نقوس المهدي
كاتب
الملخّص
إن كانت كلاسيكيّات البحث عن نماذج دالّة عن أثر وتأثير ثقافتي الحبّ والكراهية في حياة الإنسان غالباً ما تقام في تجليّات علاقته بالآخر ، والآخر هنا قد يكون " الحبيب ، الصّديق ، الخصم ، المعارِض ، المخالِف فكريّا .... " لتقرأ ما يبدو أقرب إلى الوضوح والتّكشف ، فإنّ إقامة هذه القراءة في مواطن الموجودات المحيطة بالإنسان ، وتلك التي اعتاد أن يعايشها لاواعياً تبدو أكثر إغراءً ، فثمّة أبعاد مثيرة تكشفها معايشة الإنسان لقيم الألفة من حوله ، لا سيما وأنّه _ في حال الشّعر _ يُجاد التّعبير عن مستويات العلاقة بها ، و جاذبيّة أثرها وتأثيرها ، لتوضح وعبر رؤية المخيلة : مشتبك الودّ والكره ، الوصل والقطع ، القرب والبعد ، وكل ما تمنحه المخيلة من جماليّات التّعبير .
وليتحقّق الأمرين معاً ، فإنّ تلمّس شكل الارتباط بالأمكنة عبر ما تثيره منتخبات " المنازل والدّيار "
الشّعريّة يغدو معيناً ، وهو ما ترمي إليه هذه الدّراسة ، في الكشف عن رؤية الشّعر العربيّ القديم وموقفه من المكان ، متجاوزة ما يعدّ تقليديّاً في الوقوف على الأطلال إلى جلّ ما أحاط بالعربيّ من أمكنة ، وما التصق بها من ذكريات، من ديار ومنازل وربوع ومغانٍ وأوطان وبلاد، لتوضح أنّ الأمكنة التي عشنا بها يوماً ما، أو تلك التي تآلفنا معها، أو كرهناها، تبقى تشغل حيّزاً لا يُنكر في الذّاكرة ، وتبقى تحفّز المخيلة على عيشها من جديد عبر الّلغة .
تدور هذه الدّراسة حول أربعة محاور ؛ " المقدمة "، "قصد الانتقاء: بعث المكان لغويّاً "، " المكانيّة في نصوص المنازل والدّيار " ، مقاربة التّقاطبات المكانيّة "، لأوضح من خلال ما سبق دواعي إنتقائي للمنازل والدّيار وجعله موطن الدّراسة ، وكيف أنّ الشّاعر العربيّ وعلى امتداد تاريخه القديم لم يُشفّ من حمّى المكان الذي ظلّ يلحّ باتّجاه التّنفيس عنه لغويّاً ، وأنّ منتخبات هذا " المصنّف" على اختلافها وتعدّدها تشترك في رؤية تكاد تكون موحدّة نحو المكان وودّ أهله تتكشّف عبر نظامٍ تقابليّ من الثّنائيّات و التّعارضات التي بتضادّها تخلق التّوتر الجماليّ للمكان " الفني " ، وتوضح أبعاد شعريّته وشرعية وجوده كحامٍ للذّكريات ، وحاوٍ لأحلامنا في إستعادة هناءات المكان الماضي .
الكلمات الدّالة : شعريّة المكان ، التّقاطبات .
المقدّمة :
تتسلل الأمكنة التي نألفها أو نحبها إلى كل الأماكن التي عشناها أو نعيشها ، وتظل ّ هناك تعشّش في زوايا الذّاكرة ، و تستحثها على أنّ " النّسيان " _ في هذه الحال _ ليس " فضيلة " ؛ فالمكان " الذي نحبّه يبدو وكأنه يتجّه إلى مختلف الأماكن دون صعوبة ، ويتحرّك نحو أزمنة أخرى " ، حيث يهرّب هذا المكان إلى كل متعلّقات الذّاكرة ، ويعاد بعثه حيناً بعد حين .
هذا المكان الحلم أو الهاجس أو المألوف أو المحبوب أو حتى ذلك المعادي أو المكروه ، لا يبقى موضوعاً للذّكرى فقط ، بل يتخذ أبعاداً ذات دلالات متعدّدة لا سيما لدى الشّاعر ، الذي يُعنى بتحرير المكان الخارجيّ ، الواقعيّ ، من حقيقته وأبعاده المألوفة ليطلقه في فضاء الخيال ، وينزع نحو التصاق حثيث بممكنات الّلغة وقدراتها على إعادة تشكيل هذا المكان وبنائِه من حروف وكلمات ، حينها لا يغدو المكان الخارجيّ هو الهاجس ، بل المكان الذي تمظهر لغويّاً ، المكان الذي تشكّل في خيال الشّاعر أو الذي شكلّه هذا الخيال ، هو المكان الحقيقيّ، والحقيقيّ هنا لا يعني الواقعي / الخارجيّ ، بل ذاك الذي أعيد بعثه وتشكيله وعيشه والإحساس به وبكل ما يتعالق معه لغوياً ، في هذه الحال ، ينسحب المكان الخارجيّ من حدود الذّاكرة ، التي تضيق عنه ، ويستقرّ أمام ناظريّ الشّاعر كما أراده هو ، كما أراد أن يعيشه ، ويحسّ به ، كما أستطاع خياله أن يصوّره له من جديد .
هذا الارتباط بين الّلغة والمكان ، نقع على تمظهراته المبكرة في النّصوص الأولى للشّاعر الجاهليّ ، حتى ليغدو سؤاله وإلحاحه المتكرّر على المكان ، سؤالاً مرتبطاً بوجوده ، وملتصقاً ببديهيات حياته ؛ فالبكاء على الأطلال ، ليس ثمة تقليد شكليّ نادت به كلاسيكيّات القصيدة العربيّة كما شاع بعدئذ ، بل هو يشكّل عتبة القصيدة العربيّة الأولى ، والمدخل التّمهيديّ الرّحب لحكايات الشّاعر ومشاعره ، هو إحساس فطريّ بالمكان و بودّ من رحل عنه ، هو تأسيس من الشّاعر العربيّ الأول ، على أنّ الأمكنة التي " فقدناها تظلّ إلى الأبد حيّة في داخلنا ، وهي تلحّ علينا لأنها تعاود الحياة " وهذا الإلحاح هو الذي فجر إمكانيات الّلغة شعريّاً ، ومنح القصيدة الجاهليّة خاصيّة هي من ألصق وأظهر خواصّها .
تالياً وإن أخذت هذه الخصيصة نوعاً من أشكال التّقليد ، إلاً أنّ الإحساس الأوّل بالمكان قد انتشر كالعدوى بين الشّعراء العرب من أمويين وعباسيين وأندلسيين ... ، حتى أخذ التّعبير عن المكان أشكالاً متعدّدة ، وليس أظهر من " رثاء المدن " في العصر الأندلسيّ دلالةً على أنّ التّعلق بالمكان ليس إحساساً طارئاً ، أو تقليداً شكليّاً ، أضف إلى ذلك وصف الأماكن المختلفة من: حواضر ، وديار ، ومنازل ، ومرابع .... وغيرها ، كل هذا يؤسّس في وعينا حقيقة أنّ الشاعر العربيّ وحتى الوقت المعاصر لم يُشفَ من حمّى المكان ، وأنّ البحث في هذه " الحمّى " مغرٍ ، وشائق، وشائك في الوقت نفسه .
ولم يكن كتاب " المنازل والدّيار " لـ " أسامة بن منقذ " إلا مخلصاً لهذه الحقيقة ، بل هو مؤكّد لها ، فما انتقاه ابن منقذٍ من أشعار الجاهليين المرتبطة بالمكان وحتى وقته ، يذهب إلى هذا الاتجاه القائل بأنّ التّعلق بالمكان عند الشّاعر العربيّ يتخذ شكلاً " أموميّاً " فالمكان هنا ، هو رمز الحماية والحنوّ والدّفء ، والأهم من ذلك كلّه هو ما تثيره هذه الرّموز من إحساس الألفة والأمان ؛ مما يجعل البحث في " المكان " في هذا الكتاب ، إنّما هو كشف عن رؤية الشّاعر العربيّ ، وموقفه ، وفلسفته حول المكان وكل متعلقاته ، فإنتقاء أسامة بن منقذ ، لجلّ الأبيات والمقطوعات الشّعرية التي تعالج المكان بكل حالاته ، يعين على تحديد أبعاد الرّؤية والفلسفة الشّعريّة العربيّة للإرتباط الوجوديّ بالمكان ، فأسامة بن منقذ قد كثّف من خلال إختياراته خلاصة البحث الشّعريّ لكل ما يتعلّق ويتعالق بالمكان ، وهو هنا لا يقدّم جمعاً فحسب ، بل هو يصدر عن رؤية نقديّة إنتقائيّة لا تخلو من ذوقٍ ومن حسّ جماليّ .
وإنْ كان الشّاعر العربيّ ، وكما أظهرته إنتقاءات أسامة بن منقذ قد تألم من المكان وعانى منه حيناً ، وانجذب إليه وتلّذذ به حيناً آخر ، فهذا عائد إلى أنّ المكان في ذهن هذا الشاعر ليس مقصوداً لذاته في _ أغلب الأحيان _ بل هو يرمي إلى من سكن المكان ، ومن رحل عنه ، فودّ المكان هو لأهله ، و ما البكاء على الأطلال إلا تأسيس أوليّ لهذه الرّؤية ، وأن القصد يرحل عن المكان بذاته إلى ما يثيره هذا المكان من ذكريات الزّمن الذي مضى : بناسه ، بهناءته ، بوداده ، إلى الحاضر بكل : جفافه ، وسوداويته ، وقتامته .
فيغدو _ والحال هذه _ النّبش في محتويات " المنازل والدّيار " هو كشف عن المكانيّة في النّصوص الشّعريّة العربيّة القديمة ، وما تثيره هذه من إرتباطات وعلاقات إنسانيّة ، وتأمّلات فلسفيّة ، ورؤى تعالج مستويات عدّة من العلاقة بالمكان وأهلّه منذ بدء الوعي بالمكان حين كان طللاً ، مروراً وليس انتهاءً بوصفه، و رثاءه ،والبكاء عليه، وعلى من سكنه ، وما يكشفه مثل هذا التّوقف عند " المنازل والدّيار " من بحث مكثّف ومختزل للمكانيّة في الشّعر العربي القديم ، وهو بحث ثريّ ونادراً ما يُلتَفَتُ إليه ، بالنّظر إلى أنّ جلّ الدّراسات المتعلّقة بالمكان إنما هي مرتبطة بالأشكال السّرديّة من رواية وقصة وغيرهما ، و حتى تلك التي إلتفتت إلى المكان الشّعريّ غالباً ما كانت تعالجه في الشّعر العربيّ المعاصر ، ومن هنا تكتسب هذه الدّراسة جدّتها في وقوفها عند " المكان " في النّصوص الشّعريّة القديمة _ وليس الطّلل فحسب _ لا سيما كما تجلّت في إنتقاءات أسامة بن منقذ التي أعانت كثيراً في تلمّس مواضع المكان ومتعلّقاته في جلّ نصوص " المنازل والدّيار " ، حيث ينتسب هذا الكتاب إلى المصنفات الشّعريّة المؤسّسة على التّبعيّة الّلفظية ؛ فأسامة كان يقيم إختياراته بناءً على لفظة " مكانيّة " بعينها ويحشد لها عدداً لا بأس به من المقطوعات الشّعريّة من أزمانٍ مختلفة ، مبتدئاً بالمنازل ومن ثمّ الدّيار فالمرابع ، وهكذا ... ، تتوالى فصول الكتاب حتى يأتي على ذكر جلّ ما يحفظه ويعرفه ممّا له علاقة بالمكان ، وكان يصدر في ذلك عن حافظة غنيّة ، وذائقة شعريّة فيُذكر أنّه " يحفظ من شعر الجاهلية عشرة آلاف بيت " ، أضف إلى ذلك أنّه صاحب " ديوان كبير ، و شعر رائق ، وجمع من الكتب لا يوصف " .
وبذا قدّم صاحب "المنازل والدّيار" مادّة غنيّة ومغريّة اعتمدتها هذه الدّراسة في الكشف عن الرؤية الشّعرية المكانيّة لدى الشّاعر القديم ، وما تفتحه من مستويات العلاقة بالمكان وأهله، كما ستنزع هذه الدّراسة إلى محاولة الكشف عنه ، وتوضيحه تالياً .
قصد الإنتقاء : بعث المكان لغويّاً :
إنّ حياة الإنسان ، تاريخه ، مرتبطة بأمكنة ما ، مختلفة هنا وهناك ، وهذه الأمكنة في أساسها تاريخية ، ولكنها بعد تجاوزها ، وتجاوز تاريخياتها تصبح أمكنة نفسيّة وشعريّة لها جمالياتها، ورموزها ، ودلالاتها ، وارتباطاتها النفسيّة ، وإذا كان " كل مكان لا فعل للإنسان فيه ، مكان مدان في الشعر " فإنّ تلك الأمكنة التي استقرّت في وعي الشّاعر رمزاً لهناءة ما ، أو لعداوة ما ، فإنّها غالباً ما تتحوّل عبر الفعل الشّعري إلى حكاية للمخيّلة ، ويصبح المكان المُتَجاوز _ تاريخيّاً هنا_ مكاناً معاشاً من خلال الّلغة ، مكاناً مُستعاداً من جديد عبر شبكة من الأحاسيس والإرتباطات النّفسيّة والشّعوريّة ، عبر ما يثيره فعل المخليّة من صور ارتبطت بالمكان الذي مضى ، والمكان الذي يتخلّق الآن في الحاضر بحسب وعي الشّاعر وتجربته السّابقة فيه ، ورؤيته للكون والحياة من حوله .
فالمكان في الشعر يتشكّل عن طريق الّلغة ، لكنّ المكان الشعريّ لا يعتمد على اللغة وحدها ، وإنما يحكمه الخيال الذي يشكّله بواسطة اللغة على نحو يتجاوز قشرة الواقع إلى ما قد يتناقض مع هذا الواقع ، غير أنه يظل _ على الرغم من ذلك _ واقعاً محتملاً إذ أنّ جزيئاته تكون حقيقية ، ولكنها تدخل في سياق حلمي يتخذ أشكالاً لا حصر لها ، يصل إليها الخيال . ، و المكان الذي يأسر الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً خاضعاً لأبعاد هندسيّة وحسب ، بل هو مكان عاش فيه النّاس ليس بطريقة موضوعيّة ، وإنما بكل ما للخيال من تحيّزات .
والسّؤال الذي يبدو ملحّاً هنا ، لماذا هذه الإستعادة الشّعريّة للمكان الماضي ؟ لماذا تتدخّل المخيّلة في تشكيل المكان من جديد ؟ لماذا يضغط المكان وبإلحاح بإتّجاه التّنفيس الّلغويّ عنه ، بل إستعادته مرة أخرى ؟ تبدو الّلغة _هنا _ أقرب إلى أن تضطلع شعريّاً بالوظيفة التي أشار إليها أسامة بن منقذ في دواعي قيامه بجمع هذه الإختيارات الشّعريّة المكانيّة من النّصوص القديمة ، وما نَظَمَه هو، إذ يرمي إلى جمع :" ما يبرّد الّلوعة ، ويسكّن الرّوعة " ، ويكون " لذي البثّ راحة " ، فالذّات _ هنا _ التي فقدت المكان قد وجدت في الّلغة ما يسلّي ، وفي العودة إلى الذّاكرة الشّعريّة الجمعيّة المشحونة بدلالات الحنين والألفة المفقودة للأهل والمكان ما يعين على تحمّل مصاب الفقد : " إنّي دعاني إلى جمع هذا الكتاب ، ما نال بلادي وأوطاني من الخراب ؛ فإنّ الزّمان جرَّ عليها ذيله ، فأصبحت " كأنْ لم تغنّ بالأمس " ، موحشة العرصات بعد الأنس ، قد دثر عمرانها ، وهلك سكانها ، فعادت مغانيها رسوماً ، والمسرّات بها حسرات وهموماً ، ولقد وقفتُ عليها بعدما أصابها من الزّلزال ما أصابها ، وهي " أوّل أرض مسّ جلدي ترابها " فما عرفت داري ، ولا دور والدي وإخوتي ، ولا دور أعمامي وبني عمي وأسرتي ، فبهت متحيراً مستعيذاً من عظيم بلائه ، وانتزاع ما خوّله من نعمائه " .
فصاحب كتاب " المنازل والدّيار " قد ألّفه تعزية ومواساة لنفسه على فقده أهله ومنازله ودياره ، بل كل ما يتعلّق بهم ، أو يربتط بذكرياتهم إثر الزّلزال العظيم الذي هزّ " شيرز " آنذاك ، وجعلها أثراً بعد عين، ولم تكن " شيرز " بالنسبة لابن منقذ وطناً كأيّ وطناً ، فتذكر المصادر التّاريخيّة بأنّ الفضل كلّ الفضل يُردّ للآل منقذ في دفعها لأنْ تتبوّأ مكاناً ذا قيمة وأهمية في التّاريخ ، فلم يكن لشيرز قبل عهد بنو المنقذ فيها أيّ دور ، بل كانت قليلة الأهمية ، حتى استولى بنو منقذ عليها في عام 474 وأسسوا فيها إمارة مستقلة امتدّ نفوذها لعام 552، وتمكنوا من المحافطة عليها وقاموا طوال مدة حكمهم بمجموعة من التحصينات الدفاعية حول (شيزر) ، و بنوا بوابة حصينة على الضفة الغربية لنهر( العاصي) مقابل جسر( شيزر) ، وسميت بحصن( شيزر) ، والجسر بذاته سمي جسر( بني منقذ) . في عام 552 كانت شيزر قد تهدمت من الزلازل الذي أصاب القسم الشمالي من سورية ، ورغم أنّ نور الدين زنكي حاول إعادة بنائها في نفس العام لكن المدينة لم تنهض ثانية ، إذ إننا لا نجد الآن منها إلا خراباتها الباقية فقط .
فأسامة بن منقذ _ والحال هذه _ قد فقد مكانه الأوّل ، قد فقد " شيزر" المكان الفعليّ الأموميّ الذي شهد ذكريات الطّفولة ، وهناءات الصّبا والشّباب ، ومرابع الكهولة ، وسكنى الأهل و الأحباب ، لم يكن مكاناً عابراً أو عاديّاً ، أو مرتبطاً بحبيبة راحلة ، أو مفقوداً بسبب منفى أو عدوّ غازٍ ؛ ففي هذه الحالات تغدو إمكانيّة إسترداده محتمَلة ، والأمل بالعودة إليه بعد النّفي أو الغزوّ واردة ، إلا أنّ المكان _ هنا _ أي " شيزر " قد تمّ فقده وللأبد بسبب الزّلزال الذي أتى على أدقّ معالمه تماماً ، وقضى على جميع ناسه ، وكلّ ما يرتبط به وبهم من ذكريات ؛ إنّ المكان المفقود هنا ، قد اندثر تماماً ، واختفت معه كل آمال الرّجوع إليه ، وهذا ما يخلق حالة اللاتوازن والاضطراب ؛ فشيرز لم تكن وطناً فحسب بل كانت أرضاً وبيتاً وأهلاً وأحبة وذكرى ، قد عيشت كتجربة حميمة ، وامتّدت على طول سنوات عديدة ملجأ وملاذاً وإحساساً طاغياً بالدّفء والأمان ، لا سيما وأنّها مكان " الألفة والإنتماء الذي يمثّل حالة الارتباط البدئي المشيمي برحم الأرض _ الأم ، فيغدو الإحساس ( بها) إحساساً أصيلاً وعميقاً ، ويزداد هذا الحسّ شحذاً إذا ما (تعرّضت) للفقد أو الضياع " .
