي مما لا يمكن تجاهله كبنية إناسية structure anthropologique موغلة في القدم.

إن الجنس البوم هو هذا الغائب الذي إذا طالت غيبته أوشكت أوبته، وعلم النفس يحذر من مخاطر عودة المكبوت retour du refoulé فلا أعتى منها وأدهى. ونحن لو قمنا بدراسة سيكولوجية للعديد من إرهابيي هذه الزمان، كما سبق أن قلت في جماعة داعش، لوجدناهم كلهم ممن كُبتت الغريزة الجنسية فيهم فتحولت من غريزة حياة éros إلى غريزة موت thanatos، فتلك الجدلية القائمة منذ القدم بينهما. وليست غريزة الحياة إلا غريزة الحب، وهذا من الجنس بمعناه الواسع. فلنحي فينا غريزة الحب لا الموت لأن هذا أفضل رفع للتحدي الداعشي للبشرية ولديننا الحنيف، دين الحياة، أي، بالمعني السيكوسوسيولوجي، دين الحب.

6 – الجنس من أسباب الحضارة

دعونا هنا نتجرأ على ملاحظة، هي مما يسمى بالمنطق الذرويlogique paroxystique، وذلك لما لها من الثبوت والدوام في تجليات الحضارة البشرية يجعلها تقريبا من القوانين السوسيولوجية؛ وهي أن الجنس بالمعني الموسع الذي بيناه أعلاه هو لا محالة من أسباب الحضارة ودعائمها ، بغيابه تأتي شيئا فشيئا وبزواله تزول وتضمحل بنفس الطريقة.

لنشرح ذلك بالقول أن غياب الجنس يجعل الذات البشرية قاحلة مما يحمل على الكد والجهد للخروج من ذلك الوضع بكل الوسائل والطرق؛ ولعل ما أشار إليه اين خلدون من أهمية العصبية ليس إلا هذا التصعيد والتسامي بمتطلبات الجنس إلى صفة مقبولة ترضى بها النفس وتواكب روح العصر، كأن يستغل الإنسان انعدام الجنس لتحويل ما في نفسه من طاقة وميول جنسية مكبوتة إلى نشاط معين يستفيد منه في ميادين يتجلى فيها الليبيدو بصفة لا جنس فيها في الظاهر رغم أنها النتاج الخالص لهذا الجنس في الباطن.

فما يقع في داعش مثلا لهو من الهلوسة الجنسية نتيجة الكبت الذي يعانيه أهلها الذي أصبح مفسقة من البخوسيات إلا أنه قصف دموي وعربدة دامية مجرمة.

إم ما حُرم منه هؤلاء وما ينقصهم هو ما يسميه جيلبار ديران، وهو المنظر الأكبر لمفهوم المتخيل imaginaire، الاستقراء للأنماط البدائية induction archétypale 9 أي ما يحملنا إلى هذه النظرة الشمولية للحياة الجماعية فيدعم الرابطة المجتمعاتية ويسهل التواصل والتناغم بين أفراد كل المجتمع الذي هو بذلك كأعضاء جسم واحد، كلها متماسكة ومترابطة وهذا ما يسميه علم الاجتماع الاشراكية أو المَشركة socialisation بمعنى التكييف الفردي مع الحياة الجماعية.

ولا شك أن ثقافتنا تعرف مثل هذا الاستقراء للأنماط البدائية ودأبت عليه سابقا بنظرية الأخذ عن السلف الصالح، إذ ليس النمط البدائي إلا هذا النموذج المثالي، أي السلف الأصلي. على أننا مع التراكمات التي أفرزتها الحضارة العربية الإسلامية مررنا من نظرة صحية وصحيحة للأشياء وي النظرة الأثيقية، وهي النظرة الأخلاقية الأدبية ذات النزعة العلمية éthique إلى نظرة وعظية أخلاقوية morale. وما من أدنى شك أن النظرة الأولى هي التعبير الأصح للرابطة المجتعية التي تتأسس عليها وتقوم بها الحياة الجماعية، أما انعدامها فيخلق مختل التوازن ففقدان العقل والمدارك من المأفونين كما رأينا وكما سنرى أكثر في هذا الزمن الذي هو زمن الجماهير بلا منازع.

