نقوس المهدي
كاتب
تحت عنوان «الشعر الايروتيكي النسوي الشفاهي في العالم العربي: تأصيل ونصوص» (دار صفحات- دمشق)، يقدم الباحث العراقي نصوصاً مدهشة من الشعر الشفاهي النسوي المهمل والمهمّش والضائع، ويربطه بينابيعه الأولى التي نجدها في الكتابات والأساطير والحفريات والتصاوير القديمة التي تعود إلى نحو 3000 آلاف عام
بزغت الفكرة أثناء وجوده في عرس شعبي في الجنوب التونسي. مجموعة من النسوة يردّدن مقطوعة مغنّاة تحتفل باللذة والرغبة والجسد، فقرّر شاكر لعيبي (1955) في الحال نبش كنوز الشعر الشفاهي الايروتيكي الذي تردّده النساء في الأعراس والمناسبات الاحتفالية التي تتعلّق بالعشق والأشواق والصبابة.
خلال تجواله الطويل والمضني بين هذه النصوص، إذا به يكتشف مدوّنة ضخمة وعميقة وثرية تطيح جانباً الكتابات الايروتيكية النسوية الحديثة، هذه الكتابات التي راكمت خطاً أفقياً في استفزاز المجتمع الذكوري، من دون خلخلته شاقولياً. في الانطولوجيا التي أنجزها الشاعر والباحث العراقي أخيراً بعنوان» الشعر الأيروتيكي النسوي الشفاهي في العالم العربي: تأصيل ونصوص» (دار صفحات- دمشق)، نقع على نصوصٍ مدهشة من الشعر الشفاهي النسوي المهمل والمهمّش والضائع، ومحاولة ربطه بينابيعه الأولى التي نجدها بوضوح في الكتابات والأساطير والحفريات والتصاوير القديمة التي تعود إلى نحو 3000 آلاف عام. هكذا يردم المسافة بين عشتار وإينانا والأشعار الفرعونية من جهة، والنساء المجهولات اليوم، ذلك أنّ المكابدات العشقية واحدة، ولو تفاوتت نسبة المكاشفة بين بيئة شعبية وأخرى، وتالياً يخلّص هذا الشعر من جانبه الفولكلوري الصرف ويطلقه في الفضاء العام كرافد أساسي للثقافة العربية التي لطالما ابتذلت هذا النوع الشعري وأهملته باستعلاء مجاني، رغم الاعتراف بأهمية السرد الشفاهي الموازي له معرفياً. لم يكتفِ صاحب «الشرق المؤنث» بجمع وتصنيف الشعر الإيروتيكي النسوي، بل قام بنقله و(ترجمته؟) إلى الفصحى، نظراً إلى صعوبة بعض اللهجات العربية في إيصال المعنى والإشارات الحسيّة المحليّة الغامضة، وهو بذلك يضعه حيال عتبة شعرية أخرى، أو الانتقال به من الشفاهي إلى المكتوب، معترفاً بخسارته خشونة المفردة الأصلية، ونبرة الفحش الصريحة التي تميّز المنطوق الشعري الرغبوي في ترحاله من جيلٍ إلى آخر، ومؤكداً في الوقت ذاته وجود نواةٍ صلبة لنزعة ايروتيكية نسوية عربية موغلة في القدم. الأيروس هنا لا يكتفي بالقشرة البرانية لهذا المصطلح، إنما يشتمل على طبقات من الرغبة والاشتهاء والتوق إلى الطيران بأقصى أحوال اللذة ومسالكها الجمالية، من دون خفر، إلا في ما ندر، ذلك أنّ «الرغبة ليست محض اشتهاء افتراسي». عند هذا المنعطف، يستعين بجملة من أغنية شعبية باللهجة المصرية تقول «ياللي على الترعة حوّدْ عالمالح» لتصبح على النحو الآتي» يا من على الساقية، حِدْ إلى المالح» كمثال على الترجمة وتذويب الأصل الشفوي في متن اللغة الفصحى واشتراطاتها الثقافية.
