عبد القادر سلاَّمي - الأبعاد الإنسانية لمفهومي الحب والكراهية في كتب اللغة ومعاجمها

* تقديم:
لئن انصبّت أفكار الأدباء والمفكّرين في شأن الحبّ والكراهية على بيان ماهيتهما واختلاف الناس فيهما وأنواعهما وهل هما اضطراريان أم اختياريان؟ وسَوْق أمثلتهما التاريخية والتي تقوم دلائل على عفّة المحبّين ووفائهم وإخلاصهم أو نفورهم وغدرهم، فإنّ اللغويين كانوا أكثر عناية بأسمائهما ونعوتهما ودرجاتهما، ومراتبهما، والوقوف على أسبابهما ودواعيهما وعلاماتهما، فبحثوا في أسرار المعاني، ورأوا في ذلك خاصية من خصائص الذّهن العربي بوجه عام، إذ كان يعدُّ الكلمة دليل حياة،ومنها ينفذ إلى معرفة الحياة، وبها يعبّر عن أدقّ الأحاسيس وأبعد الصوَر عن الخيَال.(1)
وتسعى الدراسة الموالية إلى استعراض نماذج من الأبعاد الإنسانية لفلسفتي الحب والكراهية في كتب اللغة ومعاجمها، وما جاء من ألفاظهما بما يتوافق وترتيبهما في النّفس البشرية درجةً وقوّة ومقاديرَ ويجعل منهما فلسفة حياة.

السياق العاطفي بين الحبّ والكراهية :
وهو الجانب أو المستوى من المعنى الذي يعبّر عن شعور المتكلّم أو اتّجاهه أو رأيه نحو أمر ما في سياق معيّن درجةً وقوّةً وضغطاً، ويقتضي تأكيداً أو مبالغة، فكلمة "يكره" غير كلمة "يبغض" وذلك أنّ الكُرْه خلاف الرِّضا(2)، بينما يدلّ البُغْض على خلاف الحبِّ.(3)
فقد فصّل الثعالبي (ت 429هـ) في كتابه "فقه اللغة" الكلمات الدالّة على معاني الحبّ في فصل خاص، جعل عنوانه ( في ترتيب الحبّ وتفصيله عن الأئمة)، فقال: "أوَّلُ مَرَاتبِ الحُبِّ الهَوَى، ثُمَّ العَلاَقَةُ، وهي الحُبُّ اللاَّزِمُ للقَلْبِ، ثُمَّ الكَلَفُ وهو شِدَّةُ الحُبِّ، ثُمَّ العِشْقُ(*) وهو اسمٌ لِمَا فَضَلَ عَنِ المِقْدَارِ الذي اسْمُهُ الحُبُّ، ثُمَّ الشَّعَفُ وهو إحْرَاقُ الحُبِّ القَلْبَ مَعَ لَذَّةٍ يَجِدُها، وكذلك اللَّوْعَةُ واللاَّعِجُ(*)، فإنَّ تِلْكَ حُرْقَةُ الهَوَى ، وهذا هًوَ الهَوَى المُحْرِقُ، ثُمَّ الشَّغَفُ وهو أنْ يَبْلُغَ الحُبُّ شَغَافَ(*) القَلْب، وهي جِلْدَةٌ دُونَهُ،و قد قُرئَتَا جَميعاً: شَغَفَها وشَعَفَها؛ ثُمَّ الجَوَى وهو الهَوَى البَاطِنُ، ثُمَّ التَّيْمُ، وهو أنْ يَسْتَعْبِدَهُ الحُبُّ، ومنهُ سُمِّيَ تَيْمُ اللَه أيْ عَبْدُ اللَّه، ومنه ُرَجُلٌ مُتَيَّمٌ، ثُمَّ التَّبْلُ، وهو أنْ يَسْقِمَهُ الهَوَى، ومنه رَجُلٌ مَتْبُولُ، ثُمَّ التَّدْلِيَةُ وهو ذَهَابُ العَقْل مِنَ الهَوَى، ومنه رَجُلٌ مُدَلَّهٌ، ثُمَّ الهُيُومُ، وهو أنْ يذْهَبَ على وَجْهِه لِغَلَبَةِ الهَوَى علَيْهِ، ومنه رَجُلٌ هَائِمٌ".(4) "والعَلَقُ: العِشْقُ، يُقالُ: بفلانٍ عَلَقٌ من فُلانة أي عِشْقٌ، وفي مثلٍ لهم (نظرةٌ من ذي عَلَقٍ)(*) أي ذي كَلَف(*) وعِشْقٍ".(5) و"شَفَّهُ الحُبّ يَشُفُّهُ شَفّاً: لّذَعَ قَلْبَهُ. وأُشرِبَ فُلانٌ حُبَّ فُلانٍ، أي خَالَطَ قَلْبَهُ. وقَلْبٌ مُقتَّلٌ: مذَلَّلٌ هَنَّدَتْهُ المَرأة، أورَثَتْهُ عِشْقَاً بالمُلاطَفَة والمُغَازَلَة. وانْشَدَ:
*يَعِدْنَ مَنْ هَنَّدْنَ والمُتَيَّمَا*
وبهِ سُمِّيَت المَرْأةُ هِندا. والصَّبْوَةُ: رِقَّةُ الشَّوْق وكذلك الصَّبَابَة قال أبو علي:
وهنَّدَتُهُ النّساءُ: سَلَبَتُهُ عقلَهُ".(6)
