نقوس المهدي
كاتب
أ – نظرة الإمام محمد بن داود الظاهري:
ذكر أحد أتباع الإمام الظاهري أن الإمام محمد بن داود الظاهري كان يدخل الجامع دومًا من باب الوراقين، فعدل عن ذلك، وجعل دخوله من غيره، وكنت مجترئًا عليه فسألته عن ذلك، فقال: يا بني، السبب فيه أني في الجمعة الماضية أردت الدخول منه فصادفت عند الباب عاشقين يتحدثان فلما رأياني قالا: “أبو بكر قد جاء” فتفرقا فجعلت في نفسي ألا أدخل من باب فرقت فيه بين عاشقين.
وقال ابن القيم عنه في كتابه الداء والدواء: “وهذا أبو بكر محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب، وله قوله في الفقه وهو من أكابر العلماء وعشقه مشهور”.
وقال نفطويه: “دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف تجدك؟ فقال: حب من تعلم أورثني ما ترى، فقلت: وما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح، وآخر اللذة المحظورة. فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فقد منعي منها ما حدثني أبي حدثنا أبو سويد بن سعيد حدثنا مسهر عن أبي يحيى القتاب عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: “من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة”.
وجاءته يوما فتيا مضمونها ما يلي:
يا بن داود، يا فقيه العراق = أفتنا في قواتل الأحداق
هل عليها بما أتت من جناح = أم حلال لها دم العشاق؟
فكتب الجواب بخطه تحت البيتين:
عندي جواب مسائل العشاق = فاسمعه من قرح الحشا مشتاق
لما سألت عن الهوى هيجْتني = وأرقت دمعًا لم يكن بمراق
إن كان معشوقًا يعذب عاشقًا = كان المعــذب أنعم العشاق
ب – موقف الإمام ابن حزم:
يقول الإمام ابن حزم في طوق الحمامة: “الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالها عن أن تُوصف فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وهو ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديون والأئمة الراشدون وكثير من الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة من قد أستغني بأشعارهم عن ذكرهم. وقد ورد من خبر عبد الله ابن عتبة بن مسعود، ومن شعره ما فيه الكفاية، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة وقد جاء من فتيا يقصد إفتاء ابن عباس رضي الله عنه ما لا يحتاج معه إلى غيره حين يقول: “هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود”.
ويستدل الإمام ابن حزم على موقفه من الحب بما رواه بسنده في موضع آخر من كتابه طوق الحمامة من أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: “يا أمير المؤمنين، إني رأيت امرأة فعشقتها، فقال عمر: ذاك مما لا يملك”.
ومن الواضح أن الأمام ابن حزم تعامل مع موضوع الحب كبديهة لا تحتاج إلى جدل كبير، ولذلك لم يهتم بحشد أكبر قدر من النصوص للدفاع عنه والاستدلال عليه وإباحته.
ونحن لا نتفق مع الذين ذهبوا إلى اتهام الإمام ابن حزم بانتهاك أحكام الدين بسبب ما أورده عن أفعال العشاق في كتابه طوق الحمامة؛ لأنه كما نعلم من قواعد الدين أن ناقل الكفر ليس بكافر. والإمام ابن حزم كتب هذا الكتاب بروح المفكر والأديب، كما كتبه بروح الفقه. والصفتان الأوليان تقتضيان عليه استقصاء الأمور في كل ما يتعلق بالعشق، أو ما يشتبه به من أمور أخرى، سواء كان هذا عفافًا أم فجورًا أم ضلالاً، وهذا ما فعله الإمام ابن حزم دون أن يعني ذلك موافقته على الأمور الخارجة عن أحكام الدين فيما ذكره، وإن كنا نذهب إلى أن روح التسامح بوجه عام كانت غالبة على الإمام ابن حزم في نظرته إلى الأحكام المتعلقة بالعشق، ونستشف ذلك بوجه خاص في موقفه المتشدد من الوشاة. ولكن على التوازي مع ذلك التسامح فقد شدد الإمام ابن حزم على إظهار فضل العفاف والتشنيع من جريمة الزنى، فوازن بذلك بين التسامح مع العشق كحالة خاصة ترتبط أساسًا بالعاطفة القلبية، وبين التشدد على ابتغاء الشهوات والسقوط في الفجور.