فالذّات التي فقدت الوطن / الأرض / البيت ، قد فقدت توازنها ، وإستقرارها ،لأنّ المكان هنا لا يُعاش بذاته أو لذاته ، بل هو يمثّل تجارب الإحتكاك الحميميّ بينه وبين ناسه " وهو يتشكّل وتتضح أبعاده من التأثير الاجتماعي والفكري ، وليس العكس ؛ فالمكان هو الكيان الاجتماعي الذي يحتوي على خلاصة التفاعل بين الانسان و مجتمعه ، ولذا فشأنه شأن أي نتاج اجتماعي آخر يحمل جزءاً من أخلاقية و أفكار ووعي ساكنيه " ، ومن هنا اكتسبت الأماكن في علاقاتها مع أناسها خصوصية تشكّلت من تعاقب التفاعل وتبادل التأثير بين الناس والأمكنة ، ومن هذا التّأثير المتبادل تولد مفاهيم الألفة والحميمية والدّفء والأمان التي هي في نهاية المطاف تشكّل معاني الوطن والأرض والبيت والغرفة... ، وكل ما يوفّره الإحساس بالمكان من معانٍ ودلالات .
يبدو واضحاً أنّ النّسق المكاني لدى أسامة بن منقذ قد تشكّل من هذه الأبعاد الإجتماعيّة للمكان ، وما تركه تأثير النّاس في المكان ، وتأثير المكان في النّاس ، و كل هذا فيه ، من تصورّات عن مفهومه للوطن، وهو ما بدا واضحاً من خلال طائفة من الثّنائيّات التي وصف من خلالها أسامة بن منقذ تحوّل " شيزر " من مكانٍ حميميّ إلى مكانٍ معادٍ ، من الأنس إلى الوحشة ، من المسرّات إلى الحسرات ، من المغاني إلى الرّسوم ؛ فالمكان هنا يحضر من خلال نظامٍ تقابليّ بين ما كان وما أصبح حقيقة واقعة ، وهو بماضيه يشكّل مفهوم المكان الحقيقيّ الذي يبعث الشّعور بالهناءة ، ويوفّر الحماية للذّات والجماعة ، وهو بحاضره يسلب هذه الذّات إحساسها بالإستقرار ويخلخل توازنها ، بفقدانه أهمّ مقوّمات تشكلّه ، وإنتفاء حصول أيّ تفاعل إنسانيّ داخله ، وبالتالي خسرانه لمسبّبات وجوده وقيامه .
فهو حاضرٌ " هناك " بالماضي ، أمّا الآن " هنا " فليس إلا أثراً وطللاً ، و هنا تحديداً تتجلى "وظيفة الشّعر الكبرى ، كما وصفها غاستون باشلار ، و هي في جعلنا نستعيد مواقف أحلامنا " ، وإن كان ذلك وبتعبير أسامة بن منقذ " لا يفيد ولا يجدي " إلاّ أنّه " راحة " حين تصبح المشاركة على مستوى الّلغة / الشّعر ، تعني التّخلّص من همّ " الإنفراد من الأهل والإخوان ، ( وعبء ) الاغتراب عن البلاد والأوطان " ، إحساس الذّات بالغربة إنّما هو إحساس بالفقد المزدوج المكثّف للمكان والأهل ، وبسبب انتفاء أيّ إمكانيّةٍ بعودة أيّ منهما يجعل من شيزر " صورة عظيمة للألفة المفقودة " للأمان والإستقرار العاطفيّ.
إنّ التّعبير الشّعريّ عن تجارب الإحتكاك الحميميّ بالمكان ولا سيما بعد فقده والحنين إليه ، يشحن حاضر المكان المزعزع المنكوب بهناءة الماضي ، ويخفّف من وطأة الفجيعة ، على نحو ما أشار " باشلار" إلى أنّه بغض النّظر عن " التّأثر العاطفي الذي يلوّن مكاناً ما ، سواء أكان حزيناً أو مضجراً ، فما دام قد تمّ التّعبير عنه شعرياً ، فإنّ الحزن يتناقص ، ويخف الضّجر ؛ فالمكان الشّعريّ لكونه قد تمّ التّعبير عنه ، يتّخذ قيم التّمدد ، ... هذه الفاعلية التي تتسمّ بها الشّاعرية المكانية والتي تتوجّه من الألفة العميقة إلى المدى اللانهائي " تجعل من تجارب التّعبير الشّعريّ عن المكان تتّسع لتتخذ قيماً إنسانيّة كبرى ، وتنسحب من كونها حالة فرديّة ، أو خبرة شعريّة ذاتيّة ، إلى حالة جمعيّة تخصّ الإنسان في كل زمان وأيّ مكان ، لا سيما وأنّ المكان كما أشار " ريلكه " وإن كان ذاتيّاً منغلقاً على تجربة شخصية حميمة إلاّ أنه وعلى نحو ما يصبح كونياً " عبر كل كائن إنسانيّ ينفتح المكان الفريد الحميم على العالم ... " ، وهذا الإنفتاح الذي يتمّ عبر التّعبير الشّعريّ يجعل من المكان المفقود أو المكان الحلم أو حتى ذلك المكان المعادي منفتحاً ، نامياً ، متطوّراً بفعل الّلغة ، ويتخذ شكل الرّمز القابل للإسقاط على أي تجربة مماثلة .
فعلى الرّغم من أنّ الأدب العربيّ قد شهد وضع مصنّفات في المختارات الشّعريّة ، إلاّ أن تجربة أسامة بن منقذ في إختياراته في " المنازل والدّيار " تنسحب من كونها رغبة في الجمع والتّبويب ، إلى إنفتاحها على الذّاكرة الشّعريّة ، وانتقائها منها ما يعزّز قيم المشاركة الوجدانيّة لتجربة فقد المكان ؛ فلم يعد " طَلل " إمرىء القيس ، أو " وطن " ابن الرّومي " ، أو " شيزر " أسامة بن منقذ ، مكاناً خاصّاً ذاتيّاً ، بل تشبّع بأبعاد إنسانيّة كونيّة ، وتزاحمت المختارات الشّعريّة لتعبّر عن همّ واحد وإنْ تعدّدت أشكاله ؛ فأسامة بن منقذ قد جعل المكان المفقود لجلّ من إختار أن يسجّل تجاربهم ، مكاناً رمزاً لأي ذات أرادت أن تتحّد بالهمّ العام ، وأن ترى مكانها المستلب يتوزّع ويتمدّد في أمكنة الآخرين ، و حزنها ينتشر في معاناتهم ، وأن تقع على المكان المعادل لمكانها المفقود ذاك الذي تشكّل بفعل الّلغة ، ويُعاد تشكيله مراراً وتكراراً وقت كل تجربة مماثلة .
إنّ " شيزر " التي تمثّل في " المنازل والدّيار " المكان الأول ، قد نجح أسامة بن منقذ في جعلها تتوزّع وتتمدّد على آلالاف الأماكن والتّجارب الشّعرية التي عاينت المكان المفقود ، وأراد بذلك أن يحقّق بالّلغة بعثاً لها ، وأن يراها في" أطلال " الجاهليّة ، وفي" مرابع" طرفة بن العبد وعمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة ، وفي "منازل" أبي تمام والبحتري و المتنبي ، وفي "ديار" مهيار و ذي الرّمة والنّابغة الجعدي ؛ فقد أراد أن يرحّلها إلى كل التّجارب السّابقة ، وأن يعاينها هناك بحسب خبرات الآخرين ، ومواقفهم ، ورؤاهم ، علّه يحقّق نوعاً من التّوازن والإستقرار حين يصبح الهمّ واحداً ، و تتحدّ الأمكنة المفتقدة عبر الزّمان والمكان لتكون واحدة هي الأخرى ، ولتبدو "شيزر " في عيون الآخرين وتجاربهم هي مكانهم المسلوب ، و ناسها هم ناس كل الشّعراء الذين عانوا من تجارب الرّحيل والفقد ، حينها يبدأ المكان / الهناك بالتّشكل من جديد بفعل الّلغة ، لكنه الآن المكان / الرّمز ، الواحد ، المكان المفتقد أياً كان ، وفي أي زمان قد مرّ ، وعلى أيّ لسان شاعر قد تمّ التّعبير عنه .
إن المنازل المفتقدة هنا يعاد تأسيسها في الشعر، وزرعها في اللغة، بحيث إنها تتمدّد وتتعدّد، وهي من خلف ذلك تتوحّد، وكأن التأليف بين جنبات المادة المنتخَبة يوسّع الديار، إذْ يبعثها من جديد، ويحققها مكاناً فنياً يقوم على مساحة الشعر العربي، ويشغل مداه الفسيح، وعصوره المتعاقبة، التي يجلوها التأليف معاً في تجاور شرائحها وحضورها المتزامن؛ ذلك أنّ التجربة الحادثة تنادي غيرها بينما هي تخطّ نفسها، وتنظر إلى نفسها في مرايا غيرها فتزداد جلاءً، وتردّ غيرها على ذاتها فتزداد امتلاءً. لكأن ديار أسامة ومنازله التي نالتها يدُ البلى في القرن السادس الهجري، تتبلّج الآن، وتشعّ على أرض الشعر، فتطاول تاريخه، وتطوي حلقاته في استوائها عليه .
لذلك عُدّ كتاب " المنازل والدّيار " من وجهة نظر بعض الدّراسات نموذجاً دالاً على " ظهور وتطوّر الإحساسات والمشاعر الوطنيّة في الشّعر العربي ، وتحليل صورة الوطن ، والتّعبير عنها شعرياً،وملاحظة ظلال العلاقات العاطفية مع الوطن وصور تعبيرها الشعرية " مع ملاحظة أنّ مفهوم " الوطن " هنا لا يعني الدّلالة المعاصرة ، إنّما يعني متعلقات المكان من : طلل ،دار ، منزل ..." بكلمة أخرى ، فإنّ " المنازل والدّيار " هو تكثيف لشّعرية المكان في النّصوص القديمة ، وما تعكسه هذه الشّعرية من دلالات تشير إلى أنّه وإنْ تعدّدت أشكال المكان من : " منازل وديار ومرابع ومغانٍ وأطلال ... " إلاّ أنّها في نهاية المطاف تعكس تشكّل مفاهيم الوطن بالنّسبة للشّاعر العربيّ ؛ فالوطن قد يكون طللاً غادرته الحبيبية أو أرضاً نُفيَ عنها شاعر أو مغانٍ درست بعد حين ، وهي بذلك توضح رؤية الشّعر العربيّ القديم وفلسفته حول المكان ؛ " فالمكانيّة الشّعريّّة تخلق جمالياتها من خلال التفاعل الشديد والمعقد بينها وبين فلسفة العصر ورؤية الإنسان إلى الكون " وإذا كانت الإختيارات الشّعريّة في " المنازل والدّيار " تمتد زماناً على نحو ما يربو على عدّة قرون ، فإنّها بذلك تعكس موقف الشّعر العربي القديم من المكان ، ورؤيته وفلسفته لتّجاربه مع ما يحيط به ؛ بدءاً من الخيمة وانتهاءً بالكون من حيث هو المكان الكبير الذي تتفرّع عنه كل الأمكنة الأخرى .
و يبدو لهذا البعث المكانيّ الّلغويّ بما يحمله من قيم إنسانيّة وإحتكاك حميميّ بين الإنسان والمكان الدّور الأهم ، والعامل الأكثر تأثيراً في مقروئيّة النّصوص الشّعريّة ؛ " فالمكان لا يبرز في الشعر إلا بإعتباره ممارسة ونشاطاً إنسانيين مرتبطين بالفعل البشريّ ، ويحملان من بين ما يحملانه مواقف وعواطف وخلجات ومشاعر وإنفعالات الكائن الإنسانيّ ، بل وكل التّفاصيل الصّغيرة والكبيرة ، المُعْلنة والمختفية ، والواقعيّة والمتخيّلة والمُمكِنة للإنسان عبر تاريخه العام والخاص .
فالشّعر يعلّق تجربة الحاضر حيناً ، ليرحل إلى الماضي إلى إستعادة حميميّة لجاذبيّة المكان ، و شاعريّة أهله ، إلى ما تَخَزّن في تفاصيله مِن خيالات مَن عبروه وسكنوه وأحبّوا به وبغضوا ، ليلتقط نبضهم من جديد ، و ليؤسّس مع جماليات الخيال بعثاً لهم وله ، وهو في هذا يمنح تلقّيه نشوة الإستعادة،و جاذبيّة ابتناء المكان ومن غاب عنه من جديد .
المكانيّة في نصوص " المنازل والدّيار "
غالباً ما تعدّ أمكنة الماضي " مشبّعة " بمعنى أنّها مليئة بالرّموز والدّلالات و تنشّط الخيال ، بينما أمكنة الحاضر تقف على ضفة مقابلة ، فهي " غير مشبّعة " تحرّك الحواس فقط إذ أنّها على النّقيض من تلك لا تمتلك تاريخاً نابضاً ، و في السّياق نفسه فإنّ معايشة مكان جميل ونقل تجربته يثير في الذّهن مباشرة هناءة ذلك المكان ، بينما سلسلة الإحباطات التي يعانيها المرء في مكان ما تجعل من هذا الأخير مكاناً عدوانيّاً ؛ فمقاربة شعريّة الأمكنة غالباً ما تتمّ من خلال نظامٍ تقابليّ لمكانٍ إيجابيّ حميميّ متطوّر ، وآخر سلبيّ عدوانيّ منغلق ، وهذه التّقاطبات التي تشيع عند دراستنا للأمكنة هي ما تمنح المكان تميّزه ، وتوضح أبعاد شعريّته ، وتدفّقه الجماليّ .
فمفهوم التّقاطب يعدّ أداة منهجيّة إجرائيّة ملائمة للكشف عن الأبعاد الشّعريّة للمكان داخل القصيدة ، وقد أشار إلى ذلك غاستون باشلار الذي درس المكان من خلال ما عدّه هو تقاطباً رئيساً " البيت / اللابيت " وأشار إلى أنّه و من خلالهما يمكننا أن نقيم كل أنواع التّناقضات ، و ما يندرج تحت هذا التّقاطب من سلسلة من التّعارضات والثّنائيّات هو ما يخلق التّوتر الجماليّ للمكان ، فالدّاخل / البيت هو ما يوفّر الحماية والدّفء والحميميّة والألفة ، و الخارج / اللابيت هو على النّقيض يشيع الإحساس بالخوف والبرودة والوحشة ، و هذا التّعارض هو ما يمنح " المكان " شعريّته وشرعيّة وجوده كحامٍ للذّكريات ، وحاوٍ لأحلامنا في إستعادة هناءات المكان الماضي .
ونجح النّاقد السّوفيتي " يوري لوتمان " في إقامة نظرية متكاملة للتقاطبات المكانية في كتابه " بنية النص الفني " ، حيث يذهب إلى أنّ الإنسان يُخضع العلاقات الإنسانية والنّظم لإحداثيات المكان ، ويلجأ إلى اللغة لإضفاء إحداثيات مكانية على المنظومات الذّهنية فيرى مثلاً أنّ مفاهيم من مثل الأعلى / الأسفل ، القريب / البعيد ، المنفتح / المغلق ، المحدود / اللامحدود ، المنقطع / المتصل ، تصبح من الوسائل الأساسية للتعرّف على الواقع ، وإنّ إضفاء صفات مكانيّة على الأفكار المجرّدة يساعد على تجسيدها ، وتستخدم التعبيرات المكانيّة بالتبادل مع المجرّد مما يقربه إلى الإفهام ، وينطبق هذا التّجسيد المكاني على العديد من المنظومات الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والزمنيّة ، بل إنّ هذا التبادل بين الصّور الذهنيّة والمكانية امتد إلى التصاق معانٍ أخلاقيّة بالإحداثيات المكانيّة نابعة من حضارة المجتمع و ثقافته ، فلا يستوي " أهل اليمين " و " أهل اليسار " ، كما يتدرج السلم الاجتماعيّ من " فوق " إلى " تحت " ، و" الأخلاق العالية " و "الأخلاق الواطئة " ، و تلعب سلسلة الثّنائيّات هذه على المستوى الشّعريّ دوراً هامّاً في إنتاج الصّفات المكانيّة داخل النّصوص ، أو كما أشار " باشلار " إلى أنّ " الحياة غالباً ما تنبعث في كل الأشياء عندما تتجمّع التّناقضات " .
وعلى الرّغم من أنّ نصوص " المنازل والدّيار " تنتمي إلى أزمنة وأمكنة شديدة التّنوع والاختلاف ، إلا أنّه ، وبالإضافة إلى وحدة الموضوع العامّ الذي تنتمي إليه ، ثمة ما يجمع بينها ، ثمة رؤية تلملم أطرافها و تربط بين تناثرها الزّمانيّ والمكانيّ ، فما يشيع داخل تلك النّصوص من دوالّ مكانيّة تزخر بالتّقاطبات وتحفل في إقامة مقارنات بين ما كان وما هو ماثل ، بين الحلم و الواقع ، وما يندرج تحت ذلك كله من سلسلة من التّقابلات التي تصف حال تبدّل المكان وأهلّه ، كل ذلك يكشف عن رؤية أقرب إلى أن تكون موحّدة لشعريّة المكان في تلك النّصوص ، فهذه الأمكنة وعبر ما تظهره المختارات الشّعرية قد هجرت أبعادها الجغرافيّة المحدّدة ، وصورتها الحقيقيّة لتتحول وعبر النّص الشّعريّ إلى عتبة ألم ومعاناة ، فهي أمكنة مخرّبة هجرها ناسها ، وبقيت عصفاً للذّكريات ، وقد تبدّت
شعريتها من خلال تقاطب رئيس " هناك / هنا " فالمكان "هناك" يحفل بناسه وجاذبيته وهو يُعاش مرة أخرى وعبر فعل الحاضر من خلال المكان الـ " هنا " الذي غالباً ما يكون عدوانيّاً منغلقاً ، ويشكّل معبراً للهروب نحو الماضي ، نحو الألفة والهناءة والحميمية .
لذلك يمكن القول بأنّ فكّ بنية المكان في نصوص " المنازل والدّيار " يتمّ عبر التّقطاب " هناك / هنا" الذي يتمظهر من خلال طائفة من الثّنائيّات المتعدّدة التي يمكن أن يعدّ ما هو دالّ عليها ، من خلال : " الحاضر / الماضي " ، " الألفة / الوحشة " ، " الانقطاع / الاتّصال " .
