نقوس المهدي
كاتب
تبتعد "شامات الحسن"، المجموعة القصصية الأخيرة للكاتب والروائي المصري إبراهيم فرغلي ( دار العين،القاهرة)، عن الصيغ النمطية في تناول العالم الحسي لقصصها، وأسئلة هذا العالم القلقة عن معاني الرغبة والجسد والجمال والحب، وتعيد كتابة ورسم بعض الأقانيم التي تؤسس لمفاهيم الفن الجمالية وصفاتها وأبعادها الإيروسية، خالقة ً بذلك سردية ذات مقاربة إيروتيكية خاصة، تحاول أن تكشف عن المضمر والمجهول والصادم في علاقة الإنسان بذاته والآخر والعالم.
تنقسم شامات الحسن إلي اثنتي عشرة قصة، تتلاقي فيها الأضداد جميعها، وتتلاشي الحدود بينها: الإيروس ( الدافع أو الرغبة في الحياة والطاقة الجنسية) في مواجهة ثاناتوس (إله الموت عند الإغريق ويرمز إلي الدافع للموت)، اليقظة والحلم، الواقع والخيال، اللذة والألم، الوهم والحقيقة.
تخرج ذروة الحياة واللذة من رحم الموت، كما في قصة " دون كيشوت"، حيث تدفع الرغبة/اللذة، في ذروتها، البطل إلي خنق القتاة دليلة حتي موتها، بينما سناء تشاهد ذلك في متعة تتحول في النهاية إلي ذعر صارخ:
" أحسست أنني انعزلت عما حولي؛ لا أري سوي عينيها اللتين تفيضان بدموع اللذة، فيما هما ترقرقان في بؤبؤي عيني، ولا أسمع سوي صوت صراخها المبحوح من فرط ضغطي علي رقبتها..."
أو تزداد الرغبة كثافة كلما اقتربنا من الموت، ففي قصة "موديل عار ٍ"، يقوم الرسام بمحاولة رسم لوحة عارية لنورا، التي تقرر الانتحار بعد الانتهاء من اللوحة في غضون أسبوعين. وتتولد المتعة من المازوخية، والخيالات الفانتازية تتحول إلي حقيقة، كما نري في قصص مثل "فانتازيا"، "الغابة السوداء" "عينان شاردتان":
" كنت سعيدا باستخدام هذه المرأة، وصديقها، لي في علاقتهما الفانتازية، التي أرادا بها أن يحققا فانتازييهما الاستعراضية بين جدار القلعة وأشجار الغابة القريبة".. قصة" الغابة السوداء"
" قلت له وأنا في قمة لذتي أن يضربني بالسوط، ومددت له يدي به، فأمسك السوط وظل ساكنا للحظات، بينما كنت أتمدد جاثية قريبة منه أتوقع الألم، وأشعر بالرهبة، لكني لم أشعر بأني سأتراجع علي الأقل حتي أشعر بالضربة الأولي علي ظهري".. قصة " عينان شاردتان" .
> > >
تتلاشي الحدود بين الأمكنة، حيث ترتاد النصوص بلدان وعوالم أخري، متعددة الثقافات، وشخصيات المجموعة من مختلف الجنسيات، الأوروبية والآسيوية والعربية، يوحدها الجسد كلغة تعبر عن "المشترك الإنساني".
قد يبدو في شامات الحسن أن تباعد معظم النصوص عن محيطنا الاجتماعي وبيئتنا الثقافية، هو محاولة للهروب من واقع اجتماعي يفتقد الزخم المحفزعلي الكتابة الإيروتيكية، واقع يتشكل وفق بنيات سلطوية تقمع الجسد وتحتقر الرغبة، وتفرض أخلاقياتها الزائفة علي الأفراد/الذوات، وأن النصوص ،بهذا التباعد، قد أهدرت فرصة مواتية لتعرية المجتمع ونقد أنساقه القيمية الجاهلة. ولكن قد يعمل تمثيل "الآخر" علي فضح الذات نفسها، وكأن هذا التصويرللواقع "المختلف" هو بمثابة مرآة تنعكس عليها بشاعات واقعنا البائس، ليتضح المعني بنقيضه.
