نقوس المهدي
كاتب
ليس في مقدور أي أحد أبداً معرفة كيفية سرد هذه القصة . هل يجب أن تسرد على لسان المتحدث أو المخاطب ، أو بإستخدام الجمع الغائب أو عبر الدأب على اختراع تراكيب لغوية جديدة لا تخدم غرضاً ؟ كمثل أن نقول : أنا هم قد شاهدوا القمر الذي سوف يشرق ، أو أن نقول : قعر عيني عيونكم يؤلم ، بل أكثر من ذلك أن نقول : أنتَ الشقراء كانت السحابات التي ظلت تتسابق أمام وجهي وجهك وجوهنا وجوهكم وجوههم ..... يا للهراء .
وحيث أننا لا زلنا في بداية القصة ، لكان ، خروجي لتناول جعة عند المنعطف ، بينما تستمر الطابعة في العمل ذاتياً ( لأنني أكتب على آلة كاتبة ) ، نوعاً من الكمال . هذا ليس مجرد هذر كلام . كمال ، نعم ، لأنه هنا تماماً ، تكمن نقطة الضعف ، أن تسرد قصة بالتشارك مع آلة ( من نوع آخر ، كونتاكس 1.1.2) ، ولكان من الأفضل أن تعلم آلة عن الآلة الأخرى أكثر مما أعرف أنا أو أنت أو هي أو الشقراء أو السحابات . لكن كل المتاح هو مجرد حظٌ أبله. فأنا أعلم بأنه حال مغادرتي ، ستبقى هذه " الريمينغتون " كالصخرة على سطح المنضدة ، محاطة بهواء أسكن بمرتين مما هو عليه حينما تكون القطع المتحركة ساكنة . إذن علي أن أكتب . على أحد من بيننا الكتابة ، إن كان لا بد من سرد كل هذا الأمر . ليتني كنت ميتاً ، ليتني كنت أقل تصميماً من الآخرين ؛ أنا الذي لا يرى شيئاً إلا السحابات ، و الذي يفكر دون تشويش ، والذي يكتب دون تشويش (ها هي واحدة أخرى تمر ، ذات حافة رمادية ) والذي يتذكر دون تشويش ، أنا الميت ( والحي ، ليس في الأمر خدعة ، و سيتضح ذلك عندما تحين اللحظة المناسبة ، ولأنه كان علي أن أبدأ من بداية ما ، بدأت من هذه النقطة ، التي هي من الماضي ، والتي هي البداية ، والتي هي ، فوق كل شيء ، أفضل النقاط ، كلما أردت سرد قصة).
فجأة تعجبت لم علي أن أقول هذا ، ولكن إذا بدأنا في التعجب حول دوافع قيامنا بفعل كل ما قد فعلنا ، إذا تساءلنا ببساطة ، عن سبب قبولنا لدعوة غداء ( الآن تطير بالقرب حمامة ، حسبتها دوري ) ، أو عن سبب شعور كالدغدغة يسرح في البطن كلما يلقي أحدهم على أسماعنا نكتة جيدة ، شعور لا يهدأ إلا بعد أن نذهب بدورنا إلى المكتب المجاور ونلقيها على الآخرين ؛ وحال ما يحدث ذلك نشعر بالتحسن ، وبالغبطة ، فنعود إلى مكاتبنا لاستئناف عملنا . ومبلغ علمي فإنه لا أحد أبداً قد فسر ذلك ، لذا فإن أفضل شيء هو أن نتغاضى عن الرتوش و نسرد القصة محضة ، حيث أنه بعد أن أصبح الأمر في الماضي ، لن يكف أي شخص عن التنفس أو عن ارتداء نعله ، من شدة حرجه . هنالك أشياء أنت تفعلها ، وحينما يحدث أمر غريب ، حينما تجد عنكبوتاً في حذائك أو حينما يراودك إحساس بوجود زجاج مكسور ، كلما استنشقت الهواء ، عندها يجب عليك أن تتحدث بالأمر ، أن تخبر به الرفاق في العمل أو الطبيب .آه ، أيها الطبيب ، كلما تنفست....أفصح دوماً عن الأمر ، تخلص دوماً من تلك الدغدغة المزعجة ببطنك.
وبما أننا أخيراً سنسرد القصة ، دعنا نرتب الأشياء قليلاً ، دعنا ننزل على درج هذا المنزل ، نهار الأحد، السابع من نوفمبر ، قبل شهر مضى . ننزل خمسة طوابق يوم أحد ، ونقف تحت شمس غير متوقعة في نوفمبر باريس ، ولدينا رغبة عظيمة للتجوال ، للفرجة ،لإلتقاط الصور ( لأننا كنا مصورين ، أنا مصور ) . أنا أعلم بأن أصعب الأشياء سيكون إيجاد طريقة لسرد واقعة ، ولست خائفاً من تكرار نفسي . سيكون الأمر صعباً لأنه لا أحد يعلم يقيناً حقيقة الراوي ، أهو أنا أو هو ما حدث واقعياً أو هو ما أشاهده ( سحابات ، وحمامة بين الفينة والأخرى ) أو أنني ببساطة أروي حقيقة هي حقيقتي وحدي ، لذلك هي ليست بحقيقة بمعزل عما تشكله الحقيقة لمعدتي ، لأن رغبتي في الاندفاع عبر الباب وانهاء هذا الأمر ، على نحو ما ، لا تقاوم أياً كانت العواقب.
