نوال السعداوي - قضايا المرأة إذ تتجلى في النهاية شأناً سياسياً

على مدى الأربعين عاماً الماضية كتبت الكثير عن المرأة والرجل والجنس في بلادنا، وفي بلاد أخرى، على رغم دراستي الطبية واشتغالي بالطب سنوات عدة، إلا أن مشكلات الجنس ليست مشكلات طبية أو جسدية أو بيولوجية فحسب، وعلينا أن ندرس التاريخ والسياسة والاقتصاد والاديان حتى نستطيع الالمام بهذا الموضوع الشائك والمعقد.

ان دراسة وظائف الاعضاء مثل القلب او المعدة او الكبد تعتبر من الدراسات البسيطة، لأن وظيفة المعدة مثلاً هي وظيفة طبيعية لا يتدخل فيها المجتمع او الدولة او الدين او الاخلاق، لكن الاعضاء الخاصة بالجنس هي اعضاء جسدية بيولوجية، ووظائفها طبيعية مثل المعدة، الا ان القوى الاجتماعية والسياسية والدينية تسيطر على هذه الاعضاء، وتحاول تطويعها وقمعها لأسباب اقتصادية استغلالية خارجياً وداخلياً وعائلياً.

يؤدي النشاط الجنسي الى اعادة انتاج البشر، أي إعادة انتاج القوى العاملة في الدول، وبالتالي يحق للدولة بحسب النظام الطبقي الابوي المسيطر ان تتحكم في هذه القوى وان تنظمها وفقاً لمصالح النظام الحاكم. والنظام الطبقي الابوي منذ نشوئه في العصر العبودي يستعين بالقوى فوق البشرية لتدعيم القوى الحاكمة في الدولة. ان تحكم القلة من الاسياد في الغالبية الساحقة من العبيد لا يمكن أن يتحقق ويستمر من دون القوى الغيبية الباطشة بالمتمردين من الرجال او النساء. في حال النساء يكون العقـاب أشد قسوة في الحياة وبعد الموت، لأن المرأة هي الأدنى داخل مؤسسة الزواج أو الأسرة، نواة الدولة.

إن التعرض لمشكلات الجنس يعني بالضرورة التعرض لمشكلات الدولة والأسرة والسياسة والاقتصاد والدين والاخلاق، على المستوى المحلي والدولي.

نحن نعيش في عالم واحد يحكمه نظام طبقي ابوي رأسمالي واحد، وهو نظام عبودي في جوهره وإن بلغ درجة كبيرة من التقدم او الحداثة او ما بعد الحداثة، إذ تخضع الغالبية الساحقة للقلة القليلة التي تملك المال والسلاح والاعلام والمعرفة. وتسود فيها الطبقة الحاكمة على المحكومين من الشعوب المقهورة، ويسود فيها الرجال على النساء داخل الاسرة شرقاً وغرباً.

وتختلف وسائل القمع من بلد إلى بلد، بحسب درجة التطور الاجتماعي، إلا أن القمع السياسي يرتكز على دعامتين، دينية وجنسية.

تتجسد الأولى في التيارات الدينية السياسية التي تصاعدت قوتها في بلادنا وفي العالم كله خلال نصف القرن الاخير. وأصبحت القلة الحاكمة دولياً وعربياً ومحلياً في حاجة الى مزيد من القمع الديني للقوى الشعبية المتمردة، والثائرة ضد الجوع والبطالة والحروب الاستعمارية الرأسمالية، ومع تزايد القمع الديني تزايد القمع الجنسي بخاصة للنساء والفقراء والشرائح الضعيفة اجتماعياً وسياسياً.

خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين، كانت الشعوب العربية رجالاً ونساءً في حال من الوعي المتزايد بوسائل القمع الداخلي والخارجي، كانت هناك محاولات لعمل دساتير وقوانين جديدة تؤكد العدالة والمساواة بين الناس بصرف النظر عن الجنس او الدين او العرق او الطبقة. مع المحاولات لطرد الاستعمار الاجنبي وبناء اقتصاد مستقل وسياسة مستقلة، الا ان هذه الجهود أُجهضت خلال السبعينات والثمانينات، واليوم نرى تراجع الحكومات العربية وانهزامها تحت زحف القوى الاستعمارية الاميركية - الاسرائيلية - البريطانية، ما أدى الى المذابح والحروب العسكرية المتتالية، إضافة الى المذابح الاقتصادية وتفاقم مشكلات الفقر والبطالة والمخدرات، وما يصاحبها من امراض جسدية ونفسية واجتماعية وجنسية.

