نقوس المهدي
كاتب
3-1
لم يكن نشوء ظاهرة النكتة الفاحشة والبذيئة في العراق ، وشيوعها شيئا عابرا، أو حاجة أملتها ظروف آنية، بل هي ظاهرة معقدة نشأت بين أوساط العامة والمثقفين والجنود،وهذا يعني أنها تحاكي الفئات الوسطية من المجتمع خاصة شرائح الطبقة الوسطى، ويقف خلف شيوعها عوامل كثيرة منها الظروف الاجتماعية والاقتصادية المعقدة التي سببتها الحروب لهذه الشرائح الوسطية بحيث تخلى الكثير منها عن وظائفه المدنية ليلتحق بالجيش وبمؤسساته ضمانا لراتب أفضل ولامتيازات حزبية..، وعن تغييرات مهنية وعن تباين اجتماعي وظائفي ومناطقي. وعن تغيير ديموغرافي أصاب المدينة العراقية وعن عبثية الظروف التي مرّ العراق بها، فظاهرة مثل هذه برزت فجأة وبفترة قصيرة خلال أيام الحرب العراقية الإيرانية تحديدا ليست طبيعية ونمت في ظروف التنوع الثقافي والحرية اللفظية والعملية والتسامح وشيوع ظاهرة الجنس الذكوري، إن الجذور العميقة لها تفصح عن بنية شعبية ترتبط بالتنكيل وتقليل شأن الأخر،والدخول إلى خصوصياته بسلاح شعبي يراد به تحجيمه وتقليل من شأنه ومن ثم تبرير الأفعال التي يقومون بها ضد هؤلاء الذين عنتهم النكتة، ومن يتتبع ديموغرافية النكتة الفاحشة نجد وسط وجنوب العراق وحدهما المنطقتان المعنيتان بها،لا نجدها في النتائج المفتعلة والنسخ لنكات أجنبية طوعت لتلاءم الوقع العراقي، وإنما هي بنية ثقافية كامنة في المفارقة بين فئة شعبية وجدت نفسها مسحوقة تحت عجلة الحروب وفئة متنفذه تمتهن الإهانة ومن بينها النكتة على معارضيها ومن تعتقد أنهم بدلاء لها، ومن هنا نجد أن ظاهرة النكتة الفاحشة هي دفاع عن النفس أحيانا وأحينا جزء من اللعب السياسيين وفي أوقات الكثير التخفيف عن الوضع النفسي للشباب العراقيين أثناء فترة الحروب العبثية...كانت الناس تجد فيها إطارا عامة للتعبير عن حياتها الملتبسة خاصة وأن شروط هذه الحياة كانت ملحقة بالسلطة من حيث الأمن والوظائف والرواتب والأعياد والهبات والمكرمات حتى غدونا لا نستطيع ابتداع أو ابتكار أي شيء إلا بمباركة السلطة هذا الوضع شد كل الناس إلى قدرية واضحة استعاضت عن الله بالحكام وعن الدين بالعطايا وعن السلم بالحروب وعن الأمان بالتخويف وعن الجوع بالترهيب والترغيب، حياة لازمت وتلازم كل تحول جديد يحدث في المجتمع. فتسير معه مترافقة تارة، ومتقدمة أو متأخرة تارة أخرى. خاصة تلك التحولات التي ترتبط بصعود فئة سياسية ذات برنامج اقتصادي وسياسي – مهما كان نوع هذا البرنامج – فنجد الثقافة المرافقة لهذا البرنامج توظف نشاطات ثقافية توظيفا أحادي الجانب، تعكس بالضرورة التوجه الخاص لتلك الفئة ضمن هذه المرحلة أو تلك.
في ضوء ذلك تبدو معاينة النكتة الفاحشة والبذيئة ضمن هذا السياق مسألة معقدة بعض الشيء، فالجنس، وهو محورها، يرتبط أولا بالجسد هذا الكيان العضوي المستغل كآلة للحرب،ويشكل انتهاكه حتى لفظيا إلى مشكلة أخلاقية، فتحول إلى تكوين ساخر يمكن أن تلصق به كل الصفات الكريهة بعدما أصبح سلعة تتبادلها الحروب وساحات القتال، الجسد هذا التكوين المقدس يمتهن ببساطة بالإهمال بالتعري من حقائقه الإنسانية لأنه ما عاد محترما من قبل السلطة عندما يكون كساؤه صعبا وتغذيته تعبا وراحته بطرا وعلمه ترفا، الجسد في عرف السلطات كيان ممتهن مرهون لهم يتلاعبون به ما يشاءون يسوقونه للحروب أو يعطلونه عن العمل أو يحرمونه من ملذاته أو يجعلونه عالة على صاحبه فكيف إذا كان في البيت عدد من الأجساد المهملة العارية والجائعة والخائفة والمهددة بالموت والحروب والغلاء؟بمثل هذه الوضعية الممتهنة للجسد تتشكل لغة الاستهانة وما النكتة التي تجعل منه سلعة ولو بالكلام إلا طريقة لتدميره وإلغائه وسحقه تحت هيمنة قوى غامضة سرية وعلنية تحتاج إلى اسم أو مسمى كي يقال فيه وعنه الكلام الفاحش وكان الشخصية الفنية “.....” هي الغطاء العام لمثل هذه النعوت الملصقة بالجسد الدنس الجسد المخرب والمهان والمحقر فكانت أن أصبح المحمول وهو اسم” ...” حانلا لأمراض اجتماعية هي الفحشاء.بالبنى التحتية والفوقية للمجتمع معا. فهو عنصر مشترك بين كل الأحياء، ومادة تراثية ومعاصرة يمكن توظيفها توظيفا دراسيا خاصا. وما التمايز الذي يجعله مختلفا عند هذه الفئة أو تلك إلا تشخيصا وانعكاسا لفكرها ومنهجها إزاء الوظيفة التي يؤديها اجتماعيا وثقافيا.
فقد استعمل الجنس مصدرا لزيادة السكان، وبالتالي فهو ثروة قومية يمكن إنماؤها وتطورها، حيث الكثرة عاملا فاعلا على المستوى الديموغرافي والجغرافي معا، وعندما يزداد، وتفقد السيطرة عليه يتحول إنتاجه – الولادات – إلى عائق يعيق خطط التنمية والتطور الاجتماعي، فتفضي الحاجة إلى ابتداع الحروب والأوبئة لتقليل نسبة السكان – كما يرى مالتوس. وقد يكون الجنس عامل نقاء عرقي، ومفاخرة إقليمية – اقتصادية، خاصة إذا ارتبط بفلسفة مغيرة وكلية، فيدفع ببعض الساسة والطبقات إلى اعتباره عنصر قوة إلهية، وهو ما حاوله هتلر في فاشيته المعروفة. وقد يصبح الجنس جزءا من تأكيد محورية الفرد في العالم. خاصة بعد انهيار النظم والديانات التقليدية في أوروبا فتحول إلى عنصر تزييني – ترفيهي يلازم كل مدينة حديثة، وينشئ مصدر سياحة متطورا، كما هو حادث الآن في عدد كبير من مدن أوروبا الحديثة. وقد يصبح الجنس تجارة لرقيق أبيض أو أسود، مما يسبب أمراضا وأوضاعا خاصة يتطلب الأمر لعلاجها مصادر تمويل وبحوث هائلة... الخ.