ومن المرجح أن تختفي أو تُطمس ذاتية أبطال قصص شامات الحسن، أو تتحول تلك الذوات وتجاربها المتفردة إلي مجرد "نزوات تافهة"، كنتيجة نهائية "لإضفاء الطابع الذاتي علي نطاق كوني"، يتسم هو الآخر بالطابع السلعي الذي يعمل علي تشيؤ الجسد واستلابه، كما يوضح "سلافوي جيجيك"، بينما يمضي واقعنا الاجتماعي في مساره القمعي. لكن النصوص تحول دون هذه النتيجة، بما يتبدي في رؤيتها وسردها من وعي. فلا تنطلق شامات الحسن من مفهوم قاصر عن الجسد، ولا من بنية مسبقة للفهم، تقوم علي الاحتقار ما بعد الحداثي للقضايا الإيديولوجية الكبري، حيث يصبح الجسد هو اليقين الوحيد المتبقي، والملاذ، بعد زهد الذات في العالم. لذلك نجد أن "الرحلة الداخلية" لبطل قصة "ما يراه النهد"، كشكل من الممارسة الذاتية الروحية، تنتهي بما يشبه الفشل أو الخواء. ويتجلي الوعي بمعطيات العالم في قصة" عفاريت العولمة" التي تدور أحداثها في الفلبين، وبين شخصيات ذات جنسيات مختلفة، حيث تتحدث الفتاة الفليبينية "ريزال" عن نوع من الطقسية الجماعية، وعن "موت الجنس" و "مابعد الجنس". وحين يرد عليها الراوي المتكلم بأن هذا يشبه الحداثة وما بعدها، وأن ظواهر التحرر الجنسي صاحبت مرحلة الحداثة، أما الجنس المتعدد فهو مابعد الحداثة، ترد قائلة ً: " ربما لا أقصد ذلك تماما، لكن الفكرة قريبة مما تقول،لكن لا تفهمنا خطأ، فنحن هنا في الفلبين، في النهاية، مجتمع عائلي كاثوليكي". ثم يقول الراوي العربي مع بداية التجربة :كنا عفاريت العولمة، ضحايا ما بعد الحداثة، وأهلها، المارقين علي الحداثة بانسجامها الذي بدا مبتذلا في عالم تختلط فيه كل القيم".
".. مع ذلك بدونا منسجمين، نضحك معا ً، ونقدم أجسادنا لوليمة العولمة؛ مستثارين، ومرتبكين، مقبلين علي الحياة وناقمين علي ذواتنا وعلي لا عدل العالم".
ورغم التماهي الذي يظهر في هذه القصة ،وغيرها، مع المقولات التي تري أنه بدلا من تغيير العالم، لابد أن نعيد اختراع أنفسنا، و كوننا بأسره، عن طريق الانخراط في أشكال جديدة من الممارسات الذاتية (الجنسية والروحية والجمالية)، إلا أن الإدراك بقيود التسليع وتسرب القيم التبادلية الأداتية لمضمارالإيروس يظل قائما، فيمنح إبراهيم فرغلي صوتا سرديا لبطل القصة التي تحمل المجموعة عنوانها،شامات الحسن، السائق الشاب الهندي الذي أتي من بلاد الفقر والبؤس إلي البلد الخليجي بتراتبيته وطبقيته وقيمه الاستهلاكية، ويبدو فعل الحب مع "سيدته" الفتاة، كلحظة إنسانية يتم القبض عليها وسط مرارات عالم طبقي، حتي وإن كانت العلاقة تتسم بمبدأها الخاص:
" كنت أعرف في النهاية، أنها هي التي تقود العلاقة، ولم أكن راغبا في اختبار مخالفة هذا المبدأ الذي فرضته منذ دقت عليّ باب الغرفة". ويمنح السرد أيضا صوتا مميزا لبائعات الهوي، حيث الأجساد مجرد أداة. لا تطرح المجموعة الجسد وأسئلته بوصفه يقين، كما أن النصوص لا تجهد نفسها أكثر مما ينبغي لكي تمنحنا الحقيقة النهائية. فنفتتح المجموعة بقصة " فيما يري النائم" وسط أجواء الحلم، "الطريق