ياسين طه حافظ - في الكتابة النسوية.. وصولاً لأهمية الحركة الأنثوية

لأسباب فكرية، وضمن الاهتمام بالروح الثوري من النشاطات الاجتماعية، بدأت الكتابة عن الأنثوية في الشعر النسوي، تناولت عدداً طيباً من شاعراتنا اللواتي أجد في شعرهن ومضات قوية "للأنثوية" بصفتها حركة فكرية واجتماعية حديثة. وقد أوضحت أنني انبش التربة، أهيئها، لمثل تلك "البذور" مقتنعاً بأنها ستنمو في المستقبل. وأنا أتابع تفاصيل هذا الموضوع كنت أفاجأ بالعديد من الحقائق الاجتماعية المُضمَرَة والمغطاة جيداً بقصدية عالية. بينها حقائق نسوية ظلت منذ قرون قابعة وراء علامات × أو وراء "السيف" أو قوى الاضطهاد القديمة التي ارتدَتْ أزياء حديثة.

"ليليا" بطلة جورج صاند ، يمكن ان تلخص لنا ونحن هنا في الشرق المُدان، الرضا السيئ الذي اضطروا الأنثى للاعتياد عليه حتى نهاية القرن التاسع عشر هناك، وحتى اليوم هنا عدنا! " ليليا " جورج صاند تقول :
" كنت انذر نفسي بشحوب"
وبإغماض للعينين. وعندما
كان يخمد راضياً مشْبَعاً
امكث ، متجمدة الحواس .."
إذن، الاحساس الجنسي هو امر يخص الرجال و للنساء الاستسلام او التضحية او التظاهر بالمتعة، وإذا كانت هناك متعة، فهي متعة الاحتكاك لا المشاركة العاطفية والجسدية،
بحسب ما اوردَهُ "جاك اندريه" التسلط عليها ليس غريباً بعد ذلك. فما دام "هو" "اشترى" او "تملّكَ" المرأة، فهو إنما اشتراها وتملكها لكي يرتاح "هو" لا "هي" . ولكي يستثمرها او لكي "ينتفع" بها، ولقد اخترت لفَظَتي " يستثمر" و " ينتفع " لدلاليتهما الاقتصاديتين، في مجتمع تحكمه قوى مستغِلة. سنرى انه كلما خفَّ " الاستغلال " ، كلما نالت المرأة حصتها من " الاستثمار " الجسدي الامتاعي. فحين تقدمت المرأة هناك ، صارت شريكاً في العملية الجنسية وفي التملّك المتبادل. وبدلاً من قول الرجل " ضاجعتُ" صار الفعل "تضاجعنا" وبدلاً من مارسَ ، "مارسنا" .
نعم إن هذا الاتساع في الحقوق أفرز، او واجه، جملة مشاكل ، تحولت بدورها الى اهداف نضالية للسيطرة عليها وتذليلها لتستمر الحقوق المكتسبة. من تلك "الحَمْل " والذي استدعى من بعد ، المطالبة بحرية الإجهاض، كما استدعى التمييز بين الجنسي والتكاثري. وإن كلاً من هذين الأخيرين له اعتباراته التي تستوجب الإقرار بها.
فـ " الجنسي " سبّب توسعاً في محرّمات سابقة: المثلية " الذكورية" في جانب و"السحاق" في جانب. وربما لاول مرة في التاريخ نشهد مثل هذا الانتشار الواسع للادب الجنسي، حتى صرنا نقرأ روايات جنسية وراءها تجارب وحقائق علمية وفلسفات في الحقوق الفردية. وفي روايات أخرى وكتابات نجد القلق النفسي ومشكلات القدرات الجنسية او افتقادها عند احد الطرفين. هذه موضوعات امدّت الكتابة الروائية بتفاصيل قرّبتها الى المتاعب والاهتمامات الفردية . وهذه بدورها سبّبت انتشار هذا النمط من الروايات والتي هي اليوم اكثر حضوراً والأكثر حظوة في السينما.
