نقوس المهدي
كاتب
للجنّة ووعودها في الثقافة الإسلامية مكانة هامة تدخل في هيكلة المنظومة الأخلاقية، وتشكل خلفية مباشرة للتشريع والقانون الذي يحكم المجتمعات الإسلامية، ومن هنا محورية أبعادها في التشريع والتفاسير. مئات الدراسات وآلاف الأبحاث تمحصت بشكل خاص في ذكر القرآن والسنة النبوية لـ"الحور العين"، وبالتحديد في سياق بشرى الرجال المسلمين بالجنة، حتى أن لفظة "الحور العين" غدت مرادفاً لهذا النسق، وبهذا كانت محط خلاف واهتمام في الأبحاث التي قاربت الإسلام في ضوء التحديث، ودور النساء وقيم المساواة الاجتماعية. فيما يلي تحليل لنسق واحد هو: إخراج النساء (المؤمنات) من الجنة التي تعدهن بها الآيات القرآنية، وإدخال حوريات العين مكانهن، وكيف انتقدها عدد من المفسرين، بالإضافة إلى سؤال عن مكانة الحور العين في تصور النساء للجنة.
تأطير "الخطاب"
لم يشهد التاريخ الإسلامي بعد تفسيراً على أيدي نساء عالمات، رغم وجود استثناءات بسيطة هي ما نقل عن زوجات النبي وبعض الصحابيات من روايات في التفسير وأسباب النزول. إن التعمق في أسباب ذلك موضوع شائك، ولكن ما يهمنا هنا هو أن التفاسير بنيت بشكل شبه كامل على وجهات نظر تبلورت في مجتمعات كانت منظوماتها الفكرية والاجتماعية محكومة بأولويات جنوسية ذكورية، وتطورت عبر عقود مستثنية الأنساق المعاصرة لها مما أنتجته وجهات نظر النساء.
يبدو تأثير ذلك جلياً عند تتبع تسلسل التفاسير للآيات القرآنية التي تخاطب النساء والرجال معاً. أكتفي بمثال واحد عنها من سورة التوبة 9 في الآية 72، وتنص الآية: "وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن، ورضوان من الله، ذلك هو الفوز العظيم". الوعود في هذه الآية تكرر ذكر الثواب مضاعفاً ثلاث مرات: "الجنة"، و"المساكن الطبية"، و"جنات عدن"، ثم تكلل الوعد بـ"رضوان من الله". الآية بشرى موجهة بشكل واضح وصريح للمؤمنين والمؤمنات”، وهو وعد يقابل وعيداً لـ"المنافقين والمنافقات" في نفس السورة، في الآية 68: "وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم".
سورة التوبة هي سورة مدنية من 129 آية كريمة، وهي السورة الوحيدة التي تبدأ بدون بسملة، ولها أسماء عديدة. ارتبط نزول السورة بغزوة "تبوك" (630 م)، التي أعدها النبي محمد ضد الروم، وتخاطب أولئك الذين استجابوا لدعوة القتال، والذين بذلوا أموالهم لتمويلها، وأولئك "المنافقين" الذين قدموا الحجج وتخلفوا عنها، وخذلوا الرسول.
الآية في كتب التفاسير
أحد أقدم التفاسير، تفسير مقاتل بن سليمان (150 هـ)، يورد تعليقاً مقتضباً للآية ككل، ويصور قصراً مادياً فيها من ياقوت ودر، فيقول في تفسيرها: "يعني قصور الياقوت والدر، فتهب ريح طيبة من تحت العرش بكثبان المسك الأبيض".
جامع البيان للطبري (310 هـ 923 م)، المعروف بـ"تفسير الطبري"، يعتبر من أهم كتب التفسير في تفسيره للآية. يبدأ الطبري بوعد الله للذين "صدقوا الله ورسوله وأقروا به وبما جاء به من عند الله من الرجال والنساء"، فهي "بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار، لابثين فيها أبداً مقيمين لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد، ومنازل يسكنونها طيبة".
يستهل الطبري شرحه بحديثين اثنين بإسنادين مختلفين ينتهي كلاهما بالمصدر نفسه وهو أبو هريرة وعمران بن حصين، وفي كليهما يُسأل الرسول عن معنى "ومساكن طيبة في جنات عدن". الحديث الأول يشمل المؤمنين والمؤمنات، إذ تفسر بأنها: "قصر في الجنة من لؤلؤ، فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً". وأما الحديث الثاني، ففيه إضافة لتفاصيل أخرى تستثني النساء، وتخاطب الرجال حصراً: "على كل فراش زوجة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لوناً من طعام، في كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع".
