نقوس المهدي
كاتب
الكاتبة والجسد ترى كيف تحتفي الشاعرة والكاتبة العربية بالجسد في نصوصها الأدبية، كيف هي علاقتها بهذا الجسد كمعطى إبداعي بالدرجة الأولى؟ وهل الجسد أخذ حقه وجماله من خلال هذه الكتابة وهل الكتابة من جهة أخرى وصلت بوهجها ونسقها إلى الجسد أو بهذا الجسد كما ينبغي؟. وكيف هي نظرتها الذاتية لثنائية الجسد والكتابة؟. هنا بعض الآراء المتباينة عن إشكالية الجسد والكتابة لدى بعض الكاتبات العربيات. **
———————————-
صباح زوين / شاعرة ومترجمة وصحفية لبنانية
الجسد، وقد وضعته موضع القدسية منذ البداية، أعني بداية كتابتي الشعرية وحتى اليوم، هو محور كتابتي وأساسها. ولا أبالغ إن قلت إنه الأساس علما ًإني دائما ً أعلن أن كتابتي تتمحور حول أربعة مواضيع مركزية، ألا وهي الجسد واللغة والمكان والزمان. لكن لو تعمقنا قليلا ً في الموضوع، نلاحظ أن الجسد هو الأساس، هو مصدر تفكيري في الزمان والمكان واللغة. بل هو كل هذا
. فجسدي هو الذي يملي عليّ لغتي، ولو كان لي جسد مائع مثلا ً، أو بطيء، أو رخو، أو مترهل، أو سمين، أو بليد، أو مغناج، لكان إنعكس هذا الجسد بطبيعة الحال، بخصاله وطباعه، على أسطري وأحرفي ومفرداتي وأسلوبي في الكتابة. فما أكتبه يشبه جسدي الذي يشبه كذلك مكاني وزماني، تحديدا ًالمكان والزمان اللذين أكتبهما. فإحساسي بالوقت كما أراه، وإحساسي بالمكان كما يظهر لي، هو ما يتلقاه جسدي وما يمليه عليّ أثناء كتابة قصيدتي.
فلا يجوز لغيري أن يرى المكان كما أنا أراه من خلال طريقة تحركي في هذا المكان، وهذا التحرك هو جسدي الذي يقوم به، وسواي قد يقوم بتحرك مخالف ومغاير وعبر أحاسيس جدا ًمختلفة عن أحاسيسي أنا.هذا لأقول إن جسدي هو أكثر من حاضر ٍ في كتابتي، بل هو الكتابة برمتها في قصائدي إذ منه تنطلق الكلمة، ومنه الصورة تأتي، ومنه تنبع الكلمات المنتقاة وفيه تخضع هذه الأخيرة للغربلة والتصفية.
جسدي هو جسد الوقت وجسدي هو عربون مكانٍ. بل المكان هو جسدي، وحركته في الفضاء هو وقتي أنا، الوقت كله أعني. في هذا المعنى يصبح الجسد عندي ركيزة إبداعية من الدرجة الأولى.
ولو كنت روحا ًبلا جسد لما كتبت شيئا ًولما عرفت الدنيا كما أعرفها!
وجسدي يبدأ من اليد! هذه اليد العظيمة التي هي أساس الكون. اليد هي التي تلخص الحياة كلها. وما عدا اليد، تأخذ بقية الجسد مداها في شرايين الحبر والكلمات والصفحات، وهو جسدٌ بلا ملامح فجة، إنه جسد يقول الأشياء كلها إنما تلميحاً، وذلك لأن جسدي كما لغتي، لا يحب لا الظهور المباشر ولا القول المباشر.
إنه أسلوب الأناقة في الجسد الذي منح ذاته أسلوبا ًفي طريقة كتابتي. هذا الكيان المستقل عني والكائن بذاته ومن ذاته، وأنا أداته كما هو أداتي، هذا الكيان الذي إسمه جسدٌ، هو الذي رافق كتابتي الشعرية دائما وأبداً، ولكن ثمة مفارقة لطالما لازمت، ولا تزال، هذه الثنائية الكتابية التي دائما ًتناولتها كإشكالية حقيقية في معظم كتبي. وما أريد قوله، هو أن هذه الإشكالية تكمن في أن رغم قيام جسدي بالكتابة، فهو، وهكذا أراه ولا أرى سوى ذلك، هو يظل البريء تماما ً من إثم الكتابة، والأخيرة إثمٌ في نظري، هي خطأ وخطيئة، ولطالما قلت في قصائدي إن جسمي بريء من الفعل الكتابي وإن هذا الجسد جسدي نقي وطاهر من كل هذه الأحرف والألفاظ التي أخطها.
إنها مفارقة وهي تاليا ًتنمّ عن إشكالية أعيشها في الصميم، في العمق، في عمق جرح ٍ إسمه الكتابة وكيف التخلص منها من أجل براءة الجسد!. هذا هو تساؤلي الدائم، هذا ما يحثني جسدي على التساؤل حوله
—————————
!. ** ياسمينة صالح / روائية جزائرية مقيمة في كندا
دعيني أسألك، وأتساءل أمامك قبلاً عن ماهية الجسد الذي تطرحينه الآن في ملفك الشائك؟
بحيث أن تعريف الجسد ضمن النص الأدبي/ الروائي الراهن لا يخلو من تعريف جنسي، أي تعريف مادي للكلمة، وعلى هذا الأساس لا أعتقد أنني معنية كروائية بالجسد وفق الأطروحة المادية له، أي الأطروحة الجنسية البوهيمية، والتي كما ترين صارت القاسم المشترك بين العديد من الروايات التي يريد أصحابها تحقيق سباق المبيعات أكثر مما يريدون صناعة رواية حقيقية بمعنى الكلمة، إلى درجة أن ناقد سويسري بحجم الراحل “هوغو لوتشر” كتب أن الرواية العربية الآتية من الدول المحافظة تبدو وكأنها تكتشف جغرافية الجنس على حساب الإبداع،
وهذه هي أطروحة الجسد من زاويتها المادية التي لا أشعر أنني معنية بها كروائية، على إعتبار أن أهمية الجسد يجب أن تصنع ذات القيمة التي يمكن أن ندافع عنها جميعنا، ولا أعني بها سوى قيمة الإبداع الإنساني الذي سيبقى مثلما بقي الإبداع الإنساني العالمي على مر السنين..
كينونة الحياة عرفت الكثير من الكتّاب الذين تعاطوا قبلا مع الجسد تعاطيا ماديا، ولكن قلة منهم تحتفظ الذاكرة بأسمائهم، هذا لأن قيمة الإبداع مرتبط بقيمة الإنسان التي تتجاوز في نظري إشكالية الجسد بكثير. تسألينني عن نظرتي الذاتية لثنائية الجسد والكتابة؟ أوصار الجسد هو الذي يصنع النص؟
أعتقد أن من المهاترات الراهنة القول أن النص الإباحي هو النص الإبداعي، وهذه سخرية غير منطقية شجعتها دور النشر التي تساهم اليوم في إقناع الكاتب والقارئ معا أن الرواية الجيدة لا بد أن تكون رواية إباحية جنسية ولو في العنوان، لأجل مكاسب مادية فقط، بمعنى أن صناعة النص الجسدي الإيحائي جنسيا هو لأجل مكاسب مادية لا أكثر ولا أقل، وهي تجربة عرفها الأدب في السبعينات من القرن الماضي سرعان ما تجاوزتها الأحداث الإنسانية الأهم المرتبطة بالحرية الإنسانية، كحرية الوطن، والأرض، وأظن أن الكتابة العربية في بعض حالاتها تبدو وكأنها تكرر نفسها بإعادة مصطلحات قديمة إلى السطح والخوض فيها كجعل المرأة مجرد أداة جنسية (جسد) في السرير فقط…الخ…
بإختصار إن جعل الجسد بوابة للثورة أو لمناهضة التراكمات التاريخية والسياسية سقط في أغلب الأحيان في “الارتزاق الإباحي” الذي ربما خدم الكاتب والناشر ماديا، لكنه لم يخدم النص الأدبي بمعناه المطلق. **
————————————–
ماجدولين الرفاعي/ كاتبة وصحفية سورية ومديرة دار تالة للنشر
عندما تبدأ الكلمات بالتشكل والتكون في خلايا عقلي لا أتدخل مطلقا ولا أحدد مساراتها واختياراتها في الكتابة عن الروح أو عن الجسد إذ لم أفكر يوما الفصل بينهما لأن قناعتي بأن الروح لا تحيا من غير جسد ولا الجسد يحيا من غير روح وأعتبر أن الإحتفاء بالجسد على حساب الروح يخل بمعادلة الحياة وثنائية الروح والجسد والعكس صحيح، وفي الحقيقة أميل في كتابتي إلى الوجداني أكثر مما أميل إلى المادي المفرغ من روحانيته بعيدا عن الإيحاء والإيماء وعدم ترك الحرية للقارئ كيما يرتب الصور ويتمتع ببنائها على هواه، .