ومن استعراض نتاج دور النشر ومبيعاتها نصل الى الأكثر مبيعاً والأكثر ربحية . اعني كتب الجنس و روايات الإثارة او الروايات التي تتبنى مشكلات جنسية : زوجية / مشاكل عمل مشترك / او تسخير الجنس ضمن عصابات بحثاً عن المال او عن المتعة. وواقعية هذه القصص أزاحت قصص الحب الرومانسية التي شهدها القرن الماضي وما قبله.
النزوع الجنسي صار اليوم ظاهرة حضارية مرتبطة بالحق الطبيعي للإنسان وضمن الحقوق المدنية، ومما صار يشار له هو المشاركة التكاملية والحق المشترك في العملية الجنسية والتكوينات الاجتماعية المؤسَّسة عليها. لكن انتشار الظاهرة وسعة النتائج في التطبيق حرّضا القوى المستغِلّة للاستفادة من هذا التيسّر الواسع للممنوع. لقد اعتمدت هذه القوى قولة القيصر القديمة لبروتوس:
" لا أخشى ممن يحبون الفجور
ولا أخاف من الطامعين بحياة الترف،
بل أخشى من الناحلين الشاحبين
فارتضت قوى الهيمنة التساهل في شيوع هذا النمط من العلاقات لينشغل أصحابها بالشأن الشخصي فيسلم العام من اهتمام الخصوم او عدائهم. إذ لم يبق إلا " الناحلون الشاحبون" أي السياسيين المعارضين المهمومين عادة. إذن هناك متضادان المعارضون والدولة أو القوى المستغلة. فالفكر المهيمن يتوجه بكل قواه الآن نحو هذا العدو.
لكن هذه ظواهر، ربما خاصة بمجتمعات بدء الانتقال الحضاري الحديث وقبل ان تستقر هذه المجتمعات على حال وتترصن فيها القيم الجديدة . اما في اليابان اليوم وروسيا والولايات المتحدة واوربا، فقد كان الجنس ومنذ بدء القرن وما يزال وراء حركات نسوية واسعة تتبنى افكاراً تحررية. وفضلاً عن الحريات الشخصية صار لهذه الحركة العالمية ذراع سياسي يعمل على الاطاحة بالانظمة القديمة والقوانين التي لا تناسب العصر . هذا يعني تغيير انظمة الحكم ! فلا غرابة بعد هذا ان تكون للنساء قيادة ثورية في التحرك النسوي العام وفي " الأنثوية " الحديثة بشكل خاص. وليس غريباً ان يثار اتهام للحركة الأنثوية التي يقودها الراديكال ، بأنها تنشد شيئاً " آخر " للتغيير، خارج منظومة المطالب النسوية. وارى أن هذا اتهام لا ضرر منه. ومثله يمكن أن يقال عن الانثوية الليبرالية والأنثوية المسيحية ، فهما ايضاً يناصران المرأة ويتبنيان اهدافاً اخرى. لا بد من تضافر المطالب وتكافلها، ما دامت لها طبيعة اجتماعية . في الحركات الثورية الاجتماعية، التحررية ، لا يستخدمون "فلاتر" ولا "مصافي" للتنقية. صعب فصل العناصر. حراك اجتماعي له عوامله الخارجية المحرّكة وله ديناميتُهُ الخاصة. لا ننسَ أن الحركة الانثوية وريثة تراكم كان طيلة تراكمه يمنع من أن تكون للمرأة وجهة نظر في العيش، في العمل والتفكير وفي ممارسة الجنس.
ونحن نعلم ، بتعبير " شوارتز " أن مغامرة الأدب النسوي تعني اجتراح وجهة نظر، امتلاك رأي خاص للمرأة في الحياة. أي الانطلاق في التفكير والكتابة من الخبرة النسوية ... الانطلاقة الجديدة تعني إضافة عنصر جديد للأدب. ومن يلُمْ النساء عن تقصيرهن في كتابة ادب خاص بهن ينسَ انهن كن خاضعات لطرق التربية الذكورية وأهدافها. وان يكتبن كما يكتب الرجال ، كان هو الواجب الحقيقي الذي عليهن أداؤه . الكتابة النسوية كانت وجهاً اخر للسيادة الجنسية بالنسبة للذكور والخضوع او التقليد بالنسبة للنساء. وهذا الخضوع قديم في التاريخ الإنساني: "اشتياقكِ لزوجك وهو يسود عليك .." (سفر التكوين) .. فليس غريباً اننا حتى اليوم نرى الغالب من الكاتبات النساء يكتبن مقلّداتٍ للرجال. حتى إني لم أتناول في مقالاتي "عن الأنثوية في الشعر" شاعرات احترمهن. لا بسبب الفن الشعري، ولكن لأن الثورية الأنثوية خامدة في شعرهن. هن يكتبن مثل أندادهن الرجال وفي الموضوعات العامة . بهذا لا يصنعن مجداً . الاحترام عادةً للشخص المتميز، للذات الجديدة ، او المحتجّة التي لم يُعَبَّر عنها من قبل. اريد صوتاً انثوياً فلدينا من الشعر أكوام !