وأما في شرح "في جنات عدن"، فيقدم الطبري كواحدة من احتمالات المعنى "معدن الرجل الذي يكون فيه"، ويتوسع في تفسير ذلك، فيذكر بأنه يقال إن عدن قد تدل على "بطان" الجنة، أو وسطها، أو أنها ربما اسم نهر في الجنة، أو مدينة الجنة، أو قصر يقال له عدن (له خمسة آلاف باب). وأما عمن يدخلها، فيضيف الطبري حديثاً نبوياً يخص ممن يسكن في جنات عدن "النبيين والصديقين والشهداء"، والفئات الثلاث، في تخصيصها، تستثني النساء اللواتي تذكرهم الآية بوضوح في مستهلها "وعد الله المؤمنين والمؤمنات". إلا أن الطبري في تفسير القسم الأخير للآية "ذلك هو الفوز العظيم"، يذكر "المؤمنين والمؤمنات"، الذين ظفروا بـ"كرامة الأبد"، فهو الفوز العظيم الذي لاشيء أعظم منه.
أقوال جاهزة عن أسباب إخراج النساء المؤمنات من الجنة التي تعدهن بها الآيات القرآنية، وإدخال حوريات العين مكانهن
اكتسب تفسير "جنات عدن" أولوية في شرح الآية، وكرس المفسرون اهتماماً خاصاً لاستكشاف تنوع معناها، فشكلت القصور و"كسوتها" خطاً لم تنقطع مقاربته. في بعض التفاسير يكتسب قصر "عدن" ملامح جديدة، فيتضخم حجمه وتتضاعف أعداد أبوابه، ومع كل باب يزداد عدد الحور العين، وفي بعضها تفرش موائد عارمة. فمثلاً في تفسير بحر العلوم للسمرقندي (375 هـ)، قصر "جنات عدن" يغدو قصراً في الجنة "من ذهب له خمسمائة ألف باب وعلى كل باب خمسة وعشرون ألفاً من الحور العين...". وفي “الدر المنثور في التفسير بالمأثور” للسيوطي (911 هـ/ 1505 م)، تتوسع قصور الجنة وتتضاعف أعداها، وتأخذ أبعاداً أسطورية. يقترح السيوطي بأن الجنة 100 درجة، ويستشهد بحديث منسوب لابن عمر عن أدنى درجاتها: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل له ألف قصر، مابين كل قصرين مسيرة سنة، يرى أقصاها كما يرى أدناها، في كل قصر من الحور العين والرياحين والولدان، ما يدعو شيئاً إلا أتى به."
هذه التفاسير تبني قصوراً في فضاء دلالات هذه الآية، التي تكتسي مع كل مفسر تفاصيل جديدة في نسقين اثنين: الأول هو عملية انتقاء تُخصص من يستحق أن يدخلها (الأنبياء والصديقين والشهداء، والحكام)، وأما الثاني فيسرد الملذات التي يختبرها قاطنها “جمال بنائها من ذهب وزمرد ومرجان، وما تهبه من زوجات حور عين، موائد، وصيفات ووصفاء”. في كليها يتم استثناء النساء (المؤمنات)، وإخراجهن من الجنان التي وعدتهن بها الآية صراحة.
في تفسير البحر المحيط لأبي حيّان الغرناطي (745 هـ/ 1344 م) وهو من التفاسير المدرجة ضمن التفاسير بالرأي، يذكر أبو حيّان ذات الملاحظة، فعند شرحه للآية يذكر اطلاعه على ما جاء في أشهر التفاسير قبله، ولكنه يعقب عليها وينتقد تخصيصها للرجال دون النساء المؤمنات، فيقول: "وهذه أقوال عن السلف كثيرة الاختلاف والاضطراب، وبعضها يدل على التخصيص، وهو مخالف لظاهر الآية، إذ وعد الله بها المؤمنين والمؤمنات". لم يكن أبو حيّان استثناءاً، فكان النقد والنقض والبناء جزءاً من نهج التفاسير، وهو أمر يحتم علينا توسيع نطاق فهمنا للتفاسير ليتناسب مع فضائها الغني المتنوع.