مقاربة التّقاطبات المكانيّة
1 _ ثنائيّة " الحاضر / الماضي " : تحوّل المكان :
يشير باشلار إلى أنّ الذكريات تظلّ ساكنة ، وكلما كان ارتباطها بالمكان أكثر تأكيداً أصبحت أوضح، إنّ كل أماكن عزلتنا الماضية ، والأماكن التي عانينا فيها من الوحدة ، والتي إستمتعنا بها ورغبنا فيها وتآلفنا مع الوحدة فيها تظل راسخة في داخلنا ، لأننا نرغب أن تظلّ كذلك ، نرغب أنْ تظلّ تلك الأمكنة مستقرّة بوعينا حبلى بالأحداث والرّموز ومشحونة بالدّلالات و الذّكريات ، وهو ما يشكّل أجواء خصبة للمخيلة الشّعرية التي يستفزّها الماضي ، ويضغط باتجاه عيشها من جديد من خلال الحاضر فعلاً ومكاناً ؛ فالشّاعر يعيش مكان الماضي عبر فعل الحاضر ، ويعاينه بصورة تقابليّة بين المكان الحاضر " هنا " ، والمكان الماضي " هناك " .
تبدو مقاربة هذه الثّنائيّة " الحاضر / الماضي " معينة على الكشف عن رؤية تحوّل المكان من : الحميم إلى المعادي ، و هي الرّؤية التي أفصحت عنها بِشارات القصيدة العربيّة في مقدّماتها الطّلليّة ، بل يبدو أنّها الرّؤية التي تطبع الشّعر الجاهلي بكليّته ، و هو ما عاينه كمال أبو ديب حين دراسته للقصيدة الجاهليّة " يبدو الشعر الجاهلي مهووساً بالحاضر ، لكنه حاضر ذو وجه واحد وذو بعد واحد ، إنّه حاضر التّفتيت والإنحلال والتغيّر الفاجع ، الحاضر لا يحمل في ثناياه وعداً بمستقبل أزهى وأخصب وأكثر ثراء ، إنه دائماً حاضر قاتم مأساوي ، والاستجابة لهذا الحاضر ، لا تتمثل في بحث عن مستقبل أفضل أو في عالم الحلم بالممكن الأجمل ، أي أنّ المستقبل لا يشكل الحركة المضادة للحاضر المتفتت المنهار ، بل تتمثل في إستعادة الماضي " .
_ يقول طرفة بن العبد :
لهندٍ بحزّان الشّريف طلول تلوح وأدنى عهدهنّ مـحيل
وبالسّفح آيات كأنّ رسومها يمان وَشَتـْه رَيْدة وسـحيل
فغيّرن آيات الدّيار مع البلى وليس على ريب الزّمان كفيل
هذا الإستسلام لريب الزّمن ، هو ما يجعل إستعادة الماضي عبر المخيلة الشّعرية هو ما يسعف على تحمّل مصيبة الفقد ، وتغيّر المكان من النّداوة و فيضان الحياة و الخصب إلى ما فعلته يد البلى من تخريب لمعالم الحياة النّدية . ويبدو الاقتران بين الماضي / الخصب ، والحاضر / القحل ، هو ما يشير إلى ارتباط الحياة بالمكان الماضي ، وفقدان هذا العنصر في المكان الحاضر ولا سيما في حياة الجاهليّ الصّحراويّة هو ما يجعل المكان / الحاضر ليس مكاناً عدوانيّاً فحسب ، بل مكاناً عدوانيّاً طاغيّاً ، يخلو من أي معالم للحياة بإفتقاره إلى الخصب والنّداوة ، وصورة الحاضر الفاجع ، المفتت ، اللامستقر تُرحَّل عبر الشّعر لتطبع رؤية الشّاعر العربيّ في أزمنة مختلفة :
-يقول الشّريف المرتضى :
عرصات أصبحن وهي سماء = ثـم أمسـين بالـحوادث أرضا
وربـاعٌ كـانت عرين أسود = أصبحت للضّباع مأوىً ومفضـى
هذه الحركة الرأسيّة القائمة بين " فوق _ تحت " والتي يشير إليها التّقابل الدّال بين السّماوي العالي الرّفيع ، و الأرضي الواطىء الوضيع ، والذي يتمّ عبر تحوّل الزّمن من " الصّباح " الجليّ المبهر إلى " المساء " المعتم الغامض ، و ما يسانده من تغيّر يقلب " القوّة " وما تحفل به هنا من ألفة وأُنس إلى " ضّعف " ووحشة كل ذلك يتلاحق عبر طائفة التّقابل والتّضاد القائمة في النّص ليدفع بجعل حركة تحوّل المكان أكثر قوّة وإثارة وبياناً ، ما بين " الماضي " الأعلى القويّ المبهر الأليف إلى " الحاضر" الأسفل الضّعيف الغامض الموحش .
وتظهر حركة التّحول عبر ثنائيّة " الماضي / الحاضر " وما يصاحبها من تقابل في سياقات أُخر :
- فلقد قطـعت بـها زمـاناً للصـبى = والّلهو مخـضّر كـخضرة آسـها
_ يهيّج الذي قد كان من سالف الصّبى = على مـستهام قلبـه غيـر ذاهـل
سقيا لـه زمـناً نـعمـت بـظـلّه = لـكنّه لـمـا مضى لـم يـرجـع
_ أحبّ ثرى الوادي الـذي بان أهلـه = وأصـبو إلـى الرّبع الي محّ مغناه
_ يا موسـم الّلذات غالــتك النـّوى = بـعدي فـربعك للـصّبابـة موسم
_ أحـام صفـوّ اللـيـالـي لـصبّ = ذكـرتـه الأطـلال عهد التّصافـي
كم تـرى شمـل أهلها في افتـراق = وتـرى شـمل دمـعه فـي ائتلاف
يبدو الحنين إلى الماضي إنّما هو حنينٌ إلى صباباته " الصّبى ، أصبو ، صبابة ، صبّ " و ما يتعالق معها من دلالات تشير إلى نسغ الحياة النّضر كما عبّرت عنه النّصوص السّابقة " مخضّر ، هُيام ، ظلّ ، صفو ، لذّة " إذ هو عهد الشّباب وما ينطوي عليه من إخضرارٍ وزهوّ ، و كيف لا ، وتلك الأماكن كانت آهلة بالأهل و لا سيما " المرأة / الحبيبة " التي تضجّ بالصّبا وتضخّه فيمن حولها ، أو كما يشير أبو تمام :
_ يا موسـم الّلذات غالـتك النـّوى = بـعدي فـربعك للـصّبابـة موسم
ولقد أراك مـن الكواعـب كـاسياً = فـاليوم أنـت مـن الكواعب مـعدم
فالمكان " الماضي" هو موسمٌ لذّاتٍ، هو هناءة الصّبا، إلا أنّ دلالة " الاغتيال " بما فيها من إشارة إلى موت مفاجىء وسريع ترمي إلى إنتهاء تلك الهناءة كلمح البصر، و بإنتهائها أوقفت معها فيضان الّلذة الذي تثيره دلالة " كاسياً بالكواعب " فهو موسمٌ مترعٌ بالخصب، بخضرة الحياة معهن ، وهو " الآن " ليس خالياً منهن فحسب ، بل " معدم " أي يتبدّى معه أيّ تشبّثٍ بعودته قطعياً.
إنّ العماد هنا يكمن في إحتباس زمن الهناءة بالذي مضى ، وقصوره عن بلوغ دائرة التّمام في حاضر الشّاعر المليء بأمكنة تشيع الكهولة في الرّوح والجسد :
_يا منزلاً أضـحى كـجسمي بـالياً = حـزن القـلوب وحسـرة للـنّاظـر
وأكثر ما تفعله هذه الأماكن هو إستفزاز الذّكرى لإستعادة صفو الحياة التي تبدو " الآن " متيبّسة ، محروقة ، لا أمل في ابتناءها من جديد كما أِشارت إليه الدوالّ في النّصوص السّابقة : " سالف ، محّ ، لم يرجع ، غالتك " ، فهو عهدٌ سالف قد محّت مغانيه زال ولن يعود ، فالماضي الهنيء هو أبعد ما يكون عن متناول الهوى :
_ تمنيّتهم بالرّقمتيـن، ودارهـم بـوادي الغـضا يا بـعد مـا أتـمناه
فالمكان / الماضي بكل ما يحويه من صخب الحياة و خصبها ، قد انتهى " هناك " و المكان كما يتبدّى من خلال الصّورة الشّعريّة التي رسمها الفنّد الزّماني هو حاضرٌ بأبعاده الحسيّة و الذّهنيّة المجرّدة وهو بكل تلك الأبعاد ينهار ويتداعى على نحوٍ لا يجدي معه الجزع . إنّما هو إستسلام لفعل الزّمن وركون إليه :
_ فاجزعوا للأمر ، أو لا تجزعوا = قد تداعى السّقف وانهار الجدار
إنّ تمام الأمر على نحو ما يشير إليه " مهيار" بأنّ " المكان / الماضي" هو المكان الحقيقيّ بما تحفل به دلالة " الحقيقة " من قيمة مطلقة للمكان تجعل منه بؤرةً أو مركزاً يستقطب إلى مداره كلّ الأمكنة الحاضرة التي تقف على النّقيض منه إذ هي " ظنّ / وهمّ / خيال / أو ظلّ " للمكان الماضي ، وهي تشكّل في واقعها الظنّي هذا معبراً لحركة المخيلة التي تنطلق من الحاضر الوهم وترتدُّ إلى الماضي الحقيقيّ لتشكلّه من جديد عبر نظامٍ تقابليّ ثنائيّ ، ويبقى هذا المسار الدّائريّ بين المكان الحاضر الظنّ إلى المكان الماضي الحقيقيّ مابقيت المخيلة الشّعريّة الحالمة بالعودة إلى الذي عبر ولن يعود مكاناً وأهلاً وذكرى وصبابة وإخضراراً وهناءة وألفة وحماية ، يقول مهيار :
- يا ديار الحيّ من خَبْتِ الّلوى = عُدتِ ظنّاً بعد ما كنتِ حقيقة
أخذ الدّهر قشيباً رائقاً مــن = من مغانيكِ وأعطاكِ سُحوقه
2- ثنائيّة الألفة / الوحشة :
يشير باشلار إلى أنّ قيمة المكان ، بل القيمة العظمى له إنّما تكمن في " الألفة " ؛ فأهمية المكان لا تنبع بطبيعة الحال من أبعاده الهندسيّة المتميزة ، ولكن لكونه قد عيش فيه مراحل الطفولة والصّبا والشّباب أي بسبب كونه مكاناً أليفاً ، وفي الشّعر يصبح بُعد الألفة هو البديل للبعد الهندسي ، وجوهر الألفة في المكان العربي هو السّمة الأمومية ، وحينما يتمّ إستدعاء المكان الماضي تُستدعى معه أموميته بما تزخر به من حنوّ وألفة وحميميّة وسَكَن ، وهي إذ ذاك تشكّل معاني " البيت " الحقيقي ،و في المقابل فإنّ فقدان هذا المكان إنّما هو فقد لجوهر القيم الأساسيّة التي تمنح المكان سماته الحقيقيّة :
- أعـلى العهدِ منزلٌ بالـجنابِ = كان فيـه مـتى أردت طـلابي
المغاني تلك المغاني فهل فيـ = ـهنّ ما قد عهدت من إطرابي ؟
ليست الدّار بعد أن توحِشَ الدّ = ارَ نـوىً عـير جنـدل وتراب
فإذا لم يُعِدْ حنيني عـلى الـدّا = رِ حبيبياً فليـس يغني انتـحابي
في هذا النّص لا نقع على تفاصيل المكان الهنيء الماضي ، ولا نستطيع أن نلتقط منمنمات العيش فيه ، إلاّ أنّنا نستطيع تلمسّه وتلمسّ الحياة فيه، في انعكاس الصّورة ، في المرآة المقابلة لصورة المكان الآن ، تتصاعد المفارقة بين الوضعين ، حين يبدو صوت الشّاعر متخماً بالحنين منصبّاً على البحث عن المكان الدّارس الرّاحل ، و بدلاّ من أن ينتهي إلى التّواصل مع المكان ، فإنّه على النّقيض من ذلك ينكر الدّار وينقطع عنها ويرفضها ، فالدّار حين ينأى عنها ناسها ليست الدّار التي خبرها القلب ، في هذا النّص يبدو الانقطاع عن المكان هو إنكار لوجوده دون أهله ، هو عدم اعتراف بشرعيته حين يخلو من ناسه ؛ فالدّار هي صورة الألفة التي متى فُقدت خلت من معناها ، حينها تتفكّك علائق الشّاعر بالمكان بسبب هذا التّغيير الجوهريّ الذي طرأ على معنى المكان ، و بدّل حاله من سعة " الألفة " إلى ضيق " الوحشة " وهنا تنطفأ هناءة القلب ، ويُخلَّى المكان الخالي من ناسه للذّكرى .
وفي هذا السّياق يشير جرير :
- فيا حبّذا أيـام يحتلّ أهلها = بذات الغضا والحيّ في الدّار آهلُ
وإذ نحن ألاّف لدى كلّ منزلٍ = ولم تـتفرّق للـطّيّات الـحمـائل
يظهر صوت الشّاعر في المقطع السّابق في صيغة المتكلم الجمع " نحن " ؛ ليكون المفهوم المتصوّر عن معنى " المكان " مفهوماً جماعيّاً ، ومن هنا يكتسب قيمة مضافة ، فهو لايخصّ الشّاعر وحده ، بل سكنى الدّار والمنزل . إنّ البحث عن صورة المكان الرّاحل تتوازى و افتقاد الذّات لأُنس الجماعة ، وحميميّة الدّار حين تكون آهلة ، و مما يزيد هذه الصّورة تكثيفاً وعمقاً هو التئام دلالات " التّجمع والالتصاق والتّرابط " التي تثيرها " ألاّف " بالمكان " لدى كل منزل " ؛ فالمكان هنا هو حاوٍ للجماعة ، وحامٍ لها ، ليس وفق دلالة ماديّة ، بل هو يتحرّر من الأبعاد الهندسيّة المحدودة والتي تضفي معانٍ تقليديّة للحماية ، ليثير ألفة التّرابط المعنويّ الذي يلمّ شمل الأهل ويربط بينهم ، ومما يعزّز هذه الصّورة هو اقترانها بدلالة " التّفرق " التي تتمّ في جهات شتّى ، متناثرة ، متباعدة ، " ولم تتفرّق للطيات الحمائل " .
إنّ المخيلة التي ترحل إلى زمن الحلم / التّمني " يا حبّذا " لتفتش عن التّوازن والاستقرار الذي يشيعه المكان ، تفشل في الالتئام به من جديد ، فالجهات التي فرّقت الأهل والدّواب شتت أيّ إمكانيّة في التحام أهل الدّار بها مرة أخرى . ورؤية التّمني هذه تبدو مع صوت شاعر آخر أكثر امتلاءً برغبة عيْش الألفة واقعاً مستعاداً :
_ وأنت يا وصل عُج في ربع فرقتنا = عسـاك تـجمع شمـلاً عزّ مجمـعه
عسى الليالـي بأوطاني التي سلفتْ = تَرْجِـعْـنَ فيـه رجـوعـاً لا نودّعه
تبدو مفردة " الرّبع " بما تدلّ عليه من اتّساع وما تمنحه من مساحة ، ملائمة للحركة التي تستحثّ الوصل عبر فعل الأمر " عجْ " لتثير معها توتراً بين قطبي " الفرقة / الجمع" فتجسّد رغبة التّمني " عساك / عسى " بإستعادة الشّمل الذي فشلت محاولات جمعه وإسترجاعه من جديد ، إنّ الإخفاق في إستعادة الّليالي البائدة يوازي الإخفاق ذاته في إستعادة " الأمان والدّفء والألفة " التي يشيعها أهل ذاك المكان ، إنّ توازي هاتين الصّورتين هو ما يحوّل الدّار إلى مكانٍ عدوانيّ طاغٍ _ بتعبير باشلار_ . أو كما يشير أسامة بن منقذ :
- تقول لي الأشواق : هذي ديارهم = فقـلت : نعـم ، لكنها منـهم قفر
وما كنت أهوى الدّار إلا لأهلها = وبعـدهم لا جـاد ساكنـها القـطر
- ديارٌ خلت من أهلها وتـوحشّت = فليـس بها مرعى لعين ولا خصب
الدّار هنا تحفل بصورة المكان الحاضر المحاصر بقيم تحمل دلالات سلبيّة " الوحشة ، الجدب، القفر " وهما ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بخلوّ الدّار من أهلها ، ويؤدّي الإخفاق في إستعادة المكان على نحو ما تشير إليه إعتدال عثمان ، " إلى طغيان العناصر المكانيّة التي تحمل دلالات الجدب ، وتراجع العناصر الأخرى المرتبطة بتحقق فعل التّخصيب البشريّ ، وتخصيب الّلغة " ، وإذا ما كان الإخفاق مزدوجاً أو هو للدّار وأهلها ، فإنّ تكثيف الدّلالات السّلبية سيغدو أكثر بياناً ، والتّعبير عنها سيتضاعف عبر الّلغة المثقلة بهمّ الفقد ، إنّ نسق المكان وعبر ثنائيّة " الألفة / الوحشة " يمرّ عبر هناءات الماضي التي رحلت ، برحيل ناسها ، وبقيت تعشّس في شقوق المكان كالوشم ، محفورة هناك وفي الذّاكرة ، علامة لن تمّحي ، بل هي ما تنفكّ تستفزّ المخيلة لعودة حميمية للذي عبر من هنا ، ورحل و تبدّت أي محاولة لاستعادته من جديد :
-على مثلها من أربعٍ وملاعبٍ = أذيلت مصونات الدّموع السّواكب
أعنّي على تفريق دمعي فإنني = أرى الشّمل منهم ليس بالمتقارب
أصابتك أبكار الخطوب فتشتت = نـواك بـأبكار الظّباء الكـواعب
3 _ ثنائيّة التّواصل / الانقطاع :
تتبدّى هذه الثّنائيّة من خلال الإلحاح على تكليم الدّيار والمنازل والأطلال ، وهي إذ ذاك وبفعل الشّعر إما أن تردّ التّحية بأحسن منها ، وإمّا أن تمعن في الصّمت فتزيد المكان قتامة وإسوداداً ، ويبدو السّؤال الملحّ هنا " لماذا هذا الانجذاب الأثير إلى تكليم الطلل؟ ولماذا ذلك الإنصات الخاشع لرسوم المنازل والديار؟. لاشكّ أن في الحوار والمساءلة والتبادل ما ينبئ عن مشاركة عميقة، وعقد سرّي غامض، في صيغة الحوار المنقوص والإجابة المعلَّقة. وعلى الرّغم من معرفة ذلك والإقرار به، فإنّ الامتداد بالسؤال إلى الرّسم والطلل، لا يفتأ يتكرر، ويتردّد، في مدى الانتظار الأعجم، والصّمت المطبق الذي لا يريم " .
يقول عنترة ، وتالياّ أبو تمام :
_ يا دار عـبلـة بالـجواء تـكلّمي = وعـمي صباحاً دار عبلة واسلمي
_ سلّم على الرّبع من سلمى بذي سلم = عليـه وسـم مـن الأيـام والقدم
إنّ أنسنة الدّار ، كما أراد الشّاعران ، لا تتمّ عبر فعل الأمر " تكلمي " فحسب بل هي تبين أيضاً في إلقاء التّحية عليها والدّعاء لها ، وكأنّ الدّار هنا هي صورة الحبيبة الرّاحلة ، أو هي إنعكاس لوجودها الماثل في الدّار ، و يتكشّف التّخاطب مع المكان في نصوص " المنازل والدّيار " عبر ثنائيّة " التّواصل والانقطاع " فتارة يفتح المكان آفاق المشاركة والحوار ، و تارة أخرى ينغلق عن أيّ تواصل بل يمعن في الصّمت المطبق والإعراض ، فالدّار هنا تمنح وتمنع ، تنطق وتصمت ، تتواصل وتنقطع ، وكأنّها بهذا حيناً تواسي ، وحيناً تضاعف ألم الفقد .