.

 
كتابات فـي النسوية ( 10 )


استرضاء الهيمنة واستثمارها الخاسر
ملاحظات في الشعر النسوي الفضائحي

ما فعله التاريخ هو أنه جعل الجسد الأنثوي معياراً يكرس من خلاله النظام الاجتماعي والهيمنةَ الذكورية التي اكدها النظام البطرياركي و رسَّخَ فلسفة الدونية و التفوق للطرف الآخر. والأساس الأول الذي اعتمد عليه هو الأساس نفسه الذي ما يزال الاحتجاج به، ألا وهو التمييز البيولوجي بين الجنسين. وهذا الأخير كان نتاجاً طبيعياً لفعل الإنتاج المادي في الأرض، أي القوة العضلية واستمرارية العمل من دون اعاقات بيولوجية كما يحصل عادة للمرأة..لكن فكراً آخر يقول أن هذه القوة العاملة ومالكها كانا نتاجا نسويا في الأصل. عموما، في الحياة العملية تتخذ المفاهيم رسوخها مما هو واقع مرئي، لهذا ظلت الفلسفة في الكتب وظل التمييز في البيت والشارع والعمل وقد تبنته العلاقات الاجتماعية عبر هذه الثلاثية.
فكيف نعيد التوازن وكيف نصلح ما أوجده التاريخ الطويل للبشرية؟ هذه جملة مهام وليست مهمة واحدة، وهي تتطلب جهوداً فكرية وتربوية وجهوداً نضالية مضاعفة لاستبدال علاقات الهيمنة، وترويض البشر المتمتعين بنعم ونفوذ واستثمار الهيمنة..، بلياقات وقناعات فكرية وحضارية جديدة.
ما يزيد من تعقيد هذا الإشكال، إسهام المرأة في تكريس السلطة الرمزية للهيمنة، فهي، عبر التاريخ الطويل اكتسبت مرونة تكيف ونوعاً من الفلسفة الاستسلامية والركون إلى القوة الفاعلة، وما أورث هذا هو العنف المتمثل بأشكال شتى، مرئية وغير مرئية.
من هنا صارت مركزية العمل هي تحرير الإرادات والضمائر والتخلص من الحاجة. هذه خطوات عمل أولى لتجاوز دفاعات الهيمنة وركائزها، فلا غرابة أن يقيم الرجل، الذي امتلك خبرة تسلط تاريخية، دفاعاتٍ جديدةً ويطور أو يستحدث فلسفات تتصل بضرورة لا الهيمنة فقط ولكن العنف الرمزي بأشكاله أيضاً.
المهم أننا بازاء حالات واسعة من الرضا بالهيمنة وتنامي قدرة الاحتيال على كسر إيذائها أو صرامتها. فالمرأة، مثلما تحاول بسلبية تمرير الطارئ الخشن، هي أيضاً تسهم في تسويغ الهيمنة ومنحها مقبولية من "صناعة أنثوية"، إذاً، هو عمل في تعزيز الهيمنة كنتاج أخير. فكيف بعد هذا نعمل لفهم العلاقة مع "الآخر" بديلا عن المرأة، لنرفع مستوى الموضوع ونمنحه مدى إنسانياً، علماً أن العلاقة مع الآخر أساس لكل العلاقات الاجتماعية؟ كيف نكون قادرين على احترام غيرية الآخر والكف عن اختزاله وتبسيط دلالاته ونكف عن صناعة ظروف تضطره لذاك الرضا لكي ينجو أو ليواصل عيشه؟ ثم الوصول إلى البعد الآخر الذي هو التعبير عن كل ذلك شعراً.
