نقوس المهدي
كاتب
كثيراً ما شكل "الجسد" موضوعاً للبحث في ميادين مختلفة .. بيولوجية وسيكولوجية وأنطولوجية (وجودية) .. وسوسيولوجية (اجتماعية) وغير ذلك .. وبرأينا أن كثيراً من الاختلافات الأخلاقية والاجتماعية والنفسية بين الفكرين الغربي والإسلامي يمكن أن تتجلى في الجسد .. أو تنبثق من اختلاف الرؤية للجسد والذات .. ومنطق حقوق الإنسان قائم أصلاً على تحقيق كل رغبات هذا الجسد وتحرره وسيادته في آن واحد من دون أي قيد .. سواء كان دينياً أم قانونياً .. حتى منطق التفوق والهيمنة يستند إلى مبدأ السيطرة على الجسد الآخر والتحكم فيه لتلبية مطالب (الذات/الجسد) ..
الجنس في المكونات المختلفة :
وعند الحديث عن الجنس في الفكر الغربي الحديث لا بد من استرجاع تلك الجذور التي كانت تشكل خيارات سابقة طرأت عليها تبدلات وتطورات مختلفة ..
ففي المكون المسيحي : يرتبط الجنس بالدنس والخطيئة .. والبعد عن الله والطهارة ومعالي الأمور .. وكانت المرأة رمزاً للغواية .. وسبيلاً للشيطان الذي يهتم باجتذاب الرجل إلى فعل الشر .. حتى إن بعض التفسيرات المبكرة لسلوك ارتداء بعض الذكور لملابس النساء ـ بما يعد اليوم تعبيراً جنسياً ـ أنه يقصد إلى إبعاد الشيطان لأنه لا يهتم بإغواء المرأة .. وكأنها طبقاً لهذا التصور أقل من أن تستحق حتى الغواية .. أو لأنها لا تحتاج إلى غواية لأنها من أدواتها !! ..
وفي المكون الفلسفي اليوناني : فإن قصة من تراث أفلاطون تقول : بأن الخلق جميعاً كانوا يجمعون بين الخصائص الأنثوية والذكرية في كينونة واحدة .. وقد قويت هذه الكينونة لدرجة أن تمردت على الخالق !! .. وفي إطار الصراع والتحدي قسَّمها الإله "زيوس" إلى طبيعتين وكيانين .. فأصبح الرجل والمرأة كيانين منفصلين .. ومن وقتها تتجه عواطف كل جنس إلى الآخر ليتّحدا من جديد "ضد مشيئة الإله"!! ..
أما المكون الفرويدي : فانبثق عن هذا المناخ .. وعلى هذه الخلفيات ليُحلّل .. ويفسر الواقع والرغبات والأفعال بنظريات تتحدث عن الوعي واللاوعي .. والكبت .. وعن الذات .. والأنا العليا وغيرها من الأطروحات الفرويدية الشهيرة والمهمة ..
والمكون الدارويني : هو الرافد الذي ما يزال يكمُن حتى الآن في الخطاب الغربي عن الجنس الذي يقارن دوماً بين السلوك الجنسي في الأجناس والكائنات المختلفة .. ويعتبره في الإنسان مجرد تطور أو رُقي في تعبيراته وطقوسه .. لكنه أصلاً يرتبط بالسلوك الحيواني ويمكن فهمه ولو جزئياً بدراسة هذا السلوك ومراقبته وتحليله ..
وبالجملة فإن المكون الذي يُمكن تسميته بالعلماني في تطوره وتجلياته .. ويمكن تسميته بالحداثي في فلسفته وأدواته .. يسهم في تشكيل الموقف من الجنس في الثقافة والحضارة الغربية على نحو سنتعرّض له من خلال ما كتبه د.أحمد عبدالله في دراسة مطولة .. (تصورات الجسد والجنس .. كيف تحولت من رمز لعالم المادة السفلي .. إلى ممارسة الجنس الإلكتروني في عصر الإنترنت) .. ودراسة أخرى حملت عنوان (تصورات الجسد والجنس : رؤية نفسية (مع إضافات تتصل بالموضوع)) ..
كان القرن التاسع عشر قرن الحب الرومانسي .. وكان شعاره "الحب يجعل العالم يدور" .. ورؤيته الجوهرية أنه لا يوجد ما هو أهم من عاشقين يعيشان في سعادة .. وكانت الأعمال الأدبية حافلة بذلك .. وحين تجرأ "فلوبير" على كتابة "مدام بوفاري" حظي بنقد عنيف كما حدث مع "إبسن" حيث كتب "بيت الدمية" وكان جوهر رسالتها أن "كل هذا الحب الرومانسي كذبة سخيفة .. فالحياة قد خلقت لما هو أهم من ذلك بكثير " .. لكنه لم يقل ـ في حينها ـ ما هو ذلك الأهم ! ..
ثم بدأت ثورة التحرر الجنسي تشق طريقها بصعوبة في البداية .. ولكن بخطوات متدرجة ومتصاعدة .. ولما جاء "لورنس" تحدث بصراحة عما يراه أهم ما يمكن أن يحدث للرجل والمرأة ـ وهو الجنس ـ وذلك يبدو واضحاً في "عشيق الليدي تشاترلي" .. وقد صدم "جيمس جويس" الكثيرين ببذاءة "عوليس" .. وكان يوماً مشهوداً وتحولاً مهمًا حين سمح القانون بالنشر العلني لهذه الرواية سنة 1930م ..
ثم تطور الأدب الذي يتناول موضوع الجنس والجسد حتى وصل إلى الإغراق في تفاصيل العنف ومشاهد الدم وعدم ترك شيء لمخيلة القارئ كما كان يفعل "لورنس" وغيره .. (كان القرن التاسع عشر قرن الحب الرومانسي .. وكان شعاره "الحب يجعل العالم يدور" .. ورؤيته الجوهرية أنه لا يوجد ما هو أهم من عاشقين يعيشان في سعادة) .. كما حدث تطور هائل في "صناعة المعاني" وأدواتها فنشأت ثقافة "الصورة" التي طغت بعد ذلك بأسلوب تعبيرها عن الجنس وعرضها للجسد .. فهي تقوم على الإبهار البصري باستخدام أحدث التقنيات في خلق واقع أبهى من الحقيقي .. وأصبح الجسد في العالم صورة .. وقد أثرت ثقافة الصورة هذه على الخيال الذي أصبحت وظيفته ـ في الغالب ـ لا تتعدى إعادة إنتاج وفك وتركيب صور رآها من قبل .. وبهذا تم الانتقال ـ في تاريخ الجنس ـ من الأدب المكشوف إلى الصورة المشخصة ..
فنون صناعة الجسد :
ومع انتشار ثقافة الصورة تزايدت فنون صناعة الجسد وفنون الاهتمام باللذة الجنسية ومستلزماتها .. يظهر ذلك من خلال التطور الهائل في فنون وعلوم الإعلان والتجميل والموضة والعطور ومسابقات ملكات الجمال وتطور أشكال الملابس الداخلية والخارجية والإكسسوارات .. وأصبح التأكيد مُلِحَّاً ـ عبر الوسائل الإعلامية المختلفة ـ على سيادة رموز الفن والسياسة وغيرهما كنجوم "لهم أجساد" متميزة وجميلة ومكتملة .. يُنظر إليها من بُعد .. ويشار إليها بالبنان ! .. فبعد أن كان الجنس والجسد يخضعان للثقافة السائدة والتي يساهم في تشكيلها الدين والعرف الاجتماعي أصبح الجسد والجنس هما الثقافة السائدة بالتحالف مع العقل المادي الساعي لتعظيم اللذة والربح وتقديمهما على كل هدف آخر .. ويمكن الحديث اليوم عن عشرة ملايين أمريكي مصابين بإدمان الجنس .. بمعنى عدم القدرة على السيطرة على السلوك الجنسي ! ..
إن الجنس وذروته المتمثلة في "الشبق" هو قمة التحقق لمبدأ اللذة "هنا .. والآن" .. ويمكن الحديث عن "الشبقية" أو قمة النجاح واللذة والتحقق كهاجس مهم من هواجس إنسان العالم المعاصر .. فإن الجنس هنا يحقق التغطية على مشاعر وتساؤلات وجودية مقلقة وغير مرغوبة عن جدوى الحياة ومعناها .. ويمثل إمكانية كبرى للهروب من مشاكلها .. علاوة على البهجة التي يشيعها مثل : "المخدر اللذيذ القاتل" .. وليس من قبيل المصادفة أن تعرض المجلات التي تتناول فنون الجنس والجسد تحت عنوان life style .. وهنا نجد أن الجنس تعدى كونه نشاطاً إنسانياً منضبطاً إلى "نمط حياة" ! ..
ومما يتصل بذلك أن الاضطرابات النفسية وصلت إلى مستويات وبائية في أوساط المراهقات في العالم الغربي .. بأثر من هجسهن بامتلاك أجساد "مقولبة" على نمط ما تقدمه وسائط الإعلام العام حسب البروفسورة سوزي أورباخ ..
ثقافة الصورة :
الأمر ليس فيه مبالغة .. فصعود "ثقافة الصورة" في القرن العشرين وصل إلى ذروته في وسائل الإعلام المرئية التي تقدم عارضات الأزياء وملكات الجمال .. بأجسادهن الناحلة المقدودة حسب مقاييس دور الأزياء (صاحبة المرجعية في هذا !!) .. والتي تسهم إلى حد كبير في صياغة وتشكيل التصور العام عن المواصفات "السوبر" للجسد النسوي المثال .. ولهذا دأب مؤتمر انعقد في لندن 2001 بخصوص هذا الشأن على دعوة ممثلين من دور الأزياء العالمية .. للمشاركة في أعمال المؤتمر .. إضافة إلى ممثلي الصحف النسائية ..
وتشير الأرقام (حسب الحياة اللندنية) إلى أن 80 في المئة من المراهقات لا يشعرن بالرضى عن صورة أجسادهن .. وأن 75 في المئة منهن يشعرن بالبدانة .. على رغم عدم بعدهن عن الوزن الصحي ..
وتمضي المراهقات ما متوسطه بين 3 ساعات و 4 ساعات يومياً .. أمام شاشات التلفزة التي تُعد من أهم مصادر المعلومات لهن .. وتظهر الإحصاءات أن 60 في المئة من المراهقات يحتفظن بمجلة نسائية واحدة على الأقل .. وأن إعلانات عن وسائل مختلفة لإنقاص الوزن تظهر بمعدل 105 أضعاف عنها في المجلات المخصصة للرجال .. وتمتدح كل مقالات المجلات النسوية الجسد النحيل .. وتحض 75 في المئة منها على اعتبار النحافة مساوية للجاذبية الأنثوية ..
إنه لا يمكن الحديث عن الجنس دون التعرض لجسد المرأة ودوره في تحولات الجنس التي طرأت .. ففي الماضي كانت "الأمومة" هي الدور الذي تطمح إليه المرأة لتصبح رمزاً للعطاء .. ومن هذا الدور كانت تستمد سلطتها وسطوتها داخل البيت وخارجه .. لكن هذا الدور أصبح يُنظر إليه على أنه "تقليدي" بمعنى الازدراء لأنه مرتبط بالخضوع للرجل .. لذلك ارتبط الانعتاق من سلطة الرجل والأسرة بالتحرر وتحسين وضع المرأة وحرية المرأة في التصرف بجسدها .. وهذه الحرية لا تعني ممارسة الجنس الحر فقط .. وإنما تشكيل جسدها كما تريد (أو هكذا تتصور) .. لأنها في الواقع تشكله كما يريد غيرها من الإعلاميين ومنتجي ثقافة الجنس ..
ولذلك كان ـ كما ترى د. ميرفت عبد الناصر ـ ثمة علاقة بين بروز الحركة النسوية في منتصف القرن التاسع عشر .. وبين بروز الاتجاه لضبط الوزن والنحافة كتحد للسمنة (المرتبطة بالخصوبة) .. في حين ترتبط الرشاقة بالجمال المثير للشهوة .. وأصبح النجاح في اكتساب قوام رشيق يعد إنجازاً هائلاً يستدعي الحفاظ عليه بالتمارين الرياضية والوصفات الغذائية وغير ذلك مما أدى إلى شيوع كثير من الأمراض ـ حسب د. ميرفت ـ المتعلقة بالغذاء في أوروبا وأمريكا وغيرها من الدول الصناعية .. ثم انتشرت في عدد من الدول النامية بتأثير العولمة ..
وتحرر المرأة بسيطرتها على جسدها يتناول أيضاً البحث عن "الإشباع الجنسي الذاتي" دون الحاجة إلى شريك .. خاصة مع إمكانية الحمل دون رجل .. وبهذا كانت السيطرة دون الرجل أو في العلاقة مع الرجل جوهر فكرة التحرر المعاصر للمرأة ..
لقد تم استخدام جسد المرأة محوراً للأنشطة التجارية والإعلامية الواسعة التي تتخذ من الجنس نمطاً للحياة .. وبهذا تم تهميش المرأة واحتقارها .. لكن بأسلوب (عصري) لأن الأسلوب السابق (الأمومة) أضحى تقليدياً كما أن فيه مهانة للمرأة !! .. من هنا تم وضع معايير محددة للجمال ومقاييس محددة للجسد الجميل في لونه وأبعاده وتقاسيمه وما يظهر منه وما يختفي .. وهنا بدأ النظر إلى الجسد بوصفه ميداناً للبحث عن القوانين البيولوجية الحاكمة .. وحين تمكن العلماء من تشريحه واكتشاف قوانينه تحول النظر إلى الجسد بوصفه مجالاً للسيطرة على تلك القوانين .. وبها .. وساد الاعتقاد بأن الجسد ملك خاص بصاحبه وأنه مكوّن من أنسجة وتفاعلات تقوم بوظائف يمكن التدخل بها بدءاً بالهندسة الوراثية وانتهاء بالطموح إلى تصنيع الخلايا وغيرها .. وفي هذا السياق تأتي عمليات التجميل ضمن أدوات التحكم بالجسد وفق المقاييس المحددة مسبقاً (للجسد / المثال) .. كما تم إدخال بعض جراحات التجميل إلى بنود التأمين الصحي في أمريكا ..
من جماليات الفن إلى مقتضيات التوظيف :
والآن انتقل جسد المرأة من جماليات الفن إلى مقتضيات التوظيف في عالم المال .. حيث إن قطاع الإنتاج يتعامل مع المرأة كجسد بلا عقل .. ويشترط ـ في الدرجة الأولى ـ جمال الهيئة والمؤهلات الجسدية في التعامل مع الزبون في شركات الطيران والسكرتارية ومندوبات المبيعات وغير ذلك فيكون الجسد هو أداة التواصل بين المالك والزبون .. وتتشدد بعض الشركات فتشترط عزوبية المضيفة مثلاً .. لأن العمل يريد جسداً متفرغاً بالكلية ! ..
بل إن الأمر لا يقتصر على ذلك .. ففي الفن نجد أن "النجومية" مرهونة بامتلاك جسد تنطبق عليه المقاييس ! .. تقول نجمة مشهورة مخضرمة : "كنا في الماضي على استعداد لإقامة علاقة مع من يوصلنا إلى الوقوف أمام الكاميرا ونعتبر هذا في سبيل الفن .. أما فتيات اليوم فيقفن أمام الكاميرا لترويج أجسادهن وأنفسهن في بيزنس الجنس" .. وتقول أخرى شابة : "إن الفنانة يجب أن تكون (صايعة) حتى تصبح نجمة" ! ..
كانت الدورة الجنسية في السابق تبدأ بمرحلة الرغبة وتتميز بغلبة الطابع النفسي الذهني عليها .. وتقوم الخيالات الجنسية فيها بدور كبير في الإثارة تجاه ممارسة الفعل الجنسي .. وفي المرحلة الثانية تتداخل العوامل الجسدية والنفسية الناتجة عن الإثارة والداخلة في الممارسة ثم يأتي بعد ذلك الشبق ثم الانطفاء .. والآن لم تعد مرحلة الشهوة والرغبة مرتبطة بالممارسة بالضرورة .. حيث دخل عنصر الميكنة والآلة على نطاق واسع .. وقد تطورت الميكنة في إثارة الشهوة ودخلت أفقاً غير واضح المعالم مع القفزة الهائلة التي تتيحها تقنيات الإنترنت التي تداخلت مع مرحلتي الإثارة والممارسة على نحو غير مسبوق فالعديد من مستخدمي الكمبيوتر اليوم يثيرون رغباتهم ورغبات الآخرين دون الدخول في علاقات إنسانية مباشرة .. وهذا الاتصال الجنسي دون التواصل الإنساني المباشر يثير جدلاً حاداً في الطب النفسي .. فالعلاقة هنا تتم مع الآلة وعبرها في الوقت نفسه أكثر من كونها تتم مع شخص آخر .. وقد تصل الممارسة إلى مرحلة الشبق بالاستمناء المصاحب للاتصال الإلكتروني بالطرف الآخر .. البعض يرى أن هذه العلاقة أفضل من لا شيء حيثما كانت هي المتاحة .. وينتقد آخرون طبيعة الاتصال الإلكتروني ومحدوديته مهما كانت تقنياته في توصيل وتبادل الانفعالات والتفاعلات (نبرات الصوت وشكل الابتسامة والحديث الشفهي) .. وثمة آخرون يرون أن هذه العلاقة أكثر اقتصاداً وأقل مسؤولية .. كما يصف د. ميلكود محاضر علم النفس بجامعة تكساس .. لكن المشكلة تكمن في الاستغناء بهذا الاتصال عن الشريك الحقيقي .. الأمر الذي يعتبر مرضاً يستدعي العلاج ..
لقد تطور التفكير في الجنس والجسد وقفز قفزات كبيرة .. فلم تعد المسألة مجرد حاجات تنبع من السياق الاجتماعي والثقافي ومن رغبات النفس .. ولم يعد الخيال هو مخزن الرغبات المكبوتة حتى يكون الحل هو التعبير عن هذا المخزون بشكل لائق ومتفق مع السياق الاجتماعي والثقافي كما اعتبر فرويد ..
التحولات شملت أشكال وأنواع الممارسة :
إن التطور لم يقتصر على كيفيات الممارسة (عبر الإنترنت وغيرها) .. بل شمل أيضاً نوع الممارسة (أي نوع الشريك) .. فعلى حين كان اشتهاء المماثل ثم الدخول معه في ممارسه فعلية ربما تؤدي إلى الاكتفاء به عن الشريك من الجنس الآخر .. كان ذلك يعتبر مرضاً لا محالة .. لكن بدأ التحول تدريجياً إلى موقف أكثر تسامحاً فتغير التصنيف من "اضطراب" أو "مرض" إلى "انحراف" .. ووصل الأمر الآن في الغرب إلى وصفه "بالتنوع" .. ومن ثم تمّ التفريق بين "الجنس" و "النوع" و "الكينونة الجنسية" .. بمعنى أن ثمة فارقاً بين الجسدي العضوي فيما يتعلق بنوع الجنس وبين الاختيار النفسي والوجداني .. وليس بالضرورة أن يتطابقا ..
وتزداد صور الخيالات والممارسات الجنسية الشاذة والغريبة كإقامة علاقات مع حيوانات أو غير ذلك .. ويتحرك الموقف من هذه الأمور من اعتبارها انحرافات إلى السماح بها ما دامت تثير الشهوة وتحرك الرغبة ولا تكون بديلاً عن العلاقات الطبيعية ! .. والمشكلة أن هذه التطورات تتم بأدوات علمية لتغيير الموقف الاجتماعي مما كان يعتبر مرضاً بالأمس لإبداء موقف أكثر تسامحاً ..
وفيما يخص الجسد (حقل الأداء الجنسي المادي) .. فقد تغيرت أدواره والنظر إليه والعلاقة به وخاصة في علاقته بالذات .. فالجسد ـ حسب علم الاجتماع ـ يعتبر جزءاً من البيئة ووسيطاً للذات .. والآن اقترب الجسد من أن يكون التجلي الأساس (وربما الأوحد) للذات فصار مجال الإنجاز والفشل ومكان الانطلاق للأمل والحياة والانتصار على مظاهر النقص .. وهذا التغير المتدرج في إدراك الجسد وعلاقته بالذات رُبط بين تحريره (وضعه تحت سيطرة صاحبه بوصفه ملكاً له) وتحرير الإنسان نفسَه (من كل القيود) .. فأصبح التحرر والحرية أقرب ما يكون تبلوراً في حرية الجسد من كل قيد ..
ومع وجود الإنترنت دخلت العلاقة بين الجسد والذات طوراً جديداً حيث أمكن الانفصال الكامل بين الجسد والذات من خلال التواصل مع الآخرين باختراع وتركيب "ذات" غير الحقيقية مما يعني إعادة تشكيل الذات وفقاً لمتطلبات الجسد ..
إن كلاً من الجسد والذات يتحرر ـ في الفضاء الإلكتروني ـ من كل قيد (اجتماعي أو أخلاقي أو نفسي) .. ويدخل في علاقة (من وراء حجاب) .. مع أطراف أخرى لها نفس التحرر والحجاب .. مما يتيح مساحة واسعة للتجريب والتركيب ولعب الأدوار التي تقترب أو تبتعد من الذات الحقيقية .. فتنشأ علاقة (جديدة) بين الجسد والذات الجديدة المخترعة أو المركبة .. وهذا ما يتم الآن في غرف الدردشة (chat rooms) لغرض التسلية أو التحرر من أسر الذات .. وتصل المعضلة إلى الذروة حين يتم التصور بأن هذه الذوات الجديدة (المتحررة) هي أقرب ما ينبغي أن نكون عليه ! .. إنه لا يسعنا إلا القول : إن أحداً لا يعلم ما النهاية التي ستصل إليها هذه الأحداث
د. أحمد عبدالله
مسيرة الجسد والجنس في الغرب الحديث
الجنس في المكونات المختلفة :
وعند الحديث عن الجنس في الفكر الغربي الحديث لا بد من استرجاع تلك الجذور التي كانت تشكل خيارات سابقة طرأت عليها تبدلات وتطورات مختلفة ..
ففي المكون المسيحي : يرتبط الجنس بالدنس والخطيئة .. والبعد عن الله والطهارة ومعالي الأمور .. وكانت المرأة رمزاً للغواية .. وسبيلاً للشيطان الذي يهتم باجتذاب الرجل إلى فعل الشر .. حتى إن بعض التفسيرات المبكرة لسلوك ارتداء بعض الذكور لملابس النساء ـ بما يعد اليوم تعبيراً جنسياً ـ أنه يقصد إلى إبعاد الشيطان لأنه لا يهتم بإغواء المرأة .. وكأنها طبقاً لهذا التصور أقل من أن تستحق حتى الغواية .. أو لأنها لا تحتاج إلى غواية لأنها من أدواتها !! ..
وفي المكون الفلسفي اليوناني : فإن قصة من تراث أفلاطون تقول : بأن الخلق جميعاً كانوا يجمعون بين الخصائص الأنثوية والذكرية في كينونة واحدة .. وقد قويت هذه الكينونة لدرجة أن تمردت على الخالق !! .. وفي إطار الصراع والتحدي قسَّمها الإله "زيوس" إلى طبيعتين وكيانين .. فأصبح الرجل والمرأة كيانين منفصلين .. ومن وقتها تتجه عواطف كل جنس إلى الآخر ليتّحدا من جديد "ضد مشيئة الإله"!! ..
أما المكون الفرويدي : فانبثق عن هذا المناخ .. وعلى هذه الخلفيات ليُحلّل .. ويفسر الواقع والرغبات والأفعال بنظريات تتحدث عن الوعي واللاوعي .. والكبت .. وعن الذات .. والأنا العليا وغيرها من الأطروحات الفرويدية الشهيرة والمهمة ..
والمكون الدارويني : هو الرافد الذي ما يزال يكمُن حتى الآن في الخطاب الغربي عن الجنس الذي يقارن دوماً بين السلوك الجنسي في الأجناس والكائنات المختلفة .. ويعتبره في الإنسان مجرد تطور أو رُقي في تعبيراته وطقوسه .. لكنه أصلاً يرتبط بالسلوك الحيواني ويمكن فهمه ولو جزئياً بدراسة هذا السلوك ومراقبته وتحليله ..
وبالجملة فإن المكون الذي يُمكن تسميته بالعلماني في تطوره وتجلياته .. ويمكن تسميته بالحداثي في فلسفته وأدواته .. يسهم في تشكيل الموقف من الجنس في الثقافة والحضارة الغربية على نحو سنتعرّض له من خلال ما كتبه د.أحمد عبدالله في دراسة مطولة .. (تصورات الجسد والجنس .. كيف تحولت من رمز لعالم المادة السفلي .. إلى ممارسة الجنس الإلكتروني في عصر الإنترنت) .. ودراسة أخرى حملت عنوان (تصورات الجسد والجنس : رؤية نفسية (مع إضافات تتصل بالموضوع)) ..
كان القرن التاسع عشر قرن الحب الرومانسي .. وكان شعاره "الحب يجعل العالم يدور" .. ورؤيته الجوهرية أنه لا يوجد ما هو أهم من عاشقين يعيشان في سعادة .. وكانت الأعمال الأدبية حافلة بذلك .. وحين تجرأ "فلوبير" على كتابة "مدام بوفاري" حظي بنقد عنيف كما حدث مع "إبسن" حيث كتب "بيت الدمية" وكان جوهر رسالتها أن "كل هذا الحب الرومانسي كذبة سخيفة .. فالحياة قد خلقت لما هو أهم من ذلك بكثير " .. لكنه لم يقل ـ في حينها ـ ما هو ذلك الأهم ! ..
ثم بدأت ثورة التحرر الجنسي تشق طريقها بصعوبة في البداية .. ولكن بخطوات متدرجة ومتصاعدة .. ولما جاء "لورنس" تحدث بصراحة عما يراه أهم ما يمكن أن يحدث للرجل والمرأة ـ وهو الجنس ـ وذلك يبدو واضحاً في "عشيق الليدي تشاترلي" .. وقد صدم "جيمس جويس" الكثيرين ببذاءة "عوليس" .. وكان يوماً مشهوداً وتحولاً مهمًا حين سمح القانون بالنشر العلني لهذه الرواية سنة 1930م ..
ثم تطور الأدب الذي يتناول موضوع الجنس والجسد حتى وصل إلى الإغراق في تفاصيل العنف ومشاهد الدم وعدم ترك شيء لمخيلة القارئ كما كان يفعل "لورنس" وغيره .. (كان القرن التاسع عشر قرن الحب الرومانسي .. وكان شعاره "الحب يجعل العالم يدور" .. ورؤيته الجوهرية أنه لا يوجد ما هو أهم من عاشقين يعيشان في سعادة) .. كما حدث تطور هائل في "صناعة المعاني" وأدواتها فنشأت ثقافة "الصورة" التي طغت بعد ذلك بأسلوب تعبيرها عن الجنس وعرضها للجسد .. فهي تقوم على الإبهار البصري باستخدام أحدث التقنيات في خلق واقع أبهى من الحقيقي .. وأصبح الجسد في العالم صورة .. وقد أثرت ثقافة الصورة هذه على الخيال الذي أصبحت وظيفته ـ في الغالب ـ لا تتعدى إعادة إنتاج وفك وتركيب صور رآها من قبل .. وبهذا تم الانتقال ـ في تاريخ الجنس ـ من الأدب المكشوف إلى الصورة المشخصة ..
فنون صناعة الجسد :
ومع انتشار ثقافة الصورة تزايدت فنون صناعة الجسد وفنون الاهتمام باللذة الجنسية ومستلزماتها .. يظهر ذلك من خلال التطور الهائل في فنون وعلوم الإعلان والتجميل والموضة والعطور ومسابقات ملكات الجمال وتطور أشكال الملابس الداخلية والخارجية والإكسسوارات .. وأصبح التأكيد مُلِحَّاً ـ عبر الوسائل الإعلامية المختلفة ـ على سيادة رموز الفن والسياسة وغيرهما كنجوم "لهم أجساد" متميزة وجميلة ومكتملة .. يُنظر إليها من بُعد .. ويشار إليها بالبنان ! .. فبعد أن كان الجنس والجسد يخضعان للثقافة السائدة والتي يساهم في تشكيلها الدين والعرف الاجتماعي أصبح الجسد والجنس هما الثقافة السائدة بالتحالف مع العقل المادي الساعي لتعظيم اللذة والربح وتقديمهما على كل هدف آخر .. ويمكن الحديث اليوم عن عشرة ملايين أمريكي مصابين بإدمان الجنس .. بمعنى عدم القدرة على السيطرة على السلوك الجنسي ! ..
إن الجنس وذروته المتمثلة في "الشبق" هو قمة التحقق لمبدأ اللذة "هنا .. والآن" .. ويمكن الحديث عن "الشبقية" أو قمة النجاح واللذة والتحقق كهاجس مهم من هواجس إنسان العالم المعاصر .. فإن الجنس هنا يحقق التغطية على مشاعر وتساؤلات وجودية مقلقة وغير مرغوبة عن جدوى الحياة ومعناها .. ويمثل إمكانية كبرى للهروب من مشاكلها .. علاوة على البهجة التي يشيعها مثل : "المخدر اللذيذ القاتل" .. وليس من قبيل المصادفة أن تعرض المجلات التي تتناول فنون الجنس والجسد تحت عنوان life style .. وهنا نجد أن الجنس تعدى كونه نشاطاً إنسانياً منضبطاً إلى "نمط حياة" ! ..
ومما يتصل بذلك أن الاضطرابات النفسية وصلت إلى مستويات وبائية في أوساط المراهقات في العالم الغربي .. بأثر من هجسهن بامتلاك أجساد "مقولبة" على نمط ما تقدمه وسائط الإعلام العام حسب البروفسورة سوزي أورباخ ..
ثقافة الصورة :
الأمر ليس فيه مبالغة .. فصعود "ثقافة الصورة" في القرن العشرين وصل إلى ذروته في وسائل الإعلام المرئية التي تقدم عارضات الأزياء وملكات الجمال .. بأجسادهن الناحلة المقدودة حسب مقاييس دور الأزياء (صاحبة المرجعية في هذا !!) .. والتي تسهم إلى حد كبير في صياغة وتشكيل التصور العام عن المواصفات "السوبر" للجسد النسوي المثال .. ولهذا دأب مؤتمر انعقد في لندن 2001 بخصوص هذا الشأن على دعوة ممثلين من دور الأزياء العالمية .. للمشاركة في أعمال المؤتمر .. إضافة إلى ممثلي الصحف النسائية ..
وتشير الأرقام (حسب الحياة اللندنية) إلى أن 80 في المئة من المراهقات لا يشعرن بالرضى عن صورة أجسادهن .. وأن 75 في المئة منهن يشعرن بالبدانة .. على رغم عدم بعدهن عن الوزن الصحي ..
وتمضي المراهقات ما متوسطه بين 3 ساعات و 4 ساعات يومياً .. أمام شاشات التلفزة التي تُعد من أهم مصادر المعلومات لهن .. وتظهر الإحصاءات أن 60 في المئة من المراهقات يحتفظن بمجلة نسائية واحدة على الأقل .. وأن إعلانات عن وسائل مختلفة لإنقاص الوزن تظهر بمعدل 105 أضعاف عنها في المجلات المخصصة للرجال .. وتمتدح كل مقالات المجلات النسوية الجسد النحيل .. وتحض 75 في المئة منها على اعتبار النحافة مساوية للجاذبية الأنثوية ..
إنه لا يمكن الحديث عن الجنس دون التعرض لجسد المرأة ودوره في تحولات الجنس التي طرأت .. ففي الماضي كانت "الأمومة" هي الدور الذي تطمح إليه المرأة لتصبح رمزاً للعطاء .. ومن هذا الدور كانت تستمد سلطتها وسطوتها داخل البيت وخارجه .. لكن هذا الدور أصبح يُنظر إليه على أنه "تقليدي" بمعنى الازدراء لأنه مرتبط بالخضوع للرجل .. لذلك ارتبط الانعتاق من سلطة الرجل والأسرة بالتحرر وتحسين وضع المرأة وحرية المرأة في التصرف بجسدها .. وهذه الحرية لا تعني ممارسة الجنس الحر فقط .. وإنما تشكيل جسدها كما تريد (أو هكذا تتصور) .. لأنها في الواقع تشكله كما يريد غيرها من الإعلاميين ومنتجي ثقافة الجنس ..
ولذلك كان ـ كما ترى د. ميرفت عبد الناصر ـ ثمة علاقة بين بروز الحركة النسوية في منتصف القرن التاسع عشر .. وبين بروز الاتجاه لضبط الوزن والنحافة كتحد للسمنة (المرتبطة بالخصوبة) .. في حين ترتبط الرشاقة بالجمال المثير للشهوة .. وأصبح النجاح في اكتساب قوام رشيق يعد إنجازاً هائلاً يستدعي الحفاظ عليه بالتمارين الرياضية والوصفات الغذائية وغير ذلك مما أدى إلى شيوع كثير من الأمراض ـ حسب د. ميرفت ـ المتعلقة بالغذاء في أوروبا وأمريكا وغيرها من الدول الصناعية .. ثم انتشرت في عدد من الدول النامية بتأثير العولمة ..
وتحرر المرأة بسيطرتها على جسدها يتناول أيضاً البحث عن "الإشباع الجنسي الذاتي" دون الحاجة إلى شريك .. خاصة مع إمكانية الحمل دون رجل .. وبهذا كانت السيطرة دون الرجل أو في العلاقة مع الرجل جوهر فكرة التحرر المعاصر للمرأة ..
لقد تم استخدام جسد المرأة محوراً للأنشطة التجارية والإعلامية الواسعة التي تتخذ من الجنس نمطاً للحياة .. وبهذا تم تهميش المرأة واحتقارها .. لكن بأسلوب (عصري) لأن الأسلوب السابق (الأمومة) أضحى تقليدياً كما أن فيه مهانة للمرأة !! .. من هنا تم وضع معايير محددة للجمال ومقاييس محددة للجسد الجميل في لونه وأبعاده وتقاسيمه وما يظهر منه وما يختفي .. وهنا بدأ النظر إلى الجسد بوصفه ميداناً للبحث عن القوانين البيولوجية الحاكمة .. وحين تمكن العلماء من تشريحه واكتشاف قوانينه تحول النظر إلى الجسد بوصفه مجالاً للسيطرة على تلك القوانين .. وبها .. وساد الاعتقاد بأن الجسد ملك خاص بصاحبه وأنه مكوّن من أنسجة وتفاعلات تقوم بوظائف يمكن التدخل بها بدءاً بالهندسة الوراثية وانتهاء بالطموح إلى تصنيع الخلايا وغيرها .. وفي هذا السياق تأتي عمليات التجميل ضمن أدوات التحكم بالجسد وفق المقاييس المحددة مسبقاً (للجسد / المثال) .. كما تم إدخال بعض جراحات التجميل إلى بنود التأمين الصحي في أمريكا ..
من جماليات الفن إلى مقتضيات التوظيف :
والآن انتقل جسد المرأة من جماليات الفن إلى مقتضيات التوظيف في عالم المال .. حيث إن قطاع الإنتاج يتعامل مع المرأة كجسد بلا عقل .. ويشترط ـ في الدرجة الأولى ـ جمال الهيئة والمؤهلات الجسدية في التعامل مع الزبون في شركات الطيران والسكرتارية ومندوبات المبيعات وغير ذلك فيكون الجسد هو أداة التواصل بين المالك والزبون .. وتتشدد بعض الشركات فتشترط عزوبية المضيفة مثلاً .. لأن العمل يريد جسداً متفرغاً بالكلية ! ..
بل إن الأمر لا يقتصر على ذلك .. ففي الفن نجد أن "النجومية" مرهونة بامتلاك جسد تنطبق عليه المقاييس ! .. تقول نجمة مشهورة مخضرمة : "كنا في الماضي على استعداد لإقامة علاقة مع من يوصلنا إلى الوقوف أمام الكاميرا ونعتبر هذا في سبيل الفن .. أما فتيات اليوم فيقفن أمام الكاميرا لترويج أجسادهن وأنفسهن في بيزنس الجنس" .. وتقول أخرى شابة : "إن الفنانة يجب أن تكون (صايعة) حتى تصبح نجمة" ! ..
كانت الدورة الجنسية في السابق تبدأ بمرحلة الرغبة وتتميز بغلبة الطابع النفسي الذهني عليها .. وتقوم الخيالات الجنسية فيها بدور كبير في الإثارة تجاه ممارسة الفعل الجنسي .. وفي المرحلة الثانية تتداخل العوامل الجسدية والنفسية الناتجة عن الإثارة والداخلة في الممارسة ثم يأتي بعد ذلك الشبق ثم الانطفاء .. والآن لم تعد مرحلة الشهوة والرغبة مرتبطة بالممارسة بالضرورة .. حيث دخل عنصر الميكنة والآلة على نطاق واسع .. وقد تطورت الميكنة في إثارة الشهوة ودخلت أفقاً غير واضح المعالم مع القفزة الهائلة التي تتيحها تقنيات الإنترنت التي تداخلت مع مرحلتي الإثارة والممارسة على نحو غير مسبوق فالعديد من مستخدمي الكمبيوتر اليوم يثيرون رغباتهم ورغبات الآخرين دون الدخول في علاقات إنسانية مباشرة .. وهذا الاتصال الجنسي دون التواصل الإنساني المباشر يثير جدلاً حاداً في الطب النفسي .. فالعلاقة هنا تتم مع الآلة وعبرها في الوقت نفسه أكثر من كونها تتم مع شخص آخر .. وقد تصل الممارسة إلى مرحلة الشبق بالاستمناء المصاحب للاتصال الإلكتروني بالطرف الآخر .. البعض يرى أن هذه العلاقة أفضل من لا شيء حيثما كانت هي المتاحة .. وينتقد آخرون طبيعة الاتصال الإلكتروني ومحدوديته مهما كانت تقنياته في توصيل وتبادل الانفعالات والتفاعلات (نبرات الصوت وشكل الابتسامة والحديث الشفهي) .. وثمة آخرون يرون أن هذه العلاقة أكثر اقتصاداً وأقل مسؤولية .. كما يصف د. ميلكود محاضر علم النفس بجامعة تكساس .. لكن المشكلة تكمن في الاستغناء بهذا الاتصال عن الشريك الحقيقي .. الأمر الذي يعتبر مرضاً يستدعي العلاج ..
لقد تطور التفكير في الجنس والجسد وقفز قفزات كبيرة .. فلم تعد المسألة مجرد حاجات تنبع من السياق الاجتماعي والثقافي ومن رغبات النفس .. ولم يعد الخيال هو مخزن الرغبات المكبوتة حتى يكون الحل هو التعبير عن هذا المخزون بشكل لائق ومتفق مع السياق الاجتماعي والثقافي كما اعتبر فرويد ..
التحولات شملت أشكال وأنواع الممارسة :
إن التطور لم يقتصر على كيفيات الممارسة (عبر الإنترنت وغيرها) .. بل شمل أيضاً نوع الممارسة (أي نوع الشريك) .. فعلى حين كان اشتهاء المماثل ثم الدخول معه في ممارسه فعلية ربما تؤدي إلى الاكتفاء به عن الشريك من الجنس الآخر .. كان ذلك يعتبر مرضاً لا محالة .. لكن بدأ التحول تدريجياً إلى موقف أكثر تسامحاً فتغير التصنيف من "اضطراب" أو "مرض" إلى "انحراف" .. ووصل الأمر الآن في الغرب إلى وصفه "بالتنوع" .. ومن ثم تمّ التفريق بين "الجنس" و "النوع" و "الكينونة الجنسية" .. بمعنى أن ثمة فارقاً بين الجسدي العضوي فيما يتعلق بنوع الجنس وبين الاختيار النفسي والوجداني .. وليس بالضرورة أن يتطابقا ..
وتزداد صور الخيالات والممارسات الجنسية الشاذة والغريبة كإقامة علاقات مع حيوانات أو غير ذلك .. ويتحرك الموقف من هذه الأمور من اعتبارها انحرافات إلى السماح بها ما دامت تثير الشهوة وتحرك الرغبة ولا تكون بديلاً عن العلاقات الطبيعية ! .. والمشكلة أن هذه التطورات تتم بأدوات علمية لتغيير الموقف الاجتماعي مما كان يعتبر مرضاً بالأمس لإبداء موقف أكثر تسامحاً ..
وفيما يخص الجسد (حقل الأداء الجنسي المادي) .. فقد تغيرت أدواره والنظر إليه والعلاقة به وخاصة في علاقته بالذات .. فالجسد ـ حسب علم الاجتماع ـ يعتبر جزءاً من البيئة ووسيطاً للذات .. والآن اقترب الجسد من أن يكون التجلي الأساس (وربما الأوحد) للذات فصار مجال الإنجاز والفشل ومكان الانطلاق للأمل والحياة والانتصار على مظاهر النقص .. وهذا التغير المتدرج في إدراك الجسد وعلاقته بالذات رُبط بين تحريره (وضعه تحت سيطرة صاحبه بوصفه ملكاً له) وتحرير الإنسان نفسَه (من كل القيود) .. فأصبح التحرر والحرية أقرب ما يكون تبلوراً في حرية الجسد من كل قيد ..
ومع وجود الإنترنت دخلت العلاقة بين الجسد والذات طوراً جديداً حيث أمكن الانفصال الكامل بين الجسد والذات من خلال التواصل مع الآخرين باختراع وتركيب "ذات" غير الحقيقية مما يعني إعادة تشكيل الذات وفقاً لمتطلبات الجسد ..
إن كلاً من الجسد والذات يتحرر ـ في الفضاء الإلكتروني ـ من كل قيد (اجتماعي أو أخلاقي أو نفسي) .. ويدخل في علاقة (من وراء حجاب) .. مع أطراف أخرى لها نفس التحرر والحجاب .. مما يتيح مساحة واسعة للتجريب والتركيب ولعب الأدوار التي تقترب أو تبتعد من الذات الحقيقية .. فتنشأ علاقة (جديدة) بين الجسد والذات الجديدة المخترعة أو المركبة .. وهذا ما يتم الآن في غرف الدردشة (chat rooms) لغرض التسلية أو التحرر من أسر الذات .. وتصل المعضلة إلى الذروة حين يتم التصور بأن هذه الذوات الجديدة (المتحررة) هي أقرب ما ينبغي أن نكون عليه ! .. إنه لا يسعنا إلا القول : إن أحداً لا يعلم ما النهاية التي ستصل إليها هذه الأحداث
د. أحمد عبدالله
مسيرة الجسد والجنس في الغرب الحديث