يقول سعيد بن حميد المعروف بالدّوقلة :
- خبّـرني أيهـا الطلـل = الأُلـى حلّوك ما فعلـوا ؟
قـال لي : لا علم بهـم = أيـها المشتاق مذ رحلوا
فابكيهم ؛ ثم ابكني معهم = بـدموع مـاؤها خضـل
قلتُ : إنّ القلب بـعدهم = من عـزاء عـنهم عطل
إنّ الطّلل هنا لا يتمنّع ، بل يستجيب لمنطق التّواصل و المشاركة التي ألحّ عليها صوت الشّاعر إذ هو قد ابتدأ الحوار يروم البحث عمّا يُبرىء الشّوق ، وهو بهذا يدفع الطّلل دفعاً نحو التّواصل علّه يحقّق بالمخيلة إشباعاً لعطش الحنين وفي الطّلل ما يروي ؛ فخطابه هنا يبدو مشحوناً بالتّفاعل الإيجابيّ فهو يردّ على التّساؤل ، ويشارك في فعل الحوار ، وإنْ كان " لا علم له بهم " إلاّ أنّه يروم إشاعة الرّاحة عبر فعل آخر سوى معرفة حال أهل الدّار " فابكيهم " ، إنّ هذا التّواتر بين صوت الشّاعر وصوت الطّلل يجعل من المكان دالاً إيجابيّا على الرّغم من اندثاره و انتفاء معرفته ، إلاّ أنّ المشاركة والتّبادل على مستوى الّلغة تشرّع مستويات العلاقة بالمكان على نواحٍ أُخر ، يبدو فيها المكان صديقاً ودوداً على الرّغم مما يظهره من عدوانيّة طاغيّة ، فهو يبدي الخراب إلا أنّه يستبطن الحياة حين ينطق ، ويحاور ، والأهم من ذلك كلّه يواسي .
وإن كان طلل " الدّوقلة " لا علم له بحال من رحل ، فإنّ دار أسامة بن منقذ تردم هذا النّقص ، و تأتي بالخبر اليقين :
_ هذي منازلهم عفـت وتفرّقوا = فسـل المنازل عنهم ماذا لقوا
تخبرك أنّ الأرض قد وارتهم = وأبتْ لهم أن يسمعوا أو ينطقوا
إلاّ أنّ دوراً أُخر تقيم تواصلاً من نوعٍ مختلف ، فهي تنبىء بالإشارة ، وتبلغ بصمتها ، عسى حالها يُغني عن طول كلامها ، يقول أبو الحسن بن منقذ :
_ سل المنازل عـمّن كـان يسكنها = من الأحبّة والإخوان ما صنعوا
تخبرك وعظاً بلا لفظ فقد نظرتْ = آمـالهم والمنايا كيف تصطرع
حين يكون شاهد الحال أبلغ من الإخبار عنه ، فإنّ الصّمت يعدّ فضيلة ، فَهَوْل ما حدث أعظم من طاقة الّلغة على الإخبار به ، فتتركه للتّأمل ، حينها يغدو " الوعظ بلا لفظ " أعلى مراتب الحكمة ، و تَحوّل الدّار و " نحولها " يغدو مفصحاّ بلا نطقٍ :
-المغاني أحفى بقلبي من العذ = ل وإن هجن لوعة وزفيراً
أفهمتني عـلى نـحول رباها = فكأني قرأت منها سطورا
على حين تمرّ أكثر أمكنة " المنازل والدّيار " عبر قطب " الانقطاع " ، فهي بصمتها ، وتمنّعها ، وقعودها عن المشاركة ، تمنح الصّدود ، وتعلّق آمال التّواصل ، وتصعّد همّ الفقد :
-وقفنا فقلنا : إيه عن أمّ سالم = وما بـال تكـليم الدّيار البلاقع
فمـا كـلمتنا دارها غير أنها = ثنت هاجسات من خبال مراجع
_ فاستعجمت دار نعمٍ ما تكلّمنا = والدّار لـو كلّمـتنا ذات أخبار
_ خليـليّ عـوجا ثـم سـلّما = عسى الرّبع بالجرعاء أن يتكلما
تـعرّفته لـما وقفـت بربعه = كـأنّ بـقاياه تمـاثيل أعـجما
ديـار لمّى قد تعفّت رسومها = تـخال نـواحيها كـتاباً معجماً
بين الطلب والشك في أمل الاستجابة والإنجاز تتكثف قوة التردد، وتكون الوقفة اصطراعاً باطنياً، وتوتراً كيانياً تتناهبه الهواجس والاندفاعات، في مواجهة خفية بين قوى متعارضة، تحاول كلّ منها أن تبطل الأخرى، بينما هي تشكل تحريضاً لها في حركة الشدّ المزدوجة، والمتعاكسة، والمتناوبة في التوجه والرجحان. ذلك ما يتبدّى في تردد الشاعر بين التوجه إلى الديار وانتظار جوابها والتبادل معها، على نحو يجعله في منطقة اهتزاز بين النفي والإثبات، وكذلك هي الحال من جهة الديار، التي تتكلم في امتناعها، وتمتنع في نطقها، بما يحفظ هذا التوازن الحركي، الذي يبقي على قوتي الشدّ والجذب، ويؤمن تغذية القلق والتفجّر، ويحفظ نشاط الحركة والمساءلة، ويجدد طاقة التحفز والانتظار ، فالدّيار وإن منحت الصّدود ، أو قدّمت القبول والتّواصل فإنّها على كلا الحالين تشارك الشّاعر في بثّ شعوره المتفلّت من طاقته على إستيعاب ما جرى ، فالدّار تحاوره حيناً ، وتتمنع عنه حيناً آخر ، فتقيم توادّاً من نوع مختلف .
- الهوامش :
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ، ترجمة غالب هلسا ، وزارة الثّقافة والإعلام ، بغداد ، 1988 ، ص 87 .
المصدر السّابق ، ص 89 .
هو ابن منقذ الأمير الكبير ، العلاّمة فارس الشام مجد الدّين ، مؤيّد الدّولة ، أبو المظفر أسامة بن الأمير مرشد بن علي بن منقذ بن نصر بن منقذ الكناني ، الشّيزريّ .
له نَظْمٌ في الذّروة كأبيه ، وجرت له أمور وحضر حروباً ألفها في مجلد فيه عبر ، مات في دمشق في رمضان 584 ، مات ابنه الكبير عضد الدولة مرهف بن أسامة / الذّهبي ، شمس الدّين محمد بن أحمد ، سير أعلام النبلاء ، ج15 ، تحقيق محبّ الدّين أبي سعيد العمروي ،ط1 ، دار الفكر للطباعة والنّشر ،1997 ، بيروت ، ص 369 – 371 / وينظر أيضاً : ابن عساكر ، أبو القاسم علي بن الحسن ، تاريخ مدينة دمشق ، ج60 ،تحقيق ، محبّ الدين أبي سعيد العمروي ، دار الفكر ، بيروت ، ص 365 / ابن كثير ، أبو الفداء الحافظ ، البداية والنهاية ، ،ج11 ، ط2 ، مكتبة المعارف ،1977 ، بيروت ، ص 369 -371 .
وهو الاتّجاه الذي نادى به غالب هلسا حيث ذهب إلى أنّ : " المكان العربيّ هو مكان أموميّ ، فإستعادة المكان بعمق في الأدب العربيّ تستدعي معها الأم كنمط أصلي ، كما تستدعي أيضاً صورة مجتمع الأمومة الذي كان سائداً في فترة من فترات التاريخ العربيّ ، ويكفي أن نذكر مثالاًعلى ذلك : القصيدة الطّليليّة " هلسا،غالب ، المكان في الرّواية العربيّة ، ط1 ، دار ابن هانىء ، دمشق ،1989 ، ص 15 .
أنظر على سبيل المثال لا الحصر : هلسا،غالب ، المكان في الرّواية العربيّة ، ط1 ، دار ابن هانىء ، دمشق ،1989.
/ النّصير ، ياسين ، الرواية والمكان ، دار الشّؤون الثقافية العامة ، بغداد ،1993 / ، سيزا ، بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط1 ، 1984.
أنظر على سبيل المثال لا الحصر : عثمان ، إعتدال ، إضاءة النّص : قراءات في الشعر العربي الحديث ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط2 ، 1998 / كحلوش ، فتحية ، بلاغة المكان قراءة في مكانيّة النّص الشّعريّ ، ط1 ، مؤسسة الإنتشار العربيّ ، بيروت ، 2008 .
الذّهبي ، شمس الدّين محمد بن أحمد ، سير أعلام النبلاء ، ص 369 – 371 / ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ، ص 365 / ابن كثير ، أبو الفداء الحافظ ، البداية والنهاية ، ص 369 -371 .
المحادين ،عبد الحميد ، جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،ط1 ، بيروت ،2001 ، ص 24 .
النّصير ،ياسين ، البنية المكانيّة في القصيدة الحديثة ، الآداب ،ع ( 1-3 ) ، س 34 ، 1986 ، ص 210 .
عثمان ، إعتدال ، إضاءة النّص : قراءات في الشعر العربي الحديث ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط2 ، 1998 ، ص 7 .
قاسم ، سيزا ، بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط1 ، 1984 ، ص 76.
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، تحقيق ،مصطفى حجازي ، المجلس الأعلى للشّؤون الإسلامية لجنة إحياء التّراث الإسلامي ، القاهرة ، 2004 ، ص 5 .
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، ص 5 .
تذكر( شيزر ) من مدن سوريا القديمة ، إنها تذكر في النصوص المصريّة القديمة بإسم " سنزار " و " سنزارا" وسمّاها الإغريق " سدزارا " أما البيزنطيون " فسيزار " ، ويصادفنا اسم المدينة في صيغة "شيزر" في أشعار العرب الجاهليين مثلاً في أشعار امرىء القيس ، وعبيد الله بن قيس الرّقيات ، تعدّ( شيزر) من بين الحصون المبنية على ضفاف نهر " أورنت " أو " الأرند " أي العاصي ذلك النهر الذي ينبع من جبال بعلبك في لبنان ، تقع شيزر إلى الشمال الغربي من حماه على بعد 28 كم على تلة مطلّة على الشاطىء الجنوبي الغربي لنهر العاصي . الأرض المجاورة لشيزر ، والمتصلة بها ، خصبة ، صالحة للأعمال الزّراعية ، ولعمل السكان ، وقد أعطت انتاجاً من الحبوب والفواكه أمّن للمدينة حياة اقتصادية مستقلة ، وانتشرت عدد من المناطق السكنية والقرى ،في القرن الرّابع الهجري فقد كانت منطقة (شيزر) مسرحاً للصدمات المستمرة بين الحمدانيين والبيزنطيين ، وأيضاً الفاطميين ، وذلك بسبب أهمية موقعها الجغرافيّ الإستراتيجي ، إذ كانت ( شيزر) مفتاحاً إلى قلب سورية ، وكان حكمها سجالاً بين العرب والبيزنطيين إلى أن استولى عليها الإمبراطور ( فاسيلي الثاني) 390 هـ فبقيت تحت سلطة بيزنطة إلى عام 474 هـ / ينظر بخصوص شيزر : ابن منقذ ، أبو مظفر أسامة بن مرشد ، الاعتبار ، تحقيق ، فيليب حتّي ، الدار المتحدة للنشر ، 1981 ، بيروت ، المقدمة ص ج ، ص 71 / ابن منقذ ، أسامة ، مقدمة المنازل والدّيار ، ص32 / طنوس ،وهيب ، الوطن في الشّعر العربيّ من الجاهليّة إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي ، ط1 ، دمشق ، 1976 ، ص 24 - 30 .
عثمان ، إعتدال ، إضاءة النّص ، ص 8 .
النّصير ، ياسين ، الرواية والمكان ، دار الشّؤون الثقافية العامة ، بغداد ،1993 ، ص17 .
المحادين ،عبد الحميد ، جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية ، ص 9 .
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ، ص 52 .
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، ص 4.
المصدر السّابق ، ص 4.
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ، ص 132 .
المصدر السّابق ، ص 132 .
المصدر السّابق ، ص 226 .
سليطين ، وفيق ، المنازل والديار نحو إقامة القراءة في موطن الشّعر ، الموقف الأدبي ، ع ( 423 ) ، تموز 2006.
طنوس ،وهيب ، الوطن في الشّعر العربيّ ، ص 6 .
النّصير ،ياسين ، البنية المكانيّة في القصيدة الحديثة ، الآداب ،ع ( 1-3 ) ، س 34 ، 1986 ، ص 210 ، 211 .
المصدر السّابق ، ص 210 .
المصدر السّابق ، ص 210 .
كحلوش ، فتحية ، بلاغة المكان قراءة في مكانيّة النّص الشّعريّ ، ط1 ، مؤسسة الإنتشار العربيّ ، بيروت ، 2008 ، ص 27 .
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ،ص 54 .
بحراوي ، حسن ، بنية الشّكل الرّوائيّ ، ص35 .
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ،ص 252 .
المصدر السّابق ،ص 75 .
أبو ديب ، كمال ، الرّؤى المقنعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشّعر الجاهلي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1968 ، ص 326 .
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، ص 118 .
المصدر السّابق ، ص 149.
السّابق ، وهي على التّوالي : ص 345 ، 142 ، 141 ، 137 ، 115 .
السّابق ، ص 137 .
السّابق ، ص 25 .
السّابق ، ص 141 .
السّابق ، ص 139 .
السّابق ، ص 71.
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ،ص 226 .
هلسا ، غالب ، المكان في الرّواية العربيّة ، ص 21 .
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، ص 19 .
المصدر السّابق ، ص 16 .
السّابق ، ص 220 .
السّابق ، ص 77.
السّابق ، ص 143 .
سليطين ، وفيق ، المنازل والديار نحو إقامة القراءة في موطن الشّعر ، الموقف الأدبي ، ع ( 423 ) ، تموز 2006.
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، ص ص 351 ، 137 .
المصدر السّابق ، ص 116 .
السّابق ، ص 26 .
السّابق ، ص 25 .
السّابق ، ص 106 .
سليطين ، وفيق ، المنازل والديار نحو إقامة القراءة في موطن الشّعر ، الموقف الأدبي ، ع ( 423 ) ، تموز 2006.
- مصادر ومراجع الدّراسة مرتّبة حسب ورودها تباعاً في المتن :
• باشلار ، غاستون( 1988 ) جماليّات المكان ، ترجمة غالب هلسا ، وزارة الثّقافة والإعلام ، بغداد.
• الذّهبي ، شمس الدّين محمد بن أحمد ( 1977 ) سير أعلام النبلاء ، ج15 ، تحقيق محبّ الدّين أبي سعيد العمروي ،ط1 ، دار الفكر للطباعة والنّشر ، بيروت .
• ابن عساكر ، أبو القاسم علي بن الحسن ، تاريخ مدينة دمشق ، ج60 ،تحقيق ، محبّ الدين أبي سعيد العمروي ، دار الفكر ، بيروت .
• ابن كثير ، أبو الفداء الحافظ ( 1977 ) البداية والنهاية ، ،ج11 ، ط2 ، مكتبة المعارف ، بيروت.
• هلسا،غالب (1989 ) المكان في الرّواية العربيّة ، ط1 ، دار ابن هانىء ، دمشق .
• المحادين ،عبد الحميد( 2001 ) جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية ، ط1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت .
• النّصير ،ياسين ، البنية المكانيّة في القصيدة الحديثة ، الآداب ،ع ( 1-3 ) ، س 34 ، 1986.
• عثمان ، إعتدال( 1998 ) إضاءة النّص : قراءات في الشعر العربي الحديث، ط2 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
• قاسم ، سيزا( 1948 ) بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، ط1 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
• ابن منقذ ، أسامة (2004) المنازل والدّيار ، تحقيق ،مصطفى حجازي ، المجلس الأعلى للشّؤون الإسلامية لجنة إحياء التّراث الإسلامي ، القاهرة .
• ابن منقذ ، أبو مظفر أسامة بن مرشد ( 1981 ) الاعتبار ، تحقيق ، فيليب حتّي ، الدار المتحدة للنشر ، بيروت .
• النّصير ، ياسين(1993) الرواية والمكان ، دار الشّؤون الثقافية العامة ، بغداد .
• سليطين ، وفيق ، المنازل والديار نحو إقامة القراءة في موطن الشّعر ، الموقف الأدبي ، ع ( 423 ) ، تموز ، 2006.
• طنوس ،وهيب(1976 ) الوطن في الشّعر العربيّ من الجاهليّة إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي ، ط1 ، دمشق .
• كحلوش ، فتحية (2008 ) بلاغة المكان قراءة في مكانيّة النّص الشّعريّ ، ط1 ، مؤسسة الإنتشار العربيّ ، بيروت .
• بحراوي ، حسن ، بنية الشّكل الرّوائيّ ،
• أبو ديب ، كمال( 1986 ) الرّؤى المقنعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشّعر الجاهلي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة .
- مصادر ومراجع الدّراسة مرتّبة حسب ورودها تباعاً في المتن :
• باشلار ، غاستون( 1988 ) جماليّات المكان ، ترجمة غالب هلسا ، وزارة الثّقافة والإعلام ، بغداد.
• هلسا،غالب (1989 ) المكان في الرّواية العربيّة ، ط1 ، دار ابن هانىء ، دمشق .
• المحادين ،عبد الحميد( 2001 ) جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية ، ط1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت .
• النّصير ،ياسين ، البنية المكانيّة في القصيدة الحديثة ، الآداب ،ع ( 1-3 ) ، س 34 ، 1986 .
• عثمان ، إعتدال( 1998 ) إضاءة النّص : قراءات في الشعر العربي الحديث، ط2 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
• قاسم ، سيزا( 1948 ) بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، ط1 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
• ابن منقذ ، أسامة (2004) المنازل والدّيار ، تحقيق ،مصطفى حجازي ، المجلس الأعلى للشّؤون الإسلامية لجنة إحياء التّراث الإسلامي ، القاهرة .
• النّصير ، ياسين(1993) الرواية والمكان ، دار الشّؤون الثقافية العامة ، بغداد .
• سليطين ، وفيق ، المنازل والديار نحو إقامة القراءة في موطن الشّعر ، الموقف الأدبي ، ع ( 423 ) ، تموز ، 2006.
• طنوس ،وهيب(1976 ) الوطن في الشّعر العربيّ من الجاهليّة إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي ، ط1 ، دمشق .
• كحلوش ، فتحية (2008 ) بلاغة المكان قراءة في مكانيّة النّص الشّعريّ ، ط1 ، مؤسسة الإنتشار العربيّ ، بيروت .
• بحراوي ، حسن ، بنية الشّكل الرّوائيّ ،
• أبو ديب ، كمال( 1986 ) الرّؤى المقنعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشّعر الجاهلي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة .
* ودّ المكان لأهلّه.. إضاءة على شعريّة الأمكنة في "المنازل والدّيار" لأسامة بن منقذ
د. ساندي سالم محمّد أبوسيف
.
