نقوس المهدي
كاتب
في أصول التقبيل...
"إذا وقعت القبل بين المتحابين، ووصلت بلّة من ريق كل منها إلى معدةِ الآخر، اختلط ذلك بجميع البدن ووصل إلى جُرم الكبد، وهكذا إذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه، فإنه يخرج مع ذلك النفس شيئاً من نسيم كل واحد منهما فيختلط بأجزاء الهواء، فإذا استنشقا من ذلك الهواء دخل في الخياشيم، ووصل بعضه إلى الدماغ فسرى فيه كسريان النور في جرم البلور، ووصل بعضه إلى جُرم الرئة ثم إلى القلب، فيدب في العروق الضوارب في جميع البدن، فينعقد من بدن هذا ما تحلل من بدن هذا، فيصير مزاجاً به يتولد العشق وينمى".
أراهن أن لا أحد يعرف مصدر هذه الكلمات يمكن أن يتوقع أنها خرجت من فقيه حنبلي له مصنفات دينية كثيرة، هو الإمام أبو فرج الجوزي. ربما سيخمن بعض المتذاكين -بسبب اللغة العتيقة بالتأكيد- أنه نص تراثي، لشاعر "خليع".
أي فقيهٍ هذا الذي يصف القبلة الفرنسية؟ ونحن في وقت اقتطعت فيه جملة من أغنية "بمبي" لسعاد حسني، وأغنية ياما القمر ع الباب لفايزة أحمد؛ لأسباب "جنسية!!" (غالباً ما سيكون بسبب عبارة "ياما القمر عطشان وحد م الجيران وصف له قُلّتنا"، والقلة مستديرة ومتماسكة كالمؤخرات). بل إن هذا الفقيه المحدث الحنبلي لا يتحدث عن القبلة إلا كشيء مرتبط بالعشق، الذي هو بحسب التعريف اللغوي: فرط الحب أي كثرته.
رشفة حب
كانت صدمتي هائلة، حين قرأت كلام الإمام الجوزي في معرض دراستي الفقهية الصارمة، الخالية من المشاعر. ياجماعة هذا فقيه، كيف لا تكون كتابته متجهمة مثل وجوه معلمي المدرسة؟ هذا أمر غير معتاد.
حتى تتوالى الصدمات الواحدة تلو الأخرى: الحب من الموضوعات الأثيرة عند أهل الفقه عموماً، بل إن بعضهم ألّف كتباً فيه، مثل الإمام ابن حزم الظاهري "طوق الحمامة في الألفة والألاف". كنت في بواكير مراهقتي، أكبح جموحي العاطفي تجاه أي أنثى عابرة (لم أر إناثاً بالضبط في هذه المرحلة بل خيالاتهنّ، وكان يكفيني..).
الجوزي وابن حزم فجّرا مشاعري، صرتُ "أحب على روحي" كما نقول في الدارجة المصرية، حتى أنني قررت قراراً خطيراً - وكنت أحاول أن أكتب الشعر في هذه المرحلة- وتحولت إلى كتابة القصائد العاطفية:
حبيبة قلبي نور الحياة = وبهجة عمري وبدر البدور
لماذا تخافين مني تعالي = لقلب محب وجسد نضير
وروي شفاهي برشفة حب = كري العطاشا لماء الغدير
لسوء حظي، وقعت الأبيات الساذجة السابقة في يد معلم، قرّر معاقبتي بشدة على هذه "الصفاقة". كنتُ أريد أن أقول للمعلم الأحمق: "ياعزيزي أنا أتخيل حبيبة، ثم إن "روي شفاهي" أهون كثيراً مما قاله الجوزي". لكنني لم أقل.
**
العشق؟
تحضرني - بعد هذه التقديمة الطويلة - الكلمات الأكثر عبثاً في مسيرة أم كلثوم: "العيب فيكم يا في حبايبكم.. أما الحب يا روحي عليه". العيب ليس من الحب نفسه إذن بل فينا أو في أحبابنا.
أما الحب "ياروحي عليه" هو النقي الخالص المنزّه عن عيوبنا. لكن ما هو الحب؟. يحاول ابن حزم أن يجيب على هذا السؤال في فصل كامل عن ماهية الحب، لكن المسكين أيضاً وقع في سرد الأعراض وما يعتري المحب. هو أيضاً يحوم حول الشيء ولا يمسك معناه. فيما يبدو أن المعنى صعب التقاطه أو تعريفه.
أعرف إنني قِسْتُ الأعراض التي تحدث عنها الإمام الأندلسي، فوجدتني أطابق الكثير منها. كان هذا وقت دخولي الجامعة، بكل الحمولة السينمائية والتلفزيونية لحياة الجامعة (الكائن الحي الذي يعيش ويتنفس ويتغذى على الحب)، فوقعت في غرام أول بنت جميلة قالت لي "صباح الخير"، ثم سرعان ما نسيتها إلى "صباح الخير" جديدة، حتى انهرتُ تماما أمام "ازيّك ياأحمد".