جـ – موقف الإمام ابن الجوزي من الحب:
يقول الإمام ابن الجوزي في كتابه “ذم الهوى”: “اختلف الناس في العشق هل هو ممدوح أو مذموم؟ فقال قوم هو ممدوح؛ لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع، ورِقَّة عند جامد الطبع حبيسة، ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ طبعه. فهو يجلو العقول ويصفي الأذهان ما لم يفرط فإذا أفرط عاد سُمًّا قاتلاً. وقال آخرون بل هو مذموم لأنه يستأثر العاشق ويجعله في مقام المستعبد.
قلت وفصل الحكم في هذا الفصل أن نقول: أما المحبة والود والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا ينعم ولا يدعم ذلك إلا الحبيس من الأشخاص.
فأما العشق الذي يزيد على حد الميل والمحبة؛ فيملك العقل، ويصرف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم ويتحاشى من مثله الحكماء. وأما القسم الأول فقد وقع فيه خلق كثير من الأكابر ولم يكن عيبًا في حقهم.
إذ أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فأنت وعيرٌ بالفلاة سواء
وقد روى أبو عبد الله المرزباني أن أبا نوفل سُئل عن خلوِّ أحد من العشق؛ فقال: نعم، الجلف الجافي الذي ليس فيه فضل، وليس عنده فهم. وأما من في طبعه أدنى ظرف، أو معه دماثة أهل الحجاز، ورقة أهل العراق فهيهات.
قال اليمان بن عمرو مولى ذي الرياستين: كان ذو الرياستين يبعثني، وبعث أحداث أهله إلى شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور، وكان يقول لنا تعلموا منه الحكمة فإنه حكيم. فكنا نأتيه. فإذا انصرفنا من عنده سألنا ذا الرياستين، واعترض ما حفظناه فيخبرونه. فقصدنا ذات يوم إلى الشيخ فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم، ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا. فقال: اعشقوا؛ فإن العشق يطلق اللسان العي، ويفتح حيلة البليد والمختل، ويبعث على التنظيف وتحسين اللباس وتطبيب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشرف الهمة، وإياكم والحرام. فانصرفنا من عنده إلى ذي الرياستين فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك؛ فهبناه أن نخبره؛ فعزم علينا؛ فقلنا إنه أمرنا بكذا وكذا، قال صدق الله أخذ هذه؟ فقلنا لا.
وأما القسم الثاني من العشق فمذموم لا شك فيه. وبيان ذلك أن الشيء إنما يُعرف ممدوحا أو مذموما بتأمل ذاته وفائدته في العشق للنفس الناطقة، وإنما هو أثر غلبة النفس الشهوانية؛ لأنها لما قويت أحبت ما يليق بها.
د – موقف الإمام ابن القيم من الحب:
يقول الإمام ابن القيم في كتابه “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”: “اختلف الناس في العشق: هل هو اختياري أو اضطراري خارج عن مقدور البشر؟ وفصل النزاع بين الفريقين أن مبادئ العشق وأسبابه اختيارية داخلة تحت التكليف (أي أن الأسباب الأولى للعشق اختيارية). فإن النظر والتفكر والتعرض للمحبة أمر اختياري فإذا أُتي بالأسباب كان ترتب المسبب عليها بغير اختياره (أي أن النتيجة المترتبة على هذه الأسباب من وقوع المحبة غير اختيارية). ولهذا؛ إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يُلَم عليه صاحبه (أي أنه لو كانت الأسباب الأولى للعشق مباحة فإن وقع العشق بعد ذلك لا يُلام عليه صاحبه) كمن كان يعشق امرأته أو جاريته. ويُقاس على نفس الأمر من خطب امرأة أو أراد خطبتها ونظر منها ما يشجعه على خطبتها كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له فهذا لا يُلام على ذلك كما في قصة بريرة ومغيث. وكذلك إذا نظر نظرة فاجأته (أي النظرة الأولى) ثم صرف بصره وقد تمكن العشق من قلبه بغير اختياره. ومن الواضح أن عليه مدافعته وصرفه عن قلبه بضده، فإذا جاء أمر يغلبه فهناك لا يلام بعد بذل الجهد في دفعه”.
ويقول في موضع آخر: “العشق لا يُحمد مطلقًا ولا يُذم مطلقًا، وإنما يحمد ويذم باعتبار متعلقه؛ فإن الإرادة تابعة لمرادها، والحب تابع للمحبوب. فمتى كان المحبوب مما يُحبُّ لذاته، أو وسيلة توصله إلى ما يُحبُّ لذاته، لم تذم المبالغة في محبته، بل وتُحمد. وصلاح حال المحب كذلك بحسب قوة محبته.
والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقًا ممدوحًا مثابًا عليه. وذلك أنواع أحدها محبة القرآن، وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى، وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الكرم والجود والعفة والشجاعة والصبر وسائر مكارم الأخلاق.
بقيت هاهنا أوصاف قسم آخر وهو عشق محمود يترتب عليه مفارقة المعشوق؛ كمن يعشق امرأته أو أمته فيفارقها بموت أو غيره، فيذهب المعشوق ويبقى العشق كما هو، فهذا نوع من الابتلاء؛ إن صبر صاحبه واحتسب نال ثواب الصابرين، وإن سخط وجزع فاته معشوقه كما فاته ثوابه. وإن قابل هذا البلوى بالرضا والتسليم فدرجته فوق درجة الصبر.
تعليق على موقف الإمام ابن القيم من الحب :
من يتابع الإمام ابن القيم في كتبه يجد أنه قد اهتم بالحب اهتمامًا عظيمًا حتى إنك لا تكاد تجد له كتابًا من كتبه الشهيرة إلا وقد تناول فيه هذا الموضوع، ومنها: “زاد المعاد”، و”إغاثة اللهفان”، و”الداء والدواء”، و”أخبار النساء”، حتى توج ذلك بأن أفرد لهذا الموضوع مجلدًا كبيرًا هو كتابه: “نزهة المشتاقين وروضة المحبين”. ومع أن ابن القيم يدافع عن الحب دفاعًا عظيمًا، إلا أن البعض يجدون في كتبه أيضًا مادة عظيمة يستندون عليها في اتهاماتهم للعشاق بأشنع التهم التي قد تصل إلى حد الكفر.
ومرد ذلك هو تعميمهم ما خص به الإمام ابن القيم أنواعًا معينة من العشق بهذا الهجوم الشديد. فالعشق كما يقول الإمام ابن القيم لا يُمدح مطلقًا ولا يُذم مطلقًا، وإنما هو بحسب متعلقه من حيث الحل والحرمة. فإذا هاجم ابن القيم الأقسام المذمومة في العشق أخذوا هجومه الضاري هذا وهاجموا به الحب بوجه عام.
وإذا تحدثنا عما جاء في كتبه من آراء في هذا الموضوع قلنا إنه في كتابه “زاد المعاد” أدرج الموضوع في باب الأمراض، ومن ثم فقد تناوله من ذلك الجانب من حيث التحذير من المخاطر التي تنجم عنه، وكذلك من حيث محاولة علاجه أو التخفيف من آثاره.
أما في كتابه “إغاثة اللهفان” فقد شن هجومه الضاري على العشق، ولكن مع ذلك فقد كان الواضح لمن يبحث عن الحقائق في تناول الأمور أن هجومه هذا انصب على مدى شناعة الأمور التي عناها بهذا الهجوم، وهي كما أوردها:
أ – شيوع ذلك الفعل الشنيع من عشق المردان (الصبيان)، ومحاولة البعض التحايل على الشريعة؛ وادعاء إباحته. وقد أكد الإمام ابن القيم على أن الفعل نفسه من أكبر الفواحش، أما ادعاء إباحته فهو كفر صريح.
ب- أن يكون متعلق العاشق من المعشوق هو فعل الفاحشة فيه. وفي الحقيقة فإن هذا النوع من العشق لا علاقة له بالموضوع الذي نتناوله في هذا الكتاب؛ لأن به هذا التعلق الحسي والجرأة على فعل الفاحشة لا يحتاج إلى أن يُفرَد له كتاب.
جـ– أن يتحول الأمر إلى عبودية إلى الدرجة التي يصرخ فيها العاشق لمن يعشقه أني أعبدك، وهذا أمر تالله عظيم، ويخرج بالإنسان من دائرة الإيمان والتوحيد إلى دائرة الكفر والشرك.
.
ذكر أحد أتباع الإمام الظاهري أن الإمام محمد بن داود الظاهري كان يدخل الجامع دومًا من باب الوراقين، فعدل عن ذلك، وجعل دخوله من غيره، وكنت مجترئًا عليه فسألته عن ذلك، فقال: يا بني، السبب فيه أني في الجمعة الماضية أردت الدخول منه فصادفت عند الباب عاشقين يتحدثان فلما رأياني قالا: “أبو بكر قد جاء” فتفرقا فجعلت في نفسي ألا أدخل من باب فرقت فيه بين عاشقين.
وقال ابن القيم عنه في كتابه الداء والدواء: “وهذا أبو بكر محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب، وله قوله في الفقه وهو من أكابر العلماء وعشقه مشهور”.
وقال نفطويه: “دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف تجدك؟ فقال: حب من تعلم أورثني ما ترى، فقلت: وما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح، وآخر اللذة المحظورة. فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فقد منعي منها ما حدثني أبي حدثنا أبو سويد بن سعيد حدثنا مسهر عن أبي يحيى القتاب عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: “من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة”.
وجاءته يوما فتيا مضمونها ما يلي:
يا بن داود، يا فقيه العراق = أفتنا في قواتل الأحداق
هل عليها بما أتت من جناح = أم حلال لها دم العشاق؟
فكتب الجواب بخطه تحت البيتين:
عندي جواب مسائل العشاق = فاسمعه من قرح الحشا مشتاق
لما سألت عن الهوى هيجْتني = وأرقت دمعًا لم يكن بمراق
إن كان معشوقًا يعذب عاشقًا = كان المعــذب أنعم العشاق
ب – موقف الإمام ابن حزم:
يقول الإمام ابن حزم في طوق الحمامة: “الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالها عن أن تُوصف فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وهو ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديون والأئمة الراشدون وكثير من الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة من قد أستغني بأشعارهم عن ذكرهم. وقد ورد من خبر عبد الله ابن عتبة بن مسعود، ومن شعره ما فيه الكفاية، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة وقد جاء من فتيا يقصد إفتاء ابن عباس رضي الله عنه ما لا يحتاج معه إلى غيره حين يقول: “هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود”.
ويستدل الإمام ابن حزم على موقفه من الحب بما رواه بسنده في موضع آخر من كتابه طوق الحمامة من أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: “يا أمير المؤمنين، إني رأيت امرأة فعشقتها، فقال عمر: ذاك مما لا يملك”.
ومن الواضح أن الأمام ابن حزم تعامل مع موضوع الحب كبديهة لا تحتاج إلى جدل كبير، ولذلك لم يهتم بحشد أكبر قدر من النصوص للدفاع عنه والاستدلال عليه وإباحته.
ونحن لا نتفق مع الذين ذهبوا إلى اتهام الإمام ابن حزم بانتهاك أحكام الدين بسبب ما أورده عن أفعال العشاق في كتابه طوق الحمامة؛ لأنه كما نعلم من قواعد الدين أن ناقل الكفر ليس بكافر. والإمام ابن حزم كتب هذا الكتاب بروح المفكر والأديب، كما كتبه بروح الفقه. والصفتان الأوليان تقتضيان عليه استقصاء الأمور في كل ما يتعلق بالعشق، أو ما يشتبه به من أمور أخرى، سواء كان هذا عفافًا أم فجورًا أم ضلالاً، وهذا ما فعله الإمام ابن حزم دون أن يعني ذلك موافقته على الأمور الخارجة عن أحكام الدين فيما ذكره، وإن كنا نذهب إلى أن روح التسامح بوجه عام كانت غالبة على الإمام ابن حزم في نظرته إلى الأحكام المتعلقة بالعشق، ونستشف ذلك بوجه خاص في موقفه المتشدد من الوشاة. ولكن على التوازي مع ذلك التسامح فقد شدد الإمام ابن حزم على إظهار فضل العفاف والتشنيع من جريمة الزنى، فوازن بذلك بين التسامح مع العشق كحالة خاصة ترتبط أساسًا بالعاطفة القلبية، وبين التشدد على ابتغاء الشهوات والسقوط في الفجور.