إن كانت كلاسيكيّات البحث عن نماذج دالّة عن أثر وتأثير ثقافتي الحبّ والكراهية في حياة الإنسان غالباً ما تقام في تجليّات علاقته بالآخر ، والآخر هنا قد يكون " الحبيب ، الصّديق ، الخصم ، المعارِض ، المخالِف فكريّا .... " لتقرأ ما يبدو أقرب إلى الوضوح والتّكشف ، فإنّ إقامة هذه القراءة في مواطن الموجودات المحيطة بالإنسان ، وتلك التي اعتاد أن يعايشها لاواعياً تبدو أكثر إغراءً ، فثمّة أبعاد مثيرة تكشفها معايشة الإنسان لقيم الألفة من حوله ، لا سيما وأنّه _ في حال الشّعر _ يُجاد التّعبير عن مستويات العلاقة بها ، و جاذبيّة أثرها وتأثيرها ، لتوضح وعبر رؤية المخيلة : مشتبك الودّ والكره ، الوصل والقطع ، القرب والبعد ، وكل ما تمنحه المخيلة من جماليّات التّعبير .
وليتحقّق الأمرين معاً ، فإنّ تلمّس شكل الارتباط بالأمكنة عبر ما تثيره منتخبات " المنازل والدّيار "
الشّعريّة يغدو معيناً ، وهو ما ترمي إليه هذه الدّراسة ، في الكشف عن رؤية الشّعر العربيّ القديم وموقفه من المكان ، متجاوزة ما يعدّ تقليديّاً في الوقوف على الأطلال إلى جلّ ما أحاط بالعربيّ من أمكنة ، وما التصق بها من ذكريات، من ديار ومنازل وربوع ومغانٍ وأوطان وبلاد، لتوضح أنّ الأمكنة التي عشنا بها يوماً ما، أو تلك التي تآلفنا معها، أو كرهناها، تبقى تشغل حيّزاً لا يُنكر في الذّاكرة ، وتبقى تحفّز المخيلة على عيشها من جديد عبر الّلغة .
تدور هذه الدّراسة حول أربعة محاور ؛ " المقدمة "، "قصد الانتقاء: بعث المكان لغويّاً "، " المكانيّة في نصوص المنازل والدّيار " ، مقاربة التّقاطبات المكانيّة "، لأوضح من خلال ما سبق دواعي إنتقائي للمنازل والدّيار وجعله موطن الدّراسة ، وكيف أنّ الشّاعر العربيّ وعلى امتداد تاريخه القديم لم يُشفّ من حمّى المكان الذي ظلّ يلحّ باتّجاه التّنفيس عنه لغويّاً ، وأنّ منتخبات هذا " المصنّف" على اختلافها وتعدّدها تشترك في رؤية تكاد تكون موحدّة نحو المكان وودّ أهله تتكشّف عبر نظامٍ تقابليّ من الثّنائيّات و التّعارضات التي بتضادّها تخلق التّوتر الجماليّ للمكان " الفني " ، وتوضح أبعاد شعريّته وشرعية وجوده كحامٍ للذّكريات ، وحاوٍ لأحلامنا في إستعادة هناءات المكان الماضي .
الكلمات الدّالة : شعريّة المكان ، التّقاطبات .
المقدّمة :
تتسلل الأمكنة التي نألفها أو نحبها إلى كل الأماكن التي عشناها أو نعيشها ، وتظل ّ هناك تعشّش في زوايا الذّاكرة ، و تستحثها على أنّ " النّسيان " _ في هذه الحال _ ليس " فضيلة " ؛ فالمكان " الذي نحبّه يبدو وكأنه يتجّه إلى مختلف الأماكن دون صعوبة ، ويتحرّك نحو أزمنة أخرى " ، حيث يهرّب هذا المكان إلى كل متعلّقات الذّاكرة ، ويعاد بعثه حيناً بعد حين .
هذا المكان الحلم أو الهاجس أو المألوف أو المحبوب أو حتى ذلك المعادي أو المكروه ، لا يبقى موضوعاً للذّكرى فقط ، بل يتخذ أبعاداً ذات دلالات متعدّدة لا سيما لدى الشّاعر ، الذي يُعنى بتحرير المكان الخارجيّ ، الواقعيّ ، من حقيقته وأبعاده المألوفة ليطلقه في فضاء الخيال ، وينزع نحو التصاق حثيث بممكنات الّلغة وقدراتها على إعادة تشكيل هذا المكان وبنائِه من حروف وكلمات ، حينها لا يغدو المكان الخارجيّ هو الهاجس ، بل المكان الذي تمظهر لغويّاً ، المكان الذي تشكّل في خيال الشّاعر أو الذي شكلّه هذا الخيال ، هو المكان الحقيقيّ، والحقيقيّ هنا لا يعني الواقعي / الخارجيّ ، بل ذاك الذي أعيد بعثه وتشكيله وعيشه والإحساس به وبكل ما يتعالق معه لغوياً ، في هذه الحال ، ينسحب المكان الخارجيّ من حدود الذّاكرة ، التي تضيق عنه ، ويستقرّ أمام ناظريّ الشّاعر كما أراده هو ، كما أراد أن يعيشه ، ويحسّ به ، كما أستطاع خياله أن يصوّره له من جديد .
هذا الارتباط بين الّلغة والمكان ، نقع على تمظهراته المبكرة في النّصوص الأولى للشّاعر الجاهليّ ، حتى ليغدو سؤاله وإلحاحه المتكرّر على المكان ، سؤالاً مرتبطاً بوجوده ، وملتصقاً ببديهيات حياته ؛ فالبكاء على الأطلال ، ليس ثمة تقليد شكليّ نادت به كلاسيكيّات القصيدة العربيّة كما شاع بعدئذ ، بل هو يشكّل عتبة القصيدة العربيّة الأولى ، والمدخل التّمهيديّ الرّحب لحكايات الشّاعر ومشاعره ، هو إحساس فطريّ بالمكان و بودّ من رحل عنه ، هو تأسيس من الشّاعر العربيّ الأول ، على أنّ الأمكنة التي " فقدناها تظلّ إلى الأبد حيّة في داخلنا ، وهي تلحّ علينا لأنها تعاود الحياة " وهذا الإلحاح هو الذي فجر إمكانيات الّلغة شعريّاً ، ومنح القصيدة الجاهليّة خاصيّة هي من ألصق وأظهر خواصّها .
تالياً وإن أخذت هذه الخصيصة نوعاً من أشكال التّقليد ، إلاً أنّ الإحساس الأوّل بالمكان قد انتشر كالعدوى بين الشّعراء العرب من أمويين وعباسيين وأندلسيين ... ، حتى أخذ التّعبير عن المكان أشكالاً متعدّدة ، وليس أظهر من " رثاء المدن " في العصر الأندلسيّ دلالةً على أنّ التّعلق بالمكان ليس إحساساً طارئاً ، أو تقليداً شكليّاً ، أضف إلى ذلك وصف الأماكن المختلفة من: حواضر ، وديار ، ومنازل ، ومرابع .... وغيرها ، كل هذا يؤسّس في وعينا حقيقة أنّ الشاعر العربيّ وحتى الوقت المعاصر لم يُشفَ من حمّى المكان ، وأنّ البحث في هذه " الحمّى " مغرٍ ، وشائق، وشائك في الوقت نفسه .
ولم يكن كتاب " المنازل والدّيار " لـ " أسامة بن منقذ " إلا مخلصاً لهذه الحقيقة ، بل هو مؤكّد لها ، فما انتقاه ابن منقذٍ من أشعار الجاهليين المرتبطة بالمكان وحتى وقته ، يذهب إلى هذا الاتجاه القائل بأنّ التّعلق بالمكان عند الشّاعر العربيّ يتخذ شكلاً " أموميّاً " فالمكان هنا ، هو رمز الحماية والحنوّ والدّفء ، والأهم من ذلك كلّه هو ما تثيره هذه الرّموز من إحساس الألفة والأمان ؛ مما يجعل البحث في " المكان " في هذا الكتاب ، إنّما هو كشف عن رؤية الشّاعر العربيّ ، وموقفه ، وفلسفته حول المكان وكل متعلقاته ، فإنتقاء أسامة بن منقذ ، لجلّ الأبيات والمقطوعات الشّعرية التي تعالج المكان بكل حالاته ، يعين على تحديد أبعاد الرّؤية والفلسفة الشّعريّة العربيّة للإرتباط الوجوديّ بالمكان ، فأسامة بن منقذ قد كثّف من خلال إختياراته خلاصة البحث الشّعريّ لكل ما يتعلّق ويتعالق بالمكان ، وهو هنا لا يقدّم جمعاً فحسب ، بل هو يصدر عن رؤية نقديّة إنتقائيّة لا تخلو من ذوقٍ ومن حسّ جماليّ .
وإنْ كان الشّاعر العربيّ ، وكما أظهرته إنتقاءات أسامة بن منقذ قد تألم من المكان وعانى منه حيناً ، وانجذب إليه وتلّذذ به حيناً آخر ، فهذا عائد إلى أنّ المكان في ذهن هذا الشاعر ليس مقصوداً لذاته في _ أغلب الأحيان _ بل هو يرمي إلى من سكن المكان ، ومن رحل عنه ، فودّ المكان هو لأهله ، و ما البكاء على الأطلال إلا تأسيس أوليّ لهذه الرّؤية ، وأن القصد يرحل عن المكان بذاته إلى ما يثيره هذا المكان من ذكريات الزّمن الذي مضى : بناسه ، بهناءته ، بوداده ، إلى الحاضر بكل : جفافه ، وسوداويته ، وقتامته .
فيغدو _ والحال هذه _ النّبش في محتويات " المنازل والدّيار " هو كشف عن المكانيّة في النّصوص الشّعريّة العربيّة القديمة ، وما تثيره هذه من إرتباطات وعلاقات إنسانيّة ، وتأمّلات فلسفيّة ، ورؤى تعالج مستويات عدّة من العلاقة بالمكان وأهلّه منذ بدء الوعي بالمكان حين كان طللاً ، مروراً وليس انتهاءً بوصفه، و رثاءه ،والبكاء عليه، وعلى من سكنه ، وما يكشفه مثل هذا التّوقف عند " المنازل والدّيار " من بحث مكثّف ومختزل للمكانيّة في الشّعر العربي القديم ، وهو بحث ثريّ ونادراً ما يُلتَفَتُ إليه ، بالنّظر إلى أنّ جلّ الدّراسات المتعلّقة بالمكان إنما هي مرتبطة بالأشكال السّرديّة من رواية وقصة وغيرهما ، و حتى تلك التي إلتفتت إلى المكان الشّعريّ غالباً ما كانت تعالجه في الشّعر العربيّ المعاصر ، ومن هنا تكتسب هذه الدّراسة جدّتها في وقوفها عند " المكان " في النّصوص الشّعريّة القديمة _ وليس الطّلل فحسب _ لا سيما كما تجلّت في إنتقاءات أسامة بن منقذ التي أعانت كثيراً في تلمّس مواضع المكان ومتعلّقاته في جلّ نصوص " المنازل والدّيار " ، حيث ينتسب هذا الكتاب إلى المصنفات الشّعريّة المؤسّسة على التّبعيّة الّلفظية ؛ فأسامة كان يقيم إختياراته بناءً على لفظة " مكانيّة " بعينها ويحشد لها عدداً لا بأس به من المقطوعات الشّعريّة من أزمانٍ مختلفة ، مبتدئاً بالمنازل ومن ثمّ الدّيار فالمرابع ، وهكذا ... ، تتوالى فصول الكتاب حتى يأتي على ذكر جلّ ما يحفظه ويعرفه ممّا له علاقة بالمكان ، وكان يصدر في ذلك عن حافظة غنيّة ، وذائقة شعريّة فيُذكر أنّه " يحفظ من شعر الجاهلية عشرة آلاف بيت " ، أضف إلى ذلك أنّه صاحب " ديوان كبير ، و شعر رائق ، وجمع من الكتب لا يوصف " .
وبذا قدّم صاحب "المنازل والدّيار" مادّة غنيّة ومغريّة اعتمدتها هذه الدّراسة في الكشف عن الرؤية الشّعرية المكانيّة لدى الشّاعر القديم ، وما تفتحه من مستويات العلاقة بالمكان وأهله، كما ستنزع هذه الدّراسة إلى محاولة الكشف عنه ، وتوضيحه تالياً .
قصد الإنتقاء : بعث المكان لغويّاً :
إنّ حياة الإنسان ، تاريخه ، مرتبطة بأمكنة ما ، مختلفة هنا وهناك ، وهذه الأمكنة في أساسها تاريخية ، ولكنها بعد تجاوزها ، وتجاوز تاريخياتها تصبح أمكنة نفسيّة وشعريّة لها جمالياتها، ورموزها ، ودلالاتها ، وارتباطاتها النفسيّة ، وإذا كان " كل مكان لا فعل للإنسان فيه ، مكان مدان في الشعر " فإنّ تلك الأمكنة التي استقرّت في وعي الشّاعر رمزاً لهناءة ما ، أو لعداوة ما ، فإنّها غالباً ما تتحوّل عبر الفعل الشّعري إلى حكاية للمخيّلة ، ويصبح المكان المُتَجاوز _ تاريخيّاً هنا_ مكاناً معاشاً من خلال الّلغة ، مكاناً مُستعاداً من جديد عبر شبكة من الأحاسيس والإرتباطات النّفسيّة والشّعوريّة ، عبر ما يثيره فعل المخليّة من صور ارتبطت بالمكان الذي مضى ، والمكان الذي يتخلّق الآن في الحاضر بحسب وعي الشّاعر وتجربته السّابقة فيه ، ورؤيته للكون والحياة من حوله .
فالمكان في الشعر يتشكّل عن طريق الّلغة ، لكنّ المكان الشعريّ لا يعتمد على اللغة وحدها ، وإنما يحكمه الخيال الذي يشكّله بواسطة اللغة على نحو يتجاوز قشرة الواقع إلى ما قد يتناقض مع هذا الواقع ، غير أنه يظل _ على الرغم من ذلك _ واقعاً محتملاً إذ أنّ جزيئاته تكون حقيقية ، ولكنها تدخل في سياق حلمي يتخذ أشكالاً لا حصر لها ، يصل إليها الخيال . ، و المكان الذي يأسر الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً خاضعاً لأبعاد هندسيّة وحسب ، بل هو مكان عاش فيه النّاس ليس بطريقة موضوعيّة ، وإنما بكل ما للخيال من تحيّزات .
والسّؤال الذي يبدو ملحّاً هنا ، لماذا هذه الإستعادة الشّعريّة للمكان الماضي ؟ لماذا تتدخّل المخيّلة في تشكيل المكان من جديد ؟ لماذا يضغط المكان وبإلحاح بإتّجاه التّنفيس الّلغويّ عنه ، بل إستعادته مرة أخرى ؟ تبدو الّلغة _هنا _ أقرب إلى أن تضطلع شعريّاً بالوظيفة التي أشار إليها أسامة بن منقذ في دواعي قيامه بجمع هذه الإختيارات الشّعريّة المكانيّة من النّصوص القديمة ، وما نَظَمَه هو، إذ يرمي إلى جمع :" ما يبرّد الّلوعة ، ويسكّن الرّوعة " ، ويكون " لذي البثّ راحة " ، فالذّات _ هنا _ التي فقدت المكان قد وجدت في الّلغة ما يسلّي ، وفي العودة إلى الذّاكرة الشّعريّة الجمعيّة المشحونة بدلالات الحنين والألفة المفقودة للأهل والمكان ما يعين على تحمّل مصاب الفقد : " إنّي دعاني إلى جمع هذا الكتاب ، ما نال بلادي وأوطاني من الخراب ؛ فإنّ الزّمان جرَّ عليها ذيله ، فأصبحت " كأنْ لم تغنّ بالأمس " ، موحشة العرصات بعد الأنس ، قد دثر عمرانها ، وهلك سكانها ، فعادت مغانيها رسوماً ، والمسرّات بها حسرات وهموماً ، ولقد وقفتُ عليها بعدما أصابها من الزّلزال ما أصابها ، وهي " أوّل أرض مسّ جلدي ترابها " فما عرفت داري ، ولا دور والدي وإخوتي ، ولا دور أعمامي وبني عمي وأسرتي ، فبهت متحيراً مستعيذاً من عظيم بلائه ، وانتزاع ما خوّله من نعمائه " .
فصاحب كتاب " المنازل والدّيار " قد ألّفه تعزية ومواساة لنفسه على فقده أهله ومنازله ودياره ، بل كل ما يتعلّق بهم ، أو يربتط بذكرياتهم إثر الزّلزال العظيم الذي هزّ " شيرز " آنذاك ، وجعلها أثراً بعد عين، ولم تكن " شيرز " بالنسبة لابن منقذ وطناً كأيّ وطناً ، فتذكر المصادر التّاريخيّة بأنّ الفضل كلّ الفضل يُردّ للآل منقذ في دفعها لأنْ تتبوّأ مكاناً ذا قيمة وأهمية في التّاريخ ، فلم يكن لشيرز قبل عهد بنو المنقذ فيها أيّ دور ، بل كانت قليلة الأهمية ، حتى استولى بنو منقذ عليها في عام 474 وأسسوا فيها إمارة مستقلة امتدّ نفوذها لعام 552، وتمكنوا من المحافطة عليها وقاموا طوال مدة حكمهم بمجموعة من التحصينات الدفاعية حول (شيزر) ، و بنوا بوابة حصينة على الضفة الغربية لنهر( العاصي) مقابل جسر( شيزر) ، وسميت بحصن( شيزر) ، والجسر بذاته سمي جسر( بني منقذ) . في عام 552 كانت شيزر قد تهدمت من الزلازل الذي أصاب القسم الشمالي من سورية ، ورغم أنّ نور الدين زنكي حاول إعادة بنائها في نفس العام لكن المدينة لم تنهض ثانية ، إذ إننا لا نجد الآن منها إلا خراباتها الباقية فقط .
فأسامة بن منقذ _ والحال هذه _ قد فقد مكانه الأوّل ، قد فقد " شيزر" المكان الفعليّ الأموميّ الذي شهد ذكريات الطّفولة ، وهناءات الصّبا والشّباب ، ومرابع الكهولة ، وسكنى الأهل و الأحباب ، لم يكن مكاناً عابراً أو عاديّاً ، أو مرتبطاً بحبيبة راحلة ، أو مفقوداً بسبب منفى أو عدوّ غازٍ ؛ ففي هذه الحالات تغدو إمكانيّة إسترداده محتمَلة ، والأمل بالعودة إليه بعد النّفي أو الغزوّ واردة ، إلا أنّ المكان _ هنا _ أي " شيزر " قد تمّ فقده وللأبد بسبب الزّلزال الذي أتى على أدقّ معالمه تماماً ، وقضى على جميع ناسه ، وكلّ ما يرتبط به وبهم من ذكريات ؛ إنّ المكان المفقود هنا ، قد اندثر تماماً ، واختفت معه كل آمال الرّجوع إليه ، وهذا ما يخلق حالة اللاتوازن والاضطراب ؛ فشيرز لم تكن وطناً فحسب بل كانت أرضاً وبيتاً وأهلاً وأحبة وذكرى ، قد عيشت كتجربة حميمة ، وامتّدت على طول سنوات عديدة ملجأ وملاذاً وإحساساً طاغياً بالدّفء والأمان ، لا سيما وأنّها مكان " الألفة والإنتماء الذي يمثّل حالة الارتباط البدئي المشيمي برحم الأرض _ الأم ، فيغدو الإحساس ( بها) إحساساً أصيلاً وعميقاً ، ويزداد هذا الحسّ شحذاً إذا ما (تعرّضت) للفقد أو الضياع " .
