نقوس المهدي
كاتب
موضوع هذه المقالة يتعلق بشخصية فريدة هي محي الدين ابن عربي ، الذي يعرف في تاريخنا بلقب الشيخ الأكبر أو شيخ الصوفية الأكبر. لإدراك أهمية هذا الرجل في تاريخ التصوف، ينبغي أن نعرج على مفهوم التصوف ، الذي غالبًا ما يفهم بمعنيين :
الأول : معنى عام، وشعبي نراه متمثلًا في الاحتفالات الخاصة بالأولياء والمولد، وهي طقوس فلكلورية شعبية تنسب إلى التصوف وهي في الواقع أقرب ما تتم بحجة التصوف، إذ الشعوب كلها لها احتفالات، وهذا لا يعني التصوف في شيء.
والآخر : معنى خاص يكون فيه التصوف طريقًا لفهم العالم، بعيداً عن الانشغال في الإطار الخارجي الشكلي للدين، إنما يحاول المتصوف من خلاله الوصول إلى معرفة تتجاوز ظاهر الأشياء إلى إدراك المعنى الكامن خلفها. لهذا يحرص الصوفيون على إبانة الفرق القائم بين الظاهر والباطن ، الشريعة والحقيقة، على أساس أن كل ظاهرة شرعية تخفي خلفها حقيقة باطنة . فالشرع مجموعة عبادات ، وهذه العبادات عند الصوفي باب يدخل منه إلى حقيقة مطلوبة من وراء هذه المسألة ، فالشريعة والحقيقة ، الظاهر والباطن ، المعلن والمستتر ، العام والخاص ، هي الثنائيات التي يقوم عليها التصوف.
بدأ التصوف في تاريخ الإنسانية منذ وقت مبكر، وقد أخذ أسماء وأشكالًا عدّة فهو عرف في اليهودية باسم القبالة(الكابالا) ، وفي المسيحية بالرهبنة ، وفي الإسلام بالتصوف .ويمكن القول إن هذا الاتجاه ظهر منذ القرن الأول من خلال خبرات عميقة تتجاوز الشكل الظاهر للشريعة إلى إدراك باطن وحقيقة هذا العالم. وتتطور تطورًا كبيرًا جدًا خلال القرون الخمسة الأولى ، إلى أن وصل إلى محطة غير مسبوقة هي محطة ابن عربي ، الذي ولد في الأندلس عام 560هـ ، وفيها نشأ ودرس ، ويبدو أنه جذب للتصوف منذ صغره ، فالمؤرخون لحياته عرضوا حوارًا له مع ابن رشد الفيلسوف المشهور، قال فيه : "دخلت يوماً بقرطبةَ على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به عليّ في خلوتي ، فكان يُظهر التعجُّبَ مما سمع . فبعثني والدي إليه فى حاجةٍ ، قصداً منه حتى يجتمع بي ، فإنَّه كان من أصدقائه ، وأنا (آنذاك) صبي ما بقل وجهي ولا طرَّ شاربي . فعندما دخلت عليه ، قام من مكانه إليَّ محبَّةً وإعظاماً ، فعانقني وقال لي : نعم ! قلت له : نعم ! فزاد فرحه بي لفهمي عنه ، ثم استشعرتُ بما أفرحه ، فقلت : لا ! فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده . وقال لي : كيف وجدتم الأمرَ في الكشف والفيض الإلهي ، هل هو ما أعطاه لنا النظر ؟ قلت : نعم ولا ، وبين نعم ولا تطيرُ الأرواحُ من موادِّها والأعناق من أجسادها ! فاصفرَّ لونُه" .
هذا حوار بسيط بين شخصين ، يظهر الصلة بين علوم النظر القائمة على تدبر ذهني، وبين الإدراك المباشر للحقيقة، ومعرفة الصوفي التي تقوم على إدراك الشيء بمجمله، ويدل على طبيعة المسار الفكري في الإسلام، فابن رشد يمثل المسار الفكري الفلسفي الذي يستند على فلسفة أرسطو ، وهذا المسار يمكن وصفه بأنه غير متوازن مع فلسفة الفكر العربي، أما ابن عربي فيمثل مسارًا فكريًا آخر هو التصوف، وأحسب أنه مسار متناغم مع الشخصية الإسلامية والعربية .
وقد التقى ابن عربي بابن رشد مرة أخرى عندما حمل على نعشه ، ووصف جنازته كالآتي «ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وقلنا في ذلك:
«هذا الإمام وهذه أعماله = ياليت شعري هل أتت آماله».
واللافت وصفه له بالإمام وذكره لمؤلفاته التي ساوت وزن جثمانه، وهي على كثرتها لم تحقق آمال قاضي قرطبة وطموحاته.
هذا الوصف يعكس قلقه المعرفي، إذ تراه مستخرجًا للعلوم الفلسفية، لكن منهجه الصوفي بقي الأساس ، وكانت مصر هي المحطة الأولى التي منها انتقل للشام ومكة لينتهي به المقام على أطراف الشام وحدود تركيا المعاصرة "قونيا".وفي فترة حياته الممتدة من 560_ 638ه ، كتب مؤلفات عدّة ، بأفق عميق تتجلى فيه المعرفة واللغة الصوفية ، نادرًا مانجده عند شخص آخر ، فهو (كون) غير محدود ، وقد أخبرنا في فهرست أعدها لمؤلفاته أنها بلغت 250 مؤلفاً ، وهو ألف بعد هذا الفهرست كتبا جديدة وصلت إلى 500 كتاب حسب ما أشارت له بعض الدراسات الحديثة.أما كتابه الأساسي فهو الفتوحات المكية وهو 37 سفراً ، و560 باباً ، وقد نشر في أربعة مجلدات من دون تحقيق ، ثم عمد عثمان يحيى إلى تحقيقه ، واستغرق هذا منه 25 سنة ، خرج فيها ب 17جزء ، ومات من دون أن يكملها ، ولا أظن أنه من اليسير استكمال تحقيقه. فهو نص صوفي موغل في التعمق، ولغته رمزية ، ويستخدم إشارات إلهية ، ولا بد عند قراءته من الانتباه لكل المفردات .يقول في بدايته:
"لو علمتَه لَمْ يَكُن هُو، وَلو جَهلَك لَمْ تكن أنت: فبعلمه أوجدَك، وبعجزك عبدتَه! فهو هو لِهُوَ: لا لَكَ. وأنت أنت : لأنت وَلَهُ! فأنت مرتبط به، ما هو مرتبط بك. الدائرةُ – مطلقةً – مرتبطةٌ بالنقطة .النقطةُ – مطلقةً-ليست مرتبطةً بالدائرة . نقطةُ الدائرة مرتبطةٌ بالدائرة"
هذا نص لا يتجاوز السطرين وفيه يُقِر ابن عربي أن الخلق لو عرفوا الله ، فما ظنوا أنهم عرفوه ليس هو ، ولو هو الذي جهلهم ، لما وُجِدوا ، فالخلق موجودون بشرط معرفة الرب بهم .وهو وهم (أي الخلق) في اختلاف أساسي ، فهو هو بصرف النظر عنهم ، وهم هم وهو ، فهو النقطة والوجود.. هو الدائرة ، ونقطة الدائرة مرتبطة بالدائرة.