من الأسباب الأهم لهذا التوجه في التفاسير وتجنب التطرق لمكانة النساء في الجنة، باستثناء أمهات المسلمين والحور العين، هو الإشكالية التي تفرضها هذه الفكرة، فنرى غياب مثل ذلك في نفس التفاسير عند الحديث عن آيات تخاطب المسلمات في سياقات دورهن كـ"زوجات". بمعنى آخر، لايجد المفسرون مانعاً من نقاش دور النساء في الجنة إن كان ذلك محكوماً بوجودهن مع أزواجهن، لأن ذلك يعفي المفسرين من أزمة تحديد ماهية الثواب الذي يكتسبنه والمتع التي يمكن أن يحصلن عليها. السبب الثاني قد يكون نابعاً من اهتمامات المفسرين وقرائهم (بالمعنى الواسع للمفهوم)، فكان جل اهتمامهم مكرساً لمكانة المؤمنين في الجنة، وماهية الثواب، وطبيعة الحياة الأبدية. ولابد أن نتذكر دائما أن لكل تفسير سياقات اجتماعية، وقيماً وعادات تملي على المفسرين ترجيح أنساق على حساب غيرها، وفي الأمثلة، لا يبدو أن موضوع النساء ومكانتهن في الجنة كانت من أولويات المجتمعات التي أنتجت هذه التفاسير.
الجنة في عيون النساء
ليس لدينا تفاسير لعالمات مسلمات، ومع أن ما وصلنا من نظرة النساء للجنة جاء مبعثراً في آثار قليلة، مادية ومكتوبة، إلا أنه يمكننا إعادة بناء تصورهن للجنة، وبالتحديد للحور العين من رسائل عزاء تبادلنها في مناسبات وفاة نساء وفتيات وطفلات مسلمات. في هذه المقارنة، لابد أن نأخذ بعين الاعتبار أن طبيعة هذه التصورات تأخذ منحى مختلفاً عن التفاسير كونها مختصة بمناسبة الموت والتعزية.
الحوريات العين اللواتي يرد ذكرهن في تفاسير القرآن، تتغير أدوارهن في عيون النساء المسلمات. في هذه الرسائل، تواسي المعزيات أهل الفقيدة بذكر الحوريات اللواتي سيستقبلنها في الجنة، فكأن دورهن احتضان الموتى من النساء ورعايتهن ومواساتهن، ونرى التركيز في تصور الجنة على "الصحبة" التي ستحمي النساء في الجنة من الوحدة أو الحزن.
مع الحور العين، تخص الرسائل من ساكنات الجنة: مريم، وخديجة، وفاطمة، وأم الدرداء (صحابية، محدثة وفقيهة)، ورابعة العدوية وبلقيس. فإذاً يستبدل تصور الجنة في هذه الرسائل، الثواب والملذات التي نراها في التفاسير، بالصحبة والطمأنينة إلى أن من يفارقن الحياة، سيكونن بخير في الحياة الآخرة. رسائل التعزية في دعوتها لساكنات الجنة أن يحتضنّ النساء الفقيدات تخدم هدفين اجتماعيين: الأول هو سلوان وتعزية، والثاني مديح ومجاملة: تعزية لأن خير نساء الإسلام سيستقبلن الفقيدة، ومديح لأن في القرب من هؤلاء النساء في الجنة بركة تشبه إلى حد كبير المكانة المرموقة التي تكتسب من لقاء العلماء والصحابة والأولياء (يمكن الاطلاع على شواهد القبور ورسائل التعزية في موسوعة "الأموات والأحياء في الإسلام" 2004). فإذاً كان للنساء تصور للجنة اتسم بخصوصية فريدة، ولكنه لم يجد طريقه للتصور الإسلامي السائد، وما زال يُستثنى اليوم من تعاملنا مع مفهوم الجنة في التاريخ الإسلامي.
تغطي هذه المقالة جابناً واحداً من آلاف العناصر التي يمكن التوسع بها في وصف الجنة وأبعادها؛ هو الجنان كما تخيلها المفسرون، بالتحديد في الآية 72 من سورة التوبة، أذ تم إقصاء النساء من تصور الجنة، وإقحام الحور العين (والوصيفات والوصفاء) مكانهن، في مخالفة صارخة لما جاء صريحاً وواضحاً فيها.