الملكي إلي اللاوعي"، لتنتفي صفة الحقيقة عن السرد، ثم قصة "خارطة الجسد" حيث الوهم يمتزج بالحقيقة. وفي "موديل عار ٍ" نصل إلي قمة الالتباس مع نهاية القصة، فلا نعلم هل وُجدت نورا حقا، أم أن الرسام قد رسم "امرأة حلمه" كما قالت الفتاة التي تحاوره وتحمل نفس علامات نورا. تتولد المتعة من ثنايا النصوص، التي تقيم ارتباطا بين الخارج عن المألوف واللغة العارية، وتصنع النصوص جدلا وتفاعلا بين الخيالات اللاواعية والدفاعات الواعية ضدها، فتتحول أعمق المخاوف والرغبات إلي معان "مقبولة" أو شديدة الوضوح عن طريق السرد المنمق، حيث يخلغ بلاغة خلابة علي التجارب والرغبات والخيالات الفانتازية لشخوص القصص، ما يذكرنا بما فعله "نابوكوف" في روايته الفذة "لوليتا".
لذلك تكمن في "شامات الحسن" طاقة جمالية، تتمثل في "الصفة الإيروسية للجمال"، بتعبير هاربرت ماركوز، فالنص القصصي يتكلم اللغة "المتحررة":
" كنت في أوج شهوتي،وغيابي في جسد الفتاة السمراء، أتساءل عمن تكون، سؤال يولده العناق الشهواني والخيالات واللذة. وكانت الإجابات غامضة. كيان شبحي يفيض بما تفسره الإيروسية بأنه الغرام.."
تواجه اللغة بشعريتها وصفاتها الإيروسية المبدأ القبلي للجمال، المبدأ السائد للواقع، والذي هو مبدأ سيطرة،وتنتصر لمبدأ اللذة. وتنتقل لغة النصوص من الوصف التفصيلي أو تقرير ما يحدث، إلي وسيلة للبوح الذاتي، وإلي "شعرية" منبنية علي اللاوعي ومجازيته. وتتضافر معها المادة الثقافية داخل المجموعة، والتي تتمثل في النصوص الشعرية التي تستهل كل قصص شامات الحسن، لشعراء كبار مثل: ريتسوس، وديع سعادة، سعدي يوسف، وشاعرات متميزات مثل "جويس منصور" و "كيم أدونيزيو". وتمثل عناصر هامة في تكوين القصص ودلالاتها، لتخلق القصص من خلالها أبعادا دلالية جديدة ومتجاوزة للمعاني المفردة.
> > >
يديم العمل الفني ذكري لحظة المتعة، تستحضر النصوص الصور المتحررة، وتتحول الحسية القاسية والعارية والجريئة إلي صور محررة، وعناصر "انعتاق جمالي"، وتحاول "استحضار متعة فنية وجمالية من صور الموت والألم والفناء" كما يقول الشاعر "أودن".
يقول "حنيف قريشي" في حوار حول كتابه "حميمية" : " منذ عشرين عاما كان أمرا سياسيا أن تحاول عمل ثورة وتغيّر المجتمع، بينما تنحصر السياسة الآن في أن جسدين يمارسان الحب في بدروم يمكنهما إعادة خلق العالم بأسره".
يبدو أن الكاتب يعي أقوالا مثل هذه، والتي بدأت تتعزز في العقود الأخيرة، كما يعي إرث الإيروتيكا العربية، ويضيف إليها. تذكرنا "شامات الحسن" بأعمال تناولت الإيروتيكا والجسد بفنية عالية: فيلم "امبراطورية الحواس" للمخرج الياباني الكبيرناجيزا أوشيما، وأعمال الشاعر والمخرج السينمائي الإيطالي "بازوليني"، "معلمة البيانو" للكاتبة النمساوية "ألفريدا يلينك".. فهي، بالمثل، تحاول أن "تجعل العالم المتحجر يتكلم" كما قال ماركوز، وتدرك عبر الاستقلال الذاتي للفن، أن الفن لا يستطيع أن يغير العالم ، لكنه يستطيع الاسهام في خلق الجمال،والحرية، وخلق وعي انساني مغاير.