فالذّات التي فقدت الوطن / الأرض / البيت ، قد فقدت توازنها ، وإستقرارها ،لأنّ المكان هنا لا يُعاش بذاته أو لذاته ، بل هو يمثّل تجارب الإحتكاك الحميميّ بينه وبين ناسه " وهو يتشكّل وتتضح أبعاده من التأثير الاجتماعي والفكري ، وليس العكس ؛ فالمكان هو الكيان الاجتماعي الذي يحتوي على خلاصة التفاعل بين الانسان و مجتمعه ، ولذا فشأنه شأن أي نتاج اجتماعي آخر يحمل جزءاً من أخلاقية و أفكار ووعي ساكنيه " ، ومن هنا اكتسبت الأماكن في علاقاتها مع أناسها خصوصية تشكّلت من تعاقب التفاعل وتبادل التأثير بين الناس والأمكنة ، ومن هذا التّأثير المتبادل تولد مفاهيم الألفة والحميمية والدّفء والأمان التي هي في نهاية المطاف تشكّل معاني الوطن والأرض والبيت والغرفة... ، وكل ما يوفّره الإحساس بالمكان من معانٍ ودلالات .
يبدو واضحاً أنّ النّسق المكاني لدى أسامة بن منقذ قد تشكّل من هذه الأبعاد الإجتماعيّة للمكان ، وما تركه تأثير النّاس في المكان ، وتأثير المكان في النّاس ، و كل هذا فيه ، من تصورّات عن مفهومه للوطن، وهو ما بدا واضحاً من خلال طائفة من الثّنائيّات التي وصف من خلالها أسامة بن منقذ تحوّل " شيزر " من مكانٍ حميميّ إلى مكانٍ معادٍ ، من الأنس إلى الوحشة ، من المسرّات إلى الحسرات ، من المغاني إلى الرّسوم ؛ فالمكان هنا يحضر من خلال نظامٍ تقابليّ بين ما كان وما أصبح حقيقة واقعة ، وهو بماضيه يشكّل مفهوم المكان الحقيقيّ الذي يبعث الشّعور بالهناءة ، ويوفّر الحماية للذّات والجماعة ، وهو بحاضره يسلب هذه الذّات إحساسها بالإستقرار ويخلخل توازنها ، بفقدانه أهمّ مقوّمات تشكلّه ، وإنتفاء حصول أيّ تفاعل إنسانيّ داخله ، وبالتالي خسرانه لمسبّبات وجوده وقيامه .
فهو حاضرٌ " هناك " بالماضي ، أمّا الآن " هنا " فليس إلا أثراً وطللاً ، و هنا تحديداً تتجلى "وظيفة الشّعر الكبرى ، كما وصفها غاستون باشلار ، و هي في جعلنا نستعيد مواقف أحلامنا " ، وإن كان ذلك وبتعبير أسامة بن منقذ " لا يفيد ولا يجدي " إلاّ أنّه " راحة " حين تصبح المشاركة على مستوى الّلغة / الشّعر ، تعني التّخلّص من همّ " الإنفراد من الأهل والإخوان ، ( وعبء ) الاغتراب عن البلاد والأوطان " ، إحساس الذّات بالغربة إنّما هو إحساس بالفقد المزدوج المكثّف للمكان والأهل ، وبسبب انتفاء أيّ إمكانيّةٍ بعودة أيّ منهما يجعل من شيزر " صورة عظيمة للألفة المفقودة " للأمان والإستقرار العاطفيّ.
إنّ التّعبير الشّعريّ عن تجارب الإحتكاك الحميميّ بالمكان ولا سيما بعد فقده والحنين إليه ، يشحن حاضر المكان المزعزع المنكوب بهناءة الماضي ، ويخفّف من وطأة الفجيعة ، على نحو ما أشار " باشلار" إلى أنّه بغض النّظر عن " التّأثر العاطفي الذي يلوّن مكاناً ما ، سواء أكان حزيناً أو مضجراً ، فما دام قد تمّ التّعبير عنه شعرياً ، فإنّ الحزن يتناقص ، ويخف الضّجر ؛ فالمكان الشّعريّ لكونه قد تمّ التّعبير عنه ، يتّخذ قيم التّمدد ، ... هذه الفاعلية التي تتسمّ بها الشّاعرية المكانية والتي تتوجّه من الألفة العميقة إلى المدى اللانهائي " تجعل من تجارب التّعبير الشّعريّ عن المكان تتّسع لتتخذ قيماً إنسانيّة كبرى ، وتنسحب من كونها حالة فرديّة ، أو خبرة شعريّة ذاتيّة ، إلى حالة جمعيّة تخصّ الإنسان في كل زمان وأيّ مكان ، لا سيما وأنّ المكان كما أشار " ريلكه " وإن كان ذاتيّاً منغلقاً على تجربة شخصية حميمة إلاّ أنه وعلى نحو ما يصبح كونياً " عبر كل كائن إنسانيّ ينفتح المكان الفريد الحميم على العالم ... " ، وهذا الإنفتاح الذي يتمّ عبر التّعبير الشّعريّ يجعل من المكان المفقود أو المكان الحلم أو حتى ذلك المكان المعادي منفتحاً ، نامياً ، متطوّراً بفعل الّلغة ، ويتخذ شكل الرّمز القابل للإسقاط على أي تجربة مماثلة .
فعلى الرّغم من أنّ الأدب العربيّ قد شهد وضع مصنّفات في المختارات الشّعريّة ، إلاّ أن تجربة أسامة بن منقذ في إختياراته في " المنازل والدّيار " تنسحب من كونها رغبة في الجمع والتّبويب ، إلى إنفتاحها على الذّاكرة الشّعريّة ، وانتقائها منها ما يعزّز قيم المشاركة الوجدانيّة لتجربة فقد المكان ؛ فلم يعد " طَلل " إمرىء القيس ، أو " وطن " ابن الرّومي " ، أو " شيزر " أسامة بن منقذ ، مكاناً خاصّاً ذاتيّاً ، بل تشبّع بأبعاد إنسانيّة كونيّة ، وتزاحمت المختارات الشّعريّة لتعبّر عن همّ واحد وإنْ تعدّدت أشكاله ؛ فأسامة بن منقذ قد جعل المكان المفقود لجلّ من إختار أن يسجّل تجاربهم ، مكاناً رمزاً لأي ذات أرادت أن تتحّد بالهمّ العام ، وأن ترى مكانها المستلب يتوزّع ويتمدّد في أمكنة الآخرين ، و حزنها ينتشر في معاناتهم ، وأن تقع على المكان المعادل لمكانها المفقود ذاك الذي تشكّل بفعل الّلغة ، ويُعاد تشكيله مراراً وتكراراً وقت كل تجربة مماثلة .
إنّ " شيزر " التي تمثّل في " المنازل والدّيار " المكان الأول ، قد نجح أسامة بن منقذ في جعلها تتوزّع وتتمدّد على آلالاف الأماكن والتّجارب الشّعرية التي عاينت المكان المفقود ، وأراد بذلك أن يحقّق بالّلغة بعثاً لها ، وأن يراها في" أطلال " الجاهليّة ، وفي" مرابع" طرفة بن العبد وعمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة ، وفي "منازل" أبي تمام والبحتري و المتنبي ، وفي "ديار" مهيار و ذي الرّمة والنّابغة الجعدي ؛ فقد أراد أن يرحّلها إلى كل التّجارب السّابقة ، وأن يعاينها هناك بحسب خبرات الآخرين ، ومواقفهم ، ورؤاهم ، علّه يحقّق نوعاً من التّوازن والإستقرار حين يصبح الهمّ واحداً ، و تتحدّ الأمكنة المفتقدة عبر الزّمان والمكان لتكون واحدة هي الأخرى ، ولتبدو "شيزر " في عيون الآخرين وتجاربهم هي مكانهم المسلوب ، و ناسها هم ناس كل الشّعراء الذين عانوا من تجارب الرّحيل والفقد ، حينها يبدأ المكان / الهناك بالتّشكل من جديد بفعل الّلغة ، لكنه الآن المكان / الرّمز ، الواحد ، المكان المفتقد أياً كان ، وفي أي زمان قد مرّ ، وعلى أيّ لسان شاعر قد تمّ التّعبير عنه .
إن المنازل المفتقدة هنا يعاد تأسيسها في الشعر، وزرعها في اللغة، بحيث إنها تتمدّد وتتعدّد، وهي من خلف ذلك تتوحّد، وكأن التأليف بين جنبات المادة المنتخَبة يوسّع الديار، إذْ يبعثها من جديد، ويحققها مكاناً فنياً يقوم على مساحة الشعر العربي، ويشغل مداه الفسيح، وعصوره المتعاقبة، التي يجلوها التأليف معاً في تجاور شرائحها وحضورها المتزامن؛ ذلك أنّ التجربة الحادثة تنادي غيرها بينما هي تخطّ نفسها، وتنظر إلى نفسها في مرايا غيرها فتزداد جلاءً، وتردّ غيرها على ذاتها فتزداد امتلاءً. لكأن ديار أسامة ومنازله التي نالتها يدُ البلى في القرن السادس الهجري، تتبلّج الآن، وتشعّ على أرض الشعر، فتطاول تاريخه، وتطوي حلقاته في استوائها عليه .
لذلك عُدّ كتاب " المنازل والدّيار " من وجهة نظر بعض الدّراسات نموذجاً دالاً على " ظهور وتطوّر الإحساسات والمشاعر الوطنيّة في الشّعر العربي ، وتحليل صورة الوطن ، والتّعبير عنها شعرياً،وملاحظة ظلال العلاقات العاطفية مع الوطن وصور تعبيرها الشعرية " مع ملاحظة أنّ مفهوم " الوطن " هنا لا يعني الدّلالة المعاصرة ، إنّما يعني متعلقات المكان من : طلل ،دار ، منزل ..." بكلمة أخرى ، فإنّ " المنازل والدّيار " هو تكثيف لشّعرية المكان في النّصوص القديمة ، وما تعكسه هذه الشّعرية من دلالات تشير إلى أنّه وإنْ تعدّدت أشكال المكان من : " منازل وديار ومرابع ومغانٍ وأطلال ... " إلاّ أنّها في نهاية المطاف تعكس تشكّل مفاهيم الوطن بالنّسبة للشّاعر العربيّ ؛ فالوطن قد يكون طللاً غادرته الحبيبية أو أرضاً نُفيَ عنها شاعر أو مغانٍ درست بعد حين ، وهي بذلك توضح رؤية الشّعر العربيّ القديم وفلسفته حول المكان ؛ " فالمكانيّة الشّعريّّة تخلق جمالياتها من خلال التفاعل الشديد والمعقد بينها وبين فلسفة العصر ورؤية الإنسان إلى الكون " وإذا كانت الإختيارات الشّعريّة في " المنازل والدّيار " تمتد زماناً على نحو ما يربو على عدّة قرون ، فإنّها بذلك تعكس موقف الشّعر العربي القديم من المكان ، ورؤيته وفلسفته لتّجاربه مع ما يحيط به ؛ بدءاً من الخيمة وانتهاءً بالكون من حيث هو المكان الكبير الذي تتفرّع عنه كل الأمكنة الأخرى .
و يبدو لهذا البعث المكانيّ الّلغويّ بما يحمله من قيم إنسانيّة وإحتكاك حميميّ بين الإنسان والمكان الدّور الأهم ، والعامل الأكثر تأثيراً في مقروئيّة النّصوص الشّعريّة ؛ " فالمكان لا يبرز في الشعر إلا بإعتباره ممارسة ونشاطاً إنسانيين مرتبطين بالفعل البشريّ ، ويحملان من بين ما يحملانه مواقف وعواطف وخلجات ومشاعر وإنفعالات الكائن الإنسانيّ ، بل وكل التّفاصيل الصّغيرة والكبيرة ، المُعْلنة والمختفية ، والواقعيّة والمتخيّلة والمُمكِنة للإنسان عبر تاريخه العام والخاص .
فالشّعر يعلّق تجربة الحاضر حيناً ، ليرحل إلى الماضي إلى إستعادة حميميّة لجاذبيّة المكان ، و شاعريّة أهله ، إلى ما تَخَزّن في تفاصيله مِن خيالات مَن عبروه وسكنوه وأحبّوا به وبغضوا ، ليلتقط نبضهم من جديد ، و ليؤسّس مع جماليات الخيال بعثاً لهم وله ، وهو في هذا يمنح تلقّيه نشوة الإستعادة،و جاذبيّة ابتناء المكان ومن غاب عنه من جديد .
المكانيّة في نصوص " المنازل والدّيار "
غالباً ما تعدّ أمكنة الماضي " مشبّعة " بمعنى أنّها مليئة بالرّموز والدّلالات و تنشّط الخيال ، بينما أمكنة الحاضر تقف على ضفة مقابلة ، فهي " غير مشبّعة " تحرّك الحواس فقط إذ أنّها على النّقيض من تلك لا تمتلك تاريخاً نابضاً ، و في السّياق نفسه فإنّ معايشة مكان جميل ونقل تجربته يثير في الذّهن مباشرة هناءة ذلك المكان ، بينما سلسلة الإحباطات التي يعانيها المرء في مكان ما تجعل من هذا الأخير مكاناً عدوانيّاً ؛ فمقاربة شعريّة الأمكنة غالباً ما تتمّ من خلال نظامٍ تقابليّ لمكانٍ إيجابيّ حميميّ متطوّر ، وآخر سلبيّ عدوانيّ منغلق ، وهذه التّقاطبات التي تشيع عند دراستنا للأمكنة هي ما تمنح المكان تميّزه ، وتوضح أبعاد شعريّته ، وتدفّقه الجماليّ .
فمفهوم التّقاطب يعدّ أداة منهجيّة إجرائيّة ملائمة للكشف عن الأبعاد الشّعريّة للمكان داخل القصيدة ، وقد أشار إلى ذلك غاستون باشلار الذي درس المكان من خلال ما عدّه هو تقاطباً رئيساً " البيت / اللابيت " وأشار إلى أنّه و من خلالهما يمكننا أن نقيم كل أنواع التّناقضات ، و ما يندرج تحت هذا التّقاطب من سلسلة من التّعارضات والثّنائيّات هو ما يخلق التّوتر الجماليّ للمكان ، فالدّاخل / البيت هو ما يوفّر الحماية والدّفء والحميميّة والألفة ، و الخارج / اللابيت هو على النّقيض يشيع الإحساس بالخوف والبرودة والوحشة ، و هذا التّعارض هو ما يمنح " المكان " شعريّته وشرعيّة وجوده كحامٍ للذّكريات ، وحاوٍ لأحلامنا في إستعادة هناءات المكان الماضي .
ونجح النّاقد السّوفيتي " يوري لوتمان " في إقامة نظرية متكاملة للتقاطبات المكانية في كتابه " بنية النص الفني " ، حيث يذهب إلى أنّ الإنسان يُخضع العلاقات الإنسانية والنّظم لإحداثيات المكان ، ويلجأ إلى اللغة لإضفاء إحداثيات مكانية على المنظومات الذّهنية فيرى مثلاً أنّ مفاهيم من مثل الأعلى / الأسفل ، القريب / البعيد ، المنفتح / المغلق ، المحدود / اللامحدود ، المنقطع / المتصل ، تصبح من الوسائل الأساسية للتعرّف على الواقع ، وإنّ إضفاء صفات مكانيّة على الأفكار المجرّدة يساعد على تجسيدها ، وتستخدم التعبيرات المكانيّة بالتبادل مع المجرّد مما يقربه إلى الإفهام ، وينطبق هذا التّجسيد المكاني على العديد من المنظومات الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والزمنيّة ، بل إنّ هذا التبادل بين الصّور الذهنيّة والمكانية امتد إلى التصاق معانٍ أخلاقيّة بالإحداثيات المكانيّة نابعة من حضارة المجتمع و ثقافته ، فلا يستوي " أهل اليمين " و " أهل اليسار " ، كما يتدرج السلم الاجتماعيّ من " فوق " إلى " تحت " ، و" الأخلاق العالية " و "الأخلاق الواطئة " ، و تلعب سلسلة الثّنائيّات هذه على المستوى الشّعريّ دوراً هامّاً في إنتاج الصّفات المكانيّة داخل النّصوص ، أو كما أشار " باشلار " إلى أنّ " الحياة غالباً ما تنبعث في كل الأشياء عندما تتجمّع التّناقضات " .
وعلى الرّغم من أنّ نصوص " المنازل والدّيار " تنتمي إلى أزمنة وأمكنة شديدة التّنوع والاختلاف ، إلا أنّه ، وبالإضافة إلى وحدة الموضوع العامّ الذي تنتمي إليه ، ثمة ما يجمع بينها ، ثمة رؤية تلملم أطرافها و تربط بين تناثرها الزّمانيّ والمكانيّ ، فما يشيع داخل تلك النّصوص من دوالّ مكانيّة تزخر بالتّقاطبات وتحفل في إقامة مقارنات بين ما كان وما هو ماثل ، بين الحلم و الواقع ، وما يندرج تحت ذلك كله من سلسلة من التّقابلات التي تصف حال تبدّل المكان وأهلّه ، كل ذلك يكشف عن رؤية أقرب إلى أن تكون موحّدة لشعريّة المكان في تلك النّصوص ، فهذه الأمكنة وعبر ما تظهره المختارات الشّعرية قد هجرت أبعادها الجغرافيّة المحدّدة ، وصورتها الحقيقيّة لتتحول وعبر النّص الشّعريّ إلى عتبة ألم ومعاناة ، فهي أمكنة مخرّبة هجرها ناسها ، وبقيت عصفاً للذّكريات ، وقد تبدّت
شعريتها من خلال تقاطب رئيس " هناك / هنا " فالمكان "هناك" يحفل بناسه وجاذبيته وهو يُعاش مرة أخرى وعبر فعل الحاضر من خلال المكان الـ " هنا " الذي غالباً ما يكون عدوانيّاً منغلقاً ، ويشكّل معبراً للهروب نحو الماضي ، نحو الألفة والهناءة والحميمية .
لذلك يمكن القول بأنّ فكّ بنية المكان في نصوص " المنازل والدّيار " يتمّ عبر التّقطاب " هناك / هنا" الذي يتمظهر من خلال طائفة من الثّنائيّات المتعدّدة التي يمكن أن يعدّ ما هو دالّ عليها ، من خلال : " الحاضر / الماضي " ، " الألفة / الوحشة " ، " الانقطاع / الاتّصال " .
مقاربة التّقاطبات المكانيّة
1 _ ثنائيّة " الحاضر / الماضي " : تحوّل المكان :
يشير باشلار إلى أنّ الذكريات تظلّ ساكنة ، وكلما كان ارتباطها بالمكان أكثر تأكيداً أصبحت أوضح، إنّ كل أماكن عزلتنا الماضية ، والأماكن التي عانينا فيها من الوحدة ، والتي إستمتعنا بها ورغبنا فيها وتآلفنا مع الوحدة فيها تظل راسخة في داخلنا ، لأننا نرغب أن تظلّ كذلك ، نرغب أنْ تظلّ تلك الأمكنة مستقرّة بوعينا حبلى بالأحداث والرّموز ومشحونة بالدّلالات و الذّكريات ، وهو ما يشكّل أجواء خصبة للمخيلة الشّعرية التي يستفزّها الماضي ، ويضغط باتجاه عيشها من جديد من خلال الحاضر فعلاً ومكاناً ؛ فالشّاعر يعيش مكان الماضي عبر فعل الحاضر ، ويعاينه بصورة تقابليّة بين المكان الحاضر " هنا " ، والمكان الماضي " هناك " .
