محي الدين اللاذقاني - شاعرة عربية تنقل التغزل بالحبيب من السرية للعلنية

في صدر الدولة الأموية ظهرت شاعرة جريئة تغزلت بمن أحبت دون أن تخدش حياء العفة

فعلتها تلك المرأة، وتغزلت بحبيبها علناً دون خوف من أهل أو عزال أو جيران، وكان الذي شجعها عفتها في مجتمع لا يضير أهله ان تحكي المرأة عن لواعج القلب ما دامت لا تخرق قوانين الجسد ونواميسه الثابتة.

اسمها ليلى، وهو يليق بالمعشوقة لا بالعاشقة، ومن حسن حظ ليلى الأخيلية انها كانت محبة ومحبوبة، وأجمل ألوان العشق ذاك الذي يلوح، ويصرخ، فيجد الصدى والاستجابة. وغير المفهوم في حكاية الأخيلية ان يعرف زوجها بحبها لغيره، فيسكت لأن الاعراف الاجتماعية أقرت له كزوج بالجسد أما القلب فلا يحكمه ولا يعرف مراميه غير مقلب القلوب، والعالم بالسرائر والضمائر.

وما تلك القصة بغريبة على التراث ولا على الحاضر، ففي مجتمعات المعايير المزدوجة لا مانع ان تتزوج المرأة من رجل ويظل قلبها مع رجل آخر، فتلك كما يعتقدون فلتات حب يصلحها الزمن لكن هل يستطيع ذاك الزمن الذي يراهنون عليه اصلاح أي شيء في حالات الحب العميق الذي يزداد تجذراً مع كل شروق شمس وغروبها..؟

وما لنا والفذلكات التي تكاد تدخلنا في المحظورات، ولنبدأ القصة من حيث انتهت، وبالأبيض والأسود على طريقة (فلاش باك) فندفن العاشقة الاستثنائية التي صرحت بحبها على رؤوس الأشهاد ثم نعود لنعرف ما الذي قادها الى ذلك المصير.

* البومة والقبر

* يقول الحزنبل، الراوي الرئيسي لهذه الحكاية، ان ليلى الأخيلية أقبلت من سفر، فمرت بقبر توبة ـ حبيبها ـ ومعها زوجها، وهي في هودج لها فقالت: والله لا أبرح حتى أسلم على توبة، فجعل زوجها يمنعها عن ذلك، وهي تأبى إلا ان تلم به، فلما كثر ذلك منها تركها فصعدت أكمة عليها قبر توبة فقالت: السلام عليك يا توبة، ثم حولت وجهها الى القوم، فقالت ما عرفت له كذبة قط قبل هذا قالوا: وكيف..؟

قالت: أليس هو القائل..؟

ولو ان ليلى الأخيلية سلمت عليّ ودوني تربة وصفائح لسلمت تسليم البشاشة أوزقا إليها صدى من جانب القبر صائح فما باله لم يسلم كما قال، وكانت الى جانب القبر بومة كامنة، فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت وطارت في وجه الجمل فنفر، فرمى بليلى على رأسها، فماتت من وقتها ودفنت الى جنبه...

انها روميو وجولييت على الطريقة البدوية ولكن دون سم أو خناجر، فالبوم يكفي لحكاية نصفها عن غربان النوى من الطير والبشر.

وليلى الأخيلية أشهر شاعرات العرب بعد الخنساء، وهي بنت عبد الله الرحال الملقب بالأخيل وعنه حملت اللقب، وفي الأخبار المتشابهة ان توبة بن الحمير ـ ونأمل ان تقرأوا الكنية بتشديد الياء حتى لا تفسدوا المناخ الرومانسي ـ أقول جاء في الأخبار ان توبة أحب ليلى وقال فيها شعراً كثيراً، وقد أحبته هي بدورها فتقدم لخطبتها من والدها لكنه رفض ان يزوجه اياها، وزوجها لرجل من بني الأدلع، وهذه عادة غير مفهومة عند اسلافنا الذين ما كانوا يزوجون الفتاة ممن تحب حتى لا يتخرص الناس ويقولوا قضى منها وطراً قبل ان يسترها تحت ستار الزواج.