ضمن هذه المسيرة المعقدة للجنس، نجده، وبخاصة في مجتمع مثل مجتمعنا الشرقي – شبه محافظ، شبه منفتح – عامل قلق مستمر، وليس على مستوى الدراسة والتعليم فقط، وإنما على مستوى الحرية واثبات الشخصية الوطنية، وبالتالي على جعله نموذجا قلقا لكل مشروع ثقافي واقتصادي وسياسي.
في ضوء ذلك تحتم علينا ظاهرة النكتة الفاحشة والبذيئة، التخلي كليا عن الطرح الآني، والسريع لأسباب ظهورها أو اختفائها. فالمظهر الثقافي الذي يرافق التوظيف الجنسي توظيفا طبقيا واجتماعيا، يكشف لنا عن تباين مستويات التفكير. ففي أوروبا مثلا هناك قنوات تلفزيونية ودور سينما، وآلية إنتاج كبيرة لأفلام ومسلسلات الجنس، بينما لا يكون مثل هذا متوفرا للبلدان النامية، وذات الطبيعة الاجتماعية المحافظة ميسرا، مما يفرض الواقع ظهور أدوات ثقافية أقل انتشارا، من بينها ظاهرة النكتة الشفاهة، أو الظاهرة الشفهية بشكل عام، النكتة البذيئة والفاحشة جزء منها.
وفي مجتمعنا، الذي شهد صعود فئات اجتماعية محافظة في تفكيرها الديني، متطلعة لبناء نهضة عمرانية وثقافية، وظفت الجنس توظيفا لا منهجيا مما عكس تذبذب خطابها الفكري والسياسي، وبالتالي أعطى تصورا عن فقدان أي تخطيط منهجي لاستعمال الجنس ضمن المسار التنموي المنشود.
لذلك لا يمكننا القول أن عامل الحرب الذي دام ثماني سنوات بين العراق وإيران كان هو السبب الذي أوجب وجود مثل هذه النكات، فما كان من ثقل الزمن الحربي على النفوس إلا أن جعل الناس يتندرون ويتفكهون بالجنس كنوع من فكاهة الصحب، أو لقضاء الوقت، أو للتسلية ونسيان ما يحدث. وإنما يصح القول إن الحرب والنكتة الفاحشة والبذيئة جزء من تكوين ثقافي – اقتصادي مشوه البنية، فما كان من الحرب إلا أن فجرت اللسان الشفهي ليس في مجال النكتة فقط، وإنما في مجال الأغنية، والفن التشكيلي والشعر، والعمارة، وتخطيط المدن، والتسويق، والصناعات والثقافة بوجه عام، فالحرب لوحدها يمكن أن تؤلف نشاطا ساخرا بوصفها تعبيرا عن سياسة متحكمة وأيديولوجية مارست ثقلها على المجتمع ضمن مرحلة معقدة من مراحل نمو وتطور مجتمعنا. من هنا يمكن عد الحرب والنكتة الفاحشة معا عوامل تدميرية للبنى الثقافية والمعرفية الحقيقية، ولكن لم يكن بمقدور هذه البنى مزاحمة التوجهات المرحلية التي تترافق مع تهيئة كاملة لنقل المجتمع من حال البناء والعمران، إلى حال التدمير والانكسار.
ومع ذلك كله، فلا يعد ارتباط النكتة بصعود فئات اجتماعية معينة إلى مراكز السلطة، فمثل هذا تفسير تبسيطي للظاهرة، وإن كانت جزء من العقلية القبلية، والشوفينية التي تدعيها بعض هذه الفئات، وإنما يكتشف دارس الثقافة الشفهية، يجد مصادرها الأنثروبولوجية– أي النكتة – قديمة قدم الدين، واللغة، والأنثروبولوجيا، وتكون المجتمعات، فالنكتة بشكل عام، والنكتة الفاحشة – البذيئة بوجه خاص نتاج ثقافي لتطور اجتماعي معقد، ليس كل مظاهر هذا التطور جديدة، وإنما بعضها جديد، وبعضها متطور عن قديم يمتلك أحقية بالاستمرار، وبعضها نشأ مرحليا. ومرحلة نشوء المجتمع المدني، تفرض مثل هذه الظواهر العرضية. مما يعني أن معاينة جذورها القديمة ينجينا من السقوط في التفسير الآني السريع. فالنكتة الفاحشة – البذيئة ترتبط بمدى حاجة الفئات المهيمنة على تبرير سياستها ومواقفها، ولذا فهي ليست أحادية، ولا هي نقية الشكل والمحتوى، بل إن شأنها – إبداعيا – شأن أي إنتاج ثقافي – اقتصادي يخضع لعوامل العرض والطلب، ولها أسواقها التي تمارس من خلالها فعل الانتشار وتحقيق الهدف. فنجدها تزدهر في مرحلة عندما يكون الشكل التعبيري لها ملائما للوضع النفسي، وتختفي مرحلة أخرى عندما يسود من يمنع ثقافتها. من هنا يمكننا القول: إن النكتة الفاحشة – البذيئة، لها خصوصية فنية تجعلها مشاعة ضمن ظروف، ومختفية ضمن ظروف أخرى.
ولكن هل ترتبط النكتة الفاحشة والبذيئة بظروف بلد ما وحده، أم أنها جزء من ظاهرة عالمية، خارجية وداخلية معا. شأنها شأن أي منتج ثقافي يمكن استنساخه وتعميمه. وبالتالي لقياس مدى التفاعلات التي يحدثها في كل بيئة أملا في تشذيب أو تقوية عناصره.
فعلى المستوى الدولي، شهدت السنوات الخمسين الماضية تداخلات كبرى بين الأنظمة والبلدان، فهناك حروب اقتصادية خلقت لها حروب موضعية وداخلية، وباردة، كان من نتيجتها أن فرزت على مختلف الساحات، بما فيها الساحة العربية، أنماطا من الفئات الاجتماعية المرتبطة بحركة الاقتصاد العالمي وحروبه الباردة، وكان من شأن هذا الارتباط أن تمكنت هذه الفئات من السيطرة بفعل حركات عسكرية أو انقلابات للهيمنة السياسية، وبالتالي الاندماج بحركة السوق العالمية، وكان من شأن هذه العملية أنها عكست جانبا من تلك الصراعات الدولية في المنطقة العربية التي يشكل النفط عصب الاقتصاد العالمي. والمتتبع للظاهرة الانقلابية في المجتمعات العربية، وما رافقها من قمع لقوى التحرر والأحزاب الماركسية بالذات، يجد أن الظاهرة كانت من الدقة والتخطيط ما يجعل مفهوم البرجوازية عندنا مفهوما شائبا، لأنها لم تخضع إلى قوانين وجودها المادية والثورية، وإنما خضعت لهيمنة تفكير أحادي هو خليط من البنى التراثية والدينية والعسكرية وشبه الإقطاعية والعشائرية. وهذا ما دفع هذه القوى عندما تسلمت مقاليد الحكم في عدد من البلدان إلى تبني خطة تنمية معرفية، هي تنمية أجهزة القمع البوليسية وتقوية المؤسسة العسكرية، والاستيلاء اللاعقلاني على الثروات المعدنية والبشرية. مما يعني أن أي تحولات جذرية في البنية التحتية للمجتمع وما يرافقها من نمو للدخل القومي ونشوء الطبقات الاجتماعية الفاعلة غير معنية بها، فالتنمية بكل فروعها لم تكن هي المعنية بالتغيير، فمن شأنه أن يجعل كل الفئات لحاكمة متعلقة بتسويق أطروحات السياسة الدولية المتناقضة على ساحتها المحلية، فتجدها تتبنى الاشتراكية في برامجها السياسية والاقتصادية المعلنة، وفي الوقت نفسه تغرق السوق بالحاجات المصنعة في دول أوروبا واليابان، وتفتح مجالا للتداخل بين الأسواق الخاصة والتجارة ضمن الشركات المتعددة الجنسيات. ولا يعدم التوجه المزدوج هذا من استنهاض كل القيم الايجابية في التراث والدين من اجل تسويغ وإضفاء طابع الشرعية على كل الأعمال التي تقوم بها. فما كان من الفئات الحاكمة إلا أن أسندت مصادر بقائها بقوى اقتصادية وأمنية، فأنشأت حولها دوائر أمن وحرس ومؤسسات علنية وسرية، وأطلقت يدها في المجتمع وفي الثقافة وفي الاقتصاد، ومكنتها من الاستيلاء على الأرض والناس بقوة القوانين التي تسن من الأعلى بعد أن عطّل الدستور وألغى البرلمان ومجالس الشعب والصحافة والآراء المعارضة. فما كان إلا أن أصبح أي تقدم جديد إلا من قبيل الهبة أو المكرمة التي تمن بها المؤسسة العسكرية الاقتصادية على الشعب.