إن الكتابة المباشرة عن الجسد تصبح ممجوجة وتضيع على القارئ متعته في التداعي وخلق الحالات الخاصة به التي يستوحيها من الإشارة، ففي سردية لي بعنوان (رجل بنكهة القهوة) فتحت بابا صوب الجسد دون الولوج:
“ترى هل من الممكن أن ألتقي بك مجددا كي أعانقك وأشم رائحة عطرك وأتذوق طعم الرغبة فوق شفاهك الشهية”.
إن هذا المقطع مثلا يشير بطريقة متوارية للرغبة في الاحتفاء بالجسد الذي تشير إليه أصابع الروح المغلفة بالحب الذي أعتقد جازمة أن الجسد يموت ويضمر إن غادرته تلك الروح العاشقة المعشوقة، وأعترف إنني أحتفي في كتابتي بالجسد في بعض الأحيان ولكن بطريقة أعتبرها مهذبة إذ لا أعترف بالإيروسي والكتابة الجنسية المباشرة التي تصف الجسد بتفاصيله بطريقة فجة تصل حد قلة التهذيب بل وتعمل على تخليصه من الروح .
وهنا أيضا في إحدى سردياتي ألامس الجسد وأقترب من الإيحاء الواضح:
“جلست أمامك وثمة شعور خفي ينتابني برهبة هذا الوجود الباذخ مع رجل يمتلك كل (المفاتيح) التي يفك بها أبواب عالم المرأة، ويكسر قيد جسدها”.
وباختصار شديد أحتفي بالجسد عن طريق فك رموزه وشيفرته السرية بالكتابة عن الروح التي تتحد مع الجسد فيما بعد ويرقصان معا تحت ظلال كتابتي الإبداعية. **
—————————-
سهيلة بورزق /شاعرة وكاتبة جزائرية مقيمة في واشنطن
ربّما أكون بحاجة إلى وقت أطول من عمري لكي أجيب على مثل هذا السؤال الذكي، وقت يتسع للتحليق في معيار القيمة الأدبية والفلسفية التي يتجمّل بهما الجسد في النّص. هل هو السؤال الأوّل القادر على تحقيق صيغة الترابط بين الإنسان وذاته؟ جوابي نعم، فالجسد هو الرأس الذي يحرّك باقي القيم مجتمعة وهو السلطة التي تتحقق فيها الإنسانية. نحتفي بالجسد في النّص بالصورة التي نرى فيها أنفسنا، سيعاتبني البعض ممن يعتبرون أجسادهم محرّك أتوماتيكي أو جماد يشعر ويمارس طبيعته ويحب ويكره بزر في حين هو في غاية الألوهية هو كيان مطلق يرفعنا إلى مصاف الإنسان الذي يجيد العقل والتّحكم في مشاعر قيمه وحركته وشهوته بقوة القلب والعقل معا.
قلت سيعاتبني من لا يفهمون أن أجسادهم تمتلك قوة روحية وجنسية نحن بحاجة لهما لتمكين الذات من الرّقي بإحساسها وقدرتها على صنعنا وتحفيزنا على المضي في الحياة.
الجسد روح الفن العاري الذي يرى الجمال في صمته وصوته وجوعه وعشقه.
لن أكرّر أن الرّجل الكاتب من حقه أن يكتب عن جسده كما يرى ويستمتع ويتلذذ ومن حقه أن تدخل نصوصه الجنسية الجامعات حتى تدرّس للطلاب على أنها قيمة أدبية كبيرة وعلى العالم كلّه الاحتفاء بها كنبراس علمي نحن بحاجة إلى مثله في وقت صعب علينا فيه الحديث عن أجسادنا بلغة أدبية راقية في حين عندما تكتب المرأة الكاتبة نصا جسديا تنهال عليها التّهم وتوصف بالداعرة والفاسقة والخارجة عن قانون الدين والأخلاق ويسجّل إسمها على أنه أخطر من سلاح الدمار الشامل ويقاطعها البعض من أئمة الأدب والكتابة والأخلاق وتعدو المسكينة مثلها مثل الهاربة من الموت إلى الموت . وما بينهما يعلمه أصحاب النفوس المريضة والمتخلفة الذين ينامون على الجنس ولا يستيقظون منه أبدا ورغم ذلك يدّعون الأخلاق وأجسادهم متسخة بجرم النفاق.
ثم إن الجسد ليس بحاجة إلى كتابة رجالية فقط لتمكينه من التّحرر من مفاهيمنا العتيقة عنه، بيد أن الكاتبات العربيات اللواتي كتبن عنه وصفنه بوجع أكثر لأن الجسد في الأنثى موجوع ومتصدع وهارب من نفسه إلى نفسه لكن الكتابة الجسدية عند الكاتب الرّجل لا تعدو أن تكون فضفضة ذكورية لأنّها بلا ألم ولا خوف ولا تهمة ولا جريمة.
لقد كتبت عن الجسد كعقدة تشتتنا لكي تترك فينا أثرا مدويا يحدث بدواخلنا خللا ما ينتقل عن طرق الوراثة ربما من جيل إلى آخر ذلك لأنّ ثقافتنا العربية لا تسمح بالوصول إلى منتهى السؤال الذي نجيد طرحه بخوف وخجل لكن لا نكتبه في نص يقولب فينا مداه. كان دائما يلازمني سؤال الفطرة عن ماهية جسدي ومنذ الطفولة إكتشفت أن على جسدي أن يحاصرني وأحاصره وأعيش في ظله مرعوبة من جنونه وشهوته.
أعتقد أنّ الجسد ليس بحاجة إلى اعترافنا بجماله لأنّنا نحن من نسكنه ونحن من نتعذب فيه. ومن المؤكد أن الكتابة عن أجسادنا لا تنتهي في قصة قصيرة أو حتى في رواية متسلسلة الأجزاء لأنّ العنصر فيها متجدد باٍختلاف مفهومها لدى الأجيال اللاحقة وعليه لا يمكن الجزم بنهاية الكتابة الجسدية اليوم أوغدا وشخصيا لست ممن يتمنون ذلك من باب تحرير النفس البشرية من عقدة الأنا في النّص.
وأحب أن أضيف أن هناك فرق كبير بين الدعارة النّصية التي يكتبها البعض من باب المتعة والتي تكون عادة بلا إطار لغوي جمالي يحميها من السقوط في المباشرتية العقيمة التي لا تكبح شر النفس في النص وبالتالي تتحوّل إلى قطعة فنية رديئة لا تغني ثقافتنا المهتزة والفقيرة جدا وبين النّص الآخر الذي يقول الجسد بلغة راقية تحتمل النقاش والتحليل والدراسة.
أجسادنا اليوم منهكة بالفجور الذي لا يليق بجمالها، نحن بحاجة إلى نصوص تقولنا على ضوء أنثى لا تحترق دائما كشمعة
——————————
**سمر دياب / شاعرة لبنانية مقيمة في اسبانيا
يبدو دائما هذا السؤال وكأنه المفتاح الوحيد للتلصص على العوالم الداخلية للشاعرة أو الكاتبة، في حين أنه شبه معدوم فيما يتعلق بالرجل الكاتب أو الشاعر، وكأن المرأة وحدها من تملك جسدا والباقي كائنات هلامية منزّهة عن هذه *الورطة*، لا أتعامل مع الجسد على أنه تهمة وجب التملص منها، لكنه أيضا ليس امتيازا لأحتفي بإقحامه في كل شاردة وواردة، الجسد الوحيد الذي أحتفي به في الكتابة هو جسد الخيال، ذاك الذي ينزّ وينزف ويرتعش ويفضح صخبه وجنونه على الملأ.