نقطة الدائرة نظرية لا يمكن بسط الحديث عنها، وباختصار فيما فهمت افلنقطة هي الإنسان الكامل الذي تجتمع فيه صفات الربوبية والإنسانية ، وتسميه الصوفية بـ "القطب" .ولم يتحدث ابن عربي مباشرة عن مفهوم القطب . وإنما رمز به لغة وأظهر : أن الناس إما عوام شغلهم الشاغل المسائل المؤقتة ـ وإما أهل ولاية وهم خواص الخواص، ومن أهل الولاية ثمة نقطة عليا (نقطة القطب) محل نظر الله من العالم .
وقد شرح هذه النظرية عبد الكريم الجيلي بالتفصيل ، وأودى شرحه به إلى مشكلات عدّة ، ومثله شهاب الدين السهروردي الذي شرحها تحت عنوان الحكيم المتأله، وقوبِل شرحه بمعارضة قوية أدت في ختام المطاف لمقتله .وكذلك محمد ابن عبد الحق ابن سبعين الذي شرحها تحت اسم "المحقق" في كتابه بد العارف الذي اضطهد بسببه .
كان ابن عربي بارعًا حينما أشار لهذه الفكرة "القطب" من دون أن تؤخذ عليه شخصيًا ، فهو من الشخصيات الحدّية التي إما أن تتعامل معها بتقدير شديد ، أو باستنكار ونقض ، وهذا الأمر لا يتأتى إلا لكل من تجاوز النمط السائد، بمعنى اننا لا يمكن أن نتخذ موقفًا متوازنًا حيال مثل هذه الشخصيات. فلو سألنا بعض الفقهاء من مثل البقاعي والأوزاعي سيقولون هو كافر ، ولو سألنا المتصوفة سيقولون عنه هو الشيخ الأكبر.وهذه المعايير والأحكام متعلقة بنظام المعرفة ، فهو جوبه بكره شديد خاصة من فقهاء الظاهر والناس السطحيين .
بالانتقال الى حياته سنرى أنها تمثل منظومة متكاملة فيها المعرفة ، والخبرة الصوفية، والتأليف ، والسفر، والمشيخة ، والرؤيا الصادمة . وآخذ مثالًا على بعض رؤياه أختاره من كتابه فصوص الحكم الذي تعرض فيه إلى موضوع دقيق وهو : كيف أن الله يتجلى تجليا كاملا في الإنسان .
"لما شاء الحق سبحانه وتعالى من حيث أسمائه الحسنى التي لايبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها ، وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله .لكونه متصفا بالوجود ، ويظهر به سره إليه.فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة ، فانه تظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور إليه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه له. وقد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه ، فكان كمرآة غير مجلوة ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا و لابد أن يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه ، وما هو إلا حصول استعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل و لايزال. وما بقي ثمة قابل ، والقابل لا يكون إلا من فيضه القدس. فالأمر كله منه ابتداؤه وانتهاؤه : ( وإليه يرجع الأمر كله) كما ابتدأ منه. فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم ، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة و روح تلك الصورة. وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة تلك العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم ب " الإنسان الكبير". فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية والحسية التي هي النشأة الإنسانية. وكل قوة محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها. وأن فيها فيما تزعم ، الأهلية لكل منصب عال ومرتبة رفيعة عند الله لما عندها من الجمعية الإلهية". شرح الجامي لفصوص الحكم صفحات: 49.50.51.52.53.54.
بمعنى ان الوجود الإلهي يظهر في كل شيء، لكنه لا يتجلى في شيء مثلما يتجلى في الإنسان .وفي الفصوص استعرض ابن عربي الأنبياء السابقين من حيث ان كل نبي يعكس تجليًا من التجليات الإلهية ـ وفي النهاية وضع نفسه على نحو مشكل، ومثير للجدل في هذا السياق، عندما رأى رؤيا حكاها وهي انه رأى الكعبة مبنية من لبنة من ذهب، وأخرى من فضة وثمة لبنة ناقصة فيها هي "ابن عربي" .وهذه مسألة كفيلة بإباحة دمه في ثفافتنا التي كثيرًا ما تميل إلى هذا الحل ، ليس مع أصحاب الصوفية فقط وإنما أصحاب الاتجاهات الجديدة ، الذين يحملون فكراً مختلفاً كالشعراء والعلماء والمشايخ الأجلاء الذين لا خلاف عليهم من مثل الشريف الرضي، فهو عالم حظي باهتمام السنة والشيعة ، وهو الذي قال:
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به = لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثـــنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي = يرون أقبح ما يأتـــونه حســــــنا
فهذا الإمام مثل محطة أساسية عند الشيعة ، وعلامة كبرى عند أهل السنة ، يرى انه في نفسه أمور كثيرة لو نطق بها سيستباح دمه. وهذه الرؤية تظهر أن استباحة الدم والميل إلى الاستتار يمثل هاجسا دائما في تراثنا ، في الوقت الذي يظهر بصورة مؤقتة في الحضارات والثقافات الأخرى .وهذا مرتبط بسياق الجماعة، فثمة سياق ليبرالي يسمح بتفجر الأفكار الجديدة والمواقف الإنسانية ، وسياق آخر حازم ونمطي يخشى من الجديد المختلف، وبالتالي يجد من الأسهل قطع الخيط وإنهاء المشكلة .
تعرض ابن عربي في إطار تطوره الفكري لقضية تغيير أساسية، هي حل المشكلات الموجودة بين الديانات ، إذ رأى ان الديانات لم تتغير كثيرًا ، وأن فيها اختلاف أساسي يجعل الإنسان الذي هو المجلى الكامل للألوهية ، ومحل الظهور أو التجلي الإلهي مختلف في اعتقاداته .
وطرح سيرة أخرى حين قال:
لقدْ كنتُ قبلَ اليـومِ أُنكر صاحبي = إذا لم يكن ديني إلى دينِهِ داني
وقـد صـار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ = فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيـتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائـــفٍ = وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنـىَّ توجَّـهـتْ ركائبه فالحبُّ ديني وإيمانـي
إذا كان هو في السابق يصنف الناس على حسب اعتقاداتهم الدينية ، فإن كانوا من دين آخر فهو ينكره عليهم وبالتالي ينكرهم . فجأة وجد قلبه يقبل كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن ، حتى الاعتقادات الوثنية يراها في هذه الحالة ان المقصود بها التقرب إلى الله الكامل في الأشياء ، ولما يصل إلى هذه الأشياء يكتشف أن المسعى واحد والشكل مختلف، فقلبه الذي صار قابلًا كل صورة ،يقبل بيت الأوثان والكعبة والمصحف والتوراة.
وقوله أدين بدين الحب يمكن أن نفسره باتجاهين :
_ اتجاه النظر إلى الأديان بِعَدِّها تجليات متتالية للحقيقة الإلهية وهذا الحل الأيسر.
_ واتجاه آخر أكثر تعقيدًا ، وهو البدء في فكرة الحب نفسها ، ورصد الكيفية التي يرتقي الصوفي بها ليصل إلى هذا المستوى.