ولأن الإنسان وحدة متكاملة لا ينفصل فيها الجسد عن النفس عن الروح عن الحياة الاجتماعية والسياسية، فإن أي عطب لأي جزء يؤدي الى عطب الأجزاء الأخرى. وقد أصبحت صحة الشعوب العربية محددة بالأغذية المستوردة الفاسدة، إضافة الى إغراق الأسواق العربية بمواد غذائية ضارة بالصحة، تساند الدول العربية السياسة الاميركية في فرض الاغذية المعدلة وراثياً، الى حد اصابة اكثر من 15 في المئة من الشعب المصري بالالتهاب الكبدي الوبائي، تتزايد كل سنة بأكثر من 2 في المئة و32 في المئة من الشعب يعاني امراض الكبد جريدة "الاهرام" 22 تموز/ يوليو 2003 ص 19 وزيادة نسبة المصابين بالسرطان وخفض جهاز المناعة بسبب التلوث الغذائي لأهم الخضروات والفواكه مما يسمى الهورمونات النباتية او "منظمات النمو"، من أجل زيادة الانتاج ومضاعفة ارباح الشركات الرأسمالية الدولية والمحلية.

وإذا كانت الدول والحكومات العربية لا تهتم بصحة الشعوب الأساسية، على رأسها الاطعمة والاغذية الرئيسة، فهل نطالبها بأن تراعي صحة الشعوب الجنسية نساء أو رجالاً؟!

ينشغل المسؤولون عن الصحة في بلادنا بأمور لا علاقة لها بصحة الشعب. ان وزارات الصحة ونقابات الاطباء جزء لا يتجزأ من السلطات الحاكمة، وترتبط مصالح الاطباء دائماً بزيادة الامراض وليس بنقصانها. وفي مصر انشغلت نقابة الاطباء في السنين الاخيرة بقضايا لا علاقة لها بالصحة، منها تحجيب الطبيبات، وتخصيص مُحرم لأية مريضة يكشف عليها طبيب رجل "روز اليوسف" 19-20 تموز 2003 ص 14 و15 ومسألة تغيير قَسَم ابوقراط حيث يقسم الطبيب عند تخرجه بالله ورسوله، ما أثار مشكلة بين الاطباء الاقباط والمسلمين، وتم تحويل لفظ رسوله الى لفظ رسله، وانشغلت النقابة ايضاً بعمليات "تغيير الجنس" في الحالات التي يجمع فيها الشخص ما بين الاعضاء الذكورية والانثوية، وكذلك حظر انشاء بنوك الحيوانات المنوية والاجنَّة والبويضات وحليب الأم، خوفاً من شبهة اختلاط الانساب، ما يهدد بإغلاق 73 مركزاً طبياً لعلاج العقم، إضافة الى إلغاء مراكز المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، وحظر عمليات نقل الاعضاء لعلاج بعض الامراض وغير ذلك، ما يؤكد تدهور العقلية الطبية في بلادنا، وخضوعها للتيارات السياسية الديـنية.

في الخمسينات من القرن العشرين، حين طرحتُ على نقابة الاطباء المصرية مناقشة الاضرار الناتجة من ختان الإناث، اعترض مجلس النقابة على عدم مناقشة الموضوع، ووجهت إليَّ تهمة الإباحية، والرغبة في تحرير المرأة جنسياً، ما يتعارض مع الديـن والأخـلاق.

وحين كنت طالبة في كلية الطب في الخمسينات من القرن العشرين لم يكن علم الجنس من العلوم المقررة علينا، كان يمكن أن نعرف عن الحياة الجنسية للصراصير والضفادع، أما حياتنا الجنسية فهي ضمن المحرمات العلمية والدينية والسياسية، وازدادت المحرمات في بلادنا بتصاعد القوى الدينية والسياسية الإرهابية في السنين الاخيرة، وزادت كثافة حجاب العقل والايمان بالجن والعفاريت، وانتشر الحجاب بين الطبيبات، بل هناك من الطبيبات من يرتدين النقاب، فلا يظهر من الوجه إلا العينان من خلال ثقبين، واذا خجلت الطبيبة من كشف وجهها واعتبرته عورة، فهل يمكنها ان تكشف على عورات النساء أو الرجال؟

بعض الطبيبات احجمن تماماً عن فحص المرضى خوفاً من الفتنة واشتغلن فقط في معامل تحليل البول والدم، تفادياً لمقابلة الناس او الكشف عليهم. وقد سألت مرة إحدى طالبات الطب أحد رجال الدين في "بريد القراء" في جريدة "الاهرام" سؤالاً غريباً لم يخطر في بالنا ونحن طالبات قبل اكثر من نصف قرن: "هل يجوز شرعاً للطالبة الأنثى أن تشرِّح جثة رجل؟".

وكان رد الشيخ الاستاذ أغرب من السؤال إذ قال لها: "يجوز ذلك مع إطفاء النور لئلا تري عورة الرجل".

كان ذلك في بداية التسعينات، وكانت نقابة الاطباء ووزارة الصحة تشارك كليات الطب في تحريم تعليم علم الجنس للأطباء والطبيبات، بل ان وزير الصحة نفسه اصدر قراراً في 25 تشرين الاول اكتوبر 1994 بإباحة ختان الإناث في مستشفيات الوزارة، وقد أصدر هذا القرار تملقاً للتيارات الدينية سواء في الازهر او في نقابة الاطباء التي سيطر عليها الاخوان المسلمون، واصدرت النقابة مع شيخ الازهر وقتها الشيخ جاد الحق بياناً للشعب المصري يدعو الى محاربة من يرفضون ختان الاناث، لأن الختان في الشريعة الاسلامية واجب مجلة "الازهر"، ملحق عدد تشرين الاول 1994.