من الصعوبة بمكان أن أتحدث عن وهج الجسد في نصوصي لأني لا أملك نصّا يتحدث عنه ككائن مستقل في القصيدة، ليس تملصا ً من تهم جاهزة تلصق بكل من تجرأت وكتبت سطرا ًعن الجسد، لكن خرابا ًمستعصيا ًيقبع دائما في مخيلتي السوداوية يجعلني أشفق على هذا الجسد إن حدث وقرر يوما الهبوط إلى أرض الشعر،الكتابة عن الجسد بسياق السؤال المطروح يستوجب شاعرة أنثى، الأنثى في داخلي في برجها العاجي لا تحاول حتى استراق النظر إلى الكائن الشعري العجائبي الذي يقطن في جوارها أيضا، هذا الكائن لا يملك جسدا ليكتب عنه، جلّ ما يملكه هو عين ترقب بفزع ما يحدث في الكون وبالتالي تغدو الكتابة عن الجسد وحقّه وجماليته ترفا ً لا أطاله.
لا أرى أن هناك من ثنائية قائمة بين الجسد والكتابة، هناك ثنائية بالضرورة بين الحواس والكتابة، بدءا من الحاسة الأولى وحتى السادسة والعاشرة، الكتابة ليست العين بقدر ما هي الرؤيا، وليست اليد التي تخط الأحرف بقدر ما هي تلك الحاسة الخافية التي راكمت رؤى خفية أخرى أوعزت للإبداع أن يتحرك. الجسد جميل في خطابه الشعري، لاشك في ذلك، وهو معطى إبداعي فعلا، لكنه ليس أيقونة شعرية أنثوية مقدسة، والاحتفاء به ليس حكرا على تعميم جماليته، قد أكتب عن جسد قبيح،عن جسد ميت أو مشوه وأجد أني صعدت بهذا الجسد إلى مصاف الشعر الخالص. حين ينفصل الجسد عن فلسفته الوجودية ليغدو مجرد آلة تحتكم لمقاييس حسّية محددة تعمي عين الآخر عن وهجه الماورائي الغامض فهذا ضرب من ضروب البلاهة الشعرية، تسطيح مصطلح ودلالة الجسد في الكتابة ليتواءم مع رغبة عمومية ساذجة تكاد تكون مفروضة فرضا لا واعيا على المرأة الكاتبة، فهذا أمر يدعو لوقفة تفكّر قليلا.
———————————–
**جاكلين سلام/ شاعرة وكاتبة سورية كندية مقيمة في كندا
الحديث عن الجسد لا يعني البتة الحديث عن الجانب الجنسي من الجسد. كتابة الجسد لا تعني لي الكتابة الإيروتيكية واستعار الرغبة الجنسية وانطفائها. لأن الجسد كيان، يدان ، ساقان، قدمان، أصابع، عيان، آذنان، رأس وما يسكن داخله. وهذا الكيان ليس بمعزل عن المحمول الإجتماعي والسياسي والديني والبيئي. وإذا كان الجسد في نظري بيت، فهو كيان كامل منفتح العالم و واقع تحت منظومة متغيرات خارجية. وكالبيت تغزوه عواصف الشتاء، يمر به الربيع والخريف. الجسد ليس غرفة مغلقة وسرير أحمر نتلصص عليه من ثقب الباب.
الجسد ليس الشباب الدائم والجمال المتألق وما تفعله فيه عمليات التجميل. الجسد دورة ما بين الطفولة والشباب والشيخوخة. وحين أنظر إلى جسدي بهذه الصورة أعتقد أنني عايشت هذه الأعضاء التي تشكل الجسد والفلسفة التي تقمعه أو تدعي تحريره. تطرقت إلى أجسادنا الاجتماعية والسياسية، المقموعة والحرة والملتبسة. كتبت عن أصابعي وهي تصافح، وهي تلوح بالوداع. كتبت عن القدم والحذاء والكعب العالي وارتباط هذا بحدود الحرية.
وعن جسدي الغارق في معاطف الشتاء، في غربة العالم. كتبت عن شَعري الذي ظهر فيه بعض البياض ، وكتبت بحنان عن التجاعيد التي خلفها الدهر حول عيني وعلى محيط خصري. لست مشغولة بكتابة الشبق. جسدي يكون أكثر حرّية حين أحرره من الكتابة عنه بصراخ يخلو من القيمة الإبداعية. تجاوزت الأربعين قليلاً ولم أجد لدي أي رغبة في الكتابة الإيروتيكية، ونادراً ما قرأت نصوصاً على الصعيد العالمي أو العربي تقترب كلاماً ما يمارسه الجسد من إبداع بلغته الحسية الخاصة. هذا ما أرى الآن وحتى إشعار آخر من دورة أيامي على هذه الأرض. ولست أعاني من رقابة أخلاقية أو عائلية أو مجتمعية.
لم أصل بجسدي إلى أي مكان، أخذني جسدي إلى الهاوية وإلى آخر العالم. رافقني جسدي كله في نشوة الحب، في ألم الولادة، في متعة الرضاعة، في خسارات الحبّ، نعم الحبّ، الحزن والمنفى.
ثمة في الشرق من يدّعون أنهم سباقون إلى تحرير الجسد ولم يفعلوا في الواقع سوى قصقصة الأعضاء وتفريغها من كينونتها الكبرى.
يدهشني أن أرى غلافاً لمجلة تدعي تثوير الجسد وإطلاق عقاله من القمع وأشكال التابوهات، لكنها تضع على الغلاف صورة امرأة بلا رأس، أو يكون الغلاف منطقة الجنس أو “العورة” مبتورة عن كل شيء.
هذه الخصخصة ليست إلا بتراً للكيان الكلي الإنساني وتصغيراً لدورته الخصبة. فأين وصلنا بثقافة الجسد المكتمل، الحرّ والمبجّل في غيابه وحضوره!.
———————————–
** فاطمة بنيس / شاعرة مغربية
عندما تدفقت مشاعري وصارت لغة قادرة على البوح عدتُ للجسد كمنبع صادق للكتابة. علاقتي بالجسد كانت ملتبسة ويكتنفها الغموض في ظل الإزدواجية التي يفرضها النفاق الاجتماعي، الآن وبفضل الكتابة انكشفتْ عندما بتُّ أحتفي بالجسد وأستحضره مرجعا خصبا لمخيّلتي الأدبيّة.
أن أكشف عن رغباتي..عن مكامن ضعفي وقوتي…عن تاريخي الأنثوي، أن أقارب الطابوهات دون إكتراث بالعواقب التي قد تنجم عن هذا التجاوز، إنها جرأة إبداعية من خلالها إستعاد الجسد حقوقه الرمزية وإحساسه الجماليّ بالحياة، هذا التصالح مع النفس ما كان بالإمكان أن يكون إلا عبر الكتابة ككائن حيّ استطاع أن يجتثَّ الذات من عتمة الصمت ويعيد لها وجودها إنطلاقا من المراحل التي عشتها بدءً من الوأد الرمزي مرورا بالثورة الروحية إلى الصحوة الجسدية تعمّقت نظرتي لثنائية الكتابة والجسد، فمثلما لليل نهار وللشمس قمر، أيضا للكتابة جسد يتوهّج بقدر ما أحسنتْ الذاتُ الكاتبة التعامل معه، بالنسبة لي لا جسدَ لي من غير الكتابة ولا كتابة لي من غير حضور الجسد..
الجسد كقضية يتلاحم فيها الذاتي بالموضوعي وليس كإتجاه إيروتيكي بمعزل عن القضايا الكبرى.
الجسد كوطن شاهد على انهزامي وعلى انتصاري.
أعتقد أنَّ ثنائية الكتابة والجسد هي الجواز الذي عبرت به إلى موطن ذاتي وأعلنت هويتي الأنثوية دون خجل .
———————————
** فرات إسبر/ شاعرة سورية مقيمة في نيوزيلندا
الجسد عبر التاريخ مهزوم ومعتقل. على الرجال “أن يغضوا أبصارهم” وعلى النساء “أن لا يضربن بأرجلهن” هذه الأوامر عمقت في غياب الجسد كظاهرة، هي روحية أكثر مما هي مادية.
الجسد طائرٌ يحتاج للطيران. طائر بلا أجنحة لا يمكن أن يعلو. هذا العلو يتجسد في صفاء الجسد وبراءته !.