وقال صاحبُ العين: "فلانٌ مُغْرَمٌ بالنّساء: مَشْغُوفٌ بهِنَّ، وحُبٌّ وغَرامٌ: لازِمٌ قال أبو علي: "أصلُ الغَرام الغذاب... وكلُّ لازِمٍ من المَكْرُوه غَرامٌ. ابن دريد: " المخْبُول: العَاشِقُ والاسمُ الخَبَل. والخَبَلُ وأصلُه من الجُنُون؛ لأنَّ الجِنَّ يًسَمَّوْنَ الخَابِل. وفَتَنَ إلى النّساء فُتُوناً وفُتِنَ إليهِنَّ: أراد الفُجُور بهنَّ. وخَلْبَسَ قلبَهُ: فَتَنَهُ وذهبَ به. ونازَعَتْني نَفْسي إلى هواهُ نِزَاعاً: غَلَبَتْني، فأمَّا النُّزُوع فالكفُّ" وقال" هَفَا الفؤادُ: ذَهَبَ في أثَر الشَّيء وطرِبَ إليه. (وقال) صاحب العين "سَبَيْتُ قَلْبَهُ واسْتَبَيْتُهُ: فَتَنْتُهُ".(7)
أمّا عن علّة وقوع العشق، وزواله بعد كونه، فقال المسعودي (ت346هـ) : "تَنازعَ الناس ممن تقدَّم وتأخَّر في ابتداء وقوع الهَوى(*) وكيفيته، وهل ذلك من نظرٍ وسماعٍ، واختيارٍ واضطرارٍ، وما علَّة وُقوعه بعد أنْ لم يَكُنْ، وزواله بعد كونه؟ وهل ذلك فعل النَّفس الناَّطقة أو الجسْم وطباعِه؟ فقال بقراط (بن ابراقليس): هو امتزاجُ النَّفْسَيْن، كما لو امْتَزَج الماءُ بماءٍ مِثْلِه عَسُرَ تَخْليصُه بِحِيلَةٍ من الاحْتياَل، والنَّفْس ألطَفُ من الماءِ، وأرَقُّ مَسْلَكاً؛ فمِنْ أجْلِ ذلك لا تُزيلُه اللَّيَالي، ولا تُخْلِقُه الدُّهورُ، ولا يَدْفَعُه داَفِعٌ، دَقٌّ عنِ الأوْهامِ مَسْلَكُهُ، وخَفِيٌّ عنِ الأبْصَارِ مَوْضِعُهُ، وحارَتِ العُقُول عنْ كَيْفيَةِ تَمَكُّنِهِ غيْرَ أنَّ ابْتداءَ حرَكتِه من القَلبِْ، ثم تَسيُر إلى سائرُ الأعضاء، فتظهَرُ الرَّعْدَةُ في الأطرافِ، والصُّفْرَةُ في الألْوَانِ، واللَّجْلَجَةُ في الكلامِ، والضَّعْفُ في الرَّأي، والوَيْلُ والعِثَارُ حتى يُنسَِب صاحبَُه إلى النَّقْص"؛(8) لأنّ العشق في نظر بعض الأطبّاء طَمع يتولَّدُ في القَلْبِ ويَنْمى وتجتمِعُ إليه مواَدٌ من الحِرْصِ فإذا قَوِيَ زادَ بصاحِبهِ الاهتيَاجُ واللّجَاجُ والتَّمَادِي والتفكُّرُ والأمَاني والهَيَمَانُ والأحْزانُ وضِيقُ الصَّدْرِ وكثْرةُ الفِكْرِ وقِلَّةُ الطَّعْم وفَسَادُ العَقْلِ ويُبْسُ الدِّمَاغِ، وذلك أنْ تمَاَدى في الطَّمَع للدَّمِ مُحْرِقٌ، فإذا احْتَرَقَ اسْتَحالَ إلى السَّودَاءِ، فإذا قوَيِتَ ْجَلَبَتِ الفِكْرَ فتسْتعِلي الحرارةُ، وتلْتهِبُ الصَّفْرَاءُ، ثمَّ تَسْتَحيلُ الصَّفْرَاءُ إلى الفَسَادِ فتلْحِقُ حينئذٍ بالسَّوْدَاءِ، وتصيرُ مادةً لها، فتقوى، ومن طبائع السوداء الفكر، فإذا فسد الفكر اختلطت الكَيْمُوسَاتُ(*) بالفَسَاِد، ومع الاخْتلاطِ تكونُ الفَدَامَةُ(*) ونُقصَانُ العقلِ ورجاءُ ما لا يكونُ ولا يتِمُّ فحينئذٍ يشتدُّ ما به، فيموتُ أو يَقْتُلُ نفسَهُ، ورُبمَا شَهقَ فتخْفَى رُوحُه أربعاً وعشرينَ ساعةً فيُظَنُّ أنَّه ماتَ فيُقْبرونَه حيّاً، ورُبما تنَفَّسَ الصُّعَداءَ فتَخْفَى رُوحه في تامُور(*) قَلْبهِ، وينضَمُّ والقلبُ ولا ينْفَرجُ حتّى يموتَ، ورُبما ارتاحَ وتشَوَّقَ بالنَّظَرِ، ويرى مَنْ يُحِبُّ فَجْأَةً، وأنْتَ تَرى العَاشِقَ إذا سَمِعَ ذَكْرَ مَنْ يُحِبّ كيفَ يَهْرُبُ دَمُهُ ويُحُولُ لوَنْهُ، وتلك سنّة الله في خَلْقِه. فهو الذي "خلَق كلَّ رُوحٍ مدوَّرة علة هيئة الكُرَة، وجزَّأها أنْصافاً، وجعل في كلّ جسدٍ نِصْفاً؛ فكلُّ جسَدٍ لقيَ الجسَدَ الذي فيه النّصفُ الذي قُطع من النّصف الذي معه كانَ بيْنَهما عِشْقٌ ضرورةً للمناسبة القديمة. وتفاوتتْ أحوالُ النّاس في ذلك من القوَّة والضَّعف على قَدْر طبائعِهم".(9)