تبدو مقاربة هذه الثّنائيّة " الحاضر / الماضي " معينة على الكشف عن رؤية تحوّل المكان من : الحميم إلى المعادي ، و هي الرّؤية التي أفصحت عنها بِشارات القصيدة العربيّة في مقدّماتها الطّلليّة ، بل يبدو أنّها الرّؤية التي تطبع الشّعر الجاهلي بكليّته ، و هو ما عاينه كمال أبو ديب حين دراسته للقصيدة الجاهليّة " يبدو الشعر الجاهلي مهووساً بالحاضر ، لكنه حاضر ذو وجه واحد وذو بعد واحد ، إنّه حاضر التّفتيت والإنحلال والتغيّر الفاجع ، الحاضر لا يحمل في ثناياه وعداً بمستقبل أزهى وأخصب وأكثر ثراء ، إنه دائماً حاضر قاتم مأساوي ، والاستجابة لهذا الحاضر ، لا تتمثل في بحث عن مستقبل أفضل أو في عالم الحلم بالممكن الأجمل ، أي أنّ المستقبل لا يشكل الحركة المضادة للحاضر المتفتت المنهار ، بل تتمثل في إستعادة الماضي " .
_ يقول طرفة بن العبد :
لهندٍ بحزّان الشّريف طلول تلوح وأدنى عهدهنّ مـحيل
وبالسّفح آيات كأنّ رسومها يمان وَشَتـْه رَيْدة وسـحيل
فغيّرن آيات الدّيار مع البلى وليس على ريب الزّمان كفيل
هذا الإستسلام لريب الزّمن ، هو ما يجعل إستعادة الماضي عبر المخيلة الشّعرية هو ما يسعف على تحمّل مصيبة الفقد ، وتغيّر المكان من النّداوة و فيضان الحياة و الخصب إلى ما فعلته يد البلى من تخريب لمعالم الحياة النّدية . ويبدو الاقتران بين الماضي / الخصب ، والحاضر / القحل ، هو ما يشير إلى ارتباط الحياة بالمكان الماضي ، وفقدان هذا العنصر في المكان الحاضر ولا سيما في حياة الجاهليّ الصّحراويّة هو ما يجعل المكان / الحاضر ليس مكاناً عدوانيّاً فحسب ، بل مكاناً عدوانيّاً طاغيّاً ، يخلو من أي معالم للحياة بإفتقاره إلى الخصب والنّداوة ، وصورة الحاضر الفاجع ، المفتت ، اللامستقر تُرحَّل عبر الشّعر لتطبع رؤية الشّاعر العربيّ في أزمنة مختلفة :
-يقول الشّريف المرتضى :
عرصات أصبحن وهي سماء = ثـم أمسـين بالـحوادث أرضا
وربـاعٌ كـانت عرين أسود = أصبحت للضّباع مأوىً ومفضـى
هذه الحركة الرأسيّة القائمة بين " فوق _ تحت " والتي يشير إليها التّقابل الدّال بين السّماوي العالي الرّفيع ، و الأرضي الواطىء الوضيع ، والذي يتمّ عبر تحوّل الزّمن من " الصّباح " الجليّ المبهر إلى " المساء " المعتم الغامض ، و ما يسانده من تغيّر يقلب " القوّة " وما تحفل به هنا من ألفة وأُنس إلى " ضّعف " ووحشة كل ذلك يتلاحق عبر طائفة التّقابل والتّضاد القائمة في النّص ليدفع بجعل حركة تحوّل المكان أكثر قوّة وإثارة وبياناً ، ما بين " الماضي " الأعلى القويّ المبهر الأليف إلى " الحاضر" الأسفل الضّعيف الغامض الموحش .
وتظهر حركة التّحول عبر ثنائيّة " الماضي / الحاضر " وما يصاحبها من تقابل في سياقات أُخر :
- فلقد قطـعت بـها زمـاناً للصـبى = والّلهو مخـضّر كـخضرة آسـها
_ يهيّج الذي قد كان من سالف الصّبى = على مـستهام قلبـه غيـر ذاهـل
سقيا لـه زمـناً نـعمـت بـظـلّه = لـكنّه لـمـا مضى لـم يـرجـع
_ أحبّ ثرى الوادي الـذي بان أهلـه = وأصـبو إلـى الرّبع الي محّ مغناه
_ يا موسـم الّلذات غالــتك النـّوى = بـعدي فـربعك للـصّبابـة موسم
_ أحـام صفـوّ اللـيـالـي لـصبّ = ذكـرتـه الأطـلال عهد التّصافـي
كم تـرى شمـل أهلها في افتـراق = وتـرى شـمل دمـعه فـي ائتلاف
يبدو الحنين إلى الماضي إنّما هو حنينٌ إلى صباباته " الصّبى ، أصبو ، صبابة ، صبّ " و ما يتعالق معها من دلالات تشير إلى نسغ الحياة النّضر كما عبّرت عنه النّصوص السّابقة " مخضّر ، هُيام ، ظلّ ، صفو ، لذّة " إذ هو عهد الشّباب وما ينطوي عليه من إخضرارٍ وزهوّ ، و كيف لا ، وتلك الأماكن كانت آهلة بالأهل و لا سيما " المرأة / الحبيبة " التي تضجّ بالصّبا وتضخّه فيمن حولها ، أو كما يشير أبو تمام :
_ يا موسـم الّلذات غالـتك النـّوى = بـعدي فـربعك للـصّبابـة موسم
ولقد أراك مـن الكواعـب كـاسياً = فـاليوم أنـت مـن الكواعب مـعدم
فالمكان " الماضي" هو موسمٌ لذّاتٍ، هو هناءة الصّبا، إلا أنّ دلالة " الاغتيال " بما فيها من إشارة إلى موت مفاجىء وسريع ترمي إلى إنتهاء تلك الهناءة كلمح البصر، و بإنتهائها أوقفت معها فيضان الّلذة الذي تثيره دلالة " كاسياً بالكواعب " فهو موسمٌ مترعٌ بالخصب، بخضرة الحياة معهن ، وهو " الآن " ليس خالياً منهن فحسب ، بل " معدم " أي يتبدّى معه أيّ تشبّثٍ بعودته قطعياً.
إنّ العماد هنا يكمن في إحتباس زمن الهناءة بالذي مضى ، وقصوره عن بلوغ دائرة التّمام في حاضر الشّاعر المليء بأمكنة تشيع الكهولة في الرّوح والجسد :
_يا منزلاً أضـحى كـجسمي بـالياً = حـزن القـلوب وحسـرة للـنّاظـر
وأكثر ما تفعله هذه الأماكن هو إستفزاز الذّكرى لإستعادة صفو الحياة التي تبدو " الآن " متيبّسة ، محروقة ، لا أمل في ابتناءها من جديد كما أِشارت إليه الدوالّ في النّصوص السّابقة : " سالف ، محّ ، لم يرجع ، غالتك " ، فهو عهدٌ سالف قد محّت مغانيه زال ولن يعود ، فالماضي الهنيء هو أبعد ما يكون عن متناول الهوى :
_ تمنيّتهم بالرّقمتيـن، ودارهـم بـوادي الغـضا يا بـعد مـا أتـمناه
فالمكان / الماضي بكل ما يحويه من صخب الحياة و خصبها ، قد انتهى " هناك " و المكان كما يتبدّى من خلال الصّورة الشّعريّة التي رسمها الفنّد الزّماني هو حاضرٌ بأبعاده الحسيّة و الذّهنيّة المجرّدة وهو بكل تلك الأبعاد ينهار ويتداعى على نحوٍ لا يجدي معه الجزع . إنّما هو إستسلام لفعل الزّمن وركون إليه :
_ فاجزعوا للأمر ، أو لا تجزعوا = قد تداعى السّقف وانهار الجدار
إنّ تمام الأمر على نحو ما يشير إليه " مهيار" بأنّ " المكان / الماضي" هو المكان الحقيقيّ بما تحفل به دلالة " الحقيقة " من قيمة مطلقة للمكان تجعل منه بؤرةً أو مركزاً يستقطب إلى مداره كلّ الأمكنة الحاضرة التي تقف على النّقيض منه إذ هي " ظنّ / وهمّ / خيال / أو ظلّ " للمكان الماضي ، وهي تشكّل في واقعها الظنّي هذا معبراً لحركة المخيلة التي تنطلق من الحاضر الوهم وترتدُّ إلى الماضي الحقيقيّ لتشكلّه من جديد عبر نظامٍ تقابليّ ثنائيّ ، ويبقى هذا المسار الدّائريّ بين المكان الحاضر الظنّ إلى المكان الماضي الحقيقيّ مابقيت المخيلة الشّعريّة الحالمة بالعودة إلى الذي عبر ولن يعود مكاناً وأهلاً وذكرى وصبابة وإخضراراً وهناءة وألفة وحماية ، يقول مهيار :
- يا ديار الحيّ من خَبْتِ الّلوى = عُدتِ ظنّاً بعد ما كنتِ حقيقة
أخذ الدّهر قشيباً رائقاً مــن = من مغانيكِ وأعطاكِ سُحوقه
2- ثنائيّة الألفة / الوحشة :
يشير باشلار إلى أنّ قيمة المكان ، بل القيمة العظمى له إنّما تكمن في " الألفة " ؛ فأهمية المكان لا تنبع بطبيعة الحال من أبعاده الهندسيّة المتميزة ، ولكن لكونه قد عيش فيه مراحل الطفولة والصّبا والشّباب أي بسبب كونه مكاناً أليفاً ، وفي الشّعر يصبح بُعد الألفة هو البديل للبعد الهندسي ، وجوهر الألفة في المكان العربي هو السّمة الأمومية ، وحينما يتمّ إستدعاء المكان الماضي تُستدعى معه أموميته بما تزخر به من حنوّ وألفة وحميميّة وسَكَن ، وهي إذ ذاك تشكّل معاني " البيت " الحقيقي ،و في المقابل فإنّ فقدان هذا المكان إنّما هو فقد لجوهر القيم الأساسيّة التي تمنح المكان سماته الحقيقيّة :
- أعـلى العهدِ منزلٌ بالـجنابِ = كان فيـه مـتى أردت طـلابي
المغاني تلك المغاني فهل فيـ = ـهنّ ما قد عهدت من إطرابي ؟
ليست الدّار بعد أن توحِشَ الدّ = ارَ نـوىً عـير جنـدل وتراب
فإذا لم يُعِدْ حنيني عـلى الـدّا = رِ حبيبياً فليـس يغني انتـحابي
في هذا النّص لا نقع على تفاصيل المكان الهنيء الماضي ، ولا نستطيع أن نلتقط منمنمات العيش فيه ، إلاّ أنّنا نستطيع تلمسّه وتلمسّ الحياة فيه، في انعكاس الصّورة ، في المرآة المقابلة لصورة المكان الآن ، تتصاعد المفارقة بين الوضعين ، حين يبدو صوت الشّاعر متخماً بالحنين منصبّاً على البحث عن المكان الدّارس الرّاحل ، و بدلاّ من أن ينتهي إلى التّواصل مع المكان ، فإنّه على النّقيض من ذلك ينكر الدّار وينقطع عنها ويرفضها ، فالدّار حين ينأى عنها ناسها ليست الدّار التي خبرها القلب ، في هذا النّص يبدو الانقطاع عن المكان هو إنكار لوجوده دون أهله ، هو عدم اعتراف بشرعيته حين يخلو من ناسه ؛ فالدّار هي صورة الألفة التي متى فُقدت خلت من معناها ، حينها تتفكّك علائق الشّاعر بالمكان بسبب هذا التّغيير الجوهريّ الذي طرأ على معنى المكان ، و بدّل حاله من سعة " الألفة " إلى ضيق " الوحشة " وهنا تنطفأ هناءة القلب ، ويُخلَّى المكان الخالي من ناسه للذّكرى .
وفي هذا السّياق يشير جرير :
- فيا حبّذا أيـام يحتلّ أهلها = بذات الغضا والحيّ في الدّار آهلُ
وإذ نحن ألاّف لدى كلّ منزلٍ = ولم تـتفرّق للـطّيّات الـحمـائل
يظهر صوت الشّاعر في المقطع السّابق في صيغة المتكلم الجمع " نحن " ؛ ليكون المفهوم المتصوّر عن معنى " المكان " مفهوماً جماعيّاً ، ومن هنا يكتسب قيمة مضافة ، فهو لايخصّ الشّاعر وحده ، بل سكنى الدّار والمنزل . إنّ البحث عن صورة المكان الرّاحل تتوازى و افتقاد الذّات لأُنس الجماعة ، وحميميّة الدّار حين تكون آهلة ، و مما يزيد هذه الصّورة تكثيفاً وعمقاً هو التئام دلالات " التّجمع والالتصاق والتّرابط " التي تثيرها " ألاّف " بالمكان " لدى كل منزل " ؛ فالمكان هنا هو حاوٍ للجماعة ، وحامٍ لها ، ليس وفق دلالة ماديّة ، بل هو يتحرّر من الأبعاد الهندسيّة المحدودة والتي تضفي معانٍ تقليديّة للحماية ، ليثير ألفة التّرابط المعنويّ الذي يلمّ شمل الأهل ويربط بينهم ، ومما يعزّز هذه الصّورة هو اقترانها بدلالة " التّفرق " التي تتمّ في جهات شتّى ، متناثرة ، متباعدة ، " ولم تتفرّق للطيات الحمائل " .
إنّ المخيلة التي ترحل إلى زمن الحلم / التّمني " يا حبّذا " لتفتش عن التّوازن والاستقرار الذي يشيعه المكان ، تفشل في الالتئام به من جديد ، فالجهات التي فرّقت الأهل والدّواب شتت أيّ إمكانيّة في التحام أهل الدّار بها مرة أخرى . ورؤية التّمني هذه تبدو مع صوت شاعر آخر أكثر امتلاءً برغبة عيْش الألفة واقعاً مستعاداً :
_ وأنت يا وصل عُج في ربع فرقتنا = عسـاك تـجمع شمـلاً عزّ مجمـعه
عسى الليالـي بأوطاني التي سلفتْ = تَرْجِـعْـنَ فيـه رجـوعـاً لا نودّعه
تبدو مفردة " الرّبع " بما تدلّ عليه من اتّساع وما تمنحه من مساحة ، ملائمة للحركة التي تستحثّ الوصل عبر فعل الأمر " عجْ " لتثير معها توتراً بين قطبي " الفرقة / الجمع" فتجسّد رغبة التّمني " عساك / عسى " بإستعادة الشّمل الذي فشلت محاولات جمعه وإسترجاعه من جديد ، إنّ الإخفاق في إستعادة الّليالي البائدة يوازي الإخفاق ذاته في إستعادة " الأمان والدّفء والألفة " التي يشيعها أهل ذاك المكان ، إنّ توازي هاتين الصّورتين هو ما يحوّل الدّار إلى مكانٍ عدوانيّ طاغٍ _ بتعبير باشلار_ . أو كما يشير أسامة بن منقذ :
- تقول لي الأشواق : هذي ديارهم = فقـلت : نعـم ، لكنها منـهم قفر
وما كنت أهوى الدّار إلا لأهلها = وبعـدهم لا جـاد ساكنـها القـطر
- ديارٌ خلت من أهلها وتـوحشّت = فليـس بها مرعى لعين ولا خصب
الدّار هنا تحفل بصورة المكان الحاضر المحاصر بقيم تحمل دلالات سلبيّة " الوحشة ، الجدب، القفر " وهما ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بخلوّ الدّار من أهلها ، ويؤدّي الإخفاق في إستعادة المكان على نحو ما تشير إليه إعتدال عثمان ، " إلى طغيان العناصر المكانيّة التي تحمل دلالات الجدب ، وتراجع العناصر الأخرى المرتبطة بتحقق فعل التّخصيب البشريّ ، وتخصيب الّلغة " ، وإذا ما كان الإخفاق مزدوجاً أو هو للدّار وأهلها ، فإنّ تكثيف الدّلالات السّلبية سيغدو أكثر بياناً ، والتّعبير عنها سيتضاعف عبر الّلغة المثقلة بهمّ الفقد ، إنّ نسق المكان وعبر ثنائيّة " الألفة / الوحشة " يمرّ عبر هناءات الماضي التي رحلت ، برحيل ناسها ، وبقيت تعشّس في شقوق المكان كالوشم ، محفورة هناك وفي الذّاكرة ، علامة لن تمّحي ، بل هي ما تنفكّ تستفزّ المخيلة لعودة حميمية للذي عبر من هنا ، ورحل و تبدّت أي محاولة لاستعادته من جديد :
-على مثلها من أربعٍ وملاعبٍ = أذيلت مصونات الدّموع السّواكب
أعنّي على تفريق دمعي فإنني = أرى الشّمل منهم ليس بالمتقارب
أصابتك أبكار الخطوب فتشتت = نـواك بـأبكار الظّباء الكـواعب
3 _ ثنائيّة التّواصل / الانقطاع :
تتبدّى هذه الثّنائيّة من خلال الإلحاح على تكليم الدّيار والمنازل والأطلال ، وهي إذ ذاك وبفعل الشّعر إما أن تردّ التّحية بأحسن منها ، وإمّا أن تمعن في الصّمت فتزيد المكان قتامة وإسوداداً ، ويبدو السّؤال الملحّ هنا " لماذا هذا الانجذاب الأثير إلى تكليم الطلل؟ ولماذا ذلك الإنصات الخاشع لرسوم المنازل والديار؟. لاشكّ أن في الحوار والمساءلة والتبادل ما ينبئ عن مشاركة عميقة، وعقد سرّي غامض، في صيغة الحوار المنقوص والإجابة المعلَّقة. وعلى الرّغم من معرفة ذلك والإقرار به، فإنّ الامتداد بالسؤال إلى الرّسم والطلل، لا يفتأ يتكرر، ويتردّد، في مدى الانتظار الأعجم، والصّمت المطبق الذي لا يريم " .
يقول عنترة ، وتالياّ أبو تمام :
_ يا دار عـبلـة بالـجواء تـكلّمي = وعـمي صباحاً دار عبلة واسلمي
_ سلّم على الرّبع من سلمى بذي سلم = عليـه وسـم مـن الأيـام والقدم
إنّ أنسنة الدّار ، كما أراد الشّاعران ، لا تتمّ عبر فعل الأمر " تكلمي " فحسب بل هي تبين أيضاً في إلقاء التّحية عليها والدّعاء لها ، وكأنّ الدّار هنا هي صورة الحبيبة الرّاحلة ، أو هي إنعكاس لوجودها الماثل في الدّار ، و يتكشّف التّخاطب مع المكان في نصوص " المنازل والدّيار " عبر ثنائيّة " التّواصل والانقطاع " فتارة يفتح المكان آفاق المشاركة والحوار ، و تارة أخرى ينغلق عن أيّ تواصل بل يمعن في الصّمت المطبق والإعراض ، فالدّار هنا تمنح وتمنع ، تنطق وتصمت ، تتواصل وتنقطع ، وكأنّها بهذا حيناً تواسي ، وحيناً تضاعف ألم الفقد .