في المقابل، ستفقد بعض النصوص وهجها الشعبي الحار، وحسيّتها الصريحة، وقدرتها على الإيحاء، في مراودة المحرّم في الفصحى، لكن فضيلته البحثية تتحقق بإماطة اللثام عن هذا الشعر المكشوف وجمعه في وعاءٍ واحد، وفحص طبقاته البلاغية، تبعاً لدرجة الغليان بين نصٍ وآخر، معتبراً أنّ «هذه الرغبة العارفة بالوجود غائبة في قصيدة النثر النسوية العربية المعاصرة، لكنها تحضر في الشعر الايروتيكيّ النسويّ مجهول الهوية لنساء العرب اللواتي، وهن يغنين في الأعراس وفي خلواتهن، فإنهن يستحضرن روح الربّات الأنتيكيات على ما يبدو، بسبب صلة رحم بالمعنى المرهف لكلمة رحم». وبناء على هذه المعطيات، فإن الأشعار والأغاني النسوية الحالية هي امتداد لأثر أدبيّ قديم، يمتد بجذوره إلى مدونات بلاد الرافدين، من أقصى الجنوب العراقي، فسوريا فأطراف الجزيرة العربية فاليمن، والنص الفرعوني عميق الأثر حتى في الحياة المصرية الراهنة إلى حدود التماهي، مع بعض التحويرات التي أفرزتها المؤثرات الدينية اللاحقة. رغم ذلك، لم تتمكن هذه المؤثرات من «محو الطبيعية الأيروسية، عالية الصوت، للنصوص النسوية العربية مجهولة الهوية طالما أنها تعبير عما هو طبيعي واحتفالي كانت النساء دوماً وأبداً قادرات على الإعلان عنه رغم أقصى حدود المنع». لكن ما هي الخصائص التي تميّز عاميّة نسوية عن أخرى؟ يجيب لعيبي بأنّ الشعر الشفاهي المصري يعتني «بتعداد أشياء المكان الصغيرة التي تحيط المشهد الايروتيكي من أجل التعبير عن الذات المنتشية، بالإضافة إلى غنج، ودلع يتناوب بين الخضوع والعصيان والإمرة والتشهّي والتمنّي والحسرة»، فيما يقف الشعر النسوي العراقي عند حديّ الحسيّة الصريحة والعذبة تارةً، والنبرة الجنائزية والمأساوية والموجوعة بسبب الظلم الواقع على المرأة من زوج غير مرغوب فيه طوراً. هذا على عكس شعر النساء الشاميّات، فهو «شعرٌ حَذِرٌ مقالٌ بكلام متزن، يتأرجح بين الصبابة الجسديّة العالية والولع الشاعري والغنج الرطب». وتذهب أشعار البدويات في منطقة الجزيرة العربية إلى «الرصانة العشقيّة، والقول الحذر المحترس في التعبير عن الهاجس الايروتيكي لنسائه». ويلفت إلى الاحتفالية في شعر نساء تونس والتطلّع إلى سعادة مرتجاة، و»شوق شديد للذّة الغامرة يُصَرَّحُ بها بشكل ملتهب، ويشكّل الجسد فيها طرفاً أساسياً وإن لم يكن الوحيد». ويغلق الدائرة على نماذج من الشعر الكردي والصومالي والموريتاني والأمازيغي.
بزغت الفكرة أثناء وجوده في عرس شعبي في الجنوب التونسي. مجموعة من النسوة يردّدن مقطوعة مغنّاة تحتفل باللذة والرغبة والجسد، فقرّر شاكر لعيبي (1955) في الحال نبش كنوز الشعر الشفاهي الايروتيكي الذي تردّده النساء في الأعراس والمناسبات الاحتفالية التي تتعلّق بالعشق والأشواق والصبابة.
خلال تجواله الطويل والمضني بين هذه النصوص، إذا به يكتشف مدوّنة ضخمة وعميقة وثرية تطيح جانباً الكتابات الايروتيكية النسوية الحديثة، هذه الكتابات التي راكمت خطاً أفقياً في استفزاز المجتمع الذكوري، من دون خلخلته شاقولياً. في الانطولوجيا التي أنجزها الشاعر والباحث العراقي أخيراً بعنوان» الشعر الأيروتيكي النسوي الشفاهي في العالم العربي: تأصيل ونصوص» (دار صفحات- دمشق)، نقع على نصوصٍ مدهشة من الشعر الشفاهي النسوي المهمل والمهمّش والضائع، ومحاولة ربطه بينابيعه الأولى التي نجدها بوضوح في الكتابات والأساطير والحفريات والتصاوير القديمة التي تعود إلى نحو 3000 آلاف عام. هكذا يردم المسافة بين عشتار وإينانا والأشعار الفرعونية من جهة، والنساء المجهولات اليوم، ذلك أنّ المكابدات العشقية واحدة، ولو تفاوتت نسبة المكاشفة بين بيئة شعبية وأخرى، وتالياً يخلّص هذا الشعر من جانبه الفولكلوري الصرف ويطلقه في الفضاء العام كرافد أساسي للثقافة العربية التي لطالما ابتذلت هذا النوع الشعري وأهملته باستعلاء مجاني، رغم الاعتراف بأهمية السرد الشفاهي الموازي له معرفياً. لم يكتفِ صاحب «الشرق المؤنث» بجمع وتصنيف الشعر الإيروتيكي النسوي، بل قام بنقله و(ترجمته؟) إلى الفصحى، نظراً إلى صعوبة بعض اللهجات العربية في إيصال المعنى والإشارات الحسيّة المحليّة الغامضة، وهو بذلك يضعه حيال عتبة شعرية أخرى، أو الانتقال به من الشفاهي إلى المكتوب، معترفاً بخسارته خشونة المفردة الأصلية، ونبرة الفحش الصريحة التي تميّز المنطوق الشعري الرغبوي في ترحاله من جيلٍ إلى آخر، ومؤكداً في الوقت ذاته وجود نواةٍ صلبة لنزعة ايروتيكية نسوية عربية موغلة في القدم. الأيروس هنا لا يكتفي بالقشرة البرانية لهذا المصطلح، إنما يشتمل على طبقات من الرغبة والاشتهاء والتوق إلى الطيران بأقصى أحوال اللذة ومسالكها الجمالية، من دون خفر، إلا في ما ندر، ذلك أنّ «الرغبة ليست محض اشتهاء افتراسي». عند هذا المنعطف، يستعين بجملة من أغنية شعبية باللهجة المصرية تقول «ياللي على الترعة حوّدْ عالمالح» لتصبح على النحو الآتي» يا من على الساقية، حِدْ إلى المالح» كمثال على الترجمة وتذويب الأصل الشفوي في متن اللغة الفصحى واشتراطاتها الثقافية.