فهو لما نزل بمكة كان عمره في الأربعينات ، والتقى فيها برجل معروف اسمه الشيخ زاهر الدين ابن رستم الكيلاني ، أصله من أصفهان ، وهو عالم في الحديث ، وكانت له ابنة تسمى بـ "النظام" ، ولما رآها أحبها حبًا عميقًا بحيث استطاع أن يصل به إلى التماس مع الوجود الحقيقي للأشياء .وهو وصفها فقال:" بنت عذراء ، طفيلةٌ هيفاءُ ، تقيِّد النظر وتزيِّن المحاضِر والمحاضر وتحير المناظر ، تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس .. ساحرةُ الطرفِ ، عراقيَّة الظرف ، إن أسهبت أتعبت ، وإن أوجزت أعجزت ، وإن أفصحت أوضحت ، إن نطقت خَرِسَ قسُّ بنُ ساعدةَ، وإن كَرُمت خَنَسَ معنُ بنُ زائدة، وإن وفَّت قصَّر السمؤال خطاه ... ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض السيئة الأغراض، لأخذتُ فى شرح ما أودع الله تعالى فى خلقها من الحسن ، وفى خُلُقها الذى هو روضةُ المزنِ ، شمسٌ بين العلماء ، بستان بين الأدباء ، حُقَّةٌ مختومة ، واسطة عقدٍ منظومة ، يتيمة دهرها ، كريمة عصرها .. مسكنُها جيادٌ وبيتها من العينِ السوادُ ومن الصدر الفؤاد ، أشرقت بها تهامه ، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه .. عليها مسحة مَلَكٍ وهمَّة مَلِكٍ ".
وقال:
طالَ شَوقي لِطَفلَةٍ ذاتِ نَثرٍ = وَنِظامٍ وَمِنبَرٍ وَبَيانِ
مِن بَناتِ المُلوكِ مِن دارِ فُرسٍ = مِن أَجَلَّ البِلادِ مِن أَصبَهانِ
هِيَ بِنتُ العِراقِ بِنتُ إِمامي = وَأَنا ضِدُّها سَليلُ يَماني
هَل رَأَيتُم يا سادَتي أَو سَمِعتُم = أَنَّ ضِدَّينِ قَطُّ يَجتَمِعانِ
وقوله سليل يماني يعني انه عربي ، وهو لم يقصد في هذه الأبيات الإشارة إلى الاختلاف بينهما في الأصل فقط وإنما أراد أن يقول: إنه اكتمل في وعيه وخبراته الحياتية، إذ تزوج أكثر من مرة قبل وبعد أن التقى بها ، وهي طفلة ولكنها في نظره كبيرة ، فبهذا المعنى هما ضدان ، وبمعنى ما التقيا ، لقاء وصفه:
إِذا ما اِلتَقَينا لِلوَداعِ حَسِبتَنا = لَدى الضَمِّ وَالتَعنيقِ حَرفاً مُشَدَّدا
والحرف المشدد في العربية عبارة عن حرفين لكنهما لا يظهران ، بمعنى أن حبه لها لم يكن في المطلق ، وإنما هو امتزاج رأى أنه وصل من خلاله إلى الالتصاق "الحرف المشدد "، ولم تقتصر المسألة على الجانب الحسي فحبه إن أحب ليس مثل الآخرين ، ومثله النظام التي إذا عشقت فعشقها مختلف.الحب عندهما طريق وحيد لإدراك المعنى الكامن خلف الأشياء ، ولكن حينما كثر الكلام على حبهما ، اضطر إلى الابتعاد ، وقال :
إِنَّ الفِراقَ مَعَ الغَرامِ لَقاتِلي = صَعبُ الغَرامِ مَعَ اللِقاءِ يَهونُ
والغرام في اللغة هو العذاب ، ولذلك جاء في كتاب الله تعالى في وصف جنهم " إن عذابها كان غراما" ، لقد كان صاحبنا في حالة توهج عند اللقاء ، وصعب عليه الانقطاع ، والأصعب من هذا هو رفض أتباعه وأعدائه لحبه للنظام ، فعشقه تهمة كبرى .وهذا الرفض اتهام جاهز يدعو إلى الاستغراب ، فيبدو أن الأشخاص الذين يرتقون بفكرهم يعيبهم الحب أو العشق في نظر العامة ، لكن ابن عربي لم يضره هذا وعشق عشقًا حقيقيًا ، وكتب في هذا العشق ديوان " ترجمان الأشواق " أي المعبر عن الأشواق .وثار الخلق وقالوا الشيخ الأكبر أحب بنتًا صغيرة ، ألا يخجل من نفسه ؟ .
هذه الثورة تنم عن فهم ساذج للأشياء ، وتعارض حقائق في التراث نمر عليها مرورًا سريعًا ، فمثلًا الشيخ نجم الدين كوبْرى رجل صوفي كبير ، وهو واحد من أهم الشخصيات التي أثرت في تاريخ الحضارة العربية ، وعلى أيدي تلامذته أسلم ملوك المغول، وقد أسسوا دولة كاملة ، وهو واحد ممن كتبوا كتابة أقل ما توصف به أنها مذهلة، ومع هذا في كتابه "فوائح الجمال وفواتح الجلال " يحدثنا بشكل صريح عن الحالات التي مرّ بها وهو شيخ كبير ،
فيقول: " عشقت جارية بقرية على ساحل نيل مصر ، فبقيت أيامًا لا آكل ولا أشرب _ إلا ما شاء الله_ حتى كثرت نار العشق ، فكنت أتنفس نيرانا ... وكلما تنفست نارًا ، تنفَّسوا من السماء _ بحذاء نَفَسي _ نارًا ، فتلتقي الناران ما بيني وبين السماء ، فما كنت أدري من ثَمَّة أين تلتحقان ؛ فعلمتُ أن ذلك شاهدي في السماء" ( ص182_183).
قد يقول قائل إن الصوفيين معرضون لمثل تلك الحالات ، فنقول لهم خذوا الفقهاء ، وأشد المذاهب الفقهية تشددًا " الحنبلي" ومن كبار الأسماء في هذا المذهب طوال التاريخ أبو الفرج ابن الجوزي ، وهو علامة كبرى في تاريخ الحضارة الإنسانية ، مؤرخ ، وفقيه ، وصاحب مجلس وعظي ، ووقف وقفات ضد الصوفية ، وكتب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم وغيره من المؤلفات الهامة .وكان إلى جانب هذا قد أحب واحدة اسمها " نسيم الصبا" ، والصبا ريح لطيفة تهب في الجزيرة العربية في المساء ، وقد تزوجها فأقاما مدة متحابين، حتى وقعت بينهما وحشة بسبب اهتمامه بالعلم والتعليم ففارقها وطلقها ، فحصل له عند ذلك ندم وهيام أشرف منه على التلف، فحضرت في بعض الأيام مجلس وعظه، فحين رآها عرفها، فاتفق أنه جاءته امرأتان وجلستا أمامه فحجبتاها عنه فأنشد في الحال:
أيا جبلي نعمان بالله خليا = نسيم الصبا يخلصْ إلي نسيمها
هذا البيت الذي استشهد به ابن الجوزي هو من قصيدة قالها مجنون ليلى .وهذه الحادثة أو الخبر عدّ منقصة له ، إلا أنه كان من القوة بحيث استهان بهذا وكتب عنه المؤرخون أنه برغم علوّ كعبه في العلوم إلا أنه كان لا ينفكُّ عن جارية حسناء ، ليس هذا فقط وإنما حتى وهو في آخر حياته وقع بقصة حبّ عميقة مع امرأة اسمها خاتون أم محيي الدين وتوفي وكانت جنازته كبيرة جدا وبعد يوم من وفاته ماتت خاتون أم محيي الدين ، وقال المؤرخون : فعد ذلك من كراماته لأنه كان مُغرمٌ بها .