كنت أجدد محبتي كل يوم، والقصائد تتوالى، كل قصيدة وسادة خالية تنام إلى جانبي وأغني لها "أنا لك على طول خليك ليا".. حتى صارت "ريم". ظهرت في ليلة معتدلة كمشيتها، فتجمّد الزمن. نسيت ابن حزم وقصائدي والأغاني والمسلسلات والأفلام، وكل الميراث، وصرت عارياً إلا من ارتباكي وصورتها في رأسي كلعنة. حتى إنني لما بدأت -بعد فترة- أكتب عنها ولها قلت "أنت يا ريم يقيني" هكذا فقط.
ومثل معظم الحب الجامعي، انتهت كما بدأت، "بلا ولا شي"، فكرتُ في الانتحار، وبكيت لأيام وليالٍ متتالية، وكرهت نفسي وحظي، وقررت ألا أوقع نفسي في هذا الملحمة ثانية. قلت خلاص تكفيني مرة.
**
وصل وبناء
هل الحب مجرد انجذاب؟ هذا السؤال تنويعة مراوغة لماهية الحب، كلما حاولت إجابته أستعين بالتراث، أو بترداد الأغاني، أو أحكي حكاياتي التي مر الجميع بها. الان باديو في حواره مع نيكولا ترونج (الذي صار كتاباً وترجم إلى العربية بعنوان "في مدح الحب") يقول: إنه إعادة ابتكار للحياة، وليس ببساطة عن لقاء شخصين وعلاقتهما الداخلية: إنه بناء؛ حياة تُصنع، لم تعد من منظور واحد منذ تلك اللحظة، بل من منظور اثنين.
ربما يحاول أن يقول أن "الانجذاب" هذا قد يكون مرحلة البداية، وعلى الواحد منا أن يستسلم للجاذبية كيف يبني علاقة لاثنين. لكن هل إذا ما تمت مقاومة هذا الانجذاب، يأمن الإنسان على نفسه من الحب؟ أيضاً إجابته صعبة.
بعد كل هذه التعقيدات والأسئلة دون إجابات، يبقى الجسد أكثر وضوحاً، إلا إذا ارتبط بالحب، فالعلاقة الجسدية واضحة المقاصد والأغراض. لكن إن تسللت إليها المشاعر، أو تسللت هي إلى المشاعر "تتويجاً لها" صارت الأمور مركبة. يحضرني في ذلك "التحرير" اللطيف الذي قام به أحد الأصدقاء لأغنية "عاشق الروح" لمحمد عبد الوهاب:”وعشق الروح مالوش آخر.. لكن عشق الجسد "كافي!”
"إذا وقعت القبل بين المتحابين، ووصلت بلّة من ريق كل منها إلى معدةِ الآخر، اختلط ذلك بجميع البدن ووصل إلى جُرم الكبد، وهكذا إذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه، فإنه يخرج مع ذلك النفس شيئاً من نسيم كل واحد منهما فيختلط بأجزاء الهواء، فإذا استنشقا من ذلك الهواء دخل في الخياشيم، ووصل بعضه إلى الدماغ فسرى فيه كسريان النور في جرم البلور، ووصل بعضه إلى جُرم الرئة ثم إلى القلب، فيدب في العروق الضوارب في جميع البدن، فينعقد من بدن هذا ما تحلل من بدن هذا، فيصير مزاجاً به يتولد العشق وينمى".
أراهن أن لا أحد يعرف مصدر هذه الكلمات يمكن أن يتوقع أنها خرجت من فقيه حنبلي له مصنفات دينية كثيرة، هو الإمام أبو فرج الجوزي. ربما سيخمن بعض المتذاكين -بسبب اللغة العتيقة بالتأكيد- أنه نص تراثي، لشاعر "خليع".
أي فقيهٍ هذا الذي يصف القبلة الفرنسية؟ ونحن في وقت اقتطعت فيه جملة من أغنية "بمبي" لسعاد حسني، وأغنية ياما القمر ع الباب لفايزة أحمد؛ لأسباب "جنسية!!" (غالباً ما سيكون بسبب عبارة "ياما القمر عطشان وحد م الجيران وصف له قُلّتنا"، والقلة مستديرة ومتماسكة كالمؤخرات). بل إن هذا الفقيه المحدث الحنبلي لا يتحدث عن القبلة إلا كشيء مرتبط بالعشق، الذي هو بحسب التعريف اللغوي: فرط الحب أي كثرته.
رشفة حب
كانت صدمتي هائلة، حين قرأت كلام الإمام الجوزي في معرض دراستي الفقهية الصارمة، الخالية من المشاعر. ياجماعة هذا فقيه، كيف لا تكون كتابته متجهمة مثل وجوه معلمي المدرسة؟ هذا أمر غير معتاد.
حتى تتوالى الصدمات الواحدة تلو الأخرى: الحب من الموضوعات الأثيرة عند أهل الفقه عموماً، بل إن بعضهم ألّف كتباً فيه، مثل الإمام ابن حزم الظاهري "طوق الحمامة في الألفة والألاف". كنت في بواكير مراهقتي، أكبح جموحي العاطفي تجاه أي أنثى عابرة (لم أر إناثاً بالضبط في هذه المرحلة بل خيالاتهنّ، وكان يكفيني..).