في هذا الشرخ بين الآية القرآنية وتفاسيرها ما يذكرنا بأن التفاسير ليست امتداداً للقرآن الكريم، بل هي جهد فكري وإبداعي لعلماء ومختصين اتبعوا مناهج مختلفة، وتعمقوا في مجال التفسير والشرح في استمرارية وحوار بين بعضهم، وفي مشروع كل منهم صبغة من زمانه ومكانه، لذا جاءت تفاسيرهم محكومة بسياقاتهم الاجتماعية والتاريخية، ولكن أيضاً، إلى درجة كبيرة، بأولويات واختيارات وذائقة قراء عصر كل منهم.
تأطير "الخطاب"
لم يشهد التاريخ الإسلامي بعد تفسيراً على أيدي نساء عالمات، رغم وجود استثناءات بسيطة هي ما نقل عن زوجات النبي وبعض الصحابيات من روايات في التفسير وأسباب النزول. إن التعمق في أسباب ذلك موضوع شائك، ولكن ما يهمنا هنا هو أن التفاسير بنيت بشكل شبه كامل على وجهات نظر تبلورت في مجتمعات كانت منظوماتها الفكرية والاجتماعية محكومة بأولويات جنوسية ذكورية، وتطورت عبر عقود مستثنية الأنساق المعاصرة لها مما أنتجته وجهات نظر النساء.
يبدو تأثير ذلك جلياً عند تتبع تسلسل التفاسير للآيات القرآنية التي تخاطب النساء والرجال معاً. أكتفي بمثال واحد عنها من سورة التوبة 9 في الآية 72، وتنص الآية: "وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن، ورضوان من الله، ذلك هو الفوز العظيم". الوعود في هذه الآية تكرر ذكر الثواب مضاعفاً ثلاث مرات: "الجنة"، و"المساكن الطبية"، و"جنات عدن"، ثم تكلل الوعد بـ"رضوان من الله". الآية بشرى موجهة بشكل واضح وصريح للمؤمنين والمؤمنات”، وهو وعد يقابل وعيداً لـ"المنافقين والمنافقات" في نفس السورة، في الآية 68: "وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم".
سورة التوبة هي سورة مدنية من 129 آية كريمة، وهي السورة الوحيدة التي تبدأ بدون بسملة، ولها أسماء عديدة. ارتبط نزول السورة بغزوة "تبوك" (630 م)، التي أعدها النبي محمد ضد الروم، وتخاطب أولئك الذين استجابوا لدعوة القتال، والذين بذلوا أموالهم لتمويلها، وأولئك "المنافقين" الذين قدموا الحجج وتخلفوا عنها، وخذلوا الرسول.
الآية في كتب التفاسير
أحد أقدم التفاسير، تفسير مقاتل بن سليمان (150 هـ)، يورد تعليقاً مقتضباً للآية ككل، ويصور قصراً مادياً فيها من ياقوت ودر، فيقول في تفسيرها: "يعني قصور الياقوت والدر، فتهب ريح طيبة من تحت العرش بكثبان المسك الأبيض".
جامع البيان للطبري (310 هـ 923 م)، المعروف بـ"تفسير الطبري"، يعتبر من أهم كتب التفسير في تفسيره للآية. يبدأ الطبري بوعد الله للذين "صدقوا الله ورسوله وأقروا به وبما جاء به من عند الله من الرجال والنساء"، فهي "بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار، لابثين فيها أبداً مقيمين لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد، ومنازل يسكنونها طيبة".
يستهل الطبري شرحه بحديثين اثنين بإسنادين مختلفين ينتهي كلاهما بالمصدر نفسه وهو أبو هريرة وعمران بن حصين، وفي كليهما يُسأل الرسول عن معنى "ومساكن طيبة في جنات عدن". الحديث الأول يشمل المؤمنين والمؤمنات، إذ تفسر بأنها: "قصر في الجنة من لؤلؤ، فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً". وأما الحديث الثاني، ففيه إضافة لتفاصيل أخرى تستثني النساء، وتخاطب الرجال حصراً: "على كل فراش زوجة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لوناً من طعام، في كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع".