البداية في الأساس البيولوجي وفاعليته ومنه نَصِفُ الاختلاف الكامل بين الرغبة والحاجة، "بالنظر إلى الرغبة على انها الحالة التي من الصعب أن تنتهي إلى الإشباع. فهي تتغذى، بكيفية أخرى، من عوزها. وهذا العوز الدائم واللاوصول سر كوني مثلما هو حقيقة بشرية علينا احترامها وإيجاد البعد الفكري لتقديرها". فلو تحققت الرغبة ووجدت اكتمالها وتجسيدها في المتعة، سيصبح الأنا أنانياً من دون إحالة إلى الآخر وسيكون وحيداً من دون وحدة ..
إذاً، اتخذت الرغبة البيولوجية هنا شكلاً ميتافيزيقياً، فهي رغبة متعذرة الإشباع، وهذا، ضمن ما يعنيه، يعطي سبباً دائماً للهيمنة وسبباً دائماً للرضا بها.
بهذا الميتافيزيق، انتقلنا، في فهم العلاقة بالأنثى، إلى مستوى آخر، قل هو مستوى ثقافي وهو الأليق بالشعر كما هو الأليق بإنسانية الإنسان، يقول "ليفيناس" : "وحده الأنثوي بامكانه منحنا ، بوعي، فرصة لرؤية جسده ويمنعنا عنه في آن معاً" .
هنا صار الجسد مراداً ثميناً وسامياً، وأنه ليس في منطقة الخضوع الذكورية، بل هو في منطقته الخاصة، نراه ولا نراه، نقترب منه ولا نصله، هذه هي منطقة الشعر بالنسبة لنا! نحن تركَنا الجوع البيولوجي في حالين الأول : عرض جودة ومواصفات للزهو أو للانتفاع والثاني : أن البيولوجي صار فعلاً كونياً هو جسد بشري بمواصفات مثيرة يصيح بصوت واضح، بكافة الإشارات، إلى حاجته للتكامل، أو للراحة من سعيره أو من الحيوية المشتعلة فيه، فإذا ارتقى عن العرض المباشر، كيف يعبر عن هذا جمالياً؟ بالنسبة لموضوعنا، كيف نعبر عن هذا بفن شعري؟
علينا أولاً أن ندرك بأن هناك غيرية في العلاقة بين الذكر والأنثى، سواء كانت هذه العلاقة، عشقاً أو زواجاً أو عهراً أو رفعة عاطفية، وإن أياً من هذه العلاقات لا تنفي غيرية الآخر لكن تؤكدها وتحاول أن تشبعها رضاً بتهيئة مدى أقصى للتواصل أو للمرور، مرور الرغبة، وأن الاكتفاء من الرغبة أو انتهاءها، يعني وضوح الغيرية بكامل ماديتها. هناك من يقول أن الغبطة المتحققة لا من المتعة أساساً بل من حضور الاختلاف بحالة رضا، كل له متعته وكل له رضاه وكل له اختلافه. هنا اتسع المجال للشعر أكثر، كما اتسع للجدل.
لكن اين هو سر المتعة في اللقاء، بعيداً عن الجوع أو العطش اللذين يمكن سدهما ببدائل؟ رأي يقول : "في اللقاء بالآخر، ينفتح سطح المحبة والخصوبة اللذين يسيران بنا نحو ذواتنا بعيداً عن الموت وإلى نهائية الزمان .. ولذلك في الحب لا يمكن معرفة الآخر ولا الأمساك بحقيقته" وإذا حاولنا امتلاك المحبوب أو الاتحاد به، فإننا سنعجل بالقضاء عليه، وتحديداً بالقضاء على اختلافه الذي يشكل جوهر وجوده الذاتي ... (بواسطة عبد القادر بودرمة- ليفياس: الأنثوي وفيتومينولوجيا الإيروس).
إذن فحوى الرأي السابق هو أن الحب ليس فيه علاقة تسلط أو هيمنة وليس هو امتلاكاً برضا، بل هو ثنائية وجودية انبثقت من التركيب الحي وارتقت بها الحضارة وأنها قبل الوعي كانت في البيولوجي، وهذا يجعلنا ثانية في المدى الفلسفي، وشعرياً نحن في حال بين القرب والبعد أو الفقد الموشك وفي القضاء الذي تقيم فيه العواطف مهرجانها القصير وهذه الحبيبة مقبلة أو متنائية. هو هذا ما نكتب عنه أو ما نتحرق له أو ما نعيش لأجله. هي هذه منطقة الشعر الآن.
أيضاً ، يمكن أن يكون لقاء الحب أبعد ملاذاتنا عن التلوث واصفاها "لحظات اللقاء الجنسي هي اللحظات الوحيدة في الحياة التي تفصلك عن العالم تماماً.."، "ثمة عنف ينزل بحياء النظرات إلى الشهوة "الماجنة" لأنها باختصار تفضل ألا تكون مرئية ..".
صار للشعر إذن مستويان من القصائد التي تشير أو تكشف التجربة. فهي إما أن ترتفع بالتجربة إلى ما أشرنا إليه من بعد أو تهبط بها إلى غرائزنا أو إلى الحسي، والثاني يتم حين لا قدرة لنا على رؤية أخرى فنبقى ضمن تفاصيل الغرزي الحسي. لا لوم ولا انتقاص ولكنه الاعتيادي الذي تتعطل فيه الثقافة والجمالي.
الشعر انتقال من الاعتيادي. في الاعتيادي يقاس الجمالي باللذة. والدعوات المباشرة، الإغرائية، سواء كانت شعراً، نثراً، غنجاً، تعرياً أو عهراً تحكمها حدود الملامسة الجنسية وحتى إذا كانت بالنسبة للمرأة تحدي الممنوع إلى الحاجة فالحاجة هنا مادية. وبالنسبة للمذكر يزهو بتحقيق العنف وشعور المرغوب فيه بالرضا أو الخضوع. وهكذا نبقى في حدود البيولوجيا ونكون قد خسرنا الجمالي وخسرنا المتعة في التوهج إلى الأبعد الذي لا يُرى وخسرنا الألفة الإنسانية الأعمق معنى. لقد خسرنا الملاذ الروحي والجسدي في الصخب المادي أو الاستلاب. راحت دقائق الأمان النقية والسكينة الفردوسية – الحلم. والحيواني قد أنهى اكتماله وراح يتبول أو ياكل أو ينام في محاولة، ربما، لاستمرار الصمت الذي يجهل تفسيره. ترجمة كلام الشهوة لا معنى لها. وأي شعر قبل ذلك يمكن تعويضه ببدائل، بوصف الجسد وصفاً مباشراً أو بالتعري. لا ضرورة لأن ينوب عنه الشعر ما دام قد خسر الجمالي والمعنى الأبعد .. الثقافة تعمل في حقل والغريزة، أو الاعتيادي، يعمل في حقل وكل له لغته. هنا لغة البطريارك هي الفاعلة والتي ستستمر في الخطاب السياسي ولن يكون حتى لليسار لغة جديدة حاسمة لكي نكتب شعراً عن الرغبة والتحريض على الجنس لا بد من نقل التجربة من المباشر، من عالم الجسد القريب الملموس إلى العقل ، لاننا الآن نكتب "فناً شعرياً"..
الدعوة للجنس، شعراً، إغراءً، أزياء، حلماً، ماكياج، غنجاً وتسريحات وحركات وتحرشاً ، كلها دعوات جميلة ومباركة للإخصاب. ومن يستطيع نكران وجود الجمالي في كل من هذه المفردات النسوية الجميلة والمثيرة؟ لو نطق الجسد بدعوته بلا شوائب لكان كلامه شعراً! يبدو أننا نحتاج إلى مزيد من الوقت لتكون الإجابة مقنعة، هذا إذا توافرت إجابة مقنعة أصلاً!