إن التجذر لا مناص منه؛ وهو تجذر في الذات البشرية أولا ثم في تجلياتها داخل المجتمع. فكما في الطيبعة البشرية الجسم والروح فلا يكون مكتملا إلا بالتكامل بين أدران الجسم وأوساخة وجمال روحه وروحانيته، كذلك الحال في المجتمع في تميّزه بهذا الانجذاب إلى ما تنمعه أخلاق أو قوانين آنية و النفور منها الذي لا أساس له في معظم الأحيان إلا المانع الرسمي بما فيه من زجر وعقاب.

ذلك لأن لا مجال لنكران ما يميز طبيعة المجتمعات تماما كما هو الحال مع الطيغة البشرية من تطابق المختلف وائتلافه، هذا الذي يسميه القدامي coïncidentia oppositorum والذي تعرفه الحضارة العربية حق معرفة، ولا أدل على ذلك من الكلمات الأضداد. إلا أنه لا مجال هنا للحديث عن كل هذا؛ المهم الإشارة إلى أن الجنس من أهم هذه الأمور التي فيها مثل هذا التنافر رغم أن الواجب علينا للخروج من أزمتنا الراهنة تجاوزه والقبول به كعامل هام للاستقرار النفسي ومحرك أساسي للتطور.

إن الأمور بأيدينا و الوسائل متوفرة لدينا، ولا يفلح إلا من يتوكل على الله فيزكي نفسه خير تزكية بأن يعطي لكل ما فيها حق قدره : الروحانيات من جهة بالعبادة دون شطط، والبدنيات من جهة أخرى بعدم كبح حماح الطبيعة في تجلياتها فينا ما دامت من طبيعتنا ومما يساهم في انبساطها وانشراحها. أليس الله الذي يقول : «ألم نشرح لك صدرك؟».

فحتى نعيد بناء الحضارة التي كانت لنا، لنرفع عن نفسيتنا هذا الوزر الذي أنقضها من المركبات والمنغصات التي ما قال بها ديننا وما لها في الأخلاق الحقيقة من سلطان با أنها تنقها نقضا. ولا أدل على ذلك من حالة مجتمعاتنا المخزية على المستوى الأخلاقي لانعدام مثل هذه الحرية الصحية. لنستنبط نوعا آخر من الترابط المجتمعي يعتمد على الحرية الشخصية والثقة في بعضنا البعض بقبول تجلياتنا في المجتمع كما هي لا كما تفرضه غلطا اليوم قوانينيا المجحفة التي تدعي الأخلاقية وهي لاأخلاقية بالمرة لأن لا احترام فيها لمقتضيات النفس البشرية ولا لتعاليم الإسلام الحقة. فالإسلام دين ودنيا، هو علاقة فردية بين الله وخالقه لا دخل لثالث فيها، بينما الدنيا علاقة جماعية فيها حرمة العام ولكن فيها أيضا قداسة الحياة الخصوصية. وهذا ما تسميه سوسيولوجية اليوم reliance.

خاتمة في الإسلام كدين المحبة

إن الأخلاق الإسلامية أهم ما لنا في ديننا، إلا أننا نسيء لها بأن نقلب فهمنا له تآكل إذ شرب عليه الدهر وأكل ناسين لب لبابه ألا وهو روحه السنية ومقاصده. فلختم بموعظة في الصحيح من الأخلاق الإسلامية حتى نجعل من كلامنا ذكرا، إذ الذكرى تنفع المؤمنين، وصمتنا فكرا، إذ الفكر وإعمال الرأي مما يحث الدين عليه حتى كان أن يجعله فرضا عينا أثاب عليه نجحنا فيه أم أخطأنا.