أمّا ما يدلُّ على تفهُّم ابن سيده(ت458هـ) للسياق العاطفي في باب (الحِقد والبُغْضَة)، ما نقله عن صاحب العين قوله: "الحقدُ: إمساكُ العَدَاوَة في القلب والتَّرَبُّص بِفُرْصَتِها".(10) كما روى في الباب نفسه عن ابن السكّيت (ت244هـ) قوله: إنّ في صدركَ لَوَغْرَةٌ، وأصلهُ من وَغْرَة الحرِّ وأوْغَرَ صَدْرَه عليه: أَحْمَاهُ من الغَيْظِ وأَوْقَدَهُ.(11) وعن أبي عبيد قال: "هو الحَنَقُ والحَنِقُ بمعنى الحِقْدُ بغضبٍ".(12) وعن ابن دريد أنّ "المِحاَل بين النّاس: العَداوةُ وهي من الله عزّ وجلّ العِقَاب. وعن ابن السكّيت: إنَّ في صَدْره علَيََّ لغِلاًّ، أي حِقْداً"... أبو عبيد: "قول النبيّ، صلّ الله عليه وسلَّمَ: ( ثَلاَثَةٌ لا يغِلُّ علَيْهِنَّ مُؤْمِنٌ)، فإنَّهُ يُرْوَى: لاَ يَغِلُّ ولاَ يَغِلُّ، فمَنْ قال: يَغِلُّ جَعَلَهُ مِنَ الغِلِّ وهو الضِّغْنُ والشَّحْنَاء، ومَنْ قال: يَغِلُّ جَعَلَهُ مِنَ الخِيَانَة".(13)
ومعنى ذلك أن يكون اللفظ في أصل وضعه دالاًّ على معنى عامٍّ كالبُغْضِ، ثمّ يكون لإحدى حالاته لفظ خاصٌ كالفِرْكِ وهو البُغض بين الزَّوجين خاصة.(14)
وليس ثمَّة من ريب في أنَّ الحبّ والكراهية بوصفهما تجربتين إنسانيتين عامّتين، كانتا من أهمّ العوامل الحيوية على إيجاد هذا الجوّ اللغوي البياني في كيان العرب الحضاري بما يعكس هاتين العاطفتين في أبعادهما الإنسانية، ويجعل منهما فلسفة حياة قوامها حَمْلُ النّفس على المكروه وترجيح كفّة الخير على كفّة الشرّ ويعكس الفطرة الإنسانية في أبهى صورها.
ويبدو أنّ المرأة العربية قديماً لم تجد غضاضة في التعبير عن مشاعرها تجاه من تحبّ دون أنْ يقلّل ذلك من أنوثتها في شىء.
فممّا جاء في متخيّر الألفاظ لابن فارس (ت395 هـ) من أنَّ ابن الأعرابي(ت231هـ) قال: "قالت لي أمّ هِشَامٍ السَّلُوليّة: إنّه لَيُعْجِبُنِي سِنْحُك ووَضَحُك. قُلْتُ: وما سِنُحي؟ قالت: هيئتك. قلت وما وَضَحِي؟ قالت ما بدَا من وجْهِكَ"،(15) فكان ذلك وجاءً لها من العنُوسة أو الترمّل. فقد: " كانت في العرب امرأة مُفَوّهَة, قالت: لا أتزوّج إلا لمن يردّ على جوابي. فجاءها خاطب, فوقف ببابها فقالت: أين أنت؟ قال: على بِساطٍ وَاسِع وبَلَدٍ شاسِع قريبُهُ بَعيدٌ, وبعيدُهُ قَريبٌ. فقالت: مَا اسْمُكَ؟ قال: مَنْ شاءَ أحْدَثَ اسْماً, ولم يكن ذلك عليه حَتْماً. قالت كأنّك لا حاجة لك؟ قال: لوْلم تكُن لم آتِكِ و لم أقِفْ ببابكِ قالت: أسرُّ حاجتُكَ أمْ جَهْرٌ؟ قال: سرٌّ مُسْتَعْلَنٌ. قالت: فأنْتَ خَاطِبٌ؟ قال: هو ذَاكَ, قالت: قُضِيَتْ, فتزَوَّجَها".(16)
هذا ولم يكُن الرّجلُ العربي أقلَّ سخاءً من المرأة العربية السّمحاء، فبادلها وُدّاً بوُدٍّ حين أعانته على قوّة الاستمرار في الحياة، فأعانها على طلب المُعيل." ويُروى أنَّ عبد الله بن أبي بكر، وكان أجْوَدَ الأجْوَاد، عَطش يَوماً في طريقه من منزل امرأة، فأخرجتْ لهُ كُوزاً، وقامت خلفَ البَاب قالت تنّحوْا عن البَاب، ولْيَأخُذْه بَعْضُ غِلْمَانِكُمْ، فإنّي امْرأةٌ عَزْبٌ ماتَ زَوجي منذ أيّام فشربَ عبد الله الماء، وقال يا غُلام: احْمِلْ إليها عشرة آلاف درهم. فقالت: سبحانَ الله أَتَسْخَرُ منّي؟ فقال: يا غُلام أحمِلْ إليها عشرين ألفاً، فقالت: اسألُ الله العافية، فقال يا غُلام: احمِلْ إليها ثلاثين ألفاً، فما أمْسَتْ حتَّى كَثُر خُطَّابُها".(17)
كما كان لحسن التلفّظ وفصاحته أو سوئه لدى المرأة العربية باع في الاستجازة وترغيب أهل البلاط فيها. فقد "وعُرضَت على (الخليفة) المُتوكّل، وكان متقلباً يتبعُ الهوى، جاريَةٌ شاعرة فقال أبو العَيْناء (ت283هـ) يستجيزها: أحمَدُ الله كثيراً، فقالت: حيث أنشأك ضريراً. فقال يا أميرَ المؤمنين: أحْسَنَت في إساءتها فاشْترِها"؛(18) الأمر الذي حمل اللغويين ودارسي الإعجاز والبلاغة وتوجيههم نحو تألبف حروف الكلمة بحسب المخارج الصوتية والاعتداد بذلك في الكلام.