هذه بعض وقائع الحب الجزئية في ما يبدو ، وإجابات للوصول إلى معنى خلف المعنى البسيط للأمر، فصاحبنا وصل الحب به إلى مذهب كامل ورؤية مختلفة يقول : "لا احْتِجَار عَلَى الهَوَى ولِهَذَا يُهْوَى ، بالهوى يُجْتَنَبُ الهَوَى، وَحَقِّ الهَوَى إنَّ الهَوَى سَبَبُ الهَوَى، وَلَوْلا الهَوَى فِي الحُبِّ مَا عُبِدَ الهَوَى ، بِالهَوَى يُتّبَعُ الحَقّ، وَالهَوَى يُقْعِدَك مَقْعَدَ صِدْق ، الهَوَى مَلاذُ، وفِي العِبَادةِ بِهِ إلتِذَاذْ، وَهُو مَعَاذٌ لِمَنْ بِهِ عَاذْ .
فالمعنى انطلق من الحسية وكونهما في اللقاء حرفاً مشدداً، إلى إعلاء للحالة وتوهج فيها يتجاوز حتى العاشق والمعشوق . فيقول :" الأحْبَابُ أرْبَابْ ، والمَحْبُوبُ خَلْفَ البَابْ، المُحِبُّ رَبُّ دَعْوَى ، فَهُوَ صَاحِبُ بَلْوَى، المَحْبُوب إنْ شَاءَ وَصَلْ ، وإنْ شَاءَ هَجَرْ، المُحِبُّ إذَا ادّعَى مَحَبَّة اُخْتُبِرَ ، فالمُحِبُّ فِي الاختبارِ والحَبِيبُ مُثَارٌ مِنَ الأغْيَار، ولِهَذَا لا تُدْرِكْهُ الأبْصَار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَار".
ورب الشيء أي صاحبه ، وخلف الباب أي محتجب ومستترٌ لا يظهر. وفي قوله السابق محاولة للوصول إلى معنى عميق ، وإلى الإعلاء لحالة الحب الجزئية والوصول إلى معنى أرقى من حالات الحب النمطي .
لذلك فرق بين الشوق والاشتياق فالحال الأول يقارب حال الجائع الذي يأكل كل ما جاع ، وهو غالبًا مايسكن في اللقاء، أما الحال الآخر فإنه يهيج صاحبه عند اللقاء بالمحبوب ، ولا يعرف الاشتياق إلا العشاق ، إذ كلما توغلوا أصبحوا أكثر رغبة في المزيد إلى ما لا نهاية ." الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاء، والاشتِيَاقُ يهَيِجُ بالالْتقَاء، لا يَعْرفُ الاشْتيَاقَ إلاَّ العُشَّاق. مَنْ سَكَنَ باللِّقَاءِ، فَمَا هُوَ عَاشق عِنْدَ أَرْبَابِ الحقَائِق. مَنْ قَامَ بثِيَابه الحريقُ؛ كَيْفَ يَسْكُن؟ وهَلْ مثْلُ هَذَا يَتَمَكَّن! للْنَار التْهَابٌ ومَلْكَة.. فَلاَ بُدَّ مِنَ الحرَكَة. والحرَكَةُ قَلَق، فَمَنْ سَكَنَ مَا عَشِق.كَيْفَ يَصِحُّ السُّكُونْ؟ وهَلْ فى العِشْقِ كُمُونْ! هُوَ كُلُّهُ ظُهُور، وَمَقامُهُ نُشُور. والعَاشِقُ مَا هُوَ بحُكْمِه، وإنَّمَا هُوَ تَحْتَ حُكْمِ سُلْطَانِ عِشْقِه. وَلاَ بحُكْمِ مَنْ أَحَبَّهْ. فَمَا حَبَّ محُبٌّ إلاَّ نَفْسَهُ. أوْ، ما عَشِقَ عاشِقٌ، إِلاَّ مَعْنَاهُ وَحِسَّهُ. لِذَلِك،العُشَّاقُ يَتأَلمونَ بِالْفِراق، وَيَطْلُبُونَ لَذَّةَ التَّلاَق.فَهُمْ فى حُظُوظ نُفُوسِهمْ يَسْعَوْن.وَهُمْ في العُشَّاقِ الأَعْلَوْن.فَإنهَّمْ العُلَماءُ بالأُمُور، وبالَّذى خَبَّاهُ الحقُّ خَلْف السُّتُور.فَلاَ مِنَّةً لُمحبٍّ عَلَى محْبُوبِهِ، فَإنَّهُ مَعَ مَطْلُوبهِ. وَلاَ عنْدَهُ محْبُوبٌ ومَرْغُوب سِوَى مَا تَقِرُّ بِهِ عَيْنُه، وَيَبْتَهجُ بِهِ كَوْنُه. وَلَوْ أرَادَ المحِبُّ ما يُريدُهُ المحْبُوبُ مِنَ الهَجْرِ، هَلَكَ.. بَينْ الإرَادَة، وَالأَمْرِ ! وَمَا صَحَّ دَعْوَاهُ فىِ المحَبَّةِ، وَلاَ كَانَ مِنَ الأَحِبَّةِ".
الحب ليس بديلا، هو معنى وراء الأشكال الظاهرية ، من يقوم بثيابه كيف يسكن ، فالمحبوب هو مجلى لحقيقة العالم، والمحب أدرك هذا فيه فاختبره ، فالقضية بالمحب لا المحبوب.مثل شخص ينظر بمرآة ، فيكون المحبوب مرآة يتجلى فيها العاشق، بمعنى أن العاشق يرى حقيقته على مرآة المعشوق، ومن هنا جاء الفرق بين مستويات العشق.فهناك عشق عذري، وعابر وكامل ...والعشق في اللغة من العشقة : أي جذع الشجرة الذي إن قطع جف وأصبح هشًّا، ، وهناك مستوى أعلى يمثله حب الصوفيين ومنهم ابن عربي ، يرى فيه المحب حقيقته متجلية على مرآة محبوبه ، والحب يمتد إلى ما لا نهاية ، وهو لا يتوقف عند فعل ما مهما كان عميقا ، لذلك يتألم المحب بالفراق ويلتذ باللقاء، بمعنى أن احتجاب المحبوب يعني أن المحب لا يستطيع أن يرى ذاته .لذلك فصّل صاحبنا القول في الإرادة والأمر فهناك أشياء تكون بالإرادة وأشياء أخرى تكون بالأمر وهناك أمر تكويني وأمر تكليفي.
فالأمر التكويني في أن آدم لابد من أن يعصي ربه حتى يتواجد الخلق ، والأمر التكليفي هو أنه قال له لا تأكل من الشجرة ، فهو قال هذا وهو أمر تكليفي وليس تكوينياً، فيبدو آدم يعصي الله، ولكن الحقيقة هو أنه لابد أن يأكل من الشجر حتى يتواجد الخلق وإلا لما اكتملت مسألة الوجود .
وقد تم إعلاء هذا الأمر إلى إبليس نفسه الذي أطاع الله بالأمر التكويني وعصاه بالأمر التكليفي، وهذا يفسر كيف ان إبليس كلم الله في القرآن وقال له "فبعزّتِكَ لأغْوِيَنّهُم أجْمَعِين " لأن هذه المهمة يريدها الله ولكن لم يأمره بها ، ففي الحب هناك إرادة وهناك أمر. إرادة : وهي عقل المحب والمحبوب وأمر: وهو حالة المحب والمحبوب ، والعقل هو السيطرة ، والصوفي بحبه يحاول أن يوازي بين ( العقل والسيطرة ، وحالة التوتر ) ليسيطر على الأمر والفيضان العشقي المتوهج في نفسه وإن فارق المحبوب ، وهذا ما قد يفسر لنا ابتعاد ابن عربي عن النظام بسبب كلام الناس ، أو الإعلان الخاص بالسر ، ولكنه يرجع ليكتب "ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق "، وفيه يجلي حبه في ظل الحضرة الإلهية ، فيصير الحب هو دينه ويتجاوز الخلافات بين الديانات.