جـ – موقف الإمام ابن الجوزي من الحب:
يقول الإمام ابن الجوزي في كتابه “ذم الهوى”: “اختلف الناس في العشق هل هو ممدوح أو مذموم؟ فقال قوم هو ممدوح؛ لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع، ورِقَّة عند جامد الطبع حبيسة، ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ طبعه. فهو يجلو العقول ويصفي الأذهان ما لم يفرط فإذا أفرط عاد سُمًّا قاتلاً. وقال آخرون بل هو مذموم لأنه يستأثر العاشق ويجعله في مقام المستعبد.
قلت وفصل الحكم في هذا الفصل أن نقول: أما المحبة والود والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا ينعم ولا يدعم ذلك إلا الحبيس من الأشخاص.
فأما العشق الذي يزيد على حد الميل والمحبة؛ فيملك العقل، ويصرف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم ويتحاشى من مثله الحكماء. وأما القسم الأول فقد وقع فيه خلق كثير من الأكابر ولم يكن عيبًا في حقهم.
إذ أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فأنت وعيرٌ بالفلاة سواء
وقد روى أبو عبد الله المرزباني أن أبا نوفل سُئل عن خلوِّ أحد من العشق؛ فقال: نعم، الجلف الجافي الذي ليس فيه فضل، وليس عنده فهم. وأما من في طبعه أدنى ظرف، أو معه دماثة أهل الحجاز، ورقة أهل العراق فهيهات.
قال اليمان بن عمرو مولى ذي الرياستين: كان ذو الرياستين يبعثني، وبعث أحداث أهله إلى شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور، وكان يقول لنا تعلموا منه الحكمة فإنه حكيم. فكنا نأتيه. فإذا انصرفنا من عنده سألنا ذا الرياستين، واعترض ما حفظناه فيخبرونه. فقصدنا ذات يوم إلى الشيخ فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم، ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا. فقال: اعشقوا؛ فإن العشق يطلق اللسان العي، ويفتح حيلة البليد والمختل، ويبعث على التنظيف وتحسين اللباس وتطبيب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشرف الهمة، وإياكم والحرام. فانصرفنا من عنده إلى ذي الرياستين فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك؛ فهبناه أن نخبره؛ فعزم علينا؛ فقلنا إنه أمرنا بكذا وكذا، قال صدق الله أخذ هذه؟ فقلنا لا.
وأما القسم الثاني من العشق فمذموم لا شك فيه. وبيان ذلك أن الشيء إنما يُعرف ممدوحا أو مذموما بتأمل ذاته وفائدته في العشق للنفس الناطقة، وإنما هو أثر غلبة النفس الشهوانية؛ لأنها لما قويت أحبت ما يليق بها.
د – موقف الإمام ابن القيم من الحب:
يقول الإمام ابن القيم في كتابه “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”: “اختلف الناس في العشق: هل هو اختياري أو اضطراري خارج عن مقدور البشر؟ وفصل النزاع بين الفريقين أن مبادئ العشق وأسبابه اختيارية داخلة تحت التكليف (أي أن الأسباب الأولى للعشق اختيارية). فإن النظر والتفكر والتعرض للمحبة أمر اختياري فإذا أُتي بالأسباب كان ترتب المسبب عليها بغير اختياره (أي أن النتيجة المترتبة على هذه الأسباب من وقوع المحبة غير اختيارية). ولهذا؛ إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يُلَم عليه صاحبه (أي أنه لو كانت الأسباب الأولى للعشق مباحة فإن وقع العشق بعد ذلك لا يُلام عليه صاحبه) كمن كان يعشق امرأته أو جاريته. ويُقاس على نفس الأمر من خطب امرأة أو أراد خطبتها ونظر منها ما يشجعه على خطبتها كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له فهذا لا يُلام على ذلك كما في قصة بريرة ومغيث. وكذلك إذا نظر نظرة فاجأته (أي النظرة الأولى) ثم صرف بصره وقد تمكن العشق من قلبه بغير اختياره. ومن الواضح أن عليه مدافعته وصرفه عن قلبه بضده، فإذا جاء أمر يغلبه فهناك لا يلام بعد بذل الجهد في دفعه”.