كما كان حسنُ المعاشرة من أهمّ سِمات المرأة العربية، والتي تجاوزت بها حدود الصّورة الخِلقية التي قد يكون عليها بعْلُها، الأمر الذي لا يخدش فحولتها في نظرها أو يُلغي مبدأ القوامة عنه، وابتغاء مرضاة الله تعالى. فممّا يُذكر "أنَّ سلمى بنت أيْمَن التَّميمية كانت أحسنَ النّسَاء وزَوجُها من أقبح الرّجال، فقالت له يَوماً: عَلمْتُ أنّي أنَا وأنْتَ في الجنَّة. قال: وَلِمَ؟ قالت: لأنِّي رُزِقْتُ مِثْلَكَ فصَبِرتُ ورًزِقْتَ مِثْلي فشَكَرْتَ، والصَّبُور والشَّكُور في الجنَّة. وقيل لها: كيفَ تَصْبِرينَ على قُبْحِه وأنْتِ منَ الحُسْن يحيث أنْتِ؟ فقالت: أمَا إنَّه قد قَدَّمَ حسَنَةً عندَ الله، وأَذْنَبْتُ عندهُ ذَنْباً، فصَيَّرَني في ثَوابه، وصَيَّرَه في عِقابي".(19)
على أنّ حمل النّفس على المكروه وإغاثة الملهُوف، وإجارة المستغيث من نائبات الدّهر حين تنُوبُ ممّا جاد به العربيّ الأبيّ وقد رُزق الصّبر الجميل، دَيْدَنُه في ذلك ثناء حُسْنٍ على مُحْسنٍ. وفي ذلك يقول الجاحظ: وفيه أيضاً: "قال الجاحظ (ت 255هـ): سمعتُ إبراهيم ( إبراهيم بن السّندي بن شاهك) يقول: قلتُ في أيّام ولايتي الكوفة لرَجُلٍ من أبنائها، لَمْ أرَ أكرَمَ ولا أظْرَفَ منه، وكانَ لا تَجِفُّ لبدُه ولا تَسْكُنُ حرَكتُه ولا يَسْتَريحُ قَلَمُه من إغاثَة المَلْهُوف وإعانَة المَكْرُوب: ما الذي هَوَّنَ عنْدَك هذا الأمر وقَوَّاكَ على هذا التَّعَب؟. قال: سَمعْتُ تَغْريدَ الأطْيَار، وتَجَاوُبَ المِزْمَار والأوْتَار، فَلَمْ أُطرَب كطَرَبِي لِثَنَاءٍ حَسَنٍ على مُحْسِنٍ. فقلتُ: أَحْسَنْتَ والله أنتَ! فلقد حُشِيتَ كَرَماً كما مُلِئْتَ ظُرْفاً".(20)
غير أنّ مبدأ الكراهية المبرّر الذي يعكس تذمّر الحيّ من أهل زمانه، على النّحو الذي"حُكي عن الجاحظ أنّه دخل على أبي الحسن عليّ بن عبيدة الرّيحاني يعُودُه، فقال له: "ما تشْتَكي يَا أبَا الحسَن؟، فقال: أعْيُنَ الرُّقَبَاء، وألْسًنَ الوُشَاة، وأكْبَادَ الحُسَّاد"،(21) لم يكنْ ليلغي مبدأ الحبّ المتبادل بين المتباغضين حينما يكون الاعتذار الرّقيق قسيم العفو عند المقدرة.
ويذكُرُ أيضاً أنَّ " محمّد بن موسى الهاشمي بَلَغَهُ أنَّ عمر بن فَرج السّرخسي عَتَبَ عليه وتنكَّدَ به، فطرقه ليْلاً فاعتذَرَ إليه حتّى رَضِيَ عنه، فلمّا قامَ لِيَنْصَرفَ قال: خُذُوا الشَّمْعَة بين يَدَيْه. فقال: دَعْنِي يا سَيّدي حتَّى أمْشِي في ضَوْء رِضَاكَ. فقال: كلامُكَ هذا حلَّ العُقْدَة البَاقيَة منْ سَخَطِي عليك!(22)
ونلاحظ من هذه الأوصاف والتعليلات للحبّ والكراهية أنّ الجانب الأدبي يطغى فيها على الجانب الفلسفي، والتحليل المنطقي (23) فإنّ ما يقوله الأمراء ورواد البلاط من الخاصّة من علماء الكلام وغيرهم في هذا الموضوع لا يختلف كثيراً عمّا قالت به العامّة لكون الحبّ والكراهية من المشاعر الإنسانية من المشترك بين النّاس جميعاً.