* د. هدى قزع
أديبة وأكاديمية من الأردن
الأول : معنى عام، وشعبي نراه متمثلًا في الاحتفالات الخاصة بالأولياء والمولد، وهي طقوس فلكلورية شعبية تنسب إلى التصوف وهي في الواقع أقرب ما تتم بحجة التصوف، إذ الشعوب كلها لها احتفالات، وهذا لا يعني التصوف في شيء.
والآخر : معنى خاص يكون فيه التصوف طريقًا لفهم العالم، بعيداً عن الانشغال في الإطار الخارجي الشكلي للدين، إنما يحاول المتصوف من خلاله الوصول إلى معرفة تتجاوز ظاهر الأشياء إلى إدراك المعنى الكامن خلفها. لهذا يحرص الصوفيون على إبانة الفرق القائم بين الظاهر والباطن ، الشريعة والحقيقة، على أساس أن كل ظاهرة شرعية تخفي خلفها حقيقة باطنة . فالشرع مجموعة عبادات ، وهذه العبادات عند الصوفي باب يدخل منه إلى حقيقة مطلوبة من وراء هذه المسألة ، فالشريعة والحقيقة ، الظاهر والباطن ، المعلن والمستتر ، العام والخاص ، هي الثنائيات التي يقوم عليها التصوف.
بدأ التصوف في تاريخ الإنسانية منذ وقت مبكر، وقد أخذ أسماء وأشكالًا عدّة فهو عرف في اليهودية باسم القبالة(الكابالا) ، وفي المسيحية بالرهبنة ، وفي الإسلام بالتصوف .ويمكن القول إن هذا الاتجاه ظهر منذ القرن الأول من خلال خبرات عميقة تتجاوز الشكل الظاهر للشريعة إلى إدراك باطن وحقيقة هذا العالم. وتتطور تطورًا كبيرًا جدًا خلال القرون الخمسة الأولى ، إلى أن وصل إلى محطة غير مسبوقة هي محطة ابن عربي ، الذي ولد في الأندلس عام 560هـ ، وفيها نشأ ودرس ، ويبدو أنه جذب للتصوف منذ صغره ، فالمؤرخون لحياته عرضوا حوارًا له مع ابن رشد الفيلسوف المشهور، قال فيه : "دخلت يوماً بقرطبةَ على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به عليّ في خلوتي ، فكان يُظهر التعجُّبَ مما سمع . فبعثني والدي إليه فى حاجةٍ ، قصداً منه حتى يجتمع بي ، فإنَّه كان من أصدقائه ، وأنا (آنذاك) صبي ما بقل وجهي ولا طرَّ شاربي . فعندما دخلت عليه ، قام من مكانه إليَّ محبَّةً وإعظاماً ، فعانقني وقال لي : نعم ! قلت له : نعم ! فزاد فرحه بي لفهمي عنه ، ثم استشعرتُ بما أفرحه ، فقلت : لا ! فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده . وقال لي : كيف وجدتم الأمرَ في الكشف والفيض الإلهي ، هل هو ما أعطاه لنا النظر ؟ قلت : نعم ولا ، وبين نعم ولا تطيرُ الأرواحُ من موادِّها والأعناق من أجسادها ! فاصفرَّ لونُه" .
هذا حوار بسيط بين شخصين ، يظهر الصلة بين علوم النظر القائمة على تدبر ذهني، وبين الإدراك المباشر للحقيقة، ومعرفة الصوفي التي تقوم على إدراك الشيء بمجمله، ويدل على طبيعة المسار الفكري في الإسلام، فابن رشد يمثل المسار الفكري الفلسفي الذي يستند على فلسفة أرسطو ، وهذا المسار يمكن وصفه بأنه غير متوازن مع فلسفة الفكر العربي، أما ابن عربي فيمثل مسارًا فكريًا آخر هو التصوف، وأحسب أنه مسار متناغم مع الشخصية الإسلامية والعربية .
وقد التقى ابن عربي بابن رشد مرة أخرى عندما حمل على نعشه ، ووصف جنازته كالآتي «ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وقلنا في ذلك:
«هذا الإمام وهذه أعماله = ياليت شعري هل أتت آماله».
واللافت وصفه له بالإمام وذكره لمؤلفاته التي ساوت وزن جثمانه، وهي على كثرتها لم تحقق آمال قاضي قرطبة وطموحاته.
هذا الوصف يعكس قلقه المعرفي، إذ تراه مستخرجًا للعلوم الفلسفية، لكن منهجه الصوفي بقي الأساس ، وكانت مصر هي المحطة الأولى التي منها انتقل للشام ومكة لينتهي به المقام على أطراف الشام وحدود تركيا المعاصرة "قونيا".وفي فترة حياته الممتدة من 560_ 638ه ، كتب مؤلفات عدّة ، بأفق عميق تتجلى فيه المعرفة واللغة الصوفية ، نادرًا مانجده عند شخص آخر ، فهو (كون) غير محدود ، وقد أخبرنا في فهرست أعدها لمؤلفاته أنها بلغت 250 مؤلفاً ، وهو ألف بعد هذا الفهرست كتبا جديدة وصلت إلى 500 كتاب حسب ما أشارت له بعض الدراسات الحديثة.أما كتابه الأساسي فهو الفتوحات المكية وهو 37 سفراً ، و560 باباً ، وقد نشر في أربعة مجلدات من دون تحقيق ، ثم عمد عثمان يحيى إلى تحقيقه ، واستغرق هذا منه 25 سنة ، خرج فيها ب 17جزء ، ومات من دون أن يكملها ، ولا أظن أنه من اليسير استكمال تحقيقه. فهو نص صوفي موغل في التعمق، ولغته رمزية ، ويستخدم إشارات إلهية ، ولا بد عند قراءته من الانتباه لكل المفردات .يقول في بدايته:
"لو علمتَه لَمْ يَكُن هُو، وَلو جَهلَك لَمْ تكن أنت: فبعلمه أوجدَك، وبعجزك عبدتَه! فهو هو لِهُوَ: لا لَكَ. وأنت أنت : لأنت وَلَهُ! فأنت مرتبط به، ما هو مرتبط بك. الدائرةُ – مطلقةً – مرتبطةٌ بالنقطة .النقطةُ – مطلقةً-ليست مرتبطةً بالدائرة . نقطةُ الدائرة مرتبطةٌ بالدائرة"
هذا نص لا يتجاوز السطرين وفيه يُقِر ابن عربي أن الخلق لو عرفوا الله ، فما ظنوا أنهم عرفوه ليس هو ، ولو هو الذي جهلهم ، لما وُجِدوا ، فالخلق موجودون بشرط معرفة الرب بهم .وهو وهم (أي الخلق) في اختلاف أساسي ، فهو هو بصرف النظر عنهم ، وهم هم وهو ، فهو النقطة والوجود.. هو الدائرة ، ونقطة الدائرة مرتبطة بالدائرة.
نقطة الدائرة نظرية لا يمكن بسط الحديث عنها، وباختصار فيما فهمت افلنقطة هي الإنسان الكامل الذي تجتمع فيه صفات الربوبية والإنسانية ، وتسميه الصوفية بـ "القطب" .ولم يتحدث ابن عربي مباشرة عن مفهوم القطب . وإنما رمز به لغة وأظهر : أن الناس إما عوام شغلهم الشاغل المسائل المؤقتة ـ وإما أهل ولاية وهم خواص الخواص، ومن أهل الولاية ثمة نقطة عليا (نقطة القطب) محل نظر الله من العالم .