يقول سعيد بن حميد المعروف بالدّوقلة :
- خبّـرني أيهـا الطلـل = الأُلـى حلّوك ما فعلـوا ؟
قـال لي : لا علم بهـم = أيـها المشتاق مذ رحلوا
فابكيهم ؛ ثم ابكني معهم = بـدموع مـاؤها خضـل
قلتُ : إنّ القلب بـعدهم = من عـزاء عـنهم عطل
إنّ الطّلل هنا لا يتمنّع ، بل يستجيب لمنطق التّواصل و المشاركة التي ألحّ عليها صوت الشّاعر إذ هو قد ابتدأ الحوار يروم البحث عمّا يُبرىء الشّوق ، وهو بهذا يدفع الطّلل دفعاً نحو التّواصل علّه يحقّق بالمخيلة إشباعاً لعطش الحنين وفي الطّلل ما يروي ؛ فخطابه هنا يبدو مشحوناً بالتّفاعل الإيجابيّ فهو يردّ على التّساؤل ، ويشارك في فعل الحوار ، وإنْ كان " لا علم له بهم " إلاّ أنّه يروم إشاعة الرّاحة عبر فعل آخر سوى معرفة حال أهل الدّار " فابكيهم " ، إنّ هذا التّواتر بين صوت الشّاعر وصوت الطّلل يجعل من المكان دالاً إيجابيّا على الرّغم من اندثاره و انتفاء معرفته ، إلاّ أنّ المشاركة والتّبادل على مستوى الّلغة تشرّع مستويات العلاقة بالمكان على نواحٍ أُخر ، يبدو فيها المكان صديقاً ودوداً على الرّغم مما يظهره من عدوانيّة طاغيّة ، فهو يبدي الخراب إلا أنّه يستبطن الحياة حين ينطق ، ويحاور ، والأهم من ذلك كلّه يواسي .
وإن كان طلل " الدّوقلة " لا علم له بحال من رحل ، فإنّ دار أسامة بن منقذ تردم هذا النّقص ، و تأتي بالخبر اليقين :
_ هذي منازلهم عفـت وتفرّقوا = فسـل المنازل عنهم ماذا لقوا
تخبرك أنّ الأرض قد وارتهم = وأبتْ لهم أن يسمعوا أو ينطقوا
إلاّ أنّ دوراً أُخر تقيم تواصلاً من نوعٍ مختلف ، فهي تنبىء بالإشارة ، وتبلغ بصمتها ، عسى حالها يُغني عن طول كلامها ، يقول أبو الحسن بن منقذ :
_ سل المنازل عـمّن كـان يسكنها = من الأحبّة والإخوان ما صنعوا
تخبرك وعظاً بلا لفظ فقد نظرتْ = آمـالهم والمنايا كيف تصطرع
حين يكون شاهد الحال أبلغ من الإخبار عنه ، فإنّ الصّمت يعدّ فضيلة ، فَهَوْل ما حدث أعظم من طاقة الّلغة على الإخبار به ، فتتركه للتّأمل ، حينها يغدو " الوعظ بلا لفظ " أعلى مراتب الحكمة ، و تَحوّل الدّار و " نحولها " يغدو مفصحاّ بلا نطقٍ :
-المغاني أحفى بقلبي من العذ = ل وإن هجن لوعة وزفيراً
أفهمتني عـلى نـحول رباها = فكأني قرأت منها سطورا
على حين تمرّ أكثر أمكنة " المنازل والدّيار " عبر قطب " الانقطاع " ، فهي بصمتها ، وتمنّعها ، وقعودها عن المشاركة ، تمنح الصّدود ، وتعلّق آمال التّواصل ، وتصعّد همّ الفقد :
-وقفنا فقلنا : إيه عن أمّ سالم = وما بـال تكـليم الدّيار البلاقع
فمـا كـلمتنا دارها غير أنها = ثنت هاجسات من خبال مراجع
_ فاستعجمت دار نعمٍ ما تكلّمنا = والدّار لـو كلّمـتنا ذات أخبار
_ خليـليّ عـوجا ثـم سـلّما = عسى الرّبع بالجرعاء أن يتكلما
تـعرّفته لـما وقفـت بربعه = كـأنّ بـقاياه تمـاثيل أعـجما
ديـار لمّى قد تعفّت رسومها = تـخال نـواحيها كـتاباً معجماً
بين الطلب والشك في أمل الاستجابة والإنجاز تتكثف قوة التردد، وتكون الوقفة اصطراعاً باطنياً، وتوتراً كيانياً تتناهبه الهواجس والاندفاعات، في مواجهة خفية بين قوى متعارضة، تحاول كلّ منها أن تبطل الأخرى، بينما هي تشكل تحريضاً لها في حركة الشدّ المزدوجة، والمتعاكسة، والمتناوبة في التوجه والرجحان. ذلك ما يتبدّى في تردد الشاعر بين التوجه إلى الديار وانتظار جوابها والتبادل معها، على نحو يجعله في منطقة اهتزاز بين النفي والإثبات، وكذلك هي الحال من جهة الديار، التي تتكلم في امتناعها، وتمتنع في نطقها، بما يحفظ هذا التوازن الحركي، الذي يبقي على قوتي الشدّ والجذب، ويؤمن تغذية القلق والتفجّر، ويحفظ نشاط الحركة والمساءلة، ويجدد طاقة التحفز والانتظار ، فالدّيار وإن منحت الصّدود ، أو قدّمت القبول والتّواصل فإنّها على كلا الحالين تشارك الشّاعر في بثّ شعوره المتفلّت من طاقته على إستيعاب ما جرى ، فالدّار تحاوره حيناً ، وتتمنع عنه حيناً آخر ، فتقيم توادّاً من نوع مختلف .
- الهوامش :
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ، ترجمة غالب هلسا ، وزارة الثّقافة والإعلام ، بغداد ، 1988 ، ص 87 .
المصدر السّابق ، ص 89 .
هو ابن منقذ الأمير الكبير ، العلاّمة فارس الشام مجد الدّين ، مؤيّد الدّولة ، أبو المظفر أسامة بن الأمير مرشد بن علي بن منقذ بن نصر بن منقذ الكناني ، الشّيزريّ .
له نَظْمٌ في الذّروة كأبيه ، وجرت له أمور وحضر حروباً ألفها في مجلد فيه عبر ، مات في دمشق في رمضان 584 ، مات ابنه الكبير عضد الدولة مرهف بن أسامة / الذّهبي ، شمس الدّين محمد بن أحمد ، سير أعلام النبلاء ، ج15 ، تحقيق محبّ الدّين أبي سعيد العمروي ،ط1 ، دار الفكر للطباعة والنّشر ،1997 ، بيروت ، ص 369 – 371 / وينظر أيضاً : ابن عساكر ، أبو القاسم علي بن الحسن ، تاريخ مدينة دمشق ، ج60 ،تحقيق ، محبّ الدين أبي سعيد العمروي ، دار الفكر ، بيروت ، ص 365 / ابن كثير ، أبو الفداء الحافظ ، البداية والنهاية ، ،ج11 ، ط2 ، مكتبة المعارف ،1977 ، بيروت ، ص 369 -371 .
وهو الاتّجاه الذي نادى به غالب هلسا حيث ذهب إلى أنّ : " المكان العربيّ هو مكان أموميّ ، فإستعادة المكان بعمق في الأدب العربيّ تستدعي معها الأم كنمط أصلي ، كما تستدعي أيضاً صورة مجتمع الأمومة الذي كان سائداً في فترة من فترات التاريخ العربيّ ، ويكفي أن نذكر مثالاًعلى ذلك : القصيدة الطّليليّة " هلسا،غالب ، المكان في الرّواية العربيّة ، ط1 ، دار ابن هانىء ، دمشق ،1989 ، ص 15 .
أنظر على سبيل المثال لا الحصر : هلسا،غالب ، المكان في الرّواية العربيّة ، ط1 ، دار ابن هانىء ، دمشق ،1989.
/ النّصير ، ياسين ، الرواية والمكان ، دار الشّؤون الثقافية العامة ، بغداد ،1993 / ، سيزا ، بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط1 ، 1984.
أنظر على سبيل المثال لا الحصر : عثمان ، إعتدال ، إضاءة النّص : قراءات في الشعر العربي الحديث ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط2 ، 1998 / كحلوش ، فتحية ، بلاغة المكان قراءة في مكانيّة النّص الشّعريّ ، ط1 ، مؤسسة الإنتشار العربيّ ، بيروت ، 2008 .
الذّهبي ، شمس الدّين محمد بن أحمد ، سير أعلام النبلاء ، ص 369 – 371 / ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ، ص 365 / ابن كثير ، أبو الفداء الحافظ ، البداية والنهاية ، ص 369 -371 .
المحادين ،عبد الحميد ، جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،ط1 ، بيروت ،2001 ، ص 24 .
النّصير ،ياسين ، البنية المكانيّة في القصيدة الحديثة ، الآداب ،ع ( 1-3 ) ، س 34 ، 1986 ، ص 210 .
عثمان ، إعتدال ، إضاءة النّص : قراءات في الشعر العربي الحديث ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط2 ، 1998 ، ص 7 .
قاسم ، سيزا ، بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط1 ، 1984 ، ص 76.
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، تحقيق ،مصطفى حجازي ، المجلس الأعلى للشّؤون الإسلامية لجنة إحياء التّراث الإسلامي ، القاهرة ، 2004 ، ص 5 .
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، ص 5 .
تذكر( شيزر ) من مدن سوريا القديمة ، إنها تذكر في النصوص المصريّة القديمة بإسم " سنزار " و " سنزارا" وسمّاها الإغريق " سدزارا " أما البيزنطيون " فسيزار " ، ويصادفنا اسم المدينة في صيغة "شيزر" في أشعار العرب الجاهليين مثلاً في أشعار امرىء القيس ، وعبيد الله بن قيس الرّقيات ، تعدّ( شيزر) من بين الحصون المبنية على ضفاف نهر " أورنت " أو " الأرند " أي العاصي ذلك النهر الذي ينبع من جبال بعلبك في لبنان ، تقع شيزر إلى الشمال الغربي من حماه على بعد 28 كم على تلة مطلّة على الشاطىء الجنوبي الغربي لنهر العاصي . الأرض المجاورة لشيزر ، والمتصلة بها ، خصبة ، صالحة للأعمال الزّراعية ، ولعمل السكان ، وقد أعطت انتاجاً من الحبوب والفواكه أمّن للمدينة حياة اقتصادية مستقلة ، وانتشرت عدد من المناطق السكنية والقرى ،في القرن الرّابع الهجري فقد كانت منطقة (شيزر) مسرحاً للصدمات المستمرة بين الحمدانيين والبيزنطيين ، وأيضاً الفاطميين ، وذلك بسبب أهمية موقعها الجغرافيّ الإستراتيجي ، إذ كانت ( شيزر) مفتاحاً إلى قلب سورية ، وكان حكمها سجالاً بين العرب والبيزنطيين إلى أن استولى عليها الإمبراطور ( فاسيلي الثاني) 390 هـ فبقيت تحت سلطة بيزنطة إلى عام 474 هـ / ينظر بخصوص شيزر : ابن منقذ ، أبو مظفر أسامة بن مرشد ، الاعتبار ، تحقيق ، فيليب حتّي ، الدار المتحدة للنشر ، 1981 ، بيروت ، المقدمة ص ج ، ص 71 / ابن منقذ ، أسامة ، مقدمة المنازل والدّيار ، ص32 / طنوس ،وهيب ، الوطن في الشّعر العربيّ من الجاهليّة إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي ، ط1 ، دمشق ، 1976 ، ص 24 - 30 .
عثمان ، إعتدال ، إضاءة النّص ، ص 8 .
النّصير ، ياسين ، الرواية والمكان ، دار الشّؤون الثقافية العامة ، بغداد ،1993 ، ص17 .
المحادين ،عبد الحميد ، جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية ، ص 9 .
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ، ص 52 .
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، ص 4.
المصدر السّابق ، ص 4.
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ، ص 132 .
المصدر السّابق ، ص 132 .
المصدر السّابق ، ص 226 .
سليطين ، وفيق ، المنازل والديار نحو إقامة القراءة في موطن الشّعر ، الموقف الأدبي ، ع ( 423 ) ، تموز 2006.
طنوس ،وهيب ، الوطن في الشّعر العربيّ ، ص 6 .
النّصير ،ياسين ، البنية المكانيّة في القصيدة الحديثة ، الآداب ،ع ( 1-3 ) ، س 34 ، 1986 ، ص 210 ، 211 .
المصدر السّابق ، ص 210 .
المصدر السّابق ، ص 210 .
كحلوش ، فتحية ، بلاغة المكان قراءة في مكانيّة النّص الشّعريّ ، ط1 ، مؤسسة الإنتشار العربيّ ، بيروت ، 2008 ، ص 27 .
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ،ص 54 .
بحراوي ، حسن ، بنية الشّكل الرّوائيّ ، ص35 .
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ،ص 252 .
المصدر السّابق ،ص 75 .
أبو ديب ، كمال ، الرّؤى المقنعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشّعر الجاهلي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1968 ، ص 326 .
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، ص 118 .
المصدر السّابق ، ص 149.
السّابق ، وهي على التّوالي : ص 345 ، 142 ، 141 ، 137 ، 115 .
السّابق ، ص 137 .
السّابق ، ص 25 .
السّابق ، ص 141 .
السّابق ، ص 139 .
السّابق ، ص 71.
باشلار ، غاستون ، جماليّات المكان ،ص 226 .
هلسا ، غالب ، المكان في الرّواية العربيّة ، ص 21 .
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، ص 19 .
المصدر السّابق ، ص 16 .
السّابق ، ص 220 .
السّابق ، ص 77.
السّابق ، ص 143 .
سليطين ، وفيق ، المنازل والديار نحو إقامة القراءة في موطن الشّعر ، الموقف الأدبي ، ع ( 423 ) ، تموز 2006.
ابن منقذ ، أسامة ، المنازل والدّيار ، ص ص 351 ، 137 .
المصدر السّابق ، ص 116 .
السّابق ، ص 26 .
السّابق ، ص 25 .
السّابق ، ص 106 .
سليطين ، وفيق ، المنازل والديار نحو إقامة القراءة في موطن الشّعر ، الموقف الأدبي ، ع ( 423 ) ، تموز 2006.
- مصادر ومراجع الدّراسة مرتّبة حسب ورودها تباعاً في المتن :
• باشلار ، غاستون( 1988 ) جماليّات المكان ، ترجمة غالب هلسا ، وزارة الثّقافة والإعلام ، بغداد.
• الذّهبي ، شمس الدّين محمد بن أحمد ( 1977 ) سير أعلام النبلاء ، ج15 ، تحقيق محبّ الدّين أبي سعيد العمروي ،ط1 ، دار الفكر للطباعة والنّشر ، بيروت .
• ابن عساكر ، أبو القاسم علي بن الحسن ، تاريخ مدينة دمشق ، ج60 ،تحقيق ، محبّ الدين أبي سعيد العمروي ، دار الفكر ، بيروت .
• ابن كثير ، أبو الفداء الحافظ ( 1977 ) البداية والنهاية ، ،ج11 ، ط2 ، مكتبة المعارف ، بيروت.
• هلسا،غالب (1989 ) المكان في الرّواية العربيّة ، ط1 ، دار ابن هانىء ، دمشق .
• المحادين ،عبد الحميد( 2001 ) جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية ، ط1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت .
• النّصير ،ياسين ، البنية المكانيّة في القصيدة الحديثة ، الآداب ،ع ( 1-3 ) ، س 34 ، 1986.
• عثمان ، إعتدال( 1998 ) إضاءة النّص : قراءات في الشعر العربي الحديث، ط2 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
• قاسم ، سيزا( 1948 ) بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، ط1 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
• ابن منقذ ، أسامة (2004) المنازل والدّيار ، تحقيق ،مصطفى حجازي ، المجلس الأعلى للشّؤون الإسلامية لجنة إحياء التّراث الإسلامي ، القاهرة .
• ابن منقذ ، أبو مظفر أسامة بن مرشد ( 1981 ) الاعتبار ، تحقيق ، فيليب حتّي ، الدار المتحدة للنشر ، بيروت .
• النّصير ، ياسين(1993) الرواية والمكان ، دار الشّؤون الثقافية العامة ، بغداد .
• سليطين ، وفيق ، المنازل والديار نحو إقامة القراءة في موطن الشّعر ، الموقف الأدبي ، ع ( 423 ) ، تموز ، 2006.
• طنوس ،وهيب(1976 ) الوطن في الشّعر العربيّ من الجاهليّة إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي ، ط1 ، دمشق .
• كحلوش ، فتحية (2008 ) بلاغة المكان قراءة في مكانيّة النّص الشّعريّ ، ط1 ، مؤسسة الإنتشار العربيّ ، بيروت .
• بحراوي ، حسن ، بنية الشّكل الرّوائيّ ،
• أبو ديب ، كمال( 1986 ) الرّؤى المقنعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشّعر الجاهلي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة .
- مصادر ومراجع الدّراسة مرتّبة حسب ورودها تباعاً في المتن :
• باشلار ، غاستون( 1988 ) جماليّات المكان ، ترجمة غالب هلسا ، وزارة الثّقافة والإعلام ، بغداد.
• هلسا،غالب (1989 ) المكان في الرّواية العربيّة ، ط1 ، دار ابن هانىء ، دمشق .
• المحادين ،عبد الحميد( 2001 ) جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية ، ط1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت .
• النّصير ،ياسين ، البنية المكانيّة في القصيدة الحديثة ، الآداب ،ع ( 1-3 ) ، س 34 ، 1986 .
• عثمان ، إعتدال( 1998 ) إضاءة النّص : قراءات في الشعر العربي الحديث، ط2 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
• قاسم ، سيزا( 1948 ) بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، ط1 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
• ابن منقذ ، أسامة (2004) المنازل والدّيار ، تحقيق ،مصطفى حجازي ، المجلس الأعلى للشّؤون الإسلامية لجنة إحياء التّراث الإسلامي ، القاهرة .
• النّصير ، ياسين(1993) الرواية والمكان ، دار الشّؤون الثقافية العامة ، بغداد .
• سليطين ، وفيق ، المنازل والديار نحو إقامة القراءة في موطن الشّعر ، الموقف الأدبي ، ع ( 423 ) ، تموز ، 2006.
• طنوس ،وهيب(1976 ) الوطن في الشّعر العربيّ من الجاهليّة إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي ، ط1 ، دمشق .
• كحلوش ، فتحية (2008 ) بلاغة المكان قراءة في مكانيّة النّص الشّعريّ ، ط1 ، مؤسسة الإنتشار العربيّ ، بيروت .
• بحراوي ، حسن ، بنية الشّكل الرّوائيّ ،
• أبو ديب ، كمال( 1986 ) الرّؤى المقنعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشّعر الجاهلي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة .
* ودّ المكان لأهلّه.. إضاءة على شعريّة الأمكنة في "المنازل والدّيار" لأسامة بن منقذ
د. ساندي سالم محمّد أبوسيف
.
صورة مفقودة