ولم ينقطع حبل الحب بزواج ليلى من الأدلعي، فقد استمر توبة يزور ليلى، وظلت تسامره ويسامرها فعاتبه على ذلك أخوة لها وبعض قومها فلم يرتدع، ولم ينقطع، وهنا يجب ان تتوقعوا اللازمة التقليدية في قصص الغرام فدائماً يشكو الأهل الشاعر العاشق الى الوالي ليهدر دمه ودائماً يستجيب الولاة والسلاطين لطلبات من هذا النوع. فقد اشهر الوالي سيفه وسيف القانون معاً واهدر دم توبة إن اتاهم، وعلمت ليلى بذلك، فصارت بين ثلاث نيران: الأهل والزوج والحبيب، لكن ذلك لم يمنعها من الاستمرار في نقل قصائد الحب والتغزل بالحبيب من السرية الى العلنية وما ذاك بالانجاز القليل في عصرها.

ويخبرنا الحزنبل ـ الذي يستحق اهدار دمه لهكذا اسم ـ ان زوج ليلى اتاها وحلف لئن لم تعلمه بمجيء توبة ليقتلنها، وان هي انذرت توبة ليقتلنها كذلك، وقد نسي ذلك الزوج الضائع حياً وميتاً في هذه القصة ان المرأة ان ارادت شيئاً فإنها تستطيع تحقيقه بألف حيلة وحيلة.. وهذا ما كان.

* حيلة ناجحة

* والآن لنترك حبل السرد معلقاً بلسان ليلى التي كانت تقص سيرة حبها كثيراً في شبابها وشيخوختها ـ ومن عادة الحب ان نحدث عمن نحب كثيرا ـ وهذا ما فعلته ليلى التي قالت في احدى تلك الروايات، واصفة بلوغ الحبكة نقطة الذروة:

«وكنت اعرف الوجه الذي يجيئني منه توبة، فرصدوه بموضع، ورصدته بموضع آخر، فلما أقبل لم أقدر على كلامه لليمين التي سبقت، وكانت العادة ان اتاني توبة خرجت اليه في برقع، فسفرت، وألقيت البرقع عن رأسي، ولم يرمني بشاشة، فلما رآني سافرة فطن لما أردت، وعلم انه قد رصد، فركب راحلته، ومضى ففاتهم، وفي هذا يقول:

نأتك بليلى دارها لا تزورها وشطت نواها واستمر مريرها وكنت إذا ما جئت لىلى برقعت فقد رابني منها الغداة سفورها والذي يريبنا في حكايات ليلى ان التفاصيل تأتي دوماً منها، وتنسب اليها وتحديداً في مرحلة شيخوختها حين صارت تلك القصة لها بمثابة منجم يستزيد خلفاء بني أمية وولاتهم منه باستمرار، فتضيف وتحدثهم وتحرص وهي تفعل ذلك على تأكيد عفتها لتؤكد ضمناً على الفواصل المعترف بها اجتماعياً بين حب الروح وحب الجسد، وهذه ثنائية غير مفهومة بززنا فيها الأمم لإسرافنا في النفاق العاطفي.

ومن تلك المواقف واحد يرويه أيوب بن عمرو عن رجل آخر اسمه ورقاء لا نعرف له اصلاً ولا فصلاً قد تبرع مشكوراً بنقل ما دار بين ليلى الأخيلية والحجاج بن يوسف الثقفي، الذي وجد بين المذابح وحمامات الدم وقتاً للتحقيق في قصة حب عذرية يقول ورقاء:

«سمعت الحجاج يقول لليلى الأخيلية ان شبابك قد ذهب واضمحل امرك، وأمر توبة، فأقسم عليك ألا صدقتني هل كانت بينكما ريبة قط، أو خاطبك في ذلك قط، فقالت: لا والله أيها الأمير، إلا انه قال لي ليلة، وقد خلونا كلمة ظننت انه قد خضع فيها لبعض الأمر، فقلت له:

وذي حاجة قلنا له لا تبح بها فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغي ان نخونه وانت لاخرى فارغ وخليل فلا والله ما سمعت منه ريبة بعدها حتى فرّق الموت بيننا.