كما شهدت المرحلة نفسها ثورة تكنولوجية هائلة، في ميادين الاتصال والتصنيع سهلت لعدد كبير من العمليات الداخلية والموضعية لأن ترتبط بحركة السوق العالمية فسهلت عملية الانتشار والتسويق وأصبحت وسائل الأعلام المرئية والمسموعة في متناول الجميع – أعني هنا جميع أبناء الفئة الحاكمة – فشاع الفيديو وأفلام الجنس والفوتوغراف وأصبحت ظاهرة استنساخ الثقافة وتوزيعها بدلا من إنتاجها المعرفي، هي العملية الشائعة في ميادين عدة. كما تطورت العقلية التجارية باستخدام كل فروع المعرفة استخداما اقتصاديا جاعلين من الأرضية الاجتماعية أدوات استهلاله وتعريف، دون أن يؤسسوا بنية مرافعة لكل تطور جديد لتشكيل أرضية مهيأة لتقبل الظاهرة الاتصالية أولا، ومن هضمها وتمثلها في الجسد الاجتماعي والثقافي ثانيا. مثل ما يكون للتقدم نمو وتطور حقيقيين، يكون للتخلف نمو وتطور حقيقيين أيضا ولكن باتجاه الإبقاء على الفجوة بين الشرق والغرب، وفي هذه الفجوة نجد حركة السوق من التقدم إلى التخلف، وهي تنشئ في مراكزها التسويقية بنى عقلية وثورية، وتؤسس في مراكزها الاستهلاكية بنى لا عقلانية ولا ثورية، هكذا نشأ الجيل الجديد من الشباب وهم يتمثلون بمظاهر الغرب الرأسمالي، دون أن تكون لهم عدة ثقافية توازي التمرد الذي ينشدونه في ترسيخ طماحهم الجديد، والفجوة بين ثقافة الأجيال والثورة الاتصالية الكبيرة تؤسس أنظمتها المعرفية باستمرار، هذه الأنظمة التي تجعل من حقيقة تغيب الوعي عن هذه الأجيال سلاحا بيد الحكام، فالوعي المغيب هذه المرة ليس بفاعلية وهيمنة القوى الدينية أو السلفية مثلا، وإنما بفعل الفجوة بين أدوات الاتصال وثقافة الأجيال في بلداننا. والقصد من وراء ذلك كله، هو إبقاء بنية السلطة اللاطبقية معتمدة على قواها الموروثة: العسكرة الاجتماعية والهيمنة على رأس المال، والسيطرة على السوق، وتقوية مراكز ومنشآت حمايتها الذاتية.
فما كان من هذا الوضع المربك والمعقد إلا أن أحدث النقل العشوائي في الاستيراد والتثقيف، الذي من نتائجه التفكك الأسري والديني معا. فأشاع الفيديو ثقافة أفلام الجنس إلى جانب الثقافة المدرسية والفكرية الأخرى، وتوسع التأثير باتساع فاعلية النقد والقوة الشرائية لشرائح لم تكن مهيأة لأن تختصر الفجوة، فأصبح الإنتاج الثقافي المحلي عرضة للتشويه وصناعة تفتقد هويتها، وأعيد تركيب الوعي الثقافي من خلال أن الموروث وحده هو القوة الفاعلة في كبح جماح هذه الثورة، فما كان من هذا المسعى إلا السقوط في الهوة نفسها، وهكذا عاشت المجتمعات العربية بين قوتي جذب، إحداهما تشده إلى ثقافة الاستهلاك اليومي، وأخرى تشده إلى الماضي وقيمه، وكلتا القوتين مدفوعتان من قبل المؤسسة الحاكمة نفسها. فأصبح الهدف الإعلامي، ليس النقل فقط، وإنما البحث عن خصوصيات محلية تتلاءم والمسعى إلى التخلف، فما كان من الماضي والتراث وكل المقولات القديمة إلا أن أصبحت قوى فاعلة ليس في بناء المخيلة المرتبطة بالتجديد، وإنما بتحويل التجديد إلى بنى كامنة في ذلك الماضي وبالتالي فإننا نبقى ندور في الحلقة ذاتها، ولكن في كل دورة جديدة لنا تعميق خط الدائرة، وليس تغييره. وهكذا تحول الماضي وتراثه، والحاضر وتقنيته بيد السلطات الحاكمة وأجهزتها الأيديولوجية إلى بنى قامعة للحاضر وللتقدم، فمهمتها إشاعة ثقافة استهلاكية يومية ترتبط بعملية التقنية العالمية، وفي الوقت نفسه تؤكد أن لا حقيقة جديدة، غير حقيقة فكر ونمط حياة الفئة الحاكمة وثقافتها المعلنة بقوة القانون.
وعلى المستوى الداخلي، شهد العراق – وهو موضوع النكتة الفاحشة – البذيئة – نهوضا متناميا على مختلف الأصعدة، رافق هذا النهوض عودة لأساليب قول ثقافية وشفوية ما كان لها أن تعود لولا الظروف الموضوعية التي خلقتها الحرب. والأساليب ذات طابع فردي، وترتبط بمنحى ذاتي، في الخطاب وفي المخاطب. وهي الأساليب نفسها التي كانت سائدة في زمن الخلفاء والولاة، بمعنى أن الأساليب، وخلال تطورها النوعي تنتقل بالثقافة المتضمنة لها من البعد الفردي، إلى البعد الجماعي، وعلى المستويين: المبدع والمتلقي، مع بقاء الخصوصية في كلا المجالين.. إلا أننا شهدنا عودة إلى الأساليب القديمة التي كانت موجهة للفرد، أو لفئة معينة محددة ويراد بها التوجه بخطابها إلى الجماعة دون أن تعتمد بنية الجماعة. إن عودة القصيدة العمودية المفاخرة والمادحة والذامة، والإخوانية والغزلية، والمعبأة بصياغات القبيلة المعاصرة، والتواريخ الشخصية والمجمدة لحركة التاريخ، هي عودة واقعية لأغراض القصيدة القديمة، فأصبحت هي النمط الثقافي السائد للواجهة الإعلامية والإبداعية في مرحلة الحرب، فالعودة إلى القصيدة العمودية عودة فرضتها الأغراض نفسها، وليس الطابع البنائي الخاص لها، والمحدد بالوزن والقافية. فالماضي هو الحقيقة ليس على مستوى التفكير والأيديولوجي، وإنما ليس الحاضر من وجود للتراكم فيه، فهو نسخة مكررة من ماض، وعليه فالثقافة الجديدة ثقافة الماضي دائما، وهكذا شاع في فترة الحرب، الزجل، والرجز، والغناء القبلي بالمفاخر، والتأليه للألقاب والأنساب، والمفاخرة بحروبنا القديمة، واعتماد أحادية منهجية في الفكر طريقا لبقاء التراث حيا بالاستنساخ المعاصر، وهكذا جرى البحث عن واحديه تاريخية، وطريق خاص لا يشبه أحدا، وإنتاج ثقافة – لا يفسرها لنا الآخرون – وقد رافق هذه النغمة التحديثية – التراجعية، عودة إلى الأزياء القديمة، والمطبخ القديم، والبناء القديم، وهكذا نشأت فجوة أخرى أكثر اتساعا، بين نتاج ثقافي نما خلال عقدي الستينات والسبعينات وهو نتاج تقدمي وثوري، وبين نتاج ثقافي فرض قسرا خلال عقد الثمانينات محاولة حساسية مرتدة ليس لمعاينة الواقع وحركته، وإنما في صلب العملية الإبداعية وهذا ما ولد كتابات متناقضة ومتباعدة، بعضها امتهن التاريخ للكتابة، وبعضها امتحن الحاضر للكتابة.. كتابات التاريخ وحدها كانت تجد طريقها للنشر.