في المنظور العام، سلبية هذا الشعر الإغرائي أو الفضائحي كما يقال، أنه يسحب الخيال الذكوري إلى مظهرهن الخارجي لا إلى الذات أو إلى المعنى الأنثوي! هو نوع من التعري. وانهن يصنعن كلاماً يعطي أثراً بصرياً وأثراً محفِّزاً. هو نوع من المهيجّات، وهكذا شعر يصعب أن يحتفظ طويلاً بجماليات عُليا. وإذا امتلكها فلن يحتفظ بها بعد انتهاء الكشف أو القراءة أو الإلقاء أو الاستعراض. وهذا تماما ينطبق على الفيلم الجنسي ايضا. تورد "لورا مولفي"، وهي منتجة أفلام، هذا المثال :
في فيلم "وحدها الملائكة تملك أجنحة" Ony Angels Have Wings أن الفيلم يبدأ بامرأة كـ "شيء" للمشاهد. نظرات جميع الأبطال لها وهم مجتمعون في الفيلم والبطلة وحدها معزولة وقد جُعلِت مثيرة جنسياً .. مع تقدم الفيلم تقع في حب البطل المذكر الرئيس وتصبح من ممتلكاته فاقدةً تألقها الخارجي وجنسانيتها المُعمّمة (للجميع)، صارت تخضع إثارتها للنجم الذكر وحده. ومن خلال التمثُّل به، المشاركة في سلطته، يمكن للمشاهد أن يمتلكها أيضاً. (متعة بصرية، وسينما روائية)، (عن النظرية النسوية، ت د. عماد إبراهيم).
مثل هذا يحصل تماماً في القصيدة الفضائحية وهي تُسمع أو وهي تُقرأ. ثمة تمثل غير مرئي للمشاركة! الأنثى تحولت إلى واسطة إمتاع، هذا ما لا يتفق ابداً وكل فصول النظرية النسوية. إذاً العمل الشعري هنا افتقد الرمزيات الخاصة واعتمدت قيمةُ النص على الاجتماعي بدلاً من الفني. تقول الأنثوية هيلين سيكسو في "ضحكة ميدوسا" : ينبغي على المرأة أن تضع نفسها في النص وتضع نفسها في العالم وفي التاريخ وبالحركة الخاصة بها .." وهو هذا المطلوب في الشعر النسوي عموماً، كشف حقائق الداخل التي لا تُرى. إن كشف هذا المخزون المخفي سيكون مدهشاً، وسيُغير الكثيرَ من المفاهيم والرؤى.
في كل حال يجب ألاّ ننسى بأن النسوية الثقافية هي آيديولوجية بطبيعة الأنثى. أو هي ماهية أنثوية معاد تخصيصها من النسويات أنفسهن في محاولة للإقرار بسمات الأنثى .. (ليندا الكوف). لكن الأقرار بسمات الأنثى لا جدوى منه إن لم يستوجب النظر باحترام، وإلا فإن الشعر النسوي سيؤدي إلى النكوص بها. بإيجاز أريد "الثقافة" هي التي تسمو بالأنثوي لا البيولوجيا، نحن في سبيل تعزيز الأنا الأنثوي لا ما يتعلق به أو ما يُغلّفه


.

صورة مفقودة
 
كتابات فـي النسوية ( 11 ) .. النسوية: تاريخ موجز ومكان لتمثال!
ياسين طه حافظ

من منتصف القرن التاسع عشر وحتى سبعينات القرن العشرين طريق صعب، حققت فيه الحركة النسوية في العالم انجازات كبيرة. وقف إلى جانب المناضلات الرائدات اساتذة ومفكرون ورجال قانون وكتاب وفنانون، ورجال دين وملحدون ومثقفون إنسانيون وآيديولوجيون كبار. فلا أحد اليوم ينكر أن خصباً جديداً، إنسانياً حياً، تغلغل في الكتابات وفي العلاقات الإنسانية وإن تياراً نقدياً بدأ يوجه ضربات تنبيه واعتراض على ما يصدر من دراسات، كتباً. ومحاضرات في النقد الأدبي وفي دراسات اجتماعية. الكاتبات النسويات بجرأة وبعلمية، رفعن الصوت: أن الكتابات الذكورية أساءت للتاريخ النسوي، هم امتلكوا حريتنا في التعبير. نحن اليوم ننتزع ما أمكننا من هذه الحرية لنعيد تثبيت الحقائق...