تنقسم شامات الحسن إلي اثنتي عشرة قصة، تتلاقي فيها الأضداد جميعها، وتتلاشي الحدود بينها: الإيروس ( الدافع أو الرغبة في الحياة والطاقة الجنسية) في مواجهة ثاناتوس (إله الموت عند الإغريق ويرمز إلي الدافع للموت)، اليقظة والحلم، الواقع والخيال، اللذة والألم، الوهم والحقيقة.
تخرج ذروة الحياة واللذة من رحم الموت، كما في قصة " دون كيشوت"، حيث تدفع الرغبة/اللذة، في ذروتها، البطل إلي خنق القتاة دليلة حتي موتها، بينما سناء تشاهد ذلك في متعة تتحول في النهاية إلي ذعر صارخ:
" أحسست أنني انعزلت عما حولي؛ لا أري سوي عينيها اللتين تفيضان بدموع اللذة، فيما هما ترقرقان في بؤبؤي عيني، ولا أسمع سوي صوت صراخها المبحوح من فرط ضغطي علي رقبتها..."
أو تزداد الرغبة كثافة كلما اقتربنا من الموت، ففي قصة "موديل عار ٍ"، يقوم الرسام بمحاولة رسم لوحة عارية لنورا، التي تقرر الانتحار بعد الانتهاء من اللوحة في غضون أسبوعين. وتتولد المتعة من المازوخية، والخيالات الفانتازية تتحول إلي حقيقة، كما نري في قصص مثل "فانتازيا"، "الغابة السوداء" "عينان شاردتان":
" كنت سعيدا باستخدام هذه المرأة، وصديقها، لي في علاقتهما الفانتازية، التي أرادا بها أن يحققا فانتازييهما الاستعراضية بين جدار القلعة وأشجار الغابة القريبة".. قصة" الغابة السوداء"
" قلت له وأنا في قمة لذتي أن يضربني بالسوط، ومددت له يدي به، فأمسك السوط وظل ساكنا للحظات، بينما كنت أتمدد جاثية قريبة منه أتوقع الألم، وأشعر بالرهبة، لكني لم أشعر بأني سأتراجع علي الأقل حتي أشعر بالضربة الأولي علي ظهري".. قصة " عينان شاردتان" .
> > >
تتلاشي الحدود بين الأمكنة، حيث ترتاد النصوص بلدان وعوالم أخري، متعددة الثقافات، وشخصيات المجموعة من مختلف الجنسيات، الأوروبية والآسيوية والعربية، يوحدها الجسد كلغة تعبر عن "المشترك الإنساني".
قد يبدو في شامات الحسن أن تباعد معظم النصوص عن محيطنا الاجتماعي وبيئتنا الثقافية، هو محاولة للهروب من واقع اجتماعي يفتقد الزخم المحفزعلي الكتابة الإيروتيكية، واقع يتشكل وفق بنيات سلطوية تقمع الجسد وتحتقر الرغبة، وتفرض أخلاقياتها الزائفة علي الأفراد/الذوات، وأن النصوص ،بهذا التباعد، قد أهدرت فرصة مواتية لتعرية المجتمع ونقد أنساقه القيمية الجاهلة. ولكن قد يعمل تمثيل "الآخر" علي فضح الذات نفسها، وكأن هذا التصويرللواقع "المختلف" هو بمثابة مرآة تنعكس عليها بشاعات واقعنا البائس، ليتضح المعني بنقيضه.