سنبدأ في سرد الواقعة رويداً ، وسنرى ما يحدث بينما أنا أكتب . وإذا ما تم استبدالي ، إذا لم يعد بجعبتي ما أضيفه ، إذا امتنعت السحابات عن المرور ، وانطلق شيء آخر (لأنه من المستحيل أن يدوم هذا ، السحابات تعبر بإستمرار وحمامة بين الفينة والأخرى ) ، إذا ما انطلق شيء من كل هذا ...وبعد هذه ال " إذا " ماذا أضيف ، كيف يمكنني إنهاء جملتي بصورة صحيحة ؟ ولكنني إذا ما شرعت في طرح الأسئلة ، سوف لن أروي أي شيء على الإطلاق ، ربما أن القصة ، ستكون هي الإجابة ، على الأقل لمن يطلع عليها .
روبرت مايكل ، مترجم فرنسية - تشيلية ، ومصور هاو في فراغه ، غادر المبنى رقم 11 ، ريو مونسيور- لي- برنس الأحد ، السابع من نوفمبر من السنة الجارية (الآن هناك إثنتان صغيرتان تعبران ذواتا خطوط فضية ) . هو كان قد أمضى ثلاثة أسابيع منكباً على النسخة الفرنسية من مقالة " العوائق والطعون " لجوزيه نوربيرتو ألليندي ، المحاضر بجامعة سانتياغو .من النادر أن تهب الرياح في باريس ، ومن الأشد ندرة أن تهب رياح مثل هذه التي تدور حول الزوايا وترتفع لتجلد الستائر الخشبية الفينسية ، حيث خلفها النسوة المندهشات يتحادثن بتعليقات مختلفة حول تقلبية الطقس في هذه الأعوام القليلة الأخيرة. لكن الشمس أيضاً كانت مشرقة ، تمتطي الريح وتصادق القطط ، لذلك لم يكن هنالك شيء يمكن أن يمنعني من التقاط صور لمعهد الموسيقى و ولكنيسة القديسة سانت- تشابيليه. كانت العاشرة وشيكة ، وخمنت بأنه عند بلوغ الحادية عشرة سيكون الضوء جيداً، ذلك أفضل ما يمكنك الحصول عليه في الخريف ؛ لقتل بعض الوقت قمت بالدوران حول جزيرة القديس لويس وبدأت في المشي على امتداد رصيف الدانجو النهري ، حدقت لبرهة في فندق لاوزون ، رددت مقاطعاً من أبولينيري ، تلك التي تطل برأسي دوماً كلما عبرت أمام فندق لاوزون ( وعند ذلك كان يجب أن أتذكر الشاعر الآخر ، إلا أن ميشيل شحاذ متعنت ) ، وعندما هجعت الرياح دفعة واحدة في سكون تام وخرجت الشمس أكثر صلابة بمرتين على الأقل ( عنيت أشد دفئاً ، لكن في الواقع الأمر سيان) ، جلست على المتراس وشعرت بفرح مريع في صباح الأحد .
من بين أساليب مقاومة العدمية، وأفضلها ، يعتبر التصوير، نشاط يجب تعليمه للأطفال في سن مبكرة . فهو يقتضي إنضباطاً ، ومراناً جمالياً ، وعيناً جيدة ، وأصابعاً واثقة .لن تكون مهمتك مجرد التسكع في انتظار كذبة ، مثل بعض المراسلين ، أو قنص لتلويحة غبية من مسؤول كبير خارج الداونينغ ستريت رقم 10 . على كل حال ، عندما يكون الشخص بالخارج وبيده كاميرة ، فهو ملزم تقريباً ، بأن يكون متحفزاً ، كي لا يفلت ذلك الإنعكاس المفاجئ والبهيج لأشعة الشمس بعيداً عن صخرة عتيقة ، أو تلك الضفائر المتطايرة لطفلة صغيرة تركض إلى المنزل بيدها قطعة خبز أو قارورة حليب . عرف مايكل دوماً ، بأن المصور كان يتصرف بالتعديل على رؤيته هو شخصياً تجاه العالم ، أكثر فأكثر منذ أن تواشج مع كاميرته شيئاً فشيئاً ( الآن سحابة عريضة تسبح بالقرب ، سوداء تقريباً ) . مع أنه لم يكن يشكك في هذه الحقيقة ، لكنه يعلم تماماً بأن في مقدوره مغادرة المنزل بدون الكونتاكس ، وبذلك يتحرر من الرنين المشوش ، ومن كآبة النظرعبر الإطار ، وتلقي الضوء عبر حجاب أو غطاء ينغلق بسرعة 1 إلى 250 . الآن تحديداً ( يا للكلمة ، الآن ، يا للكذبة الغبية ) كنت قادراً على الجلوس بهدوء على المتراس فوق النهر أراقب إبر الصنوبر الأسود والأحمر وهي تعبر في الأسفل ، دون أن يدفعني ذلك المشهد إلى التفكير حوله فوتوغرافياً ، تاركاً لنفسي الحبل على الغارب منسابة مع سائبية الأشياء ، هائمة بسكون في تيار الزمن . وكانت الريح ساكنة.