ما دفعني للكتابة عن النكتة الفاحشة- البذيئة، حقيقتان:
الأولى: إن النكتة الفاحشة – البذيئة أصبحت جزءا من خطاب شفاهي شعبي نشأ هذا الخطاب ونما في مرحلة التشيؤ الاقتصادي – الثقافي، وأعني بها المرحلة التي سبقت الحرب العراقية الإيرانية وما زالت مستمرة، ومن خصوصيات هذه المرحلة أنها شهدت تحولات جذرية على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية بعد تأميم النفط عام 1972. ومن ملامح تلك الفترة أن العراق كله كان ورشة عمل كبرى، وجرى استقدام ملايين الشغيلة من البلدان العربية والآسيوية فأصبحت العمالة لوحدها مظهرا ديموغرافيا كبيرا. ومن شهد العراق في تلك الفترة كان يعرف بالضبط ماذا تعني التنمية العشوائية والبناء اللامخطط، وهذه القفزة الاقتصادية الكبرى في موارد النفط لم تأخذ حقها في التعبير على مختلف المستويات. ففي الوقت الذي انعدمت فيه أية مظاهر نهضوية في ميادين التعليم والثقافة والبحوث والإعلام والفلسفة والمجتمع وبالتالي في الجامعات والمؤسسات العلمية، شهدت مرافق أخرى نهوضا، فالمؤسسة العسكرية والأمنية، وفي خضم هذه العملية الجدلية المربكة، صعدت فئات اجتماعية إلى مصاف الطبقة البرجوازية، أولا، ثم انتقلت إلى الطبقة الرأسمالية المهيمنة على المقاولات والتشييد والزراعة والأسواق، وكان يتم أغناء الشرائح الملحقة بهذه الفئات الصاعدة من خلال تخصيص مراكز عمل مريحة لها، أصبحت فاعليتها مباشرة ومرئية بفعل القوانين والقرارات التي كانت تسن لحماية هذه المراكز، وكان من نتيجة ذلك أن أدخلت في نسيج المجتمع الجديد أفعال وسلوك هذه الفئات التي تحولت لاحقا إلى مظاهر ثقافية – احتفالية كرس لها الجهاز الإعلامي قنوات بثه وكتابه. وحصيلة هذه القفزة المالية أن نشأت فئات طفيلية هددت ليس بنية المجتمع الراسخ، وإنما نفسها عندما وجدت أنها غير قادرة على مواكبة التجديد في أطروحاتها، فما كان منها إلا أن بقيت حبيسة أيديولوجيتها السابقة مكتفية بإشارات مظهرية دالة على سلطتها المسندة. وهكذا أصبحت كل المنتجات الثقافية بما فيها الكتابة خاضعة للمسابقة والمهرجانية والندوات والاحتفالية والجوائز، رافق ذلك كله نهوض عشوائي في فتح آلاف المحلات لبيع الخمر والمشروبات، مع عشرات الفنادق والكازينوهات التي استقدمت آلاف الراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات من مختلف دول العالم، بمعنى أن الاستهلاك اليومي للثقافة الناشئة بفعل التضخم المالي والاقتصادي وانفتاح السوق على العمالة بكل فروعها قد ولد مستهلكا يوميا يشبه نفسه في مرحلة كهذه بالسلعة، فأصبح الفنانون سلعة تداولها محلات الغناء والفنادق، وأصبحت الموسيقى سلعة يمتهنها أنصاف المتعلمين ليصبحوا عازفين في الفنادق والكازينوهات، كما أصبح رواد هذه الأماكن سلعة أيضا عندما كانوا يتميزون بانتسابهم إلى هذه القبيلة أو تلك، ثم أصبحت أغاني الكاسيتات سلعة هي الأخرى، ألغت من فنها كل أصيل وتقدمي، واعتمدت موسيقى وكلمات وألحان عادية، بل وأوطأ من العادية، وإذا بصف المغنين يطول، وبالطلبات على توظيفهم في النوادي الليلية يطول هو الآخر، وهكذا تحول البلد إلى ورشة عمل لثقافة استهلاكية مادتها الثقافة الرديئة والمغنون السلعة، والجمهور الاستهلاكي اليومي فالمرحلة المعنية هنا، هي المرحلة التي جرى فيها الدمج بين ما هو ثقافي وما هو نقدي. فنشأت عبر وسائل الإنتاج – التي بدأت تستورد من الخارج لفتح استوديوهات وورش عمل ومطابع.. الخ – المتغيرة لغة محكية ويومية هي من أكثر اللغات ارتباطا بالعادي والشاذ والعابر والثانوي والاستهلاكي واليومي، مما يجعلها لغة تداولية كالسلعة التي تمتلك أحقية التكرار نتيجة لاستعمالها اليومي مما يحولها إلى سلطة تمارس قوتها بفاعلية حضورها المستمر والمهيمن بقوة المادة التي تشعيها وتذيعها. ويعطينا مثل هذا الوضع تصورا أن المحكيات الشفهية اليومية لا تحتاج قاموسية ومرجعية خصبة، ولا إلى مصدرية مسندة، ولا إلى معرفة واسعة ودقيقة بمكوناتها، وإنما كل ما تحتاجه إلى جس نبض الشارع اليومي بما يجس به من مشكلات اقتصادية ونفسية فتروح مؤلفة حولها نكات أو أقوال هي بمثابة الإسناد الفعلي لشيوعها، وغالبا ما تكون مادة الإسناد هذه إشاعة أو محاولة للدلالة على وضع سلطوي شاذ، أو تشخيصها لظاهرة سوقية – اذكر أن معد برنامج شعبي ويومي كان يتفاخر أنه يستلم مادة برنامجه اليومي من استعلامات القصر الجمهوري. مما يعني أن توسيع مجال النكتة اليومية الدالة يأتي من خلال الكلام المعبر عن حال، وعندما تصبح الحال معروفة، تتحول إلى كيان قابل للانشطار والتوسع والتغيير وتبديل الألفاظ، وإسباغ معاني عدة وهنا يأتي دور الراوي في الإضافة والتجديد.