ومن المرجح أن تختفي أو تُطمس ذاتية أبطال قصص شامات الحسن، أو تتحول تلك الذوات وتجاربها المتفردة إلي مجرد "نزوات تافهة"، كنتيجة نهائية "لإضفاء الطابع الذاتي علي نطاق كوني"، يتسم هو الآخر بالطابع السلعي الذي يعمل علي تشيؤ الجسد واستلابه، كما يوضح "سلافوي جيجيك"، بينما يمضي واقعنا الاجتماعي في مساره القمعي. لكن النصوص تحول دون هذه النتيجة، بما يتبدي في رؤيتها وسردها من وعي. فلا تنطلق شامات الحسن من مفهوم قاصر عن الجسد، ولا من بنية مسبقة للفهم، تقوم علي الاحتقار ما بعد الحداثي للقضايا الإيديولوجية الكبري، حيث يصبح الجسد هو اليقين الوحيد المتبقي، والملاذ، بعد زهد الذات في العالم. لذلك نجد أن "الرحلة الداخلية" لبطل قصة "ما يراه النهد"، كشكل من الممارسة الذاتية الروحية، تنتهي بما يشبه الفشل أو الخواء. ويتجلي الوعي بمعطيات العالم في قصة" عفاريت العولمة" التي تدور أحداثها في الفلبين، وبين شخصيات ذات جنسيات مختلفة، حيث تتحدث الفتاة الفليبينية "ريزال" عن نوع من الطقسية الجماعية، وعن "موت الجنس" و "مابعد الجنس". وحين يرد عليها الراوي المتكلم بأن هذا يشبه الحداثة وما بعدها، وأن ظواهر التحرر الجنسي صاحبت مرحلة الحداثة، أما الجنس المتعدد فهو مابعد الحداثة، ترد قائلة ً: " ربما لا أقصد ذلك تماما، لكن الفكرة قريبة مما تقول،لكن لا تفهمنا خطأ، فنحن هنا في الفلبين، في النهاية، مجتمع عائلي كاثوليكي". ثم يقول الراوي العربي مع بداية التجربة :كنا عفاريت العولمة، ضحايا ما بعد الحداثة، وأهلها، المارقين علي الحداثة بانسجامها الذي بدا مبتذلا في عالم تختلط فيه كل القيم".
".. مع ذلك بدونا منسجمين، نضحك معا ً، ونقدم أجسادنا لوليمة العولمة؛ مستثارين، ومرتبكين، مقبلين علي الحياة وناقمين علي ذواتنا وعلي لا عدل العالم".
ورغم التماهي الذي يظهر في هذه القصة ،وغيرها، مع المقولات التي تري أنه بدلا من تغيير العالم، لابد أن نعيد اختراع أنفسنا، و كوننا بأسره، عن طريق الانخراط في أشكال جديدة من الممارسات الذاتية (الجنسية والروحية والجمالية)، إلا أن الإدراك بقيود التسليع وتسرب القيم التبادلية الأداتية لمضمارالإيروس يظل قائما، فيمنح إبراهيم فرغلي صوتا سرديا لبطل القصة التي تحمل المجموعة عنوانها،شامات الحسن، السائق الشاب الهندي الذي أتي من بلاد الفقر والبؤس إلي البلد الخليجي بتراتبيته وطبقيته وقيمه الاستهلاكية، ويبدو فعل الحب مع "سيدته" الفتاة، كلحظة إنسانية يتم القبض عليها وسط مرارات عالم طبقي، حتي وإن كانت العلاقة تتسم بمبدأها الخاص:
" كنت أعرف في النهاية، أنها هي التي تقود العلاقة، ولم أكن راغبا في اختبار مخالفة هذا المبدأ الذي فرضته منذ دقت عليّ باب الغرفة". ويمنح السرد أيضا صوتا مميزا لبائعات الهوي، حيث الأجساد مجرد أداة. لا تطرح المجموعة الجسد وأسئلته بوصفه يقين، كما أن النصوص لا تجهد نفسها أكثر مما ينبغي لكي تمنحنا الحقيقة النهائية. فنفتتح المجموعة بقصة " فيما يري النائم" وسط أجواء الحلم، "الطريق الملكي إلي اللاوعي"، لتنتفي صفة الحقيقة عن السرد، ثم قصة "خارطة الجسد" حيث الوهم يمتزج بالحقيقة. وفي "موديل عار ٍ" نصل إلي قمة الالتباس مع نهاية القصة، فلا نعلم هل وُجدت نورا حقا، أم أن الرسام قد رسم "امرأة حلمه" كما قالت الفتاة التي تحاوره وتحمل نفس علامات نورا. تتولد المتعة من ثنايا النصوص، التي تقيم ارتباطا بين الخارج عن المألوف واللغة العارية، وتصنع النصوص جدلا وتفاعلا بين الخيالات اللاواعية والدفاعات الواعية ضدها، فتتحول أعمق المخاوف والرغبات إلي معان "مقبولة" أو شديدة الوضوح عن طريق السرد المنمق، حيث يخلغ بلاغة خلابة علي التجارب والرغبات والخيالات الفانتازية لشخوص القصص، ما يذكرنا بما فعله "نابوكوف" في روايته الفذة "لوليتا".