يُروى عن التابعي الربيع بن خثعم – الذي قال له أستاذه عبد الله بن مسعود، أقرب الصحابة هديا وسمتا للنبي، وقد تتلمذ الربيع على يديه : «لو رآك رسول الله لأحبك» 10- أنه كان يقول : «عليكم بالسرائر اللاتي تخفى على الناس؛ وهن على الله تعالى بواد».11

فالسرائر هي ما تحدثنا عنه مطولا في هذه المقالة، إذ تعرف اليوم بالمتخيل imaginaire واللاشعور inconscient وفيها الحاكم الليبيدو. فهو إما حاكم عادل يعطي لكل ذي حق حقه أو هو جائر لا ينتصر إلا لمن تنكر لصبغة الله في خلقه فمسخها أو أراد مسخها. فمواصلة قهر ما فينا من إحساس وشعور عاطفي بما فيه الحسي الجنسي هو من باب التطاول على سنة الله في خلقه كما يقعل الطاغوت وأهله؛ والمحافظة على القوانين الجائرة التي تحد من الحريات الخاصة للمؤمنين هي من باب التقديس لأصنام معنوية على كل مسلم حق العمل على تحطيمها بأسرع ما يمكن ورفض القبول بها واحترامها إذ في ذلك التشويه لديننا وفتح الباب فيه لكل مخادع زنيم يتسربل بقميص الإسلام لإفساده كما هي الحال اليوم بداعش.

فكفانا جعل الدين مصيدة للدنيا ولنعد لحقيقته التي لا تخفى حتى نعيد له سماحته التي جعلته خاتم الأديان، دين العلم العالمي، ودين الفطرة البشرية في تجلياتها الكونية.

إن على الحكام اليوم في بلاد الإسلام، حتى لا تنقلب يوما بلادهم إلى داعش أخر، العودة إلى دينهم الصحيح برفع كل القوانين الجائرة التي يسرقون بها الناس حقوفهم الثابثة في حياة حرة مطمئنة في ظلال الإسلام الوارفة، وخاصة منها تلك المتعلقة بالحياة الخصوصية للمؤمن، ومنها الجنسية، التي لا دخل فيها إلا لله حتى وإن بدا لنا العبد في تصرفه الخاص عاصيا لله.

ذلك لأن الأمر لا يخلو من شيئين : فإما الله أذن في توبة هذا العبد فتاب وكان محمودا عنده، وإما الله لم يأذن بعد في ذلك، فلم يتب العبد وكان معذورا لانعدام أمر الله امتحانا له.

الهوامش :

1 هذا ما ورد في النفيس من كنوز القواميس، وهو صفوة المتن اللغوي من تاج العروس ومراجعه الكبرى لخليفة محمد التليسي، الدار العربية للكتاب، طرابلس ليبيا، تونس 2003.

2 انظر مثلا صفوة الصفوة للإمام ابن الجوزي، تحقيق أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث، الجزء الثاني، القاهرة 2005، ص 408. وأيضا تذكرة الحفاظ1\148، وحلية الأولياء 3\259 ، والتاج 1 \141، وميزان الاعتدال 1\146.

3 وذلك مما يُنسب إلى علي بن أبي طالب وابن المبارك وغيرهما.

4 راجع كتابه «نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد» بتقديم الشيخ أبو الحسن الندوي من منشورات دار الأدب الإسلامي، الطبعة الرابعة.

5 راجع كتابه المنشور بدار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2006.

6 أنظر لسان العرب، دار الفكر، بيروت، الطبعة السادسة 1997.

7 راجع رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار ، شرح وتعليق طلال حرب، ستة أجزاء، دار الكتب العلمية.

8 راجع صور من حياة الصحابة للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، طبعة مزيدة ومنقحة، دار الأدب الإسلامي، القاهرة، ص 98.

9 G. Durand, Les Structures anthropologiques de l’imaginaire, PUF, 1960, p. 53.

10 راجع صور من حياة التابعين المذكور، ص 57.

11 نفس المرجع، ص 59.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...