*
لم يكن نشوء ظاهرة النكتة الفاحشة والبذيئة في العراق ، وشيوعها شيئا عابرا، أو حاجة أملتها ظروف آنية، بل هي ظاهرة معقدة نشأت بين أوساط العامة والمثقفين والجنود،وهذا يعني أنها تحاكي الفئات الوسطية من المجتمع خاصة شرائح الطبقة الوسطى، ويقف خلف شيوعها عوامل كثيرة منها الظروف الاجتماعية والاقتصادية المعقدة التي سببتها الحروب لهذه الشرائح الوسطية بحيث تخلى الكثير منها عن وظائفه المدنية ليلتحق بالجيش وبمؤسساته ضمانا لراتب أفضل ولامتيازات حزبية..، وعن تغييرات مهنية وعن تباين اجتماعي وظائفي ومناطقي. وعن تغيير ديموغرافي أصاب المدينة العراقية وعن عبثية الظروف التي مرّ العراق بها، فظاهرة مثل هذه برزت فجأة وبفترة قصيرة خلال أيام الحرب العراقية الإيرانية تحديدا ليست طبيعية ونمت في ظروف التنوع الثقافي والحرية اللفظية والعملية والتسامح وشيوع ظاهرة الجنس الذكوري، إن الجذور العميقة لها تفصح عن بنية شعبية ترتبط بالتنكيل وتقليل شأن الأخر،والدخول إلى خصوصياته بسلاح شعبي يراد به تحجيمه وتقليل من شأنه ومن ثم تبرير الأفعال التي يقومون بها ضد هؤلاء الذين عنتهم النكتة، ومن يتتبع ديموغرافية النكتة الفاحشة نجد وسط وجنوب العراق وحدهما المنطقتان المعنيتان بها،لا نجدها في النتائج المفتعلة والنسخ لنكات أجنبية طوعت لتلاءم الوقع العراقي، وإنما هي بنية ثقافية كامنة في المفارقة بين فئة شعبية وجدت نفسها مسحوقة تحت عجلة الحروب وفئة متنفذه تمتهن الإهانة ومن بينها النكتة على معارضيها ومن تعتقد أنهم بدلاء لها، ومن هنا نجد أن ظاهرة النكتة الفاحشة هي دفاع عن النفس أحيانا وأحينا جزء من اللعب السياسيين وفي أوقات الكثير التخفيف عن الوضع النفسي للشباب العراقيين أثناء فترة الحروب العبثية...كانت الناس تجد فيها إطارا عامة للتعبير عن حياتها الملتبسة خاصة وأن شروط هذه الحياة كانت ملحقة بالسلطة من حيث الأمن والوظائف والرواتب والأعياد والهبات والمكرمات حتى غدونا لا نستطيع ابتداع أو ابتكار أي شيء إلا بمباركة السلطة هذا الوضع شد كل الناس إلى قدرية واضحة استعاضت عن الله بالحكام وعن الدين بالعطايا وعن السلم بالحروب وعن الأمان بالتخويف وعن الجوع بالترهيب والترغيب، حياة لازمت وتلازم كل تحول جديد يحدث في المجتمع. فتسير معه مترافقة تارة، ومتقدمة أو متأخرة تارة أخرى. خاصة تلك التحولات التي ترتبط بصعود فئة سياسية ذات برنامج اقتصادي وسياسي – مهما كان نوع هذا البرنامج – فنجد الثقافة المرافقة لهذا البرنامج توظف نشاطات ثقافية توظيفا أحادي الجانب، تعكس بالضرورة التوجه الخاص لتلك الفئة ضمن هذه المرحلة أو تلك.
في ضوء ذلك تبدو معاينة النكتة الفاحشة والبذيئة ضمن هذا السياق مسألة معقدة بعض الشيء، فالجنس، وهو محورها، يرتبط أولا بالجسد هذا الكيان العضوي المستغل كآلة للحرب،ويشكل انتهاكه حتى لفظيا إلى مشكلة أخلاقية، فتحول إلى تكوين ساخر يمكن أن تلصق به كل الصفات الكريهة بعدما أصبح سلعة تتبادلها الحروب وساحات القتال، الجسد هذا التكوين المقدس يمتهن ببساطة بالإهمال بالتعري من حقائقه الإنسانية لأنه ما عاد محترما من قبل السلطة عندما يكون كساؤه صعبا وتغذيته تعبا وراحته بطرا وعلمه ترفا، الجسد في عرف السلطات كيان ممتهن مرهون لهم يتلاعبون به ما يشاءون يسوقونه للحروب أو يعطلونه عن العمل أو يحرمونه من ملذاته أو يجعلونه عالة على صاحبه فكيف إذا كان في البيت عدد من الأجساد المهملة العارية والجائعة والخائفة والمهددة بالموت والحروب والغلاء؟بمثل هذه الوضعية الممتهنة للجسد تتشكل لغة الاستهانة وما النكتة التي تجعل منه سلعة ولو بالكلام إلا طريقة لتدميره وإلغائه وسحقه تحت هيمنة قوى غامضة سرية وعلنية تحتاج إلى اسم أو مسمى كي يقال فيه وعنه الكلام الفاحش وكان الشخصية الفنية “.....” هي الغطاء العام لمثل هذه النعوت الملصقة بالجسد الدنس الجسد المخرب والمهان والمحقر فكانت أن أصبح المحمول وهو اسم” ...” حانلا لأمراض اجتماعية هي الفحشاء.بالبنى التحتية والفوقية للمجتمع معا. فهو عنصر مشترك بين كل الأحياء، ومادة تراثية ومعاصرة يمكن توظيفها توظيفا دراسيا خاصا. وما التمايز الذي يجعله مختلفا عند هذه الفئة أو تلك إلا تشخيصا وانعكاسا لفكرها ومنهجها إزاء الوظيفة التي يؤديها اجتماعيا وثقافيا.
فقد استعمل الجنس مصدرا لزيادة السكان، وبالتالي فهو ثروة قومية يمكن إنماؤها وتطورها، حيث الكثرة عاملا فاعلا على المستوى الديموغرافي والجغرافي معا، وعندما يزداد، وتفقد السيطرة عليه يتحول إنتاجه – الولادات – إلى عائق يعيق خطط التنمية والتطور الاجتماعي، فتفضي الحاجة إلى ابتداع الحروب والأوبئة لتقليل نسبة السكان – كما يرى مالتوس. وقد يكون الجنس عامل نقاء عرقي، ومفاخرة إقليمية – اقتصادية، خاصة إذا ارتبط بفلسفة مغيرة وكلية، فيدفع ببعض الساسة والطبقات إلى اعتباره عنصر قوة إلهية، وهو ما حاوله هتلر في فاشيته المعروفة. وقد يصبح الجنس جزءا من تأكيد محورية الفرد في العالم. خاصة بعد انهيار النظم والديانات التقليدية في أوروبا فتحول إلى عنصر تزييني – ترفيهي يلازم كل مدينة حديثة، وينشئ مصدر سياحة متطورا، كما هو حادث الآن في عدد كبير من مدن أوروبا الحديثة. وقد يصبح الجنس تجارة لرقيق أبيض أو أسود، مما يسبب أمراضا وأوضاعا خاصة يتطلب الأمر لعلاجها مصادر تمويل وبحوث هائلة... الخ.