وقد شرح هذه النظرية عبد الكريم الجيلي بالتفصيل ، وأودى شرحه به إلى مشكلات عدّة ، ومثله شهاب الدين السهروردي الذي شرحها تحت عنوان الحكيم المتأله، وقوبِل شرحه بمعارضة قوية أدت في ختام المطاف لمقتله .وكذلك محمد ابن عبد الحق ابن سبعين الذي شرحها تحت اسم "المحقق" في كتابه بد العارف الذي اضطهد بسببه .
كان ابن عربي بارعًا حينما أشار لهذه الفكرة "القطب" من دون أن تؤخذ عليه شخصيًا ، فهو من الشخصيات الحدّية التي إما أن تتعامل معها بتقدير شديد ، أو باستنكار ونقض ، وهذا الأمر لا يتأتى إلا لكل من تجاوز النمط السائد، بمعنى اننا لا يمكن أن نتخذ موقفًا متوازنًا حيال مثل هذه الشخصيات. فلو سألنا بعض الفقهاء من مثل البقاعي والأوزاعي سيقولون هو كافر ، ولو سألنا المتصوفة سيقولون عنه هو الشيخ الأكبر.وهذه المعايير والأحكام متعلقة بنظام المعرفة ، فهو جوبه بكره شديد خاصة من فقهاء الظاهر والناس السطحيين .
بالانتقال الى حياته سنرى أنها تمثل منظومة متكاملة فيها المعرفة ، والخبرة الصوفية، والتأليف ، والسفر، والمشيخة ، والرؤيا الصادمة . وآخذ مثالًا على بعض رؤياه أختاره من كتابه فصوص الحكم الذي تعرض فيه إلى موضوع دقيق وهو : كيف أن الله يتجلى تجليا كاملا في الإنسان .
"لما شاء الحق سبحانه وتعالى من حيث أسمائه الحسنى التي لايبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها ، وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله .لكونه متصفا بالوجود ، ويظهر به سره إليه.فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة ، فانه تظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور إليه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه له. وقد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه ، فكان كمرآة غير مجلوة ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا و لابد أن يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه ، وما هو إلا حصول استعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل و لايزال. وما بقي ثمة قابل ، والقابل لا يكون إلا من فيضه القدس. فالأمر كله منه ابتداؤه وانتهاؤه : ( وإليه يرجع الأمر كله) كما ابتدأ منه. فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم ، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة و روح تلك الصورة. وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة تلك العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم ب " الإنسان الكبير". فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية والحسية التي هي النشأة الإنسانية. وكل قوة محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها. وأن فيها فيما تزعم ، الأهلية لكل منصب عال ومرتبة رفيعة عند الله لما عندها من الجمعية الإلهية". شرح الجامي لفصوص الحكم صفحات: 49.50.51.52.53.54.
بمعنى ان الوجود الإلهي يظهر في كل شيء، لكنه لا يتجلى في شيء مثلما يتجلى في الإنسان .وفي الفصوص استعرض ابن عربي الأنبياء السابقين من حيث ان كل نبي يعكس تجليًا من التجليات الإلهية ـ وفي النهاية وضع نفسه على نحو مشكل، ومثير للجدل في هذا السياق، عندما رأى رؤيا حكاها وهي انه رأى الكعبة مبنية من لبنة من ذهب، وأخرى من فضة وثمة لبنة ناقصة فيها هي "ابن عربي" .وهذه مسألة كفيلة بإباحة دمه في ثفافتنا التي كثيرًا ما تميل إلى هذا الحل ، ليس مع أصحاب الصوفية فقط وإنما أصحاب الاتجاهات الجديدة ، الذين يحملون فكراً مختلفاً كالشعراء والعلماء والمشايخ الأجلاء الذين لا خلاف عليهم من مثل الشريف الرضي، فهو عالم حظي باهتمام السنة والشيعة ، وهو الذي قال:
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به = لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثـــنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي = يرون أقبح ما يأتـــونه حســــــنا
فهذا الإمام مثل محطة أساسية عند الشيعة ، وعلامة كبرى عند أهل السنة ، يرى انه في نفسه أمور كثيرة لو نطق بها سيستباح دمه. وهذه الرؤية تظهر أن استباحة الدم والميل إلى الاستتار يمثل هاجسا دائما في تراثنا ، في الوقت الذي يظهر بصورة مؤقتة في الحضارات والثقافات الأخرى .وهذا مرتبط بسياق الجماعة، فثمة سياق ليبرالي يسمح بتفجر الأفكار الجديدة والمواقف الإنسانية ، وسياق آخر حازم ونمطي يخشى من الجديد المختلف، وبالتالي يجد من الأسهل قطع الخيط وإنهاء المشكلة .
تعرض ابن عربي في إطار تطوره الفكري لقضية تغيير أساسية، هي حل المشكلات الموجودة بين الديانات ، إذ رأى ان الديانات لم تتغير كثيرًا ، وأن فيها اختلاف أساسي يجعل الإنسان الذي هو المجلى الكامل للألوهية ، ومحل الظهور أو التجلي الإلهي مختلف في اعتقاداته .
وطرح سيرة أخرى حين قال:
لقدْ كنتُ قبلَ اليـومِ أُنكر صاحبي = إذا لم يكن ديني إلى دينِهِ داني
وقـد صـار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ = فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيـتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائـــفٍ = وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنـىَّ توجَّـهـتْ ركائبه فالحبُّ ديني وإيمانـي
إذا كان هو في السابق يصنف الناس على حسب اعتقاداتهم الدينية ، فإن كانوا من دين آخر فهو ينكره عليهم وبالتالي ينكرهم . فجأة وجد قلبه يقبل كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن ، حتى الاعتقادات الوثنية يراها في هذه الحالة ان المقصود بها التقرب إلى الله الكامل في الأشياء ، ولما يصل إلى هذه الأشياء يكتشف أن المسعى واحد والشكل مختلف، فقلبه الذي صار قابلًا كل صورة ،يقبل بيت الأوثان والكعبة والمصحف والتوراة.
وقوله أدين بدين الحب يمكن أن نفسره باتجاهين :
_ اتجاه النظر إلى الأديان بِعَدِّها تجليات متتالية للحقيقة الإلهية وهذا الحل الأيسر.
_ واتجاه آخر أكثر تعقيدًا ، وهو البدء في فكرة الحب نفسها ، ورصد الكيفية التي يرتقي الصوفي بها ليصل إلى هذا المستوى.
فهو لما نزل بمكة كان عمره في الأربعينات ، والتقى فيها برجل معروف اسمه الشيخ زاهر الدين ابن رستم الكيلاني ، أصله من أصفهان ، وهو عالم في الحديث ، وكانت له ابنة تسمى بـ "النظام" ، ولما رآها أحبها حبًا عميقًا بحيث استطاع أن يصل به إلى التماس مع الوجود الحقيقي للأشياء .وهو وصفها فقال:" بنت عذراء ، طفيلةٌ هيفاءُ ، تقيِّد النظر وتزيِّن المحاضِر والمحاضر وتحير المناظر ، تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس .. ساحرةُ الطرفِ ، عراقيَّة الظرف ، إن أسهبت أتعبت ، وإن أوجزت أعجزت ، وإن أفصحت أوضحت ، إن نطقت خَرِسَ قسُّ بنُ ساعدةَ، وإن كَرُمت خَنَسَ معنُ بنُ زائدة، وإن وفَّت قصَّر السمؤال خطاه ... ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض السيئة الأغراض، لأخذتُ فى شرح ما أودع الله تعالى فى خلقها من الحسن ، وفى خُلُقها الذى هو روضةُ المزنِ ، شمسٌ بين العلماء ، بستان بين الأدباء ، حُقَّةٌ مختومة ، واسطة عقدٍ منظومة ، يتيمة دهرها ، كريمة عصرها .. مسكنُها جيادٌ وبيتها من العينِ السوادُ ومن الصدر الفؤاد ، أشرقت بها تهامه ، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه .. عليها مسحة مَلَكٍ وهمَّة مَلِكٍ ".