قلنا أن جملة من الكتاب والمفكرين تعاطفوا مع هذا الاتجاه وتبنوه . وهذه علائم انتصارات للحركة النسوية كما هي دلائل تقدم حضاري. ولعل أهم أنجاز، بالنسبة لنا، هو التيار الراديكالي في الحركة النسوية، والذي لليسار فيه القيادة، لأنه ثوري صلب أولاً ولأنه كان تياراً ذا طابع اكاديمي فرض اخلاقياته على برامج الدراسة في جامعات شتى.
في "الردايكالية النسوية" تكون الحركة النسوية قد امتلكت رؤية ثقافية علمية الطرح واتصلت بمتطلبات التغيير الاجتماعي. ابتعدت عن الحلم المجرد واللاواقعية." كما صار للفينومولوجيا المتبناة فعل باهر في تحليل الخبرة العينية الخاصة للنساء ووعيهن بجنسهن وجنوستهن وفي استيعاب النسوية لطروحات ما بعد الحداثة ..
ولكي نعطي لهذا العرض نوعاً من التسلسل التاريخي-الحديث،لابد من أن نبدأ من أول الرموز الجديدة، وهي الكسندرا كولنتاي التي أسست تنظيما نسويا للعاملات وطالبت بأن يكون التنظيم مستقلا عن الحزب وأن يكون في الحزب البلشفي مكتب مخصص لشؤون الحركة النسوية. غادرت هذه المناضلة الروسية بلادها سنة 1908 وظلت في المهجر حتى 1917 حيث صارت عضواً في الجنة المركزية وأسست مركزاً لرعاية الأمومة والطفولة ودور حضانة لأطفال النساء العاملات وعملت على توفير حبوب منع الحمل. ومحاضراتها الأربع عشرة التي ألقتها في 1921 ترسم أفكارها النسوية الاشتراكية. كما نرى اليوم، في أمريكا، وفي الكابيتول بواشنطن ثلاثة تماثيل لمناضلات نسويات قدن القتال من أجل حقوق المرأة في أمريكا، وهن : لوكيشيا موت وسوزان انتوني واليزابث كادي ستانسون.
نحن لا نستطيع بهذه العجالة أن نستعرض كل الأسماء وكل الانجازات النسوية، لكننا سنأتي على جملة كتب مهمة وأسماء لها دور ثقافي نسوي، متمنين لو تبدأ عندنا حركة ترجمة تتبنى هذا الموضوع وتنقل لنا سلسلة كتب منها "الخيال الأنثوي" لميري سياكس و "النساء أديبات" لـ آلن مورس و "ادبهن الخاص" لألن شولتز وقد أشرت إلى هذا الكتاب أكثر من مرة في كتاباتي و"قراءة المرأة" لماري جاكوب و"السحر الأنثوي" لـ بيتي فريدان، ومحاضرات هيلين فاندلر، وهي استاذ في جامعة هارفرد وناقدة للشعر الحديث امتازت بنقدها الجمالي النسوي، وسوى هذه كتب ومحاضرات ووثائق تضعنا أمام تاريخ ثقافي ونضالي واضح للحركة النسوية التي تشهدها اليوم، وقد ظهرت عندنا كتب محترمة في هذا الصدد منها كتاب الأستاذ د. بعلي حفناوي بعلي، الذي أفيد منه الآن، وكتاب الأستاذ رضا الظاهر "أمير مطرود" بجزءيه وكتب جريئة أخرى مثل الفلسفة النسوية التي أعدها د. علي محمد المحمداوي وكتاب الصوفية النسوية لـ كارول بي كريست ترجمة مصطفى محمود، وهو كتاب نسوي باتجاه آخر والنظرية النسوية( مقتطفات مختارة / ت عماد ابراهيم).
كتب أُخرى كثيرة صدرت في مصر والمغرب ولبنان لاستكمال الثقافية النسوية. كانت لتلك اليقظة الفكرية النسوية وذلك الحراك الاجتماعي الذي يزداد عمقاً ثقافياً وسعة جماهيرية، نتائج باهرة، فقد ظهرت كاتبات يكتبن أدباً جديداً ونصوصاً نسوية جديدة تماماً ودراسات أكاديمية واسعة وعلمية رصينة فضلا عن الناقدات النسويات وانجازتهن المهمة في تغيير كثير من الأفكار وترسيخ اتجاهات جديدة في النقد والتفكير ..
ويعد هذا المجرى الساخن من الستينات حتى اليوم، بقي نضال المرأة ومعركتها الحقيقية مع نفسها. لقد حققت انتصارات في الشارع وفي الأكاديميات والأوساط الفنية والثقافية، فما هو الانتصار الذي حققته على نفسها موروثها ولغتها الخاصة ونزوعاتها المستقبلية؟ ثمة ما يعرقل حرية الحركة، مما ورثته ومن مراحل التحول والقلق اليومي، لمواصلة الطريق بكفاءة وبسعادة شخصية مطلوب أن تتثقف بمعرفة جيدة وحديثة عن نفسها، وبمعرفة اجتماعية بما حولها ومعرفة بأساليب ولغة وتقنيات التعبير عن نفسها، من هنا اعتراضنا على بعض أساليب الكتابة من النماذج التي اخترناها ولومنا أو ملاحظاتنا عليها – التي ربما كان بعضها قاسياً، فلسنا في بحث أدبي، ولكننا بإزاء مهمة فكرية بالدرجة الأولى.
تناولنا في كتابنا هذا عينات ممتازة بالنسبة للمرحلة وللواقع الاجتماعي في العراق، العراق الشرق أوسطي" بمتاعبه والفكر المهيمن فيه. هي في كل حال نماذج صافية أحيانا، ملتبسة بذكورية أحياناً، لكن الأنثوية واضحة في اشعارهن ومبهجة لنا، نراها تقدماً محموداً. عليهن الآن احترام رموزهن وكشوفاتهن وخبراتهن، والإعلان بفنية متقدمة وبشجاعة عن رفض التوصيات والولاية أولاً ومنح الحق للذات النسوية في التعبير وفي اختيار شكل هذا التعبير .
ولا يظنن أحد أن الانجازات الجديدة والخطوات الشجاعة، والبكر، ستمر من دون مشاكسة، أو حتى عدوانية، من الأرث الذكوري المستفحل والذي ما يزال وسيظل زمنا آخر يتحكم بمساحات واسعة من الواقع الاجتماعي. أيضاً، لا يستبعدن الغيرة من تفوقهن ومن الاتجاهات الجديدة في التفكير والكتابة.
المهم أن العديد من المثقفات في العالم اليوم استطعن زحزحة بوابة المنفى القديم وهن اليوم يتمتعن بشمس العالم. قلت في واحدة من مقالاتي : إن المرأة بحاجة لأن تكون لها لغتها الخاصة وأن تبتدع عبارتها هي، فعلى سعة المعجم هي لا تمتلك حتى الآن كلمات كثيرة، الكلمات في المعجم دمغها الرجل بما رأى وبما فهم وبما اراد. هو تملّكها لاستخداماته هو. هي اذاً تحتاج لأن تعطي الكلمات معانيها، أن توسع مدى الكلمة للمضامين الجديدة وهذا موجز ما عبرت عنه "ماري كردينال" في كتابها "تعبير آخر"...
بالنسبة لنا أو لبلدان العالم الثالث، حصل تغير غير مرئي في النضال النسوي، فلم يُدرس جيدا. في هذه البلدان صارت الحركة مكملاً لازماً لحركات الشعوب التي تتولى صنع الحضارة والتحولات في بلدانها، الحركة النسوية، بموجتيها الثانية والثالثة، متداخلة منتشرة من دونما مركزية كما في الغرب، حيث لا تراتب هرميا ولا مركزية للعقل الذكوري. النسوية اليوم فلسفة تحرير المرأة وتحرير الشعوب، بقي أن أقول لشاعراتنا، في هذا الكتاب ولرفيقاتهن حيثما يكن، العينات التي رصدناها في اشعاركن الجميلة هي علامات فوسفورية في الطريق وزهرات نادرة تطلع في حدائق البلاد. وانا أردت في تأكيدها ان أحيي المستقبل.
قلت من قبل : هنالك ثلاثة تماثيل لمناضلات نسويات في الكابيتول بواشنطن.. وأقول لكُنّ الآن :
ثمة، في كل الميادين الكبيرة مكان لتمثال، فلمن منكن سيكون؟
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...