ضمن هذه المسيرة المعقدة للجنس، نجده، وبخاصة في مجتمع مثل مجتمعنا الشرقي – شبه محافظ، شبه منفتح – عامل قلق مستمر، وليس على مستوى الدراسة والتعليم فقط، وإنما على مستوى الحرية واثبات الشخصية الوطنية، وبالتالي على جعله نموذجا قلقا لكل مشروع ثقافي واقتصادي وسياسي.
في ضوء ذلك تحتم علينا ظاهرة النكتة الفاحشة والبذيئة، التخلي كليا عن الطرح الآني، والسريع لأسباب ظهورها أو اختفائها. فالمظهر الثقافي الذي يرافق التوظيف الجنسي توظيفا طبقيا واجتماعيا، يكشف لنا عن تباين مستويات التفكير. ففي أوروبا مثلا هناك قنوات تلفزيونية ودور سينما، وآلية إنتاج كبيرة لأفلام ومسلسلات الجنس، بينما لا يكون مثل هذا متوفرا للبلدان النامية، وذات الطبيعة الاجتماعية المحافظة ميسرا، مما يفرض الواقع ظهور أدوات ثقافية أقل انتشارا، من بينها ظاهرة النكتة الشفاهة، أو الظاهرة الشفهية بشكل عام، النكتة البذيئة والفاحشة جزء منها.
وفي مجتمعنا، الذي شهد صعود فئات اجتماعية محافظة في تفكيرها الديني، متطلعة لبناء نهضة عمرانية وثقافية، وظفت الجنس توظيفا لا منهجيا مما عكس تذبذب خطابها الفكري والسياسي، وبالتالي أعطى تصورا عن فقدان أي تخطيط منهجي لاستعمال الجنس ضمن المسار التنموي المنشود.
لذلك لا يمكننا القول أن عامل الحرب الذي دام ثماني سنوات بين العراق وإيران كان هو السبب الذي أوجب وجود مثل هذه النكات، فما كان من ثقل الزمن الحربي على النفوس إلا أن جعل الناس يتندرون ويتفكهون بالجنس كنوع من فكاهة الصحب، أو لقضاء الوقت، أو للتسلية ونسيان ما يحدث. وإنما يصح القول إن الحرب والنكتة الفاحشة والبذيئة جزء من تكوين ثقافي – اقتصادي مشوه البنية، فما كان من الحرب إلا أن فجرت اللسان الشفهي ليس في مجال النكتة فقط، وإنما في مجال الأغنية، والفن التشكيلي والشعر، والعمارة، وتخطيط المدن، والتسويق، والصناعات والثقافة بوجه عام، فالحرب لوحدها يمكن أن تؤلف نشاطا ساخرا بوصفها تعبيرا عن سياسة متحكمة وأيديولوجية مارست ثقلها على المجتمع ضمن مرحلة معقدة من مراحل نمو وتطور مجتمعنا. من هنا يمكن عد الحرب والنكتة الفاحشة معا عوامل تدميرية للبنى الثقافية والمعرفية الحقيقية، ولكن لم يكن بمقدور هذه البنى مزاحمة التوجهات المرحلية التي تترافق مع تهيئة كاملة لنقل المجتمع من حال البناء والعمران، إلى حال التدمير والانكسار.
ومع ذلك كله، فلا يعد ارتباط النكتة بصعود فئات اجتماعية معينة إلى مراكز السلطة، فمثل هذا تفسير تبسيطي للظاهرة، وإن كانت جزء من العقلية القبلية، والشوفينية التي تدعيها بعض هذه الفئات، وإنما يكتشف دارس الثقافة الشفهية، يجد مصادرها الأنثروبولوجية– أي النكتة – قديمة قدم الدين، واللغة، والأنثروبولوجيا، وتكون المجتمعات، فالنكتة بشكل عام، والنكتة الفاحشة – البذيئة بوجه خاص نتاج ثقافي لتطور اجتماعي معقد، ليس كل مظاهر هذا التطور جديدة، وإنما بعضها جديد، وبعضها متطور عن قديم يمتلك أحقية بالاستمرار، وبعضها نشأ مرحليا. ومرحلة نشوء المجتمع المدني، تفرض مثل هذه الظواهر العرضية. مما يعني أن معاينة جذورها القديمة ينجينا من السقوط في التفسير الآني السريع. فالنكتة الفاحشة – البذيئة ترتبط بمدى حاجة الفئات المهيمنة على تبرير سياستها ومواقفها، ولذا فهي ليست أحادية، ولا هي نقية الشكل والمحتوى، بل إن شأنها – إبداعيا – شأن أي إنتاج ثقافي – اقتصادي يخضع لعوامل العرض والطلب، ولها أسواقها التي تمارس من خلالها فعل الانتشار وتحقيق الهدف. فنجدها تزدهر في مرحلة عندما يكون الشكل التعبيري لها ملائما للوضع النفسي، وتختفي مرحلة أخرى عندما يسود من يمنع ثقافتها. من هنا يمكننا القول: إن النكتة الفاحشة – البذيئة، لها خصوصية فنية تجعلها مشاعة ضمن ظروف، ومختفية ضمن ظروف أخرى.
ولكن هل ترتبط النكتة الفاحشة والبذيئة بظروف بلد ما وحده، أم أنها جزء من ظاهرة عالمية، خارجية وداخلية معا. شأنها شأن أي منتج ثقافي يمكن استنساخه وتعميمه. وبالتالي لقياس مدى التفاعلات التي يحدثها في كل بيئة أملا في تشذيب أو تقوية عناصره.
فعلى المستوى الدولي، شهدت السنوات الخمسين الماضية تداخلات كبرى بين الأنظمة والبلدان، فهناك حروب اقتصادية خلقت لها حروب موضعية وداخلية، وباردة، كان من نتيجتها أن فرزت على مختلف الساحات، بما فيها الساحة العربية، أنماطا من الفئات الاجتماعية المرتبطة بحركة الاقتصاد العالمي وحروبه الباردة، وكان من شأن هذا الارتباط أن تمكنت هذه الفئات من السيطرة بفعل حركات عسكرية أو انقلابات للهيمنة السياسية، وبالتالي الاندماج بحركة السوق العالمية، وكان من شأن هذه العملية أنها عكست جانبا من تلك الصراعات الدولية في المنطقة العربية التي يشكل النفط عصب الاقتصاد العالمي. والمتتبع للظاهرة الانقلابية في المجتمعات العربية، وما رافقها من قمع لقوى التحرر والأحزاب الماركسية بالذات، يجد أن الظاهرة كانت من الدقة والتخطيط ما يجعل مفهوم البرجوازية عندنا مفهوما شائبا، لأنها لم تخضع إلى قوانين وجودها المادية والثورية، وإنما خضعت لهيمنة تفكير أحادي هو خليط من البنى التراثية والدينية والعسكرية وشبه الإقطاعية والعشائرية. وهذا ما دفع هذه القوى عندما تسلمت مقاليد الحكم في عدد من البلدان إلى تبني خطة تنمية معرفية، هي تنمية أجهزة القمع البوليسية وتقوية المؤسسة العسكرية، والاستيلاء اللاعقلاني على الثروات المعدنية والبشرية. مما يعني أن أي تحولات جذرية في البنية التحتية للمجتمع وما يرافقها من نمو للدخل القومي ونشوء الطبقات الاجتماعية الفاعلة غير معنية بها، فالتنمية بكل فروعها لم تكن هي المعنية بالتغيير، فمن شأنه أن يجعل كل الفئات لحاكمة متعلقة بتسويق أطروحات السياسة الدولية المتناقضة على ساحتها المحلية، فتجدها تتبنى الاشتراكية في برامجها السياسية والاقتصادية المعلنة، وفي الوقت نفسه تغرق السوق بالحاجات المصنعة في دول أوروبا واليابان، وتفتح مجالا للتداخل بين الأسواق الخاصة والتجارة ضمن الشركات المتعددة الجنسيات. ولا يعدم التوجه المزدوج هذا من استنهاض كل القيم الايجابية في التراث والدين من اجل تسويغ وإضفاء طابع الشرعية على كل الأعمال التي تقوم بها. فما كان من الفئات الحاكمة إلا أن أسندت مصادر بقائها بقوى اقتصادية وأمنية، فأنشأت حولها دوائر أمن وحرس ومؤسسات علنية وسرية، وأطلقت يدها في المجتمع وفي الثقافة وفي الاقتصاد، ومكنتها من الاستيلاء على الأرض والناس بقوة القوانين التي تسن من الأعلى بعد أن عطّل الدستور وألغى البرلمان ومجالس الشعب والصحافة والآراء المعارضة. فما كان إلا أن أصبح أي تقدم جديد إلا من قبيل الهبة أو المكرمة التي تمن بها المؤسسة العسكرية الاقتصادية على الشعب.