أصبح الايمان بالعدالة والحرية والحب والصدق هو جوهر الدين والاخلاق، وبدأت المفاهيم الجديدة الإنسانية تضرب في القوى السياسية والدينية السائدة دولياً وعربياً ومحلياً، ولا يزال الصراع دائراً، وهو صراع دموي بطبيعة الحال، نشهده كل يوم في الرصاص الذي يخترق صدور الشعوب العربية، في ايدى القوى الاستعمارية الاجنبية، وفي أيدي القوى المتحالفة معها في بلادنا العربية، أعني الحكومات وتوابعها في الشركات والمؤسسات الاقتصادية والثقافية والاعلامية العربية.

ونشهده ايضاً في القوى الدينية السياسية التي تقاوم تحرير العقل، وتحرير المرأة، وتحرير الطفل والطفلة، وتسعى الى ترسيخ قيم الذكورة الجنسية او الفحولة الذكورية، بحيث يكون الذكر الأقوى جنسياً هو الأكثر احتراماً وإجلالاً، والرجل المتعدد العلاقات الجنسية هو الأكثر رجولة. التاريخ الذكوري ما زال يغذي خيال الرجال في بلادنا وما زال يشكل ما يسمى الهوية الجنسية او الهوية السياسية، فالأقوى سياسياً لا بد من ان يكون اقوى جنسياً، على الأقل ظاهرياً، بحيث يخفي الحاكم المستبد ضعفه الجنسي بأقراص "الفياغرا" وعمليات شد العضلات وسن القوانين القمعية للرجال والنساء، كمحاولة للتنفيس عن الضعف النسبي في مجال السياسة والجنس معاً. إن السلطة الذكورية لا تقبل الا القوة المطلقة، ويفزعها ما يسمى "نسبياً". أو بالنسبة الى الآخرين، تتضخم الذات العليا لتصبح هي "الذات" من دون "الآخر".

وأصبحت سوق الفياغرا في بلادنا مثل سوق السلاح والمخدرات اكثر رواجاً، فهي تلبي حاجة الرجال من الطبقات العليا والحاكمة سياسياً واقتصادياً، والتي تلتحم فيها الهوية الجنسية بالهوية السياسية، ويكون القائد العسكري قائداً ايضاً في مجال الجنس وغزو النساء، كلاهما معركة واحدة، تفوز فيها القوة والعنف والارهاب والسلطة المطلقة.

ان الخيال الذكوري المريض بالعنف والاغتصاب يصاحبه خيال انثوي مريض بالخضوع واشتهاء القوة والعنف. لا ينفعل الخيال عن الواقع. كلاهما يغذي الآخر سياسياً وجنسياً وثقافياً.

إلا أن المتمردين القلائل في بلادنا اخترقوا هذه المفاهيم فردياً وجماعياً، وأصبح لدينا تيار جديد يرفض الهوية السياسية والجنسية في آن واحد، يربط بين فساد الجنس وفساد السياسة، وفساد الذكورة، وفساد الإناث، ويخلق ما نسميه اليوم: رجل جديد، وامرأة جديدة، ومفهوم هوية جديد، يقوم على الانسانية والتعددية وتجاوز الثنائيات الموروثة منذ العبودية.

ومعلوم ان الرغبة تتشكل خلال مراحل العمر بداية من الطفولة، يتربى الولد الذكر على الاعتداء على حقوق اخته البنت، ويرى ابوه وهو يعتدي على حقوق امه، تنمو في اعماقه الرغبة في الاعتداء على حقوق الآخرين، خصوصاً النساء والضعفـاء من الرجـال، يكبـر الولد ويصبح رجلاً مستبداً في حياته الخاصة والعامة، لا يخاف الا من القوة القادرة على البطش به، ويعيش حياته في صراع دائم بين رغبته في السيطرة والاستبداد والواقع الذي يعيشه، وهو واقع مؤلم لغالبية الرجال المقموعين بالسـلطة الحـاكمة المستـبدة.

وتنقسم شخصية الرجل الى قسمين: قسم يشتهي السلطة واغتصاب النساء. وقسم يعيش الخضوع والواقع المؤلم. تختلط الرغبة الجنسية بالرغبة في الاغتصاب، وينجذب الرجل في حياته الجنسية الى النساء الادنى منه، اي الاضعف، اللاتي يخضعن لبطشه وسطوته. لكنه في حياته الاجتماعية والسياسية يميل الى الاقتران بالمرأة الاعلى منه طبقياً وسياسياً واقتصادياً، رغبة في الصعود نحو السلطة من خلال الزواج.

انه صراع سياسي جنسي اجتماعي، وليس صراعاً بين غريزة الموت وغريزة الحيـاة.


- الحياة
* ورقة قدمتها الكاتبة في ندوة عقدت يوم 4/9/2003 في بيروت.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...