ويقول في موضع آخر: “العشق لا يُحمد مطلقًا ولا يُذم مطلقًا، وإنما يحمد ويذم باعتبار متعلقه؛ فإن الإرادة تابعة لمرادها، والحب تابع للمحبوب. فمتى كان المحبوب مما يُحبُّ لذاته، أو وسيلة توصله إلى ما يُحبُّ لذاته، لم تذم المبالغة في محبته، بل وتُحمد. وصلاح حال المحب كذلك بحسب قوة محبته.
والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقًا ممدوحًا مثابًا عليه. وذلك أنواع أحدها محبة القرآن، وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى، وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الكرم والجود والعفة والشجاعة والصبر وسائر مكارم الأخلاق.
بقيت هاهنا أوصاف قسم آخر وهو عشق محمود يترتب عليه مفارقة المعشوق؛ كمن يعشق امرأته أو أمته فيفارقها بموت أو غيره، فيذهب المعشوق ويبقى العشق كما هو، فهذا نوع من الابتلاء؛ إن صبر صاحبه واحتسب نال ثواب الصابرين، وإن سخط وجزع فاته معشوقه كما فاته ثوابه. وإن قابل هذا البلوى بالرضا والتسليم فدرجته فوق درجة الصبر.
تعليق على موقف الإمام ابن القيم من الحب :
من يتابع الإمام ابن القيم في كتبه يجد أنه قد اهتم بالحب اهتمامًا عظيمًا حتى إنك لا تكاد تجد له كتابًا من كتبه الشهيرة إلا وقد تناول فيه هذا الموضوع، ومنها: “زاد المعاد”، و”إغاثة اللهفان”، و”الداء والدواء”، و”أخبار النساء”، حتى توج ذلك بأن أفرد لهذا الموضوع مجلدًا كبيرًا هو كتابه: “نزهة المشتاقين وروضة المحبين”. ومع أن ابن القيم يدافع عن الحب دفاعًا عظيمًا، إلا أن البعض يجدون في كتبه أيضًا مادة عظيمة يستندون عليها في اتهاماتهم للعشاق بأشنع التهم التي قد تصل إلى حد الكفر.
ومرد ذلك هو تعميمهم ما خص به الإمام ابن القيم أنواعًا معينة من العشق بهذا الهجوم الشديد. فالعشق كما يقول الإمام ابن القيم لا يُمدح مطلقًا ولا يُذم مطلقًا، وإنما هو بحسب متعلقه من حيث الحل والحرمة. فإذا هاجم ابن القيم الأقسام المذمومة في العشق أخذوا هجومه الضاري هذا وهاجموا به الحب بوجه عام.
وإذا تحدثنا عما جاء في كتبه من آراء في هذا الموضوع قلنا إنه في كتابه “زاد المعاد” أدرج الموضوع في باب الأمراض، ومن ثم فقد تناوله من ذلك الجانب من حيث التحذير من المخاطر التي تنجم عنه، وكذلك من حيث محاولة علاجه أو التخفيف من آثاره.
أما في كتابه “إغاثة اللهفان” فقد شن هجومه الضاري على العشق، ولكن مع ذلك فقد كان الواضح لمن يبحث عن الحقائق في تناول الأمور أن هجومه هذا انصب على مدى شناعة الأمور التي عناها بهذا الهجوم، وهي كما أوردها:
أ – شيوع ذلك الفعل الشنيع من عشق المردان (الصبيان)، ومحاولة البعض التحايل على الشريعة؛ وادعاء إباحته. وقد أكد الإمام ابن القيم على أن الفعل نفسه من أكبر الفواحش، أما ادعاء إباحته فهو كفر صريح.
ب- أن يكون متعلق العاشق من المعشوق هو فعل الفاحشة فيه. وفي الحقيقة فإن هذا النوع من العشق لا علاقة له بالموضوع الذي نتناوله في هذا الكتاب؛ لأن به هذا التعلق الحسي والجرأة على فعل الفاحشة لا يحتاج إلى أن يُفرَد له كتاب.
جـ– أن يتحول الأمر إلى عبودية إلى الدرجة التي يصرخ فيها العاشق لمن يعشقه أني أعبدك، وهذا أمر تالله عظيم، ويخرج بالإنسان من دائرة الإيمان والتوحيد إلى دائرة الكفر والشرك.
.
صورة مفقودة