الجوزي وابن حزم فجّرا مشاعري، صرتُ "أحب على روحي" كما نقول في الدارجة المصرية، حتى أنني قررت قراراً خطيراً - وكنت أحاول أن أكتب الشعر في هذه المرحلة- وتحولت إلى كتابة القصائد العاطفية:
حبيبة قلبي نور الحياة = وبهجة عمري وبدر البدور
لماذا تخافين مني تعالي = لقلب محب وجسد نضير
وروي شفاهي برشفة حب = كري العطاشا لماء الغدير
لسوء حظي، وقعت الأبيات الساذجة السابقة في يد معلم، قرّر معاقبتي بشدة على هذه "الصفاقة". كنتُ أريد أن أقول للمعلم الأحمق: "ياعزيزي أنا أتخيل حبيبة، ثم إن "روي شفاهي" أهون كثيراً مما قاله الجوزي". لكنني لم أقل.
**
العشق؟
تحضرني - بعد هذه التقديمة الطويلة - الكلمات الأكثر عبثاً في مسيرة أم كلثوم: "العيب فيكم يا في حبايبكم.. أما الحب يا روحي عليه". العيب ليس من الحب نفسه إذن بل فينا أو في أحبابنا.
أما الحب "ياروحي عليه" هو النقي الخالص المنزّه عن عيوبنا. لكن ما هو الحب؟. يحاول ابن حزم أن يجيب على هذا السؤال في فصل كامل عن ماهية الحب، لكن المسكين أيضاً وقع في سرد الأعراض وما يعتري المحب. هو أيضاً يحوم حول الشيء ولا يمسك معناه. فيما يبدو أن المعنى صعب التقاطه أو تعريفه.
أعرف إنني قِسْتُ الأعراض التي تحدث عنها الإمام الأندلسي، فوجدتني أطابق الكثير منها. كان هذا وقت دخولي الجامعة، بكل الحمولة السينمائية والتلفزيونية لحياة الجامعة (الكائن الحي الذي يعيش ويتنفس ويتغذى على الحب)، فوقعت في غرام أول بنت جميلة قالت لي "صباح الخير"، ثم سرعان ما نسيتها إلى "صباح الخير" جديدة، حتى انهرتُ تماما أمام "ازيّك ياأحمد".
كنت أجدد محبتي كل يوم، والقصائد تتوالى، كل قصيدة وسادة خالية تنام إلى جانبي وأغني لها "أنا لك على طول خليك ليا".. حتى صارت "ريم". ظهرت في ليلة معتدلة كمشيتها، فتجمّد الزمن. نسيت ابن حزم وقصائدي والأغاني والمسلسلات والأفلام، وكل الميراث، وصرت عارياً إلا من ارتباكي وصورتها في رأسي كلعنة. حتى إنني لما بدأت -بعد فترة- أكتب عنها ولها قلت "أنت يا ريم يقيني" هكذا فقط.
ومثل معظم الحب الجامعي، انتهت كما بدأت، "بلا ولا شي"، فكرتُ في الانتحار، وبكيت لأيام وليالٍ متتالية، وكرهت نفسي وحظي، وقررت ألا أوقع نفسي في هذا الملحمة ثانية. قلت خلاص تكفيني مرة.
**
وصل وبناء
هل الحب مجرد انجذاب؟ هذا السؤال تنويعة مراوغة لماهية الحب، كلما حاولت إجابته أستعين بالتراث، أو بترداد الأغاني، أو أحكي حكاياتي التي مر الجميع بها. الان باديو في حواره مع نيكولا ترونج (الذي صار كتاباً وترجم إلى العربية بعنوان "في مدح الحب") يقول: إنه إعادة ابتكار للحياة، وليس ببساطة عن لقاء شخصين وعلاقتهما الداخلية: إنه بناء؛ حياة تُصنع، لم تعد من منظور واحد منذ تلك اللحظة، بل من منظور اثنين.
ربما يحاول أن يقول أن "الانجذاب" هذا قد يكون مرحلة البداية، وعلى الواحد منا أن يستسلم للجاذبية كيف يبني علاقة لاثنين. لكن هل إذا ما تمت مقاومة هذا الانجذاب، يأمن الإنسان على نفسه من الحب؟ أيضاً إجابته صعبة.
بعد كل هذه التعقيدات والأسئلة دون إجابات، يبقى الجسد أكثر وضوحاً، إلا إذا ارتبط بالحب، فالعلاقة الجسدية واضحة المقاصد والأغراض. لكن إن تسللت إليها المشاعر، أو تسللت هي إلى المشاعر "تتويجاً لها" صارت الأمور مركبة. يحضرني في ذلك "التحرير" اللطيف الذي قام به أحد الأصدقاء لأغنية "عاشق الروح" لمحمد عبد الوهاب:”وعشق الروح مالوش آخر.. لكن عشق الجسد "كافي!”