فقد كان يحيى بن خالد ذا عِلْمً ومعرفةٍ وبحْثٍ ونظَرٍ، وله مجلسٌ يجتمعُ فيه أهلُ الكلامِ من أهلِ الإسلامِ وغيرهم من أهلِ الآراءَ والنِّحَل، فقال لهم يحيى وقد اجتمعُوا عنده: قد أكثَرْتم الكلام في الكُمُونِ والظُّهورِ والقِدَم والحُدُوثِ، والإِثبْاَتِ والنَّفْيِ، والحرَكةِ والسُّكونِ، المُمَاسَّة والمبَاينة، والوُجودِ والعَدَمِ، والجَرِّ والطَّفْرَةِ، والأجْسَامِ والأَعْرَاضِ، والتَّعْديلِ والتَّجْريحِ ونَفْيِ الصِّفَاتِ وإثْبَاتِها، والاسْتِطاعَةِ والأفعالِ والكمِّيَةِ والكيْفيَةِ، والمُضَافِ، والإِمَامةِ أَنَصٌّ هيَ أمْ اخْتِيَارٌ، وسَائِرِ ما تَزْوَدُونَهُ مِنَ الكلامِ في الأصُولِ والفُرُوعِ، فقُولوا الآنَ في العِشْقِ على غيِر مُنَاَزَعةٍ، وَلْيُورِدْ كُلُّ واحدٍ منكُمْ ما سَنَحَ له فيه، وخَطَرَ إِيرَاُدهُ ببَالهِِِ. فقال علي ابن هيثم وكان إمامِيَّ الَمْذهَبِ من المشْهوُرين مِنْ مُتكلِّمِي الشِّيَعة: أيُّها الوَزيرُ، العِشْقُ ثَمَرَةُ الُمَشَاكَلَةِ، وهو دَليلُ تَمَازُجِ الرُّوحَيْنِ، وهو مِنْ بَحْرِ اللَّطَافَةِ، ورِقَّةِ الصَّنِيَعِة، وصَفَاءِ الجَوْهَرِ وليْسَ يَحدُّ لِسَعته ، والزِّيادَةُ فيه نُقصَانٌ منَ الجَسَدِ. وقال أبو مالك الحَضْرمي، وهو خَاِرجِيُّ المذْهَبِ وهُمُ الشُّرَاةُ: أيُّهَا الوَزيرُ، العِشْقُ نَفْثُ السِّحْرِ، وهو أخْفَى وأحَرُّ من الَجَمْرِ، ولايَكُونُ إلاَّ بازْدِوَاجِ الطَّبْعَيْنِ، وامْتِزَاجِ الشَّكْلَيْنِ، وله نُفُوذٌ في القَلْبِ كنُفُوذِ صَيِّبِ(*) المُزْنِ في خُلَلِ الرَّمْلِ وهو مَلِكٌ على الِخَصالِ تَنْقادُ له العُقُولُ، وتَسْتَكِيُن له الآراء. وقال ثالثٌ: وهو ابن محمد بن هذيل العلاَّف، وكان مُعْتَزِلُّي الَمْذَهِب وشَيْخَ البَصْريينَ، أيُّها الوَزيرُ، العِشْقُ يَخْتمُ على النَّوَاظِرِ، ويَطْبَعُ على الأفْئدِةِ، مُرْتَقي في الأجْسادِ، مسْرعةٌ في الأكْبادِ، وصَاحبُهُ مُتصرِّفُ الظُّنوُنِ، مُتَغَِّيُر الأوْهامِ، لا يَصْفُو له وُجودٌ، ولايَسْلَمُ له مَوْعوُدٌ، تُسْرِعُ إليه النَّوَائِبُ، وهي جُرْعَةٌ من نَقِيعِ الَموْتِ، وبَقِيَةٌ مِنْ حِيَاضِ الثَّكْلِ، غيَر أنَّهُ مِنْ أرْيَحِيَةٍ تَكونُ في الطَّبْعِ، وطَلاَوَةٌ تُوجدُ في الشَّمَائِلِ، وصَاحِبُهُ جَوَادٌ لايُصْغِي إلى دَاعِيَةِ الَمنْعِ، ولايَسْنَحُ به نَازِعُ العَذْل. وقال الرابع: وهو هاشمُ بنُ الحَكَمِ الكُوفي شيخُ الإمَامِيَة في وَقته وكبيرُ الصَّنْعة في عَصْره: أيُّها الوَزيرُ، العِشْقُ حِبَالهُُ نَصَبَهَا الدَّهْرُ فلا يَصِيدُ بها إلَّا أهْلَ التَّخَالُصِ في النَّوَائِبِ، فإذا عَلِقَ المُحِبُّ في شَبَكَتِهَا ونَشَبَ في أثْناَئِهَا فأبْعَد به أنْ يقومَ سَليماً أوْ يَتَخَلَّصَ وَشِيكاً(*)، ولا يكون إلاَّ منَ اعْتِدالِ الصُّورَةِ، وتَكَافُؤٍ في الطَّريقَةِ، ومُلائَمَةٍ في الِهمَّةِ، لهُ مَقْتَلٌ في صَمِيمِ الكَبَدِ ومُهْجَةِ القَلْبِ، يَعْقِدُ اللِّسَانَ الفَصِيحَ، ويَتْرُكُ الماَلِكَ مَمْلُوكاً والسَّيِّدَ خَوَلاً(*) حتَّى يَخْضَعَ لعَبْدِ عَبْدِهِ.ثم قال الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر ومن يَليهم، حتَّى طالَ الكلامُ في العِشْق ِبألفاظٍ مخُتلفةٍَ ومَعانٍ تَتَقاَرَبُ وتَتَنَاسَبُ، وفيما مَرَّ مِنْ دَلِيلٌ علَيْه".(24)