ننظر إلى الجسد كحرام وعورة وعلى النساء “أن يلقين بجلابيبهن”. هذا الجلباب تحدث من تحته البراكين الثائرة ولا أحد يقف في طريقها طبعا “خفية”.
الكتابة نوع من ممارسة الحرية: إطلاق الجسد كطائر ضرورة، نعلمه الطيران والسمو، ولا نريد به السقوط..بعض الكتاب جعلوا من الجسد نهر من رذيلة تسبح فيه المرأة ولا تخرج منه، وأيضا القارئ لم يرحم الكاتب، أسقط عليه ما ليس به.. وخاصة الكاتبات العربيات يتعرضن للكثير من الإساءة عندما يتحدثن عن الجنس بصراحة. الجسد بدون الجنس لا معنى له، فهو معتقل وأسير، تضعف قواه ويهزل ويمرض.. ولا يجيد التحليق عاليا.
كلنا نحب أجسادنا ونتطلع إليها في المرايا خفية. جسد المرأة بدون جسد الرجل لا معنى له وبالمقابل جسده لا معنى له، فهو أيضا يحتاج جسد المرأة في علاقة إنسانية تصفو بالأجساد وترفعها كروح تحلق في الأعالي، وهذا ما نريده أن يتجلى في الأدب بكل أجناسه. أخاف أن أظهر جسدي بالكتابة، مع أنني أفهم هذه العلاقة الصافية التي تربطني به، أفهم ما أريد وما هو يريد ولكنني أخاف..! بيتنا بجانب الشاطئ وكبرنا أمام البحر ولكنني لا أجيد السباحة وأخاف لأنه كان من العيب أن تسبح البنت وتعرض جسدها أمام الرجال، السباحة مقصورة على الرجال، والنساء.لا…لا… عيب !.
بالنسبة لي التعبير عن الجسد كفضاء أتعامل معه يخضع لكثير من المجاز وأيضا للخيال فما يكتب عن الجسد في الرواية لا يمكن كتابته في الشعر، في الرواية يمكن أن نسرد أجسادنا وحكاياها ولكن في الشعر لا نستطيع سوى التلميح، هكذا نخطف الصور من أجسادنا ونعلقها في صدر القصائد ونبقى دائما تحت خوف مسيطر من الآخر الذي يترقبنا ويعد أنفاسنا.
أجسادنا معتقلة وغائبة، منفية عن الضوء والهواء والحب، علينا أن نفهم الجسد كعلاقة حياة، لا كعلاقة خوف وقلق ، هو جزء من هذه الطبيعة ويحتاج إليها ، يحتاج إلى الضوء والشمس والهواء والعطر، فكلما أخذ حقه، يتحرر ويعلن عن وجوده في هذا الفضاء المزدحم بالأجساد الخائفة والأرواح السجينة
—————-
. ** رانة نزال / شاعرة أردنية
الجسد/ التابوه نقطة الحكاك المركزية في الحياة به التقاطع مع الآخرين وأرى إنعكاسي فيهم، ومن خلاله تجسدت مواقفي تجاه الوجود مواقفي في أفعالها المنبثقة عن وعي أو في لاوعيها المترجم في ردّ فعل، هو الثالوث من حيث هو البؤرة التفاعلية التي تنقل المعلومات إلى عقلي وتعكس الانفعالات من روحي، وبكل وضوح وباختصار شديد علاقتي به علاقة كلّ فتاة عربية ضالة ومضللة وفاقدة لهذا المركز الرئيسي في حياتها محتقرة له، ومعقدة منه وبسببه، وما كتابتي بكل تداعياتها إلا انعكاس لقلة تقدير الذات الناجم عن احتقارها بسبب جسدي كأنثى والمحمل بأضغان أمي وأحقاد أبي وعار القبيلة،
كلما إزددت وعياً كلما أدركت فداحة المصاب وخيبتي مني، لأني خذلتني أمام طبوغرافية جسدي وصرت أكرهني بسبب من مرآيا الآخرين/ الأغيار الأغراب الذين غربوني عني ومني بسبب جسدي.
فكانت قطيعتي واغترابي الفادحين ولا ذنب لي، وهذا ما جناه أبي وما جنيت على أحد
———————————
. ** فاتنة الغرة / شاعرة فلسطينية مقيمة في القاهرة
طبعا حين نتحدث عن الجسد نحاول أن نفهم ذواتنا من خلال هذا الجسد هو يختزل كل شيء، يختزل طباعنا، يختزل تناقضاتنا، يختزل كفرنا وإيماننا، يختزل عبثيتنا وجديتنا. يختزل مجوننا وقداستنا، آثامنا وطهارتنا، يعني يختزل كل هذه المتناقضات في هذا الجسد، الجسد الذي أحيانا يخونك وأحيانا يقودك إلى ما لا تستطيعين فهمه وأحيانا يبدو عاجزا وأحيانا يبدو بليدا، وأحيانا يبدو نارا متقدة وأحيانا..وأحيانا..
كل هذه المعطيات إن لم تفهميها لا تستطيعي الوصول إلى فهم روحك، هما الإثنين بالنسبة لي كالعملة التي بوجهين، هما يشكلان فعلا عملة بوجهين، انطلاقي من هذا الجانب في محاولة فهم كل شيء من خلال هذا الجسد، هذا الجسد الذي حينما يأكل، يأكل من الطبيعة شيء فبالتالي هذه الطبيعة تشكل فيه شيئا، الطبيعة التي مر عليها بشر والطبيعة التي مرت عليها أزمان والطبيعة التي كان فيها أنبياء وكان فيها قديسين وكان فيها عاهرات وكان فيها فسقة، هذه الطبيعة وهو يأكل هذا ويصبح جزءا من مفردات هذا الجسد وجزءا من مسامه ينتج شيئا ما، يعطيك شيئا ما وكثيرا ما يفعل الجسد أشياء لا ندركها في لحظتها لكن فيما بعد نحاول أن ندركها، أحيانا في نصوصي أفهم ذاتي وأفهم جسدي، أفهمها من خلال النصوص ،
لا أدركها قبل الكتابة وإنما أدركها حينما أجلس إلى النص أتأمل معه، ماذا فعل بيّ، ماذا قال عني هذا النص. دعيني أقول هنا أن هناك إشكالية عادة في موضوع كتابة الجسد والمرأة، أنتِ تعرفين هذا، وأنا أعترف أن هناك إشكالية، لأنه عادة حينما تكتب المرأة عن الجسد فهذا يعني أولا أنه خروج عن الأخلاق وكسر للطابوهات ووو إلخ ..
أنا من وجهة نظري أنه فعلا هناك الكثير من الشاعرات أو النساء اللواتي تكتبن الشعر يستخدمن هذا من باب لفت الانتباه ومن باب أنها الحرية المتاحة والتي من حقهن أن يقلن فيها ما يردن، أنا أرى أن الموضوع، ولا أدعي أنني وحدي، بل أكيد هناك أخريات مثلي ننظر من هذا الجانب أن هذا هو بوابة للروح، هذا الجسد هو بوابة للروح، لكي نصل إلى هذه الروح لا بد أن نعبر بهذه البوابة ، ولكي نعبر هذه البوابة لا بد أن نفهم جيدا أين يُوضع المفتاح وكيف نستخدم هذا المفتاح وكم مرة نُديره وهل على اليمين أم على الشمال، كل هذه المفردات يجب أن ندركها لكي ندخل من خلال هذا الجسد إلى الروح.