في المقابل، ستفقد بعض النصوص وهجها الشعبي الحار، وحسيّتها الصريحة، وقدرتها على الإيحاء، في مراودة المحرّم في الفصحى، لكن فضيلته البحثية تتحقق بإماطة اللثام عن هذا الشعر المكشوف وجمعه في وعاءٍ واحد، وفحص طبقاته البلاغية، تبعاً لدرجة الغليان بين نصٍ وآخر، معتبراً أنّ «هذه الرغبة العارفة بالوجود غائبة في قصيدة النثر النسوية العربية المعاصرة، لكنها تحضر في الشعر الايروتيكيّ النسويّ مجهول الهوية لنساء العرب اللواتي، وهن يغنين في الأعراس وفي خلواتهن، فإنهن يستحضرن روح الربّات الأنتيكيات على ما يبدو، بسبب صلة رحم بالمعنى المرهف لكلمة رحم». وبناء على هذه المعطيات، فإن الأشعار والأغاني النسوية الحالية هي امتداد لأثر أدبيّ قديم، يمتد بجذوره إلى مدونات بلاد الرافدين، من أقصى الجنوب العراقي، فسوريا فأطراف الجزيرة العربية فاليمن، والنص الفرعوني عميق الأثر حتى في الحياة المصرية الراهنة إلى حدود التماهي، مع بعض التحويرات التي أفرزتها المؤثرات الدينية اللاحقة. رغم ذلك، لم تتمكن هذه المؤثرات من «محو الطبيعية الأيروسية، عالية الصوت، للنصوص النسوية العربية مجهولة الهوية طالما أنها تعبير عما هو طبيعي واحتفالي كانت النساء دوماً وأبداً قادرات على الإعلان عنه رغم أقصى حدود المنع». لكن ما هي الخصائص التي تميّز عاميّة نسوية عن أخرى؟ يجيب لعيبي بأنّ الشعر الشفاهي المصري يعتني «بتعداد أشياء المكان الصغيرة التي تحيط المشهد الايروتيكي من أجل التعبير عن الذات المنتشية، بالإضافة إلى غنج، ودلع يتناوب بين الخضوع والعصيان والإمرة والتشهّي والتمنّي والحسرة»، فيما يقف الشعر النسوي العراقي عند حديّ الحسيّة الصريحة والعذبة تارةً، والنبرة الجنائزية والمأساوية والموجوعة بسبب الظلم الواقع على المرأة من زوج غير مرغوب فيه طوراً. هذا على عكس شعر النساء الشاميّات، فهو «شعرٌ حَذِرٌ مقالٌ بكلام متزن، يتأرجح بين الصبابة الجسديّة العالية والولع الشاعري والغنج الرطب». وتذهب أشعار البدويات في منطقة الجزيرة العربية إلى «الرصانة العشقيّة، والقول الحذر المحترس في التعبير عن الهاجس الايروتيكي لنسائه». ويلفت إلى الاحتفالية في شعر نساء تونس والتطلّع إلى سعادة مرتجاة، و»شوق شديد للذّة الغامرة يُصَرَّحُ بها بشكل ملتهب، ويشكّل الجسد فيها طرفاً أساسياً وإن لم يكن الوحيد». ويغلق الدائرة على نماذج من الشعر الكردي والصومالي والموريتاني والأمازيغي.