وأما في شرح "في جنات عدن"، فيقدم الطبري كواحدة من احتمالات المعنى "معدن الرجل الذي يكون فيه"، ويتوسع في تفسير ذلك، فيذكر بأنه يقال إن عدن قد تدل على "بطان" الجنة، أو وسطها، أو أنها ربما اسم نهر في الجنة، أو مدينة الجنة، أو قصر يقال له عدن (له خمسة آلاف باب). وأما عمن يدخلها، فيضيف الطبري حديثاً نبوياً يخص ممن يسكن في جنات عدن "النبيين والصديقين والشهداء"، والفئات الثلاث، في تخصيصها، تستثني النساء اللواتي تذكرهم الآية بوضوح في مستهلها "وعد الله المؤمنين والمؤمنات". إلا أن الطبري في تفسير القسم الأخير للآية "ذلك هو الفوز العظيم"، يذكر "المؤمنين والمؤمنات"، الذين ظفروا بـ"كرامة الأبد"، فهو الفوز العظيم الذي لاشيء أعظم منه.
أقوال جاهزة عن أسباب إخراج النساء المؤمنات من الجنة التي تعدهن بها الآيات القرآنية، وإدخال حوريات العين مكانهن
اكتسب تفسير "جنات عدن" أولوية في شرح الآية، وكرس المفسرون اهتماماً خاصاً لاستكشاف تنوع معناها، فشكلت القصور و"كسوتها" خطاً لم تنقطع مقاربته. في بعض التفاسير يكتسب قصر "عدن" ملامح جديدة، فيتضخم حجمه وتتضاعف أعداد أبوابه، ومع كل باب يزداد عدد الحور العين، وفي بعضها تفرش موائد عارمة. فمثلاً في تفسير بحر العلوم للسمرقندي (375 هـ)، قصر "جنات عدن" يغدو قصراً في الجنة "من ذهب له خمسمائة ألف باب وعلى كل باب خمسة وعشرون ألفاً من الحور العين...". وفي “الدر المنثور في التفسير بالمأثور” للسيوطي (911 هـ/ 1505 م)، تتوسع قصور الجنة وتتضاعف أعداها، وتأخذ أبعاداً أسطورية. يقترح السيوطي بأن الجنة 100 درجة، ويستشهد بحديث منسوب لابن عمر عن أدنى درجاتها: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل له ألف قصر، مابين كل قصرين مسيرة سنة، يرى أقصاها كما يرى أدناها، في كل قصر من الحور العين والرياحين والولدان، ما يدعو شيئاً إلا أتى به."
هذه التفاسير تبني قصوراً في فضاء دلالات هذه الآية، التي تكتسي مع كل مفسر تفاصيل جديدة في نسقين اثنين: الأول هو عملية انتقاء تُخصص من يستحق أن يدخلها (الأنبياء والصديقين والشهداء، والحكام)، وأما الثاني فيسرد الملذات التي يختبرها قاطنها “جمال بنائها من ذهب وزمرد ومرجان، وما تهبه من زوجات حور عين، موائد، وصيفات ووصفاء”. في كليها يتم استثناء النساء (المؤمنات)، وإخراجهن من الجنان التي وعدتهن بها الآية صراحة.
في تفسير البحر المحيط لأبي حيّان الغرناطي (745 هـ/ 1344 م) وهو من التفاسير المدرجة ضمن التفاسير بالرأي، يذكر أبو حيّان ذات الملاحظة، فعند شرحه للآية يذكر اطلاعه على ما جاء في أشهر التفاسير قبله، ولكنه يعقب عليها وينتقد تخصيصها للرجال دون النساء المؤمنات، فيقول: "وهذه أقوال عن السلف كثيرة الاختلاف والاضطراب، وبعضها يدل على التخصيص، وهو مخالف لظاهر الآية، إذ وعد الله بها المؤمنين والمؤمنات". لم يكن أبو حيّان استثناءاً، فكان النقد والنقض والبناء جزءاً من نهج التفاسير، وهو أمر يحتم علينا توسيع نطاق فهمنا للتفاسير ليتناسب مع فضائها الغني المتنوع.