لذلك تكمن في "شامات الحسن" طاقة جمالية، تتمثل في "الصفة الإيروسية للجمال"، بتعبير هاربرت ماركوز، فالنص القصصي يتكلم اللغة "المتحررة":
" كنت في أوج شهوتي،وغيابي في جسد الفتاة السمراء، أتساءل عمن تكون، سؤال يولده العناق الشهواني والخيالات واللذة. وكانت الإجابات غامضة. كيان شبحي يفيض بما تفسره الإيروسية بأنه الغرام.."
تواجه اللغة بشعريتها وصفاتها الإيروسية المبدأ القبلي للجمال، المبدأ السائد للواقع، والذي هو مبدأ سيطرة،وتنتصر لمبدأ اللذة. وتنتقل لغة النصوص من الوصف التفصيلي أو تقرير ما يحدث، إلي وسيلة للبوح الذاتي، وإلي "شعرية" منبنية علي اللاوعي ومجازيته. وتتضافر معها المادة الثقافية داخل المجموعة، والتي تتمثل في النصوص الشعرية التي تستهل كل قصص شامات الحسن، لشعراء كبار مثل: ريتسوس، وديع سعادة، سعدي يوسف، وشاعرات متميزات مثل "جويس منصور" و "كيم أدونيزيو". وتمثل عناصر هامة في تكوين القصص ودلالاتها، لتخلق القصص من خلالها أبعادا دلالية جديدة ومتجاوزة للمعاني المفردة.
> > >
يديم العمل الفني ذكري لحظة المتعة، تستحضر النصوص الصور المتحررة، وتتحول الحسية القاسية والعارية والجريئة إلي صور محررة، وعناصر "انعتاق جمالي"، وتحاول "استحضار متعة فنية وجمالية من صور الموت والألم والفناء" كما يقول الشاعر "أودن".
يقول "حنيف قريشي" في حوار حول كتابه "حميمية" : " منذ عشرين عاما كان أمرا سياسيا أن تحاول عمل ثورة وتغيّر المجتمع، بينما تنحصر السياسة الآن في أن جسدين يمارسان الحب في بدروم يمكنهما إعادة خلق العالم بأسره".
يبدو أن الكاتب يعي أقوالا مثل هذه، والتي بدأت تتعزز في العقود الأخيرة، كما يعي إرث الإيروتيكا العربية، ويضيف إليها. تذكرنا "شامات الحسن" بأعمال تناولت الإيروتيكا والجسد بفنية عالية: فيلم "امبراطورية الحواس" للمخرج الياباني الكبيرناجيزا أوشيما، وأعمال الشاعر والمخرج السينمائي الإيطالي "بازوليني"، "معلمة البيانو" للكاتبة النمساوية "ألفريدا يلينك".. فهي، بالمثل، تحاول أن "تجعل العالم المتحجر يتكلم" كما قال ماركوز، وتدرك عبر الاستقلال الذاتي للفن، أن الفن لا يستطيع أن يغير العالم ، لكنه يستطيع الاسهام في خلق الجمال،والحرية، وخلق وعي انساني مغاير.