وكتب المسعودي مؤرّخاً لمرحلَة النِّصف الأوَّل منَ القَرْن الرّاَبع للهِجْرة، لموقِفِ النّاَسِ مِنَ الحُبِّ وفَهْمِهِ، فيقولُ بَعْدَ أَنْ يَذكُرَ روايَة عنِ الفَضْل بنِ أبي طاهر في كتابه "في أخبار المؤلّفين" أنّه قال: " حدَّثني أبُو عُثمانَ سَعيدُ بنُ محمَّد الصَّغير مَوْلَى أميِر المؤمنيَن، قال: كانَ المُنْتصر (بالله) في أيَّام إمَارَته يُنَادِمُهُ جماعةً منْ أصْحَابهِ، وفِيِهْم صَالُح بنُ محمَّد المعروف بالَحَرِيرِي، فجَرَى في مَجْلِسِهِ ذاتَ يَوْمٍ ذِكْرُ الحُبِّ والعِشْقِ فقالَ المنُتَصِرُ لبَعْضِ مَنْ في المَجْلِس: أخْبَرْنِي عَنْ أيِّ شَيْءٍ أعْظَمُ عِنْدَ النَّفْسِ فَقْداً وهيَ بِهِ أشَدُّ تَفَجُّعاً؟ قال: فَقْدُ خِلٍّ مُشَاكِلٍ ومَوْتُ شِكْلٍ مُوَافِقٍ، وقال آخر ممَّنْ حَضَرَ: مَا أشَدّ جَوْلَةَ الرَّأْيِ عندَ أهْلِ الهَوَى! وفِطَامُ النَّفْسِ عنِ الصِّبَا، وقد تصَدَّعَتْ أكْبَادُ العَاشِقينَ مِنْ لوْمِ العَاذِلينَ، فلَوْمُ العَاذِلِينَ قُرْطٌ في آذَانِهمْ، ولوَعْاتُ الحَبِّ نِيرَانٌ في أبْدَانِهِمْ، مع دُمُوعِ المغَانِي(*)، كغُروب السّواني(*)، وإنّما يَعْرفُ ما أقوُلُ، مَنْ أبْكَتْهُ المغَاني والطُّلُولُ، وقال آخرُ: مِسْكِيٌن العَاشِقُ كُلُّ شَيْءٍ عَدُوُّه: هُبُوبُ الرِّيَاحِ يُقْلِقُهُ، ولَمَعَانُ البَرْقِ يُؤَرِّقُهُ، والعَذْلُ يُؤْلِمُهُ، والبُعْدُ يُنْحِلُهُ، والذِّكْرُ يُسْقِمُهُ، والقُرْبُ يُهِيجُهُ واللَّيْلُ يُضَاعِفُ بَلَاءَهُ، والرُّقادُ يَهْرُبُ منْه، ورسوم الدّار تُحْرِقهُ، والوُقوفُ على الطُّلوُلُ يُبْكِيهِ. ولقد تَداَوَتْ منْه العُشَّاقُ بالقُرْبِ والبُعْدِ. فمَا نجَعَ فيه دواءٌ ولا هَدَّاهُ عزاء. وقد أحْسنَ الذي يقول:(25)
وقدْ زَعَمُوا أنَّ الُمِحبَّ إذَا دَنَا = يملُّ، وأنَّ النَّأْيَ يُشْفِي مِنَ الوَجْدِ
بِكُلٍّ تَدَاَوَيْنَا فَلَمْ يُشْفِ مَا بِنَا = عَلَى أنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ البُعْدِ
فكلٌّ قال: وأكْثَرَ الخُطَبَ في ذلك، فقال المنتصِر لصالح بن محمد الحَرِيري: ياصالحِ ،هَلْ عَشِقْتَ قَطُّ؟ قال: إِيْ وَاللّّهِ أيُّها الأميرُ، كُنْتُ آلَفُ الرُّصَافَةَ في أيَّامِ الُمْعَتِصِم. وكانَتْ لِقَيْنَةَ أمُّ وَلَدِ الرَّشيدِ جارِيَةٌ تَخْرُجُ في حَوَاِئجِها وتَقُومُ في أمْرِهَا، وتُلْقِي النَّاسَ عنها، وكانتْ قِينَةُ تَتَوَلَّى أمرَْ القَصْرِ إذْ ذَاك، وكانَتْ الجارِيَةُ تَمُرُّ بي فأَحْتَشِمُهَا وأعَايِنُهَا، ثَّم رَاسَلْتُهَا فطرَدَتْ رَسُوِلي وهدَّدَتْنِي، وكنْتُ أقْعُدُ على طرَيقِهَا لأُكَلِّمَهَا، فإذَا رَأَتْنِي ضَحِكَتْ وغَمَزَتِ الَجوَارِي بالعَبَثِ بِي والُهْزِء، ثمَّ فاَرَقْتُهَا وفي قَلْبِي منْها نارٌ لا تْخمدُ وغَليلٌ لا يَبردُ ووَجْدٌ يتَجَدَّدُ فقال له المنتصِر: فهَلْ لكَ أنْ أحْضِرَهَا وأزَوِّجَكُمَا إنْ كانَتْ حُرَّةً أوْ أَشْتَرِيهَا إنْ كانَتْ أَمَةً؟ فقال: واللِه أيُّها الأميرُ إنَّ بِي إلى ذلك أعْظَمَ الفاقةِ وأشَدَّ الحَاجَةِ؛ قال: فدَعَا المنتصِرُ بأحمدَ بنِ الخَصيبِ وَسأَلَهُ أنْ يُوَجِّهَ لهُ في ذلك غُلاَماً مِنْ غِلْمَانِهِ مُنْفَرِداً ويَكْتُبَ معَه كتاباً مُؤَكِّدا ًإلى إبرَاهيمَ بنِ إِسْحَاقَ وصَالح الخادِم المتوِّلي لأَمْرِ الَحَرِم بمدينةِ السَّلامِ، فمَضَى الرَّسُولُ وقد كانَتْ قِينَةُ أَعْتَقَتْها وخَرجَتْ مِنْ حَدِّ الجَوَارِي إلى حَدِّ النِّسَاءِ البَوَالِغِ فحَمَلَهَا إلى المنتصِرِ فلَمَّا حَضَرَتْ نَظَرْتُ إليها، فإذاَ بها عَجُوزٌ قدْ حَدبَتْ وعَنسَتْ وبها بقيَةٌ مِنْ الَجمَالِ، فقال لها: أَتُحِبِّيَن أنْ أُزَوِّجَكِ؟ قالت: إنَّمَا أنَا أَمَتُكَ أيُّها الأميُر ومَوْلَاتُكَ، فافْعَلْ مَا بَدَا لكَ، فأَحْضَرَ صَالَحاً وأمْلَكَهُ بها وأمْهَرَهَا؛ ثمَّ مَزَحَ بِهِ فأَحْضَرَ جُوزا ًمُرَصَّصاً (*) وفِرْكاً(*) مُخْلقاً فنَثَرَهُ عليه؛ وأقامَتْ مَعَ صَالح مُدَّةً طوَيلَةً ثَّم مَلَّهَا ففَارَقهَا."(26)
ومن نَوادرِ ما وَقَعَ مِنْ مَظاهرِ العَشْقِ في عَهْدِ المنتصِرِ بالله، ما ذكر أبو عثمان سعيد بن محمد الصّغير، قال: "كان المُنتصِرُ في أيّام إمَارته وَجَّهني إلى مِصْر في بعض أمُور للسُّلطان، فعَشِقْتُ جاريَةً كانت لبعض النخّاسين عُرِضَتْ للبيْع، مُحْسِنةٌ في الصَّنْعَة مَقْبُولَةٌ في الخِلْقَة قائمَةٌ على الوَزْن من المَحَاسن والكَمال، فسَوَمْتُ مولاها فأبَى أنْ يَبيعَها إلاَّ بألف دينارٍ، ولمْ يكُنْ ثَمَنُها مُتَهَيِّئاً معي، فأَزْعَجَني السَّفَرُ وقد عَلِقَها قَلْبي، فأخَذَنِي المُقيمُ المُقْعِدُ من حُبِّها، ونَدِمْتُ على ما فَاتَني من شِرَائِها. فلمّا قَدِمْتُ وفَرَغْتُ ممّا وَجَّهَني إليه وأدَّيْتُ إليه ما عَلِمْتُ حَمِد أَثَري فيه؛ وسَأَلَني عن حاجَتي وخَبَري، فاَخْبَرْتُه بمكان الجاريَة وكَلَفِي بها، فأَعْرَضَ عنِّي وجَعَلَ لا يَزْدَادُ إلاَّ كَلَفاً وصَبْري لا يَزْدَادُ إلاَّ ضَعْفاً، وسَلَّيْتُ نَفْسي عنها بغيْرها، فكأنّي أغْرَيْتُها ولمْ تَتَسَلَّ عنها، وجعل المُنْتَصرُ كلَّما دخلتُ وخَرَجْتُ من عنده يذْكُرُها ويَهيِّجُ شَوقي إليها، وتَحَيَّلْتُ إليه بندَمَائِه وأهلُ الأنْس به وخاص من يحظى من جَوَاريه وأمَّهات أوْلاَده وجَدَّته أمّ خليفة أن يشتَريها لي، وهو لا يُجيبُني إلى ذلك، ويُعَيّرني بقلَّة الصَّبْر وكان قد أمَرَ أحمد بن الخصيب أن يكتُبَ إلى عامل مصر في ابْتِيَاعِها وحَمْلها إليه من حيثُ لا أَعْلَمُ، فحُمِلَتْ إيه وصارَتْ عنْدَهُ، فنَظَرَ إليها وسَمِعَ منها فَعَذَرَني فيها، ودَفَعَها قَيِّمَة جَوَارِيه فأَصْلَحَتْ من شَاْنِها، فلَمَّا كانَ يَوْماً من الأيَّام اسْتَجْلَسَني وأمَرَها أنْ تَخْرُجَ إلى السِّتَارَة، فلَمَّا سَمِعَتُ غِنَاءَها عَرَفْتُها، وكَرِهْتُ أنْ أُعْلِمَهُ أنِّي عَرَفْتُها، حتَّى ظَهَرَ فيَّ مَا كَتَمْتُهُ، وغَلَبَ علَيَّ صَبْري، فقال: مالك يَ سَعيدُ؟ قلْتُ: خَيْراً أيُّها الأَميرُ، قال: فقْتَرَحَ عليها صَوْتاً كُنْتُ قد أَعْلَمْتُه أنِّي سَمِعْتُ منها، وأنِّي اسْتَحْسَنْتُهُ من غِنَائِها فَغنَّتْهُ فقال: أتَعْرِفُ هذا الصَّوْت؟ قلتُ: إيْ والله أيُّها الأَميرُ، وكُنْتُ أَطْمَعُ في صَاحِبَتِه، فأمَّا الآن فقد أيَسْتُ منها، وكُنْتُ قد كالقاتِل نَفْسه بيَده وكالجَلِب الحَتْف إلى حَيَاتِه؛ فقال والله يا سَعيد ما اشْتَرَيْتُها إلاَّ لَكَ ويَعْلَمُ اللهُ أنِّي مَا رَأَيْتُ لها وَجْهاً إلاَّ ساعَةَ دَخَلْتُ عليها وقد اسْتَؤرَاحَتْ من أَلَمِ السَّفَر، وخرجتَ من شُحُوبة التبذُل فهي لَكَ، فَدَعَوْتُ له بما أمْكَنَني منَ الدُّعاء، وشِكَرَهُ مَنْ حَضَرَهُ الجُلَسَاءُ، وأمَرَ به فهُيِّئَتْ وحُمِلَتْ إلَيَّ فرُدَّتْ إلَيَّ حَيَاتِي بعدَ أنْ أشْرَفَتُ على الهَلَكَة، ولا أحدَ عِنْدي أحْظَى منها ولا ولد أحبُّ إلَيَّ منْ وَلَدِها".(27)