من الأسباب الأهم لهذا التوجه في التفاسير وتجنب التطرق لمكانة النساء في الجنة، باستثناء أمهات المسلمين والحور العين، هو الإشكالية التي تفرضها هذه الفكرة، فنرى غياب مثل ذلك في نفس التفاسير عند الحديث عن آيات تخاطب المسلمات في سياقات دورهن كـ"زوجات". بمعنى آخر، لايجد المفسرون مانعاً من نقاش دور النساء في الجنة إن كان ذلك محكوماً بوجودهن مع أزواجهن، لأن ذلك يعفي المفسرين من أزمة تحديد ماهية الثواب الذي يكتسبنه والمتع التي يمكن أن يحصلن عليها. السبب الثاني قد يكون نابعاً من اهتمامات المفسرين وقرائهم (بالمعنى الواسع للمفهوم)، فكان جل اهتمامهم مكرساً لمكانة المؤمنين في الجنة، وماهية الثواب، وطبيعة الحياة الأبدية. ولابد أن نتذكر دائما أن لكل تفسير سياقات اجتماعية، وقيماً وعادات تملي على المفسرين ترجيح أنساق على حساب غيرها، وفي الأمثلة، لا يبدو أن موضوع النساء ومكانتهن في الجنة كانت من أولويات المجتمعات التي أنتجت هذه التفاسير.
الجنة في عيون النساء
ليس لدينا تفاسير لعالمات مسلمات، ومع أن ما وصلنا من نظرة النساء للجنة جاء مبعثراً في آثار قليلة، مادية ومكتوبة، إلا أنه يمكننا إعادة بناء تصورهن للجنة، وبالتحديد للحور العين من رسائل عزاء تبادلنها في مناسبات وفاة نساء وفتيات وطفلات مسلمات. في هذه المقارنة، لابد أن نأخذ بعين الاعتبار أن طبيعة هذه التصورات تأخذ منحى مختلفاً عن التفاسير كونها مختصة بمناسبة الموت والتعزية.
الحوريات العين اللواتي يرد ذكرهن في تفاسير القرآن، تتغير أدوارهن في عيون النساء المسلمات. في هذه الرسائل، تواسي المعزيات أهل الفقيدة بذكر الحوريات اللواتي سيستقبلنها في الجنة، فكأن دورهن احتضان الموتى من النساء ورعايتهن ومواساتهن، ونرى التركيز في تصور الجنة على "الصحبة" التي ستحمي النساء في الجنة من الوحدة أو الحزن.
مع الحور العين، تخص الرسائل من ساكنات الجنة: مريم، وخديجة، وفاطمة، وأم الدرداء (صحابية، محدثة وفقيهة)، ورابعة العدوية وبلقيس. فإذاً يستبدل تصور الجنة في هذه الرسائل، الثواب والملذات التي نراها في التفاسير، بالصحبة والطمأنينة إلى أن من يفارقن الحياة، سيكونن بخير في الحياة الآخرة. رسائل التعزية في دعوتها لساكنات الجنة أن يحتضنّ النساء الفقيدات تخدم هدفين اجتماعيين: الأول هو سلوان وتعزية، والثاني مديح ومجاملة: تعزية لأن خير نساء الإسلام سيستقبلن الفقيدة، ومديح لأن في القرب من هؤلاء النساء في الجنة بركة تشبه إلى حد كبير المكانة المرموقة التي تكتسب من لقاء العلماء والصحابة والأولياء (يمكن الاطلاع على شواهد القبور ورسائل التعزية في موسوعة "الأموات والأحياء في الإسلام" 2004). فإذاً كان للنساء تصور للجنة اتسم بخصوصية فريدة، ولكنه لم يجد طريقه للتصور الإسلامي السائد، وما زال يُستثنى اليوم من تعاملنا مع مفهوم الجنة في التاريخ الإسلامي.
تغطي هذه المقالة جابناً واحداً من آلاف العناصر التي يمكن التوسع بها في وصف الجنة وأبعادها؛ هو الجنان كما تخيلها المفسرون، بالتحديد في الآية 72 من سورة التوبة، أذ تم إقصاء النساء من تصور الجنة، وإقحام الحور العين (والوصيفات والوصفاء) مكانهن، في مخالفة صارخة لما جاء صريحاً وواضحاً فيها.
في هذا الشرخ بين الآية القرآنية وتفاسيرها ما يذكرنا بأن التفاسير ليست امتداداً للقرآن الكريم، بل هي جهد فكري وإبداعي لعلماء ومختصين اتبعوا مناهج مختلفة، وتعمقوا في مجال التفسير والشرح في استمرارية وحوار بين بعضهم، وفي مشروع كل منهم صبغة من زمانه ومكانه، لذا جاءت تفاسيرهم محكومة بسياقاتهم الاجتماعية والتاريخية، ولكن أيضاً، إلى درجة كبيرة، بأولويات واختيارات وذائقة قراء عصر كل منهم.