وقال:
طالَ شَوقي لِطَفلَةٍ ذاتِ نَثرٍ = وَنِظامٍ وَمِنبَرٍ وَبَيانِ
مِن بَناتِ المُلوكِ مِن دارِ فُرسٍ = مِن أَجَلَّ البِلادِ مِن أَصبَهانِ
هِيَ بِنتُ العِراقِ بِنتُ إِمامي = وَأَنا ضِدُّها سَليلُ يَماني
هَل رَأَيتُم يا سادَتي أَو سَمِعتُم = أَنَّ ضِدَّينِ قَطُّ يَجتَمِعانِ
وقوله سليل يماني يعني انه عربي ، وهو لم يقصد في هذه الأبيات الإشارة إلى الاختلاف بينهما في الأصل فقط وإنما أراد أن يقول: إنه اكتمل في وعيه وخبراته الحياتية، إذ تزوج أكثر من مرة قبل وبعد أن التقى بها ، وهي طفلة ولكنها في نظره كبيرة ، فبهذا المعنى هما ضدان ، وبمعنى ما التقيا ، لقاء وصفه:
إِذا ما اِلتَقَينا لِلوَداعِ حَسِبتَنا = لَدى الضَمِّ وَالتَعنيقِ حَرفاً مُشَدَّدا
والحرف المشدد في العربية عبارة عن حرفين لكنهما لا يظهران ، بمعنى أن حبه لها لم يكن في المطلق ، وإنما هو امتزاج رأى أنه وصل من خلاله إلى الالتصاق "الحرف المشدد "، ولم تقتصر المسألة على الجانب الحسي فحبه إن أحب ليس مثل الآخرين ، ومثله النظام التي إذا عشقت فعشقها مختلف.الحب عندهما طريق وحيد لإدراك المعنى الكامن خلف الأشياء ، ولكن حينما كثر الكلام على حبهما ، اضطر إلى الابتعاد ، وقال :
إِنَّ الفِراقَ مَعَ الغَرامِ لَقاتِلي = صَعبُ الغَرامِ مَعَ اللِقاءِ يَهونُ
والغرام في اللغة هو العذاب ، ولذلك جاء في كتاب الله تعالى في وصف جنهم " إن عذابها كان غراما" ، لقد كان صاحبنا في حالة توهج عند اللقاء ، وصعب عليه الانقطاع ، والأصعب من هذا هو رفض أتباعه وأعدائه لحبه للنظام ، فعشقه تهمة كبرى .وهذا الرفض اتهام جاهز يدعو إلى الاستغراب ، فيبدو أن الأشخاص الذين يرتقون بفكرهم يعيبهم الحب أو العشق في نظر العامة ، لكن ابن عربي لم يضره هذا وعشق عشقًا حقيقيًا ، وكتب في هذا العشق ديوان " ترجمان الأشواق " أي المعبر عن الأشواق .وثار الخلق وقالوا الشيخ الأكبر أحب بنتًا صغيرة ، ألا يخجل من نفسه ؟ .
هذه الثورة تنم عن فهم ساذج للأشياء ، وتعارض حقائق في التراث نمر عليها مرورًا سريعًا ، فمثلًا الشيخ نجم الدين كوبْرى رجل صوفي كبير ، وهو واحد من أهم الشخصيات التي أثرت في تاريخ الحضارة العربية ، وعلى أيدي تلامذته أسلم ملوك المغول، وقد أسسوا دولة كاملة ، وهو واحد ممن كتبوا كتابة أقل ما توصف به أنها مذهلة، ومع هذا في كتابه "فوائح الجمال وفواتح الجلال " يحدثنا بشكل صريح عن الحالات التي مرّ بها وهو شيخ كبير ،
فيقول: " عشقت جارية بقرية على ساحل نيل مصر ، فبقيت أيامًا لا آكل ولا أشرب _ إلا ما شاء الله_ حتى كثرت نار العشق ، فكنت أتنفس نيرانا ... وكلما تنفست نارًا ، تنفَّسوا من السماء _ بحذاء نَفَسي _ نارًا ، فتلتقي الناران ما بيني وبين السماء ، فما كنت أدري من ثَمَّة أين تلتحقان ؛ فعلمتُ أن ذلك شاهدي في السماء" ( ص182_183).
قد يقول قائل إن الصوفيين معرضون لمثل تلك الحالات ، فنقول لهم خذوا الفقهاء ، وأشد المذاهب الفقهية تشددًا " الحنبلي" ومن كبار الأسماء في هذا المذهب طوال التاريخ أبو الفرج ابن الجوزي ، وهو علامة كبرى في تاريخ الحضارة الإنسانية ، مؤرخ ، وفقيه ، وصاحب مجلس وعظي ، ووقف وقفات ضد الصوفية ، وكتب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم وغيره من المؤلفات الهامة .وكان إلى جانب هذا قد أحب واحدة اسمها " نسيم الصبا" ، والصبا ريح لطيفة تهب في الجزيرة العربية في المساء ، وقد تزوجها فأقاما مدة متحابين، حتى وقعت بينهما وحشة بسبب اهتمامه بالعلم والتعليم ففارقها وطلقها ، فحصل له عند ذلك ندم وهيام أشرف منه على التلف، فحضرت في بعض الأيام مجلس وعظه، فحين رآها عرفها، فاتفق أنه جاءته امرأتان وجلستا أمامه فحجبتاها عنه فأنشد في الحال:
أيا جبلي نعمان بالله خليا = نسيم الصبا يخلصْ إلي نسيمها
هذا البيت الذي استشهد به ابن الجوزي هو من قصيدة قالها مجنون ليلى .وهذه الحادثة أو الخبر عدّ منقصة له ، إلا أنه كان من القوة بحيث استهان بهذا وكتب عنه المؤرخون أنه برغم علوّ كعبه في العلوم إلا أنه كان لا ينفكُّ عن جارية حسناء ، ليس هذا فقط وإنما حتى وهو في آخر حياته وقع بقصة حبّ عميقة مع امرأة اسمها خاتون أم محيي الدين وتوفي وكانت جنازته كبيرة جدا وبعد يوم من وفاته ماتت خاتون أم محيي الدين ، وقال المؤرخون : فعد ذلك من كراماته لأنه كان مُغرمٌ بها .
هذه بعض وقائع الحب الجزئية في ما يبدو ، وإجابات للوصول إلى معنى خلف المعنى البسيط للأمر، فصاحبنا وصل الحب به إلى مذهب كامل ورؤية مختلفة يقول : "لا احْتِجَار عَلَى الهَوَى ولِهَذَا يُهْوَى ، بالهوى يُجْتَنَبُ الهَوَى، وَحَقِّ الهَوَى إنَّ الهَوَى سَبَبُ الهَوَى، وَلَوْلا الهَوَى فِي الحُبِّ مَا عُبِدَ الهَوَى ، بِالهَوَى يُتّبَعُ الحَقّ، وَالهَوَى يُقْعِدَك مَقْعَدَ صِدْق ، الهَوَى مَلاذُ، وفِي العِبَادةِ بِهِ إلتِذَاذْ، وَهُو مَعَاذٌ لِمَنْ بِهِ عَاذْ .