كما شهدت المرحلة نفسها ثورة تكنولوجية هائلة، في ميادين الاتصال والتصنيع سهلت لعدد كبير من العمليات الداخلية والموضعية لأن ترتبط بحركة السوق العالمية فسهلت عملية الانتشار والتسويق وأصبحت وسائل الأعلام المرئية والمسموعة في متناول الجميع – أعني هنا جميع أبناء الفئة الحاكمة – فشاع الفيديو وأفلام الجنس والفوتوغراف وأصبحت ظاهرة استنساخ الثقافة وتوزيعها بدلا من إنتاجها المعرفي، هي العملية الشائعة في ميادين عدة. كما تطورت العقلية التجارية باستخدام كل فروع المعرفة استخداما اقتصاديا جاعلين من الأرضية الاجتماعية أدوات استهلاله وتعريف، دون أن يؤسسوا بنية مرافعة لكل تطور جديد لتشكيل أرضية مهيأة لتقبل الظاهرة الاتصالية أولا، ومن هضمها وتمثلها في الجسد الاجتماعي والثقافي ثانيا. مثل ما يكون للتقدم نمو وتطور حقيقيين، يكون للتخلف نمو وتطور حقيقيين أيضا ولكن باتجاه الإبقاء على الفجوة بين الشرق والغرب، وفي هذه الفجوة نجد حركة السوق من التقدم إلى التخلف، وهي تنشئ في مراكزها التسويقية بنى عقلية وثورية، وتؤسس في مراكزها الاستهلاكية بنى لا عقلانية ولا ثورية، هكذا نشأ الجيل الجديد من الشباب وهم يتمثلون بمظاهر الغرب الرأسمالي، دون أن تكون لهم عدة ثقافية توازي التمرد الذي ينشدونه في ترسيخ طماحهم الجديد، والفجوة بين ثقافة الأجيال والثورة الاتصالية الكبيرة تؤسس أنظمتها المعرفية باستمرار، هذه الأنظمة التي تجعل من حقيقة تغيب الوعي عن هذه الأجيال سلاحا بيد الحكام، فالوعي المغيب هذه المرة ليس بفاعلية وهيمنة القوى الدينية أو السلفية مثلا، وإنما بفعل الفجوة بين أدوات الاتصال وثقافة الأجيال في بلداننا. والقصد من وراء ذلك كله، هو إبقاء بنية السلطة اللاطبقية معتمدة على قواها الموروثة: العسكرة الاجتماعية والهيمنة على رأس المال، والسيطرة على السوق، وتقوية مراكز ومنشآت حمايتها الذاتية.
فما كان من هذا الوضع المربك والمعقد إلا أن أحدث النقل العشوائي في الاستيراد والتثقيف، الذي من نتائجه التفكك الأسري والديني معا. فأشاع الفيديو ثقافة أفلام الجنس إلى جانب الثقافة المدرسية والفكرية الأخرى، وتوسع التأثير باتساع فاعلية النقد والقوة الشرائية لشرائح لم تكن مهيأة لأن تختصر الفجوة، فأصبح الإنتاج الثقافي المحلي عرضة للتشويه وصناعة تفتقد هويتها، وأعيد تركيب الوعي الثقافي من خلال أن الموروث وحده هو القوة الفاعلة في كبح جماح هذه الثورة، فما كان من هذا المسعى إلا السقوط في الهوة نفسها، وهكذا عاشت المجتمعات العربية بين قوتي جذب، إحداهما تشده إلى ثقافة الاستهلاك اليومي، وأخرى تشده إلى الماضي وقيمه، وكلتا القوتين مدفوعتان من قبل المؤسسة الحاكمة نفسها. فأصبح الهدف الإعلامي، ليس النقل فقط، وإنما البحث عن خصوصيات محلية تتلاءم والمسعى إلى التخلف، فما كان من الماضي والتراث وكل المقولات القديمة إلا أن أصبحت قوى فاعلة ليس في بناء المخيلة المرتبطة بالتجديد، وإنما بتحويل التجديد إلى بنى كامنة في ذلك الماضي وبالتالي فإننا نبقى ندور في الحلقة ذاتها، ولكن في كل دورة جديدة لنا تعميق خط الدائرة، وليس تغييره. وهكذا تحول الماضي وتراثه، والحاضر وتقنيته بيد السلطات الحاكمة وأجهزتها الأيديولوجية إلى بنى قامعة للحاضر وللتقدم، فمهمتها إشاعة ثقافة استهلاكية يومية ترتبط بعملية التقنية العالمية، وفي الوقت نفسه تؤكد أن لا حقيقة جديدة، غير حقيقة فكر ونمط حياة الفئة الحاكمة وثقافتها المعلنة بقوة القانون.
وعلى المستوى الداخلي، شهد العراق – وهو موضوع النكتة الفاحشة – البذيئة – نهوضا متناميا على مختلف الأصعدة، رافق هذا النهوض عودة لأساليب قول ثقافية وشفوية ما كان لها أن تعود لولا الظروف الموضوعية التي خلقتها الحرب. والأساليب ذات طابع فردي، وترتبط بمنحى ذاتي، في الخطاب وفي المخاطب. وهي الأساليب نفسها التي كانت سائدة في زمن الخلفاء والولاة، بمعنى أن الأساليب، وخلال تطورها النوعي تنتقل بالثقافة المتضمنة لها من البعد الفردي، إلى البعد الجماعي، وعلى المستويين: المبدع والمتلقي، مع بقاء الخصوصية في كلا المجالين.. إلا أننا شهدنا عودة إلى الأساليب القديمة التي كانت موجهة للفرد، أو لفئة معينة محددة ويراد بها التوجه بخطابها إلى الجماعة دون أن تعتمد بنية الجماعة. إن عودة القصيدة العمودية المفاخرة والمادحة والذامة، والإخوانية والغزلية، والمعبأة بصياغات القبيلة المعاصرة، والتواريخ الشخصية والمجمدة لحركة التاريخ، هي عودة واقعية لأغراض القصيدة القديمة، فأصبحت هي النمط الثقافي السائد للواجهة الإعلامية والإبداعية في مرحلة الحرب، فالعودة إلى القصيدة العمودية عودة فرضتها الأغراض نفسها، وليس الطابع البنائي الخاص لها، والمحدد بالوزن والقافية. فالماضي هو الحقيقة ليس على مستوى التفكير والأيديولوجي، وإنما ليس الحاضر من وجود للتراكم فيه، فهو نسخة مكررة من ماض، وعليه فالثقافة الجديدة ثقافة الماضي دائما، وهكذا شاع في فترة الحرب، الزجل، والرجز، والغناء القبلي بالمفاخر، والتأليه للألقاب والأنساب، والمفاخرة بحروبنا القديمة، واعتماد أحادية منهجية في الفكر طريقا لبقاء التراث حيا بالاستنساخ المعاصر، وهكذا جرى البحث عن واحديه تاريخية، وطريق خاص لا يشبه أحدا، وإنتاج ثقافة – لا يفسرها لنا الآخرون – وقد رافق هذه النغمة التحديثية – التراجعية، عودة إلى الأزياء القديمة، والمطبخ القديم، والبناء القديم، وهكذا نشأت فجوة أخرى أكثر اتساعا، بين نتاج ثقافي نما خلال عقدي الستينات والسبعينات وهو نتاج تقدمي وثوري، وبين نتاج ثقافي فرض قسرا خلال عقد الثمانينات محاولة حساسية مرتدة ليس لمعاينة الواقع وحركته، وإنما في صلب العملية الإبداعية وهذا ما ولد كتابات متناقضة ومتباعدة، بعضها امتهن التاريخ للكتابة، وبعضها امتحن الحاضر للكتابة.. كتابات التاريخ وحدها كانت تجد طريقها للنشر.
ما دفعني للكتابة عن النكتة الفاحشة- البذيئة، حقيقتان:
الأولى: إن النكتة الفاحشة – البذيئة أصبحت جزءا من خطاب شفاهي شعبي نشأ هذا الخطاب ونما في مرحلة التشيؤ الاقتصادي – الثقافي، وأعني بها المرحلة التي سبقت الحرب العراقية الإيرانية وما زالت مستمرة، ومن خصوصيات هذه المرحلة أنها شهدت تحولات جذرية على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية بعد تأميم النفط عام 1972. ومن ملامح تلك الفترة أن العراق كله كان ورشة عمل كبرى، وجرى استقدام ملايين الشغيلة من البلدان العربية والآسيوية فأصبحت العمالة لوحدها مظهرا ديموغرافيا كبيرا. ومن شهد العراق في تلك الفترة كان يعرف بالضبط ماذا تعني التنمية العشوائية والبناء اللامخطط، وهذه القفزة الاقتصادية الكبرى في موارد النفط لم تأخذ حقها في التعبير على مختلف المستويات. ففي الوقت الذي انعدمت فيه أية مظاهر نهضوية في ميادين التعليم والثقافة والبحوث والإعلام والفلسفة والمجتمع وبالتالي في الجامعات والمؤسسات العلمية، شهدت مرافق أخرى نهوضا، فالمؤسسة العسكرية والأمنية، وفي خضم هذه العملية الجدلية المربكة، صعدت فئات اجتماعية إلى مصاف الطبقة البرجوازية، أولا، ثم انتقلت إلى الطبقة الرأسمالية المهيمنة على المقاولات والتشييد والزراعة والأسواق، وكان يتم أغناء الشرائح الملحقة بهذه الفئات الصاعدة من خلال تخصيص مراكز عمل مريحة لها، أصبحت فاعليتها مباشرة ومرئية بفعل القوانين والقرارات التي كانت تسن لحماية هذه المراكز، وكان من نتيجة ذلك أن أدخلت في نسيج المجتمع الجديد أفعال وسلوك هذه الفئات التي تحولت لاحقا إلى مظاهر ثقافية – احتفالية كرس لها الجهاز الإعلامي قنوات بثه وكتابه. وحصيلة هذه القفزة المالية أن نشأت فئات طفيلية هددت ليس بنية المجتمع الراسخ، وإنما نفسها عندما وجدت أنها غير قادرة على مواكبة التجديد في أطروحاتها، فما كان منها إلا أن بقيت حبيسة أيديولوجيتها السابقة مكتفية بإشارات مظهرية دالة على سلطتها المسندة. وهكذا أصبحت كل المنتجات الثقافية بما فيها الكتابة خاضعة للمسابقة والمهرجانية والندوات والاحتفالية والجوائز، رافق ذلك كله نهوض عشوائي في فتح آلاف المحلات لبيع الخمر والمشروبات، مع عشرات الفنادق والكازينوهات التي استقدمت آلاف الراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات من مختلف دول العالم، بمعنى أن الاستهلاك اليومي للثقافة الناشئة بفعل التضخم المالي والاقتصادي وانفتاح السوق على العمالة بكل فروعها قد ولد مستهلكا يوميا يشبه نفسه في مرحلة كهذه بالسلعة، فأصبح الفنانون سلعة تداولها محلات الغناء والفنادق، وأصبحت الموسيقى سلعة يمتهنها أنصاف المتعلمين ليصبحوا عازفين في الفنادق والكازينوهات، كما أصبح رواد هذه الأماكن سلعة أيضا عندما كانوا يتميزون بانتسابهم إلى هذه القبيلة أو تلك، ثم أصبحت أغاني الكاسيتات سلعة هي الأخرى، ألغت من فنها كل أصيل وتقدمي، واعتمدت موسيقى وكلمات وألحان عادية، بل وأوطأ من العادية، وإذا بصف المغنين يطول، وبالطلبات على توظيفهم في النوادي الليلية يطول هو الآخر، وهكذا تحول البلد إلى ورشة عمل لثقافة استهلاكية مادتها الثقافة الرديئة والمغنون السلعة، والجمهور الاستهلاكي اليومي فالمرحلة المعنية هنا، هي المرحلة التي جرى فيها الدمج بين ما هو ثقافي وما هو نقدي. فنشأت عبر وسائل الإنتاج – التي بدأت تستورد من الخارج لفتح استوديوهات وورش عمل ومطابع.. الخ – المتغيرة لغة محكية ويومية هي من أكثر اللغات ارتباطا بالعادي والشاذ والعابر والثانوي والاستهلاكي واليومي، مما يجعلها لغة تداولية كالسلعة التي تمتلك أحقية التكرار نتيجة لاستعمالها اليومي مما يحولها إلى سلطة تمارس قوتها بفاعلية حضورها المستمر والمهيمن بقوة المادة التي تشعيها وتذيعها. ويعطينا مثل هذا الوضع تصورا أن المحكيات الشفهية اليومية لا تحتاج قاموسية ومرجعية خصبة، ولا إلى مصدرية مسندة، ولا إلى معرفة واسعة ودقيقة بمكوناتها، وإنما كل ما تحتاجه إلى جس نبض الشارع اليومي بما يجس به من مشكلات اقتصادية ونفسية فتروح مؤلفة حولها نكات أو أقوال هي بمثابة الإسناد الفعلي لشيوعها، وغالبا ما تكون مادة الإسناد هذه إشاعة أو محاولة للدلالة على وضع سلطوي شاذ، أو تشخيصها لظاهرة سوقية – اذكر أن معد برنامج شعبي ويومي كان يتفاخر أنه يستلم مادة برنامجه اليومي من استعلامات القصر الجمهوري. مما يعني أن توسيع مجال النكتة اليومية الدالة يأتي من خلال الكلام المعبر عن حال، وعندما تصبح الحال معروفة، تتحول إلى كيان قابل للانشطار والتوسع والتغيير وتبديل الألفاظ، وإسباغ معاني عدة وهنا يأتي دور الراوي في الإضافة والتجديد.
*
صورة مفقودة