الخاتمة:
ولئن "تهيّب كثيرٌ من السَّلف تفسير القرآن، وتركوا القول فيه حّذَراً أن يزِلوُّا فيذهبوا عن المراد، وإن كانوا علماء باللّسان، فقهاء في الدِّين؛ فكان الأصمعي(ت216هـ)، وهو إمام أهل اللغة، لا يُفَسِّرُ شيئاً من غريب القرآن. وحكي عنه أنّه سُئلَ عن قوله سبحانه: قد شَغَفَها حُبّاً (28)فسكت وقال: هذا في القرآن، الأمر الذي لم يمنعه من ذكر قولٍ لبعض العرب في جارية لقوم أرادوا بيعها: أَتَبيعُونها وهي لكم شِغَافٌ؟ ولم يزد على ذلك أو نحو هذا الكلام"؛(29) فدلّ بذلك على أنّ العاطفة الإنسانية محبّة بالفطرة، كون الحبّ أرقُّ من السّراب، وأدبّ من الشراب، وهو من طينة عطرة عجنت في إناء الجلالة، حلو المجتنى ما اقتصد، فإذا أفرط عاد خبلا قاتلا، وفسادا معضلا، لا يطمع في إصلاحه، له سحابة غزيرة تهمي على القلوب، فتعشب شعفا، وتثمر كلفا، وصريعه دائم اللّوعة، ضيق المتنفس، مشارف الزمن، طويل الفكر، إذا أجنه الليل أرق، وإذا أوضحه النهار قلق، صومه البلوى، إفطاره الشكوى،(30) وأنَّ "النُّفُوسُ نُوريَة جَوْهرٍ بَسيبطٍ نَزَلَ من عُلُوٍّ إلى هذه الأجْسَاد فسَكَنَها، وأنَّ النُّفُوسَ تَلِي بَعْضاً على حَسَب مُجاوَرَتِها في عالم النَّفْس في القُرْب والبُعْد، وذهبَ إلى هذا المَذْهَب جماعةٌ ممّن يُظْهِرُ الإسلامَ، واعتَلُّوا بدلائلَ من القُرآن والسُّنَن ودلائل القياس عند أنفُسهم.من ذلك قوله عزّ وجلّ: يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً فادْخُلِي في عِبَادي وادْخُلِي جَنَّتِي.(31) قالوا: فالرُّجُوعُ إلى الحال لا يكونُ إلاَّ بَعْدَ كوْن مُتَقَدّم، ثمّ قول النّبيّ فيما رواهُ سعيد بن أبي مريَم قال: أخْبَرَنا يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النّبيّ أنَّهُ قال: ( الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فما تعارَفَ منها ائْتَلَفَ، وما تَنَافَرَ منها اخْتَلَفَ).(32) "ومعناهُ الإخْبَارُ عن مبدَا كَوْن الأروَاح وتَقَدُّمِها الأَجْسَادَ، أي أنَّها خُلِقَتْ أوَّلَ خَلْقِها على قِسْمَيْن: من ائتِلاَفٍ واخْتِلاَفٍ، كالجُنُود المَجْمُوعَة إذا تَقَابَلَتْ وتَوَاجَهَتْ. ومعنى تقابل الأرْوَاح: ما جَعَلَها اللهُ عليه من السَّعَادَة والشَّقَاوَة والأخلاق في مبدأ الخَلاَق. يقول: إنَّ الأجْسَادَ التي فيها الأرْوَاح تلتَقي في الدُّنْيَا فتَأْتَلِفُ وتَخْتَلِفُ على حسب ما خُلِقَتْ عليه، ولهذا ترى الخَيِّرَ يُحبُّ الأخْيَارَ ويَميلُ إليْهم، والشرّير يُحبُ الأَشْرَارَ ويَميلُ إليْهمْ".(33) وللّه في خلقه شؤون!




الأبعاد الإنسانية لمفهومي الحب والكراهية في كتب اللغة ومعاجمها
أ/د. عبد القادر سلاَّمي
قسم اللغة العربية وآدابها
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة تلمسان-الجزائر


.

صورة مفقودة
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...