فالمعنى انطلق من الحسية وكونهما في اللقاء حرفاً مشدداً، إلى إعلاء للحالة وتوهج فيها يتجاوز حتى العاشق والمعشوق . فيقول :" الأحْبَابُ أرْبَابْ ، والمَحْبُوبُ خَلْفَ البَابْ، المُحِبُّ رَبُّ دَعْوَى ، فَهُوَ صَاحِبُ بَلْوَى، المَحْبُوب إنْ شَاءَ وَصَلْ ، وإنْ شَاءَ هَجَرْ، المُحِبُّ إذَا ادّعَى مَحَبَّة اُخْتُبِرَ ، فالمُحِبُّ فِي الاختبارِ والحَبِيبُ مُثَارٌ مِنَ الأغْيَار، ولِهَذَا لا تُدْرِكْهُ الأبْصَار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَار".
ورب الشيء أي صاحبه ، وخلف الباب أي محتجب ومستترٌ لا يظهر. وفي قوله السابق محاولة للوصول إلى معنى عميق ، وإلى الإعلاء لحالة الحب الجزئية والوصول إلى معنى أرقى من حالات الحب النمطي .
لذلك فرق بين الشوق والاشتياق فالحال الأول يقارب حال الجائع الذي يأكل كل ما جاع ، وهو غالبًا مايسكن في اللقاء، أما الحال الآخر فإنه يهيج صاحبه عند اللقاء بالمحبوب ، ولا يعرف الاشتياق إلا العشاق ، إذ كلما توغلوا أصبحوا أكثر رغبة في المزيد إلى ما لا نهاية ." الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاء، والاشتِيَاقُ يهَيِجُ بالالْتقَاء، لا يَعْرفُ الاشْتيَاقَ إلاَّ العُشَّاق. مَنْ سَكَنَ باللِّقَاءِ، فَمَا هُوَ عَاشق عِنْدَ أَرْبَابِ الحقَائِق. مَنْ قَامَ بثِيَابه الحريقُ؛ كَيْفَ يَسْكُن؟ وهَلْ مثْلُ هَذَا يَتَمَكَّن! للْنَار التْهَابٌ ومَلْكَة.. فَلاَ بُدَّ مِنَ الحرَكَة. والحرَكَةُ قَلَق، فَمَنْ سَكَنَ مَا عَشِق.كَيْفَ يَصِحُّ السُّكُونْ؟ وهَلْ فى العِشْقِ كُمُونْ! هُوَ كُلُّهُ ظُهُور، وَمَقامُهُ نُشُور. والعَاشِقُ مَا هُوَ بحُكْمِه، وإنَّمَا هُوَ تَحْتَ حُكْمِ سُلْطَانِ عِشْقِه. وَلاَ بحُكْمِ مَنْ أَحَبَّهْ. فَمَا حَبَّ محُبٌّ إلاَّ نَفْسَهُ. أوْ، ما عَشِقَ عاشِقٌ، إِلاَّ مَعْنَاهُ وَحِسَّهُ. لِذَلِك،العُشَّاقُ يَتأَلمونَ بِالْفِراق، وَيَطْلُبُونَ لَذَّةَ التَّلاَق.فَهُمْ فى حُظُوظ نُفُوسِهمْ يَسْعَوْن.وَهُمْ في العُشَّاقِ الأَعْلَوْن.فَإنهَّمْ العُلَماءُ بالأُمُور، وبالَّذى خَبَّاهُ الحقُّ خَلْف السُّتُور.فَلاَ مِنَّةً لُمحبٍّ عَلَى محْبُوبِهِ، فَإنَّهُ مَعَ مَطْلُوبهِ. وَلاَ عنْدَهُ محْبُوبٌ ومَرْغُوب سِوَى مَا تَقِرُّ بِهِ عَيْنُه، وَيَبْتَهجُ بِهِ كَوْنُه. وَلَوْ أرَادَ المحِبُّ ما يُريدُهُ المحْبُوبُ مِنَ الهَجْرِ، هَلَكَ.. بَينْ الإرَادَة، وَالأَمْرِ ! وَمَا صَحَّ دَعْوَاهُ فىِ المحَبَّةِ، وَلاَ كَانَ مِنَ الأَحِبَّةِ".
الحب ليس بديلا، هو معنى وراء الأشكال الظاهرية ، من يقوم بثيابه كيف يسكن ، فالمحبوب هو مجلى لحقيقة العالم، والمحب أدرك هذا فيه فاختبره ، فالقضية بالمحب لا المحبوب.مثل شخص ينظر بمرآة ، فيكون المحبوب مرآة يتجلى فيها العاشق، بمعنى أن العاشق يرى حقيقته على مرآة المعشوق، ومن هنا جاء الفرق بين مستويات العشق.فهناك عشق عذري، وعابر وكامل ...والعشق في اللغة من العشقة : أي جذع الشجرة الذي إن قطع جف وأصبح هشًّا، ، وهناك مستوى أعلى يمثله حب الصوفيين ومنهم ابن عربي ، يرى فيه المحب حقيقته متجلية على مرآة محبوبه ، والحب يمتد إلى ما لا نهاية ، وهو لا يتوقف عند فعل ما مهما كان عميقا ، لذلك يتألم المحب بالفراق ويلتذ باللقاء، بمعنى أن احتجاب المحبوب يعني أن المحب لا يستطيع أن يرى ذاته .لذلك فصّل صاحبنا القول في الإرادة والأمر فهناك أشياء تكون بالإرادة وأشياء أخرى تكون بالأمر وهناك أمر تكويني وأمر تكليفي.
فالأمر التكويني في أن آدم لابد من أن يعصي ربه حتى يتواجد الخلق ، والأمر التكليفي هو أنه قال له لا تأكل من الشجرة ، فهو قال هذا وهو أمر تكليفي وليس تكوينياً، فيبدو آدم يعصي الله، ولكن الحقيقة هو أنه لابد أن يأكل من الشجر حتى يتواجد الخلق وإلا لما اكتملت مسألة الوجود .
وقد تم إعلاء هذا الأمر إلى إبليس نفسه الذي أطاع الله بالأمر التكويني وعصاه بالأمر التكليفي، وهذا يفسر كيف ان إبليس كلم الله في القرآن وقال له "فبعزّتِكَ لأغْوِيَنّهُم أجْمَعِين " لأن هذه المهمة يريدها الله ولكن لم يأمره بها ، ففي الحب هناك إرادة وهناك أمر. إرادة : وهي عقل المحب والمحبوب وأمر: وهو حالة المحب والمحبوب ، والعقل هو السيطرة ، والصوفي بحبه يحاول أن يوازي بين ( العقل والسيطرة ، وحالة التوتر ) ليسيطر على الأمر والفيضان العشقي المتوهج في نفسه وإن فارق المحبوب ، وهذا ما قد يفسر لنا ابتعاد ابن عربي عن النظام بسبب كلام الناس ، أو الإعلان الخاص بالسر ، ولكنه يرجع ليكتب "ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق "، وفيه يجلي حبه في ظل الحضرة الإلهية ، فيصير الحب هو دينه ويتجاوز الخلافات بين الديانات.
* د. هدى قزع
أديبة وأكاديمية من الأردن