ولأني أفهم جسدي جيدا فأنا متصالحة معه جدا، جدا يعني لا أعتقد أنه يسيؤني أغلب الوقت، أحيانا يتمرد عليّ، طبعا، يعني هو يتبع شخص متمرد فبالتالي يأخذ منه التمرد أحيانا طبعا يتمرد عليّ ، بالتأكيد تمرد بالسلب أو بالإيجاب، ليس بالضرورة، لكن بشكل عام هناك حالة من التصالح نابعة من هذا الشخص لو لم أكن أفهمه لما كان هناك حالة من التصالح، وأنا اشتغلت على نفسي فعلا لكي أصل إلى هذه الحالة من التصالح والتناغم مع حالاته المتعددة والمتناقضة أحيانا والتعامل مع إحدى هذه الحالات وكأنها طفل مشاغب، أهدهده وأحاول أن أرضيه بما يريد وأحيانا أتعامل معه كطفل مشاغب لكن أقمعه وأقول لا لن تفعل كذا ولن أعطيك كذا وهكذا أتعامل معه بهذه الحالات التي أوصلتني فعلا إلى منطقة من هذا التصالح الجميل الذي أحسه
———————————-
صباح زوين / شاعرة ومترجمة وصحفية لبنانية
الجسد، وقد وضعته موضع القدسية منذ البداية، أعني بداية كتابتي الشعرية وحتى اليوم، هو محور كتابتي وأساسها. ولا أبالغ إن قلت إنه الأساس علما ًإني دائما ً أعلن أن كتابتي تتمحور حول أربعة مواضيع مركزية، ألا وهي الجسد واللغة والمكان والزمان. لكن لو تعمقنا قليلا ً في الموضوع، نلاحظ أن الجسد هو الأساس، هو مصدر تفكيري في الزمان والمكان واللغة. بل هو كل هذا
. فجسدي هو الذي يملي عليّ لغتي، ولو كان لي جسد مائع مثلا ً، أو بطيء، أو رخو، أو مترهل، أو سمين، أو بليد، أو مغناج، لكان إنعكس هذا الجسد بطبيعة الحال، بخصاله وطباعه، على أسطري وأحرفي ومفرداتي وأسلوبي في الكتابة. فما أكتبه يشبه جسدي الذي يشبه كذلك مكاني وزماني، تحديدا ًالمكان والزمان اللذين أكتبهما. فإحساسي بالوقت كما أراه، وإحساسي بالمكان كما يظهر لي، هو ما يتلقاه جسدي وما يمليه عليّ أثناء كتابة قصيدتي.
فلا يجوز لغيري أن يرى المكان كما أنا أراه من خلال طريقة تحركي في هذا المكان، وهذا التحرك هو جسدي الذي يقوم به، وسواي قد يقوم بتحرك مخالف ومغاير وعبر أحاسيس جدا ًمختلفة عن أحاسيسي أنا.هذا لأقول إن جسدي هو أكثر من حاضر ٍ في كتابتي، بل هو الكتابة برمتها في قصائدي إذ منه تنطلق الكلمة، ومنه الصورة تأتي، ومنه تنبع الكلمات المنتقاة وفيه تخضع هذه الأخيرة للغربلة والتصفية.
جسدي هو جسد الوقت وجسدي هو عربون مكانٍ. بل المكان هو جسدي، وحركته في الفضاء هو وقتي أنا، الوقت كله أعني. في هذا المعنى يصبح الجسد عندي ركيزة إبداعية من الدرجة الأولى.
ولو كنت روحا ًبلا جسد لما كتبت شيئا ًولما عرفت الدنيا كما أعرفها!
وجسدي يبدأ من اليد! هذه اليد العظيمة التي هي أساس الكون. اليد هي التي تلخص الحياة كلها. وما عدا اليد، تأخذ بقية الجسد مداها في شرايين الحبر والكلمات والصفحات، وهو جسدٌ بلا ملامح فجة، إنه جسد يقول الأشياء كلها إنما تلميحاً، وذلك لأن جسدي كما لغتي، لا يحب لا الظهور المباشر ولا القول المباشر.
إنه أسلوب الأناقة في الجسد الذي منح ذاته أسلوبا ًفي طريقة كتابتي. هذا الكيان المستقل عني والكائن بذاته ومن ذاته، وأنا أداته كما هو أداتي، هذا الكيان الذي إسمه جسدٌ، هو الذي رافق كتابتي الشعرية دائما وأبداً، ولكن ثمة مفارقة لطالما لازمت، ولا تزال، هذه الثنائية الكتابية التي دائما ًتناولتها كإشكالية حقيقية في معظم كتبي. وما أريد قوله، هو أن هذه الإشكالية تكمن في أن رغم قيام جسدي بالكتابة، فهو، وهكذا أراه ولا أرى سوى ذلك، هو يظل البريء تماما ً من إثم الكتابة، والأخيرة إثمٌ في نظري، هي خطأ وخطيئة، ولطالما قلت في قصائدي إن جسمي بريء من الفعل الكتابي وإن هذا الجسد جسدي نقي وطاهر من كل هذه الأحرف والألفاظ التي أخطها.
إنها مفارقة وهي تاليا ًتنمّ عن إشكالية أعيشها في الصميم، في العمق، في عمق جرح ٍ إسمه الكتابة وكيف التخلص منها من أجل براءة الجسد!. هذا هو تساؤلي الدائم، هذا ما يحثني جسدي على التساؤل حوله
—————————
!. ** ياسمينة صالح / روائية جزائرية مقيمة في كندا
دعيني أسألك، وأتساءل أمامك قبلاً عن ماهية الجسد الذي تطرحينه الآن في ملفك الشائك؟
بحيث أن تعريف الجسد ضمن النص الأدبي/ الروائي الراهن لا يخلو من تعريف جنسي، أي تعريف مادي للكلمة، وعلى هذا الأساس لا أعتقد أنني معنية كروائية بالجسد وفق الأطروحة المادية له، أي الأطروحة الجنسية البوهيمية، والتي كما ترين صارت القاسم المشترك بين العديد من الروايات التي يريد أصحابها تحقيق سباق المبيعات أكثر مما يريدون صناعة رواية حقيقية بمعنى الكلمة، إلى درجة أن ناقد سويسري بحجم الراحل “هوغو لوتشر” كتب أن الرواية العربية الآتية من الدول المحافظة تبدو وكأنها تكتشف جغرافية الجنس على حساب الإبداع،
وهذه هي أطروحة الجسد من زاويتها المادية التي لا أشعر أنني معنية بها كروائية، على إعتبار أن أهمية الجسد يجب أن تصنع ذات القيمة التي يمكن أن ندافع عنها جميعنا، ولا أعني بها سوى قيمة الإبداع الإنساني الذي سيبقى مثلما بقي الإبداع الإنساني العالمي على مر السنين..
كينونة الحياة عرفت الكثير من الكتّاب الذين تعاطوا قبلا مع الجسد تعاطيا ماديا، ولكن قلة منهم تحتفظ الذاكرة بأسمائهم، هذا لأن قيمة الإبداع مرتبط بقيمة الإنسان التي تتجاوز في نظري إشكالية الجسد بكثير. تسألينني عن نظرتي الذاتية لثنائية الجسد والكتابة؟ أوصار الجسد هو الذي يصنع النص؟
أعتقد أن من المهاترات الراهنة القول أن النص الإباحي هو النص الإبداعي، وهذه سخرية غير منطقية شجعتها دور النشر التي تساهم اليوم في إقناع الكاتب والقارئ معا أن الرواية الجيدة لا بد أن تكون رواية إباحية جنسية ولو في العنوان، لأجل مكاسب مادية فقط، بمعنى أن صناعة النص الجسدي الإيحائي جنسيا هو لأجل مكاسب مادية لا أكثر ولا أقل، وهي تجربة عرفها الأدب في السبعينات من القرن الماضي سرعان ما تجاوزتها الأحداث الإنسانية الأهم المرتبطة بالحرية الإنسانية، كحرية الوطن، والأرض، وأظن أن الكتابة العربية في بعض حالاتها تبدو وكأنها تكرر نفسها بإعادة مصطلحات قديمة إلى السطح والخوض فيها كجعل المرأة مجرد أداة جنسية (جسد) في السرير فقط…الخ…
بإختصار إن جعل الجسد بوابة للثورة أو لمناهضة التراكمات التاريخية والسياسية سقط في أغلب الأحيان في “الارتزاق الإباحي” الذي ربما خدم الكاتب والناشر ماديا، لكنه لم يخدم النص الأدبي بمعناه المطلق. **
————————————–
ماجدولين الرفاعي/ كاتبة وصحفية سورية ومديرة دار تالة للنشر
عندما تبدأ الكلمات بالتشكل والتكون في خلايا عقلي لا أتدخل مطلقا ولا أحدد مساراتها واختياراتها في الكتابة عن الروح أو عن الجسد إذ لم أفكر يوما الفصل بينهما لأن قناعتي بأن الروح لا تحيا من غير جسد ولا الجسد يحيا من غير روح وأعتبر أن الإحتفاء بالجسد على حساب الروح يخل بمعادلة الحياة وثنائية الروح والجسد والعكس صحيح، وفي الحقيقة أميل في كتابتي إلى الوجداني أكثر مما أميل إلى المادي المفرغ من روحانيته بعيدا عن الإيحاء والإيماء وعدم ترك الحرية للقارئ كيما يرتب الصور ويتمتع ببنائها على هواه، .