بعدها ، تجولت على امتداد شارع " كواي دي بوربون " وصولاً إلى طرف الجزيرة ، حيث يقع الميدان الحميم ( حميم لأنه كان صغيراً ، ليس لأنه كان خفياً ، فهو يعري صدره بالكامل في وجه النهر والسماء ) ، واستمتعت ، كثيراً . لم يكن هنالك شيء سوى عاشقين ، وبالطبع ، حمائم ؛ ربما أن بعض تلك التي تطير عابرة الآن ، تريدني أن أراها . قفزة إلى الأعلى واستقريت فوق المتراس ، ثم تركت نفسي تستدير حتى أمسكتني وسمرتني أشعة الشمس ، مانحاً لها وجهي وأذنيا ويديا (احتفظت بقفازيا في جيبي ) .لم تكن لدي أية رغبة في إلتقاط صور ، فأشعلت سيجارة لأفعل شيئاً ؛ أعتقد بأنها كانت اللحظة التي أوشكت فيها الشعلة على ملامسة التبغ ، حينما رأيت الصبي المراهق للمرة الأولى .
ما كنت قد حسبته عاشقين ، يبدو الآن أكثر شبهاً بمراهق مع والدته ، رغم أنني أدركت في الوقت نفسه بأنه لم يكن صبياً ووالدته ، وأنهما كانا عاشقين بالمفهوم الذي نسبغه دوماً على العشاق حين نراهم متكئين إلى المتاريس أو متعانقين على المقاعد بالساحات . وبما أنه لم يكن لدي أي شيء آخر لأفعله ، كان لدي وقت أكثر من كافي للتساؤل حول عصبية المراهق ، مثل مهر يافع أو أرنب ، واضعاً يديه في جيبيه ، ثم منتزعهما في التو ، واحدة بعد الأخرى ، ممشطاً شعره بأصابعه ، مغيراً وقفته ، وبالخصوص لماذا كان يبدو مذعوراً ، حسناً ، يمكنك تخمين ذلك من جميع إيماءاته ، ذعر مكتوم وراء خجله ، تراجعه بحدة خلفاً ، انفراد جسده وكأنه على حافة إقلاع ، متباعداً إلى الوراء في احترازأخير بئيس.
كل هذا كان بيناً للغاية ، على بعد عشرة أقدام – وكنا لوحدنا متكئون على المتراس عند رأس الجزيرة – وكان ذعر الصبي هو ما حجبني بداية عن رؤية الشقراء جيداً . الآن ، أفكر في الأمر مجدداً ، أراها بصورة أفضل كثيراً عند تلك الثانية الأولى عندما قرأت وجهها ( لقد استدارت ملتفتة فجأة ، متأرجحة مثل مؤشر رياح معدني ، والعينان ، العينان كانتا هنالك ) ، وعندما فهمت بصورة غامضة ماذا يمكن أن يكون واقعاً على الصبي وخمنت بأن الأمر يستحق عناء البقاء والمراقبة ( كانت الرياح تعصف بكلماتهما بعيداً وكانا يتحدثان في همهمة خفيضة ). أعتقد بأنني أعرف النظر ، إن كان ذلك ثمة ما أعرف ، وكذلك بأن كل مظهر مخادع ، لأنه هو ما يلقي بنا خارج أنفسنا كأبعد ما يكون ، بلا أدنى الضمانات ، ولا أين يمكن تلمسها ، أو ( لكن مايكل أهذى لنفسه بسهولة كافية ، وما من ضرورة لتركه يواصل وعظه بهذه الطريقة ) في كل الأحوال ، إذا كان من الممكن التنبؤ بعدم الدقة ، يكون من الممكن إعادة النظر مرة أخرى ؛ ربما كان كافياً أن نختار بين المظهر والحقيقة التي ننظر إليها ، لتعرية الأشياء من جميع أثوابها غير الضرورية.إلى جانب ذلك ، قطعاً أن كل ذلك صعب.
بالنسبة للصبي أنا أتذكر صورته قبل جسده الحقيقي ( سيوضح ذلك نفسه لاحقاً ) ، بينما أنا الآن متأكد بأنني أتذكر جسد المرأة أفضل بكثير مما أتذكر صