نقوس المهدي
كاتب
ذروة ثلجية وصحراء تمنح انطباعاً بارتفاع متطرف ولا يطال
– ما الذي يمكن قوله عن الكمال؟
– لا شيء، لا يمكن قول أي شيء عنه، فهو يتخفى عن كل تحديد. لا تستطيع أية جملة تقديم
فكرة عنه.
- ومع ذلك، فنحن نكون لأنفسنا فكرة عن الكمال؛ ألا يمكن أن تكون تلك الفكرة هي الكمال
بعينه…
– الفكرة التي نكونها لأنفسنا عن الكمال هي بطبيعتها تحت الكمال.
– “بطبيعتها” تقول…
سطح ميت غادرته الحياة، ينتمي الكمال لعالم آخر، نُقشت على بابه عبارة : “لا يدخل هنا
أحد”.
الكمال، لا يمكننا سوى الإعجاب به إلى ما لا نهاية، إطرائه، اقتباسه كمثال. لكن ما الذي نقوله عندما نقتبسه؟ لا شيء، فالكلام يتجاوز، يتخطى كل جملة تحوله إلى موضوع. واسع، لا يمكننا الإحاطة به.
بعيد، جهوداً لا تقاس بُذلت للاقتراب منه، يظل “بعيداً”.
أن يقوم المرء بحساب جميع الخصائص الضرورية للحاق به، لا يقوم سوى بظفر شبكة من
الغرور. لا يمكن بلوغه.
منفلت، لا نعثر عليه أبداً في المكان الذي ظننا إبصاره فيه.
تتولد عندنا أحيناً رغبة أن ندوسه بأقدامنا، من الحنق، الخجل، والاحتقار. لا ندوس حينئذ سوى عملاً كان يُحسب دون روية على الكمال.
شمسي، أكثر قدماً وديمومة من أي شيء.
الكمال هو المبدأ المشترك للفعل وللتأمل.
نافورة ماء في حديقة لا شخوص.
فارغة هي الجملة الكاملة، لا شيء سواها. مكورة، وقانعة تماماً بنفسها. لا روح فيها، ولا فرد يقطنها، كلمات شائخة، أفكار عتيقة. باردة، لا زمنية، لا شخصية، لا تعبر عن شيء، ولا عن أحد، أنها قائمة وهذا يكفي. تتحرك دون انعطاف، ولا رجعة؛ لا تشعر بحاجة مواجهة نفسها أو تبريرها. تتقدم كزورق في الريح. تفرض نفسها كخاصية الكمال الأساسية :
سلطة طبيعية، أفضل الحصون.
كروية.
نطاق مكتمل، يخفي في مركزه مبدأ الكمال ذاته.
مبدأ الكمال سر. يتناقله على صيغ مشفرة أولئك الذين تلقوا تعاليمه. حكايات، أساطير، خطط. حكايات مُثلمةً، أساطير غامضة، تخفي ما تشير عليه.
(إذا كانت الأسماء تُقرأ فيجب فك رموزها).
*
(إذ لا نرى ما تهدف إليه)
من هنا السؤال: منْ هو ذلك الذي يتخندق؟ منْ الذي يخفي نفسه وراء هذه الواجهة. منْ هو ذلك
الذي شيدَ، بصبر، بناءً كهذا، لكي يقصي نفسه عنه. يستخدم وسائل الاتصال التقليدية، الكلام، الكتابة، التمثيل، حتى يجعل من كل ذبذبة اتصال متبادلة شيئاً عبثياً لصالح الإعجاب المتفرد.
من هنا يتولد السؤال الثاني : ألا يمكن أن يكون هدف ذلك السؤال هو بالدقة السؤال التالي:
منْ هو الذي يمنح نفسه لعمل مضني كهذا؟… أية دراما داخلية، لا تعرف كيف تعبر عن نفسها (ألا يمكن أن تكون عروة ارتفاع الحنجرة هي منْ يكسر الصوت، أو التفاخر البسيط، المفهوم الشائخ عن الكرامة والمرتبة، هو من يمنعه)، أليس سؤال منْ هو مصدر تلك الماكنة الممسوخة المولدة للأسئلة.
مراوح، مقابض، رافعات، سدود، أقفال، قبضة، مزلاج، صمامات، مصارع، أختام بالشمع، عصارات، لوحات مفاتيح، مكابس، ساعدٌ، مَفْصلٌ. حرفٌ مُغلقٌ، شيء ميت، مشروع عبثي، شهقة لا طائل من ورائها لا يطرح أي شيء يثير الحوار، لكنه يعلن وحسب عن كلام سيادي يفرض من حوله الصمت، صمت عدم الفهم، أو الاحترام –لا يدع خاصة شيء ما يدخل، يتدخل، أو يحرك ما يجري، إنتاج خالص عن الكمال- في العمل.
خطاب قهري يهدف جعل عيون القارىء ترتفع أو تنخفض، أعجاب أو خضوع، تجري المعاملة بالتساوي، لكن لا شيء يساوي عذابي. لا أحد مثلي تحسس شعاع المجد. لم أكن أكترث للتصفيق والمديح، سحبت نفسي وحيداً خلف موضوع التأمل العام : أسلوب ناجز في خدمة مخيلة لا مثيل لها. وإذا لم أجن اليوم من ذلك سوى السخرية والاستهزاء، فذلك لأن الوضوح يفرض نفسه متأخراً.
*
رجل، ليل، ومع ذلك
فانوس صامت، متوقد أيام بكاملها، خلف الطاولة، وحيد والستائر مسدلة، لا عالم آخر سوى ذلك الذي بألم، بوجع يضع نفسه على الورق.
ساعات مرت ولا كلمة في انتظار ذلك الذي سيأتي. يتراجع، يعيد قراءة ما تقدم، يضع قلمه في فمه ويده على جبهته، يعيد تشكيل ساقي حرف، يشطب مفردة، يضع واحدة أخرى في مكانها، أكثر قرباً، أكثر صحة.
– أكثر قرباً من ماذا، ما هو المرجع؟
- أكثر قرباً منه، أكثر قرباً من معناه المثالي والفارغ من أي معنى والممتلأ به هو وحسب.
أن توضع الكلمة المناسبة في مكانها المناسب، فذلك هو سحب أي معنى منها، آنذاك وحينها فقط، تغادر القاموس لكي تدخل في الأدب، تفقد كل احتياط منفعتها وتشرع في دخولها ضمن العالم،
وحيدة، عارية، غير ملفعة بسواها.
دخول سري، عبر باب جانبي؛ منْ الذي لاحظها؟
ولادة غريبة، موت غريب.
وصول عازف البيانو :
في الحب لم يعرف أحد القيام بعمل كعمل “ونان”
جالس، يلعب، لكن بجدية عميقة. جالس، يهمن بجذعه (يميل أحياناً إلى الأمام ثم يتراجع) على لوحة المفاتيح التي توقظها أصابعه.
جالس، لعمل عقلي، يقود الرغبة حتى تمفصلاتها الأكثر رهافة –دجيتال- خالق لكون صوتي
تشربه أذناه.
هكذا، يغادر أصابعه، – بعد أن رغب به، تأمله، ومن ثم لعبه، نتاج حركة جدية في عمقها، يلعبه، في ذات اللحظة، لأذنيه، ملتقطاً ثانية ما كان قد تركه، من أجل اللذة اللانهائية التي تولدت عنه، حيث تسربت العلامات الموسيقية على شكل قلادة من أصابعه، يتقبلها العقلي الذي يرتقي ثانية إلى مكان صمتها تقريباً، باستثناء البيانو، لكي يغوي، إضافة إلى العون المحتمل، الصاعد في المشهد، يقصي نفسه هو أولاً، هو الذي غلفه حينئذ اضطراب لا يمكن تحديده.
*
رجل في ملابسه أيضاً، أسند فوهة المسدس على صدغه، وأصبعه على الزناد مبطل للعبة المصادفة التي احتلت المكان التي تركته لها البطالة الإنسانية التي لا شفاء منها الضعف الإنساني العضال القصور الإنساني المستديم، مبطل للعبة المصادقة ومصائدها التي تنصبها في دربنا، كنت راغباً في موتي وتهيأت له بطريقة تنتمي لي، حركة أخيرة من كوميديا طويلة لم تجر فيها محاولة أي شيء آخر ما لم يتحول بطريقة وأخرى إلى معركة كبرى: أنا ضد تلك المصادفة أو هذا القانون العبثي الخالي من أي فطنة الذي جعلني ألد حيث ولدت، وحيداً وعارياً وسط كتلة ضاجة وعدوانية، ينبغي قول ذلك في النهاية، كتلة نعم ضاجة وعدوانية كان من الحري بيَّ تخليص نفسي منها. لذا فكل حركة كل فكرة تهدف تمييزي بطريقة ما، تفصلني، تقطعني. لكن لا بد من وضع التعب في الحسبان والمصادفة، فالموت في المقام الأخير يجعلني أتوارى عن الأنظار ويظهرني أفضل من أي خطاب آخر. أن أمحي هذا الجسد الذي غالباً ما ضايقني أكثر من تقديمه خدمة لي، فموتي هذا سينفتح على تعددية لا نهاية لها من القراءات والتأويلات التي سأستريح من فوقها.
رجل في حلته أيضاً، أسند زناداً فوق بحيرة شمع الحرف.
نهار جميل، بارد؛ السماء ذات زرقة صافية، التجمد الأبيض متجانس، كل شيء بدا مغطى بشريط غاية في الرهافة، لم يتبدل ملمح الأشياء في الخارج ومع ذلك فَقدَ كل عدوانيته، الأظافر كانت مقلمة والصرخات مكتومة، ويمكن لهذا أن يتواصل إلى ما لا نهاية.
أستمر عائشاً ضمن وقف التنفيذ، وكأني وضعت بين قوسين، منتجاً كل يوم غذائي الشعري.
أما لاوعيي فهو تكتيك واعتدال. لا أجرؤ على النظر إلى ما يعوزني ولا إلى المستقبل.عدم القلق هذا إذاً ليس بالتفاهة، لكنه خوف من اتخاذ القرار أو ملاحظة خطأ. ذلك النوع من السعادة صبياني جبان، يريد ضمان حبه الذاتي ولا يبغي اكتشاف خديعة نفسه. أية وشيعة من الحماقات
تقطن طريقة وجودي الحالية : صبيانية عدم اكتراث، جبن، عجرفة، غفلة؛ وكل هذا بسبب عدم الحسم.
حماقة أخرى: تَضييّعْ المرء للذته، في بحثه عن كل الدوافع من أجل نكرانها أو تحطيمها.
ذلك ما قمت به على أفضل وجه. فأنا في الأخير أحيا كإبيقوري، بلا هم، بلا جهد، دون تضحية، بلا نضال؛ ولا يحق لهذه الحياة الرخوة، وذلك الاطمئنان المُخنث، المطالبة بالغبطة.
فكل الأغذية الشهية والقوية، الحب، المجد، الألم، العمل، قد تم أبدالها عندي بالمربيات، بالراحة وبماء وردة البرتقال. لم أقم إلا بجزء قليل جداً مما كنت قادراً على القيام به وما كان ينبغي عليَّ فعله؛ لهذا ليس من العدل أن يظل سلامي دائماً وجدياً. أؤجل عيشي، وأتغافل عن مثالي. هكذا يعوضني الحلم عن الواقع. تلك هي غلطتي المتأصلة.
*
شارع صحراوي. في مطلعه مصباح عمومي كانت رغبتي العظمي، في الكتابة، هي الوصول إلى تشييد شيء ما يماثل سلسلة أقتفيها إلى أبعد ما يمكن، أن أمدها حتى الحد الذي تصبح فيه لائحة لا نهائية، لفة من الورق ينجر طرفاها الملقيان على الأرض فيما يكون وسطها موضوعاً بيد ذلك الذي يقرأ ما هو منقوش فوقها (حركة منتظمة للبنصر والسبابة تجعلها تدور أمام عينيه اللتان تكنسان من اليسار إلى اليمين السطح الذي تعين فيه اليدين الحد).
سلسلة منطلقة غالباً من اللاشيء، مجرد لذة في المشابهة المجانية، ميل نحو التلاقي؛ وترك أثر فضولي ترسمه تلك المطاردة عبر الكائنات والحيوات، الأشياء ووضعها، حتى وإن لم يكن لتلك الكائنات والأشياء من حجم غير حجم الحبر فوق الورقة.
أطرَّ أذنه بيده وكأنه يبغي أن يرهفها للصدى لمَ يتحدثون هنا عن العادي بمثل هذه السوقية، دون دقة، بلا عفوية، ولا أناقة؟ أناقة الآداب العامة، اللغة المصطفاة، النعمة والتمدن هي تعويضات عن احترام المرء لنفسه وللآخرين.
الحساسية الإستطيقية هي مصدر للمضايقات وللآلام حتى لا تفنى كحساسية الكورس؛ ذلك لأنه هناك من القلوب الطيبة أكثر من الأفراد الذواقة، وأناس أكثر طيبة من العقول المرهفة.
الاحتراس اقتصاد. فلا أحد يبذل من الوقت والتعب أكثر من المهمل. فبدل من كلمة واحدة ينساها لا بد له من عشرة كي تعوض عنها.
زيارة للسيدة فلانة، شرعنا بالحديث عن بعض الأشخاص؛ ثم عنها هي، عن حب الكمال، عن التعاطف والعزلة.
22 يناير. انتهي من دراسة “ي ت” للسيد “روبن شتاين”.
ديميه : “ميكانيك مؤكد تماماً”.
*
مشهد ليلي. سماء مليئة بالنجوم مع هلال صغير للقمر. (ليس ثمة من شخوص).
هذه الملاحظات: حزمة من الأوراق الرقيقة بحجم متساوي. أتخيلها مرقمة، مصنفة، ومنظمة
بعناية في الواجهات التي سيضعونها في صالون فندقي.
سري أنا، تم كشفه لكنه محفوظ.
. سأكون شفافاً وأكون قد اختفيت
. الوقائع هي لا شيء. ثمة حقيقة في ما حدث تعادل حقيقة ما لم يحدث.
نحن فقراء في جميع الأحوال.
– ما الذي يمكن قوله عن الكمال؟
– لا شيء، لا يمكن قول أي شيء عنه، فهو يتخفى عن كل تحديد. لا تستطيع أية جملة تقديم
فكرة عنه.
- ومع ذلك، فنحن نكون لأنفسنا فكرة عن الكمال؛ ألا يمكن أن تكون تلك الفكرة هي الكمال
بعينه…
– الفكرة التي نكونها لأنفسنا عن الكمال هي بطبيعتها تحت الكمال.
– “بطبيعتها” تقول…
سطح ميت غادرته الحياة، ينتمي الكمال لعالم آخر، نُقشت على بابه عبارة : “لا يدخل هنا
أحد”.
الكمال، لا يمكننا سوى الإعجاب به إلى ما لا نهاية، إطرائه، اقتباسه كمثال. لكن ما الذي نقوله عندما نقتبسه؟ لا شيء، فالكلام يتجاوز، يتخطى كل جملة تحوله إلى موضوع. واسع، لا يمكننا الإحاطة به.
بعيد، جهوداً لا تقاس بُذلت للاقتراب منه، يظل “بعيداً”.
أن يقوم المرء بحساب جميع الخصائص الضرورية للحاق به، لا يقوم سوى بظفر شبكة من
الغرور. لا يمكن بلوغه.
منفلت، لا نعثر عليه أبداً في المكان الذي ظننا إبصاره فيه.
تتولد عندنا أحيناً رغبة أن ندوسه بأقدامنا، من الحنق، الخجل، والاحتقار. لا ندوس حينئذ سوى عملاً كان يُحسب دون روية على الكمال.
شمسي، أكثر قدماً وديمومة من أي شيء.
الكمال هو المبدأ المشترك للفعل وللتأمل.
نافورة ماء في حديقة لا شخوص.
فارغة هي الجملة الكاملة، لا شيء سواها. مكورة، وقانعة تماماً بنفسها. لا روح فيها، ولا فرد يقطنها، كلمات شائخة، أفكار عتيقة. باردة، لا زمنية، لا شخصية، لا تعبر عن شيء، ولا عن أحد، أنها قائمة وهذا يكفي. تتحرك دون انعطاف، ولا رجعة؛ لا تشعر بحاجة مواجهة نفسها أو تبريرها. تتقدم كزورق في الريح. تفرض نفسها كخاصية الكمال الأساسية :
سلطة طبيعية، أفضل الحصون.
كروية.
نطاق مكتمل، يخفي في مركزه مبدأ الكمال ذاته.
مبدأ الكمال سر. يتناقله على صيغ مشفرة أولئك الذين تلقوا تعاليمه. حكايات، أساطير، خطط. حكايات مُثلمةً، أساطير غامضة، تخفي ما تشير عليه.
(إذا كانت الأسماء تُقرأ فيجب فك رموزها).
*
(إذ لا نرى ما تهدف إليه)
من هنا السؤال: منْ هو ذلك الذي يتخندق؟ منْ الذي يخفي نفسه وراء هذه الواجهة. منْ هو ذلك
الذي شيدَ، بصبر، بناءً كهذا، لكي يقصي نفسه عنه. يستخدم وسائل الاتصال التقليدية، الكلام، الكتابة، التمثيل، حتى يجعل من كل ذبذبة اتصال متبادلة شيئاً عبثياً لصالح الإعجاب المتفرد.
من هنا يتولد السؤال الثاني : ألا يمكن أن يكون هدف ذلك السؤال هو بالدقة السؤال التالي:
منْ هو الذي يمنح نفسه لعمل مضني كهذا؟… أية دراما داخلية، لا تعرف كيف تعبر عن نفسها (ألا يمكن أن تكون عروة ارتفاع الحنجرة هي منْ يكسر الصوت، أو التفاخر البسيط، المفهوم الشائخ عن الكرامة والمرتبة، هو من يمنعه)، أليس سؤال منْ هو مصدر تلك الماكنة الممسوخة المولدة للأسئلة.
مراوح، مقابض، رافعات، سدود، أقفال، قبضة، مزلاج، صمامات، مصارع، أختام بالشمع، عصارات، لوحات مفاتيح، مكابس، ساعدٌ، مَفْصلٌ. حرفٌ مُغلقٌ، شيء ميت، مشروع عبثي، شهقة لا طائل من ورائها لا يطرح أي شيء يثير الحوار، لكنه يعلن وحسب عن كلام سيادي يفرض من حوله الصمت، صمت عدم الفهم، أو الاحترام –لا يدع خاصة شيء ما يدخل، يتدخل، أو يحرك ما يجري، إنتاج خالص عن الكمال- في العمل.
خطاب قهري يهدف جعل عيون القارىء ترتفع أو تنخفض، أعجاب أو خضوع، تجري المعاملة بالتساوي، لكن لا شيء يساوي عذابي. لا أحد مثلي تحسس شعاع المجد. لم أكن أكترث للتصفيق والمديح، سحبت نفسي وحيداً خلف موضوع التأمل العام : أسلوب ناجز في خدمة مخيلة لا مثيل لها. وإذا لم أجن اليوم من ذلك سوى السخرية والاستهزاء، فذلك لأن الوضوح يفرض نفسه متأخراً.
*
رجل، ليل، ومع ذلك
فانوس صامت، متوقد أيام بكاملها، خلف الطاولة، وحيد والستائر مسدلة، لا عالم آخر سوى ذلك الذي بألم، بوجع يضع نفسه على الورق.
ساعات مرت ولا كلمة في انتظار ذلك الذي سيأتي. يتراجع، يعيد قراءة ما تقدم، يضع قلمه في فمه ويده على جبهته، يعيد تشكيل ساقي حرف، يشطب مفردة، يضع واحدة أخرى في مكانها، أكثر قرباً، أكثر صحة.
– أكثر قرباً من ماذا، ما هو المرجع؟
- أكثر قرباً منه، أكثر قرباً من معناه المثالي والفارغ من أي معنى والممتلأ به هو وحسب.
أن توضع الكلمة المناسبة في مكانها المناسب، فذلك هو سحب أي معنى منها، آنذاك وحينها فقط، تغادر القاموس لكي تدخل في الأدب، تفقد كل احتياط منفعتها وتشرع في دخولها ضمن العالم،
وحيدة، عارية، غير ملفعة بسواها.
دخول سري، عبر باب جانبي؛ منْ الذي لاحظها؟
ولادة غريبة، موت غريب.
وصول عازف البيانو :
في الحب لم يعرف أحد القيام بعمل كعمل “ونان”
جالس، يلعب، لكن بجدية عميقة. جالس، يهمن بجذعه (يميل أحياناً إلى الأمام ثم يتراجع) على لوحة المفاتيح التي توقظها أصابعه.
جالس، لعمل عقلي، يقود الرغبة حتى تمفصلاتها الأكثر رهافة –دجيتال- خالق لكون صوتي
تشربه أذناه.
هكذا، يغادر أصابعه، – بعد أن رغب به، تأمله، ومن ثم لعبه، نتاج حركة جدية في عمقها، يلعبه، في ذات اللحظة، لأذنيه، ملتقطاً ثانية ما كان قد تركه، من أجل اللذة اللانهائية التي تولدت عنه، حيث تسربت العلامات الموسيقية على شكل قلادة من أصابعه، يتقبلها العقلي الذي يرتقي ثانية إلى مكان صمتها تقريباً، باستثناء البيانو، لكي يغوي، إضافة إلى العون المحتمل، الصاعد في المشهد، يقصي نفسه هو أولاً، هو الذي غلفه حينئذ اضطراب لا يمكن تحديده.
*
رجل في ملابسه أيضاً، أسند فوهة المسدس على صدغه، وأصبعه على الزناد مبطل للعبة المصادفة التي احتلت المكان التي تركته لها البطالة الإنسانية التي لا شفاء منها الضعف الإنساني العضال القصور الإنساني المستديم، مبطل للعبة المصادقة ومصائدها التي تنصبها في دربنا، كنت راغباً في موتي وتهيأت له بطريقة تنتمي لي، حركة أخيرة من كوميديا طويلة لم تجر فيها محاولة أي شيء آخر ما لم يتحول بطريقة وأخرى إلى معركة كبرى: أنا ضد تلك المصادفة أو هذا القانون العبثي الخالي من أي فطنة الذي جعلني ألد حيث ولدت، وحيداً وعارياً وسط كتلة ضاجة وعدوانية، ينبغي قول ذلك في النهاية، كتلة نعم ضاجة وعدوانية كان من الحري بيَّ تخليص نفسي منها. لذا فكل حركة كل فكرة تهدف تمييزي بطريقة ما، تفصلني، تقطعني. لكن لا بد من وضع التعب في الحسبان والمصادفة، فالموت في المقام الأخير يجعلني أتوارى عن الأنظار ويظهرني أفضل من أي خطاب آخر. أن أمحي هذا الجسد الذي غالباً ما ضايقني أكثر من تقديمه خدمة لي، فموتي هذا سينفتح على تعددية لا نهاية لها من القراءات والتأويلات التي سأستريح من فوقها.
رجل في حلته أيضاً، أسند زناداً فوق بحيرة شمع الحرف.
نهار جميل، بارد؛ السماء ذات زرقة صافية، التجمد الأبيض متجانس، كل شيء بدا مغطى بشريط غاية في الرهافة، لم يتبدل ملمح الأشياء في الخارج ومع ذلك فَقدَ كل عدوانيته، الأظافر كانت مقلمة والصرخات مكتومة، ويمكن لهذا أن يتواصل إلى ما لا نهاية.
أستمر عائشاً ضمن وقف التنفيذ، وكأني وضعت بين قوسين، منتجاً كل يوم غذائي الشعري.
أما لاوعيي فهو تكتيك واعتدال. لا أجرؤ على النظر إلى ما يعوزني ولا إلى المستقبل.عدم القلق هذا إذاً ليس بالتفاهة، لكنه خوف من اتخاذ القرار أو ملاحظة خطأ. ذلك النوع من السعادة صبياني جبان، يريد ضمان حبه الذاتي ولا يبغي اكتشاف خديعة نفسه. أية وشيعة من الحماقات
تقطن طريقة وجودي الحالية : صبيانية عدم اكتراث، جبن، عجرفة، غفلة؛ وكل هذا بسبب عدم الحسم.
حماقة أخرى: تَضييّعْ المرء للذته، في بحثه عن كل الدوافع من أجل نكرانها أو تحطيمها.
ذلك ما قمت به على أفضل وجه. فأنا في الأخير أحيا كإبيقوري، بلا هم، بلا جهد، دون تضحية، بلا نضال؛ ولا يحق لهذه الحياة الرخوة، وذلك الاطمئنان المُخنث، المطالبة بالغبطة.
فكل الأغذية الشهية والقوية، الحب، المجد، الألم، العمل، قد تم أبدالها عندي بالمربيات، بالراحة وبماء وردة البرتقال. لم أقم إلا بجزء قليل جداً مما كنت قادراً على القيام به وما كان ينبغي عليَّ فعله؛ لهذا ليس من العدل أن يظل سلامي دائماً وجدياً. أؤجل عيشي، وأتغافل عن مثالي. هكذا يعوضني الحلم عن الواقع. تلك هي غلطتي المتأصلة.
*
شارع صحراوي. في مطلعه مصباح عمومي كانت رغبتي العظمي، في الكتابة، هي الوصول إلى تشييد شيء ما يماثل سلسلة أقتفيها إلى أبعد ما يمكن، أن أمدها حتى الحد الذي تصبح فيه لائحة لا نهائية، لفة من الورق ينجر طرفاها الملقيان على الأرض فيما يكون وسطها موضوعاً بيد ذلك الذي يقرأ ما هو منقوش فوقها (حركة منتظمة للبنصر والسبابة تجعلها تدور أمام عينيه اللتان تكنسان من اليسار إلى اليمين السطح الذي تعين فيه اليدين الحد).
سلسلة منطلقة غالباً من اللاشيء، مجرد لذة في المشابهة المجانية، ميل نحو التلاقي؛ وترك أثر فضولي ترسمه تلك المطاردة عبر الكائنات والحيوات، الأشياء ووضعها، حتى وإن لم يكن لتلك الكائنات والأشياء من حجم غير حجم الحبر فوق الورقة.
أطرَّ أذنه بيده وكأنه يبغي أن يرهفها للصدى لمَ يتحدثون هنا عن العادي بمثل هذه السوقية، دون دقة، بلا عفوية، ولا أناقة؟ أناقة الآداب العامة، اللغة المصطفاة، النعمة والتمدن هي تعويضات عن احترام المرء لنفسه وللآخرين.
الحساسية الإستطيقية هي مصدر للمضايقات وللآلام حتى لا تفنى كحساسية الكورس؛ ذلك لأنه هناك من القلوب الطيبة أكثر من الأفراد الذواقة، وأناس أكثر طيبة من العقول المرهفة.
الاحتراس اقتصاد. فلا أحد يبذل من الوقت والتعب أكثر من المهمل. فبدل من كلمة واحدة ينساها لا بد له من عشرة كي تعوض عنها.
زيارة للسيدة فلانة، شرعنا بالحديث عن بعض الأشخاص؛ ثم عنها هي، عن حب الكمال، عن التعاطف والعزلة.
22 يناير. انتهي من دراسة “ي ت” للسيد “روبن شتاين”.
ديميه : “ميكانيك مؤكد تماماً”.
*
مشهد ليلي. سماء مليئة بالنجوم مع هلال صغير للقمر. (ليس ثمة من شخوص).
هذه الملاحظات: حزمة من الأوراق الرقيقة بحجم متساوي. أتخيلها مرقمة، مصنفة، ومنظمة
بعناية في الواجهات التي سيضعونها في صالون فندقي.
سري أنا، تم كشفه لكنه محفوظ.
. سأكون شفافاً وأكون قد اختفيت
. الوقائع هي لا شيء. ثمة حقيقة في ما حدث تعادل حقيقة ما لم يحدث.
نحن فقراء في جميع الأحوال.