* جراح الراثية

* ويستمر الحجاج في تحقيقه الرقيق، فيسأل: فما كان منه بعد ذلك؟ قالت: وجه صاحباً له إلى حاضرنا، فقال: اذا اتيت الحاضر من بين عبادة بن عقيل فأعل شرقاً ثم اهتف بهذا البيت:

عفا الله عنها هل أبيتن ليلة من الدهر لا يسري إلي خيالها وعفا الله عنها وعن رواة سيرتها تكثرهم في أحاديث لا يقبلها العقل، ففي قصتها مع الحجاج لو قالت نعم كان بيننا كذا وكذا لوجب على الحجاج كرقيب للشرع ان يرجمها، فهي متزوجة وتحب رجلاً متزوجاً والمسألة قبل موت صاحبها، وبعده اكثر من حساسة شرعياً وفنياً، وليلى اذكى من ان تهدر دمها بلسانها وتنشر العمود الأساسي الذي دفعها للتصريح بحبها علناً منذ البداية، وهو عمود العفة المصانة فدون تأكيد انعدام الريبة تصبح سمعتها تحت الشبهات وعفتها تحت التهديد، خصوصاً ان توبة سبقها الى العالم الآخر لأسباب تتعلق بالثأر القبلي، وليس بالموت عشقاً كعادة العرب في مصارع العشاق، فهم لا يستقر لهم بال ان لم يدقوا أعناق العاشقين بالريبة ودونها، فكأن قصة العاشق عندهم لا تكتمل الا بالموت حباً، وذاك ما لم ينله توبة، وهذا ما يزعج الرواة الذين لا يرتاحون الا اذا قتلوا العاشق وكفنوه في السياق الغزلي لا في أي سياق آخر، فهم لا يعترفون ان من لم يمت بالعشق مات بغيره حتى لا تكسد بضاعتهم عند العامة المتشوقة بالبكاء على اخبار العشاق وقبورهم.

وقد خذلهم توبة الذي ترك الموت عشقاً وبومة لليلى، وقتل في السياق الآخر فقد كان بينه، وبين بني عوف ثارات، وقد انتهز هؤلاء فرصة وجوده مع أخيه عبد الله على مقربة منهم، فبعثوا اليه ثلاثين فارساً حاول الهرب منهم، فلم ينجح، فقتلوه، وشنوا بشقيقه بعد ان قطعوا رجله، وبقيت الجثتان في العراء الى ان اتى عبد العزيز الكلابي فدفنهما، وانتهت ثارات القبيلتين بموت توبة الذي اوقف بدمه جريان نزيف الثارات.

وعلى جبهة ليلى الأخيلية بدأت تستيقظ جراح اخرى، فالمتغزلة تحولت الى راثية علنية ايضاً وقالت في فقيد قلبها مجموعة قصائد حسان، وقد سألها الحجاج ان تسمعه بعض ما قالت في رثاء توبة، فأنشدت:

فإن تكن القتلى بواء فانكم فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر فتى كان أحيا من فتاة حيية واشجع من ليث بخفان حاذر فنعم الفتى ان كان توبة فاجرا وفوق الفتى ان كان ليس بفاجر كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ قلائص يفحصن الحصا بالكراكر وكان مع الحجاج اثناء الإنشاد اسماء بن خارجة الذي حاول ان يلفت نظرها الى المبالغات فقال: ايتها المرأة انك لتصفين هذا الرجل بشيء ما تعرفه العرب فسألت: أيها الرجل هل رأيت توبة قط..؟ قال: لا، فقالت:

أما والله لو رأيته لوددت ان كل امرأة في بيتك حامل منه.

ويقول الراوي عن تلك اللحظة: فكأنما فقئ في وجه اسماء حب الرمان، وعندها تدخل الحجاج ليفك الاشتباك بين المرأة العاشقة والضيف الذي يغار من مآثر الموتى.

ولليلى الاخيلية في توبة الحميري من الغزل بعد موته أضعاف ما عندها عنه من شعر في حياته، ولا تستطيع ان تصف هذه الحالة بالاخلاص، فقد كانت تحت رجل غيره في حياته وبعد مماته، والارجح ان استثمار القصة التي ذاعت ونفخ النار في رمادها باستمرار قد أصبح هاجسها الوحيد خصوصاً بعد ان شاخت ومات عاشقها، فاكتسبت حصانة غياب الحبيب التي اكتملت بالشيب الذي يجعل المرأة مهما فعلت في منآى عن فاتكات الظنون في المجتمعات الكابتة ـ المكبوتة.



.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...