إن الكتابة المباشرة عن الجسد تصبح ممجوجة وتضيع على القارئ متعته في التداعي وخلق الحالات الخاصة به التي يستوحيها من الإشارة، ففي سردية لي بعنوان (رجل بنكهة القهوة) فتحت بابا صوب الجسد دون الولوج:
“ترى هل من الممكن أن ألتقي بك مجددا كي أعانقك وأشم رائحة عطرك وأتذوق طعم الرغبة فوق شفاهك الشهية”.
إن هذا المقطع مثلا يشير بطريقة متوارية للرغبة في الاحتفاء بالجسد الذي تشير إليه أصابع الروح المغلفة بالحب الذي أعتقد جازمة أن الجسد يموت ويضمر إن غادرته تلك الروح العاشقة المعشوقة، وأعترف إنني أحتفي في كتابتي بالجسد في بعض الأحيان ولكن بطريقة أعتبرها مهذبة إذ لا أعترف بالإيروسي والكتابة الجنسية المباشرة التي تصف الجسد بتفاصيله بطريقة فجة تصل حد قلة التهذيب بل وتعمل على تخليصه من الروح .
وهنا أيضا في إحدى سردياتي ألامس الجسد وأقترب من الإيحاء الواضح:
“جلست أمامك وثمة شعور خفي ينتابني برهبة هذا الوجود الباذخ مع رجل يمتلك كل (المفاتيح) التي يفك بها أبواب عالم المرأة، ويكسر قيد جسدها”.
وباختصار شديد أحتفي بالجسد عن طريق فك رموزه وشيفرته السرية بالكتابة عن الروح التي تتحد مع الجسد فيما بعد ويرقصان معا تحت ظلال كتابتي الإبداعية. **
—————————-
سهيلة بورزق /شاعرة وكاتبة جزائرية مقيمة في واشنطن
ربّما أكون بحاجة إلى وقت أطول من عمري لكي أجيب على مثل هذا السؤال الذكي، وقت يتسع للتحليق في معيار القيمة الأدبية والفلسفية التي يتجمّل بهما الجسد في النّص. هل هو السؤال الأوّل القادر على تحقيق صيغة الترابط بين الإنسان وذاته؟ جوابي نعم، فالجسد هو الرأس الذي يحرّك باقي القيم مجتمعة وهو السلطة التي تتحقق فيها الإنسانية. نحتفي بالجسد في النّص بالصورة التي نرى فيها أنفسنا، سيعاتبني البعض ممن يعتبرون أجسادهم محرّك أتوماتيكي أو جماد يشعر ويمارس طبيعته ويحب ويكره بزر في حين هو في غاية الألوهية هو كيان مطلق يرفعنا إلى مصاف الإنسان الذي يجيد العقل والتّحكم في مشاعر قيمه وحركته وشهوته بقوة القلب والعقل معا.
قلت سيعاتبني من لا يفهمون أن أجسادهم تمتلك قوة روحية وجنسية نحن بحاجة لهما لتمكين الذات من الرّقي بإحساسها وقدرتها على صنعنا وتحفيزنا على المضي في الحياة.
الجسد روح الفن العاري الذي يرى الجمال في صمته وصوته وجوعه وعشقه.
لن أكرّر أن الرّجل الكاتب من حقه أن يكتب عن جسده كما يرى ويستمتع ويتلذذ ومن حقه أن تدخل نصوصه الجنسية الجامعات حتى تدرّس للطلاب على أنها قيمة أدبية كبيرة وعلى العالم كلّه الاحتفاء بها كنبراس علمي نحن بحاجة إلى مثله في وقت صعب علينا فيه الحديث عن أجسادنا بلغة أدبية راقية في حين عندما تكتب المرأة الكاتبة نصا جسديا تنهال عليها التّهم وتوصف بالداعرة والفاسقة والخارجة عن قانون الدين والأخلاق ويسجّل إسمها على أنه أخطر من سلاح الدمار الشامل ويقاطعها البعض من أئمة الأدب والكتابة والأخلاق وتعدو المسكينة مثلها مثل الهاربة من الموت إلى الموت . وما بينهما يعلمه أصحاب النفوس المريضة والمتخلفة الذين ينامون على الجنس ولا يستيقظون منه أبدا ورغم ذلك يدّعون الأخلاق وأجسادهم متسخة بجرم النفاق.
ثم إن الجسد ليس بحاجة إلى كتابة رجالية فقط لتمكينه من التّحرر من مفاهيمنا العتيقة عنه، بيد أن الكاتبات العربيات اللواتي كتبن عنه وصفنه بوجع أكثر لأن الجسد في الأنثى موجوع ومتصدع وهارب من نفسه إلى نفسه لكن الكتابة الجسدية عند الكاتب الرّجل لا تعدو أن تكون فضفضة ذكورية لأنّها بلا ألم ولا خوف ولا تهمة ولا جريمة.
لقد كتبت عن الجسد كعقدة تشتتنا لكي تترك فينا أثرا مدويا يحدث بدواخلنا خللا ما ينتقل عن طرق الوراثة ربما من جيل إلى آخر ذلك لأنّ ثقافتنا العربية لا تسمح بالوصول إلى منتهى السؤال الذي نجيد طرحه بخوف وخجل لكن لا نكتبه في نص يقولب فينا مداه. كان دائما يلازمني سؤال الفطرة عن ماهية جسدي ومنذ الطفولة إكتشفت أن على جسدي أن يحاصرني وأحاصره وأعيش في ظله مرعوبة من جنونه وشهوته.
أعتقد أنّ الجسد ليس بحاجة إلى اعترافنا بجماله لأنّنا نحن من نسكنه ونحن من نتعذب فيه. ومن المؤكد أن الكتابة عن أجسادنا لا تنتهي في قصة قصيرة أو حتى في رواية متسلسلة الأجزاء لأنّ العنصر فيها متجدد باٍختلاف مفهومها لدى الأجيال اللاحقة وعليه لا يمكن الجزم بنهاية الكتابة الجسدية اليوم أوغدا وشخصيا لست ممن يتمنون ذلك من باب تحرير النفس البشرية من عقدة الأنا في النّص.
وأحب أن أضيف أن هناك فرق كبير بين الدعارة النّصية التي يكتبها البعض من باب المتعة والتي تكون عادة بلا إطار لغوي جمالي يحميها من السقوط في المباشرتية العقيمة التي لا تكبح شر النفس في النص وبالتالي تتحوّل إلى قطعة فنية رديئة لا تغني ثقافتنا المهتزة والفقيرة جدا وبين النّص الآخر الذي يقول الجسد بلغة راقية تحتمل النقاش والتحليل والدراسة.
أجسادنا اليوم منهكة بالفجور الذي لا يليق بجمالها، نحن بحاجة إلى نصوص تقولنا على ضوء أنثى لا تحترق دائما كشمعة
——————————
**سمر دياب / شاعرة لبنانية مقيمة في اسبانيا
يبدو دائما هذا السؤال وكأنه المفتاح الوحيد للتلصص على العوالم الداخلية للشاعرة أو الكاتبة، في حين أنه شبه معدوم فيما يتعلق بالرجل الكاتب أو الشاعر، وكأن المرأة وحدها من تملك جسدا والباقي كائنات هلامية منزّهة عن هذه *الورطة*، لا أتعامل مع الجسد على أنه تهمة وجب التملص منها، لكنه أيضا ليس امتيازا لأحتفي بإقحامه في كل شاردة وواردة، الجسد الوحيد الذي أحتفي به في الكتابة هو جسد الخيال، ذاك الذي ينزّ وينزف ويرتعش ويفضح صخبه وجنونه على الملأ.
من الصعوبة بمكان أن أتحدث عن وهج الجسد في نصوصي لأني لا أملك نصّا يتحدث عنه ككائن مستقل في القصيدة، ليس تملصا ً من تهم جاهزة تلصق بكل من تجرأت وكتبت سطرا ًعن الجسد، لكن خرابا ًمستعصيا ًيقبع دائما في مخيلتي السوداوية يجعلني أشفق على هذا الجسد إن حدث وقرر يوما الهبوط إلى أرض الشعر،الكتابة عن الجسد بسياق السؤال المطروح يستوجب شاعرة أنثى، الأنثى في داخلي في برجها العاجي لا تحاول حتى استراق النظر إلى الكائن الشعري العجائبي الذي يقطن في جوارها أيضا، هذا الكائن لا يملك جسدا ليكتب عنه، جلّ ما يملكه هو عين ترقب بفزع ما يحدث في الكون وبالتالي تغدو الكتابة عن الجسد وحقّه وجماليته ترفا ً لا أطاله.
لا أرى أن هناك من ثنائية قائمة بين الجسد والكتابة، هناك ثنائية بالضرورة بين الحواس والكتابة، بدءا من الحاسة الأولى وحتى السادسة والعاشرة، الكتابة ليست العين بقدر ما هي الرؤيا، وليست اليد التي تخط الأحرف بقدر ما هي تلك الحاسة الخافية التي راكمت رؤى خفية أخرى أوعزت للإبداع أن يتحرك. الجسد جميل في خطابه الشعري، لاشك في ذلك، وهو معطى إبداعي فعلا، لكنه ليس أيقونة شعرية أنثوية مقدسة، والاحتفاء به ليس حكرا على تعميم جماليته، قد أكتب عن جسد قبيح،عن جسد ميت أو مشوه وأجد أني صعدت بهذا الجسد إلى مصاف الشعر الخالص. حين ينفصل الجسد عن فلسفته الوجودية ليغدو مجرد آلة تحتكم لمقاييس حسّية محددة تعمي عين الآخر عن وهجه الماورائي الغامض فهذا ضرب من ضروب البلاهة الشعرية، تسطيح مصطلح ودلالة الجسد في الكتابة ليتواءم مع رغبة عمومية ساذجة تكاد تكون مفروضة فرضا لا واعيا على المرأة الكاتبة، فهذا أمر يدعو لوقفة تفكّر قليلا.
———————————–
**جاكلين سلام/ شاعرة وكاتبة سورية كندية مقيمة في كندا
الحديث عن الجسد لا يعني البتة الحديث عن الجانب الجنسي من الجسد. كتابة الجسد لا تعني لي الكتابة الإيروتيكية واستعار الرغبة الجنسية وانطفائها. لأن الجسد كيان، يدان ، ساقان، قدمان، أصابع، عيان، آذنان، رأس وما يسكن داخله. وهذا الكيان ليس بمعزل عن المحمول الإجتماعي والسياسي والديني والبيئي. وإذا كان الجسد في نظري بيت، فهو كيان كامل منفتح العالم و واقع تحت منظومة متغيرات خارجية. وكالبيت تغزوه عواصف الشتاء، يمر به الربيع والخريف. الجسد ليس غرفة مغلقة وسرير أحمر نتلصص عليه من ثقب الباب.
الجسد ليس الشباب الدائم والجمال المتألق وما تفعله فيه عمليات التجميل. الجسد دورة ما بين الطفولة والشباب والشيخوخة. وحين أنظر إلى جسدي بهذه الصورة أعتقد أنني عايشت هذه الأعضاء التي تشكل الجسد والفلسفة التي تقمعه أو تدعي تحريره. تطرقت إلى أجسادنا الاجتماعية والسياسية، المقموعة والحرة والملتبسة. كتبت عن أصابعي وهي تصافح، وهي تلوح بالوداع. كتبت عن القدم والحذاء والكعب العالي وارتباط هذا بحدود الحرية.
وعن جسدي الغارق في معاطف الشتاء، في غربة العالم. كتبت عن شَعري الذي ظهر فيه بعض البياض ، وكتبت بحنان عن التجاعيد التي خلفها الدهر حول عيني وعلى محيط خصري. لست مشغولة بكتابة الشبق. جسدي يكون أكثر حرّية حين أحرره من الكتابة عنه بصراخ يخلو من القيمة الإبداعية. تجاوزت الأربعين قليلاً ولم أجد لدي أي رغبة في الكتابة الإيروتيكية، ونادراً ما قرأت نصوصاً على الصعيد العالمي أو العربي تقترب كلاماً ما يمارسه الجسد من إبداع بلغته الحسية الخاصة. هذا ما أرى الآن وحتى إشعار آخر من دورة أيامي على هذه الأرض. ولست أعاني من رقابة أخلاقية أو عائلية أو مجتمعية.
لم أصل بجسدي إلى أي مكان، أخذني جسدي إلى الهاوية وإلى آخر العالم. رافقني جسدي كله في نشوة الحب، في ألم الولادة، في متعة الرضاعة، في خسارات الحبّ، نعم الحبّ، الحزن والمنفى.
ثمة في الشرق من يدّعون أنهم سباقون إلى تحرير الجسد ولم يفعلوا في الواقع سوى قصقصة الأعضاء وتفريغها من كينونتها الكبرى.
يدهشني أن أرى غلافاً لمجلة تدعي تثوير الجسد وإطلاق عقاله من القمع وأشكال التابوهات، لكنها تضع على الغلاف صورة امرأة بلا رأس، أو يكون الغلاف منطقة الجنس أو “العورة” مبتورة عن كل شيء.
هذه الخصخصة ليست إلا بتراً للكيان الكلي الإنساني وتصغيراً لدورته الخصبة. فأين وصلنا بثقافة الجسد المكتمل، الحرّ والمبجّل في غيابه وحضوره!.
———————————–
** فاطمة بنيس / شاعرة مغربية
عندما تدفقت مشاعري وصارت لغة قادرة على البوح عدتُ للجسد كمنبع صادق للكتابة. علاقتي بالجسد كانت ملتبسة ويكتنفها الغموض في ظل الإزدواجية التي يفرضها النفاق الاجتماعي، الآن وبفضل الكتابة انكشفتْ عندما بتُّ أحتفي بالجسد وأستحضره مرجعا خصبا لمخيّلتي الأدبيّة.
أن أكشف عن رغباتي..عن مكامن ضعفي وقوتي…عن تاريخي الأنثوي، أن أقارب الطابوهات دون إكتراث بالعواقب التي قد تنجم عن هذا التجاوز، إنها جرأة إبداعية من خلالها إستعاد الجسد حقوقه الرمزية وإحساسه الجماليّ بالحياة، هذا التصالح مع النفس ما كان بالإمكان أن يكون إلا عبر الكتابة ككائن حيّ استطاع أن يجتثَّ الذات من عتمة الصمت ويعيد لها وجودها إنطلاقا من المراحل التي عشتها بدءً من الوأد الرمزي مرورا بالثورة الروحية إلى الصحوة الجسدية تعمّقت نظرتي لثنائية الكتابة والجسد، فمثلما لليل نهار وللشمس قمر، أيضا للكتابة جسد يتوهّج بقدر ما أحسنتْ الذاتُ الكاتبة التعامل معه، بالنسبة لي لا جسدَ لي من غير الكتابة ولا كتابة لي من غير حضور الجسد..
الجسد كقضية يتلاحم فيها الذاتي بالموضوعي وليس كإتجاه إيروتيكي بمعزل عن القضايا الكبرى.
الجسد كوطن شاهد على انهزامي وعلى انتصاري.
أعتقد أنَّ ثنائية الكتابة والجسد هي الجواز الذي عبرت به إلى موطن ذاتي وأعلنت هويتي الأنثوية دون خجل .
———————————
** فرات إسبر/ شاعرة سورية مقيمة في نيوزيلندا
الجسد عبر التاريخ مهزوم ومعتقل. على الرجال “أن يغضوا أبصارهم” وعلى النساء “أن لا يضربن بأرجلهن” هذه الأوامر عمقت في غياب الجسد كظاهرة، هي روحية أكثر مما هي مادية.
الجسد طائرٌ يحتاج للطيران. طائر بلا أجنحة لا يمكن أن يعلو. هذا العلو يتجسد في صفاء الجسد وبراءته !.
ننظر إلى الجسد كحرام وعورة وعلى النساء “أن يلقين بجلابيبهن”. هذا الجلباب تحدث من تحته البراكين الثائرة ولا أحد يقف في طريقها طبعا “خفية”.
الكتابة نوع من ممارسة الحرية: إطلاق الجسد كطائر ضرورة، نعلمه الطيران والسمو، ولا نريد به السقوط..بعض الكتاب جعلوا من الجسد نهر من رذيلة تسبح فيه المرأة ولا تخرج منه، وأيضا القارئ لم يرحم الكاتب، أسقط عليه ما ليس به.. وخاصة الكاتبات العربيات يتعرضن للكثير من الإساءة عندما يتحدثن عن الجنس بصراحة. الجسد بدون الجنس لا معنى له، فهو معتقل وأسير، تضعف قواه ويهزل ويمرض.. ولا يجيد التحليق عاليا.
كلنا نحب أجسادنا ونتطلع إليها في المرايا خفية. جسد المرأة بدون جسد الرجل لا معنى له وبالمقابل جسده لا معنى له، فهو أيضا يحتاج جسد المرأة في علاقة إنسانية تصفو بالأجساد وترفعها كروح تحلق في الأعالي، وهذا ما نريده أن يتجلى في الأدب بكل أجناسه. أخاف أن أظهر جسدي بالكتابة، مع أنني أفهم هذه العلاقة الصافية التي تربطني به، أفهم ما أريد وما هو يريد ولكنني أخاف..! بيتنا بجانب الشاطئ وكبرنا أمام البحر ولكنني لا أجيد السباحة وأخاف لأنه كان من العيب أن تسبح البنت وتعرض جسدها أمام الرجال، السباحة مقصورة على الرجال، والنساء.لا…لا… عيب !.
بالنسبة لي التعبير عن الجسد كفضاء أتعامل معه يخضع لكثير من المجاز وأيضا للخيال فما يكتب عن الجسد في الرواية لا يمكن كتابته في الشعر، في الرواية يمكن أن نسرد أجسادنا وحكاياها ولكن في الشعر لا نستطيع سوى التلميح، هكذا نخطف الصور من أجسادنا ونعلقها في صدر القصائد ونبقى دائما تحت خوف مسيطر من الآخر الذي يترقبنا ويعد أنفاسنا.
أجسادنا معتقلة وغائبة، منفية عن الضوء والهواء والحب، علينا أن نفهم الجسد كعلاقة حياة، لا كعلاقة خوف وقلق ، هو جزء من هذه الطبيعة ويحتاج إليها ، يحتاج إلى الضوء والشمس والهواء والعطر، فكلما أخذ حقه، يتحرر ويعلن عن وجوده في هذا الفضاء المزدحم بالأجساد الخائفة والأرواح السجينة
—————-
. ** رانة نزال / شاعرة أردنية
الجسد/ التابوه نقطة الحكاك المركزية في الحياة به التقاطع مع الآخرين وأرى إنعكاسي فيهم، ومن خلاله تجسدت مواقفي تجاه الوجود مواقفي في أفعالها المنبثقة عن وعي أو في لاوعيها المترجم في ردّ فعل، هو الثالوث من حيث هو البؤرة التفاعلية التي تنقل المعلومات إلى عقلي وتعكس الانفعالات من روحي، وبكل وضوح وباختصار شديد علاقتي به علاقة كلّ فتاة عربية ضالة ومضللة وفاقدة لهذا المركز الرئيسي في حياتها محتقرة له، ومعقدة منه وبسببه، وما كتابتي بكل تداعياتها إلا انعكاس لقلة تقدير الذات الناجم عن احتقارها بسبب جسدي كأنثى والمحمل بأضغان أمي وأحقاد أبي وعار القبيلة،
كلما إزددت وعياً كلما أدركت فداحة المصاب وخيبتي مني، لأني خذلتني أمام طبوغرافية جسدي وصرت أكرهني بسبب من مرآيا الآخرين/ الأغيار الأغراب الذين غربوني عني ومني بسبب جسدي.
فكانت قطيعتي واغترابي الفادحين ولا ذنب لي، وهذا ما جناه أبي وما جنيت على أحد
———————————
. ** فاتنة الغرة / شاعرة فلسطينية مقيمة في القاهرة
طبعا حين نتحدث عن الجسد نحاول أن نفهم ذواتنا من خلال هذا الجسد هو يختزل كل شيء، يختزل طباعنا، يختزل تناقضاتنا، يختزل كفرنا وإيماننا، يختزل عبثيتنا وجديتنا. يختزل مجوننا وقداستنا، آثامنا وطهارتنا، يعني يختزل كل هذه المتناقضات في هذا الجسد، الجسد الذي أحيانا يخونك وأحيانا يقودك إلى ما لا تستطيعين فهمه وأحيانا يبدو عاجزا وأحيانا يبدو بليدا، وأحيانا يبدو نارا متقدة وأحيانا..وأحيانا..
كل هذه المعطيات إن لم تفهميها لا تستطيعي الوصول إلى فهم روحك، هما الإثنين بالنسبة لي كالعملة التي بوجهين، هما يشكلان فعلا عملة بوجهين، انطلاقي من هذا الجانب في محاولة فهم كل شيء من خلال هذا الجسد، هذا الجسد الذي حينما يأكل، يأكل من الطبيعة شيء فبالتالي هذه الطبيعة تشكل فيه شيئا، الطبيعة التي مر عليها بشر والطبيعة التي مرت عليها أزمان والطبيعة التي كان فيها أنبياء وكان فيها قديسين وكان فيها عاهرات وكان فيها فسقة، هذه الطبيعة وهو يأكل هذا ويصبح جزءا من مفردات هذا الجسد وجزءا من مسامه ينتج شيئا ما، يعطيك شيئا ما وكثيرا ما يفعل الجسد أشياء لا ندركها في لحظتها لكن فيما بعد نحاول أن ندركها، أحيانا في نصوصي أفهم ذاتي وأفهم جسدي، أفهمها من خلال النصوص ،
لا أدركها قبل الكتابة وإنما أدركها حينما أجلس إلى النص أتأمل معه، ماذا فعل بيّ، ماذا قال عني هذا النص. دعيني أقول هنا أن هناك إشكالية عادة في موضوع كتابة الجسد والمرأة، أنتِ تعرفين هذا، وأنا أعترف أن هناك إشكالية، لأنه عادة حينما تكتب المرأة عن الجسد فهذا يعني أولا أنه خروج عن الأخلاق وكسر للطابوهات ووو إلخ ..
أنا من وجهة نظري أنه فعلا هناك الكثير من الشاعرات أو النساء اللواتي تكتبن الشعر يستخدمن هذا من باب لفت الانتباه ومن باب أنها الحرية المتاحة والتي من حقهن أن يقلن فيها ما يردن، أنا أرى أن الموضوع، ولا أدعي أنني وحدي، بل أكيد هناك أخريات مثلي ننظر من هذا الجانب أن هذا هو بوابة للروح، هذا الجسد هو بوابة للروح، لكي نصل إلى هذه الروح لا بد أن نعبر بهذه البوابة ، ولكي نعبر هذه البوابة لا بد أن نفهم جيدا أين يُوضع المفتاح وكيف نستخدم هذا المفتاح وكم مرة نُديره وهل على اليمين أم على الشمال، كل هذه المفردات يجب أن ندركها لكي ندخل من خلال هذا الجسد إلى الروح.
ولأني أفهم جسدي جيدا فأنا متصالحة معه جدا، جدا يعني لا أعتقد أنه يسيؤني أغلب الوقت، أحيانا يتمرد عليّ، طبعا، يعني هو يتبع شخص متمرد فبالتالي يأخذ منه التمرد أحيانا طبعا يتمرد عليّ ، بالتأكيد تمرد بالسلب أو بالإيجاب، ليس بالضرورة، لكن بشكل عام هناك حالة من التصالح نابعة من هذا الشخص لو لم أكن أفهمه لما كان هناك حالة من التصالح، وأنا اشتغلت على نفسي فعلا لكي أصل إلى هذه الحالة من التصالح والتناغم مع حالاته المتعددة والمتناقضة أحيانا والتعامل مع إحدى هذه الحالات وكأنها طفل مشاغب، أهدهده وأحاول أن أرضيه بما يريد وأحيانا أتعامل معه كطفل مشاغب لكن أقمعه وأقول لا لن تفعل كذا ولن أعطيك كذا وهكذا أتعامل معه بهذه الحالات التي أوصلتني فعلا إلى منطقة من هذا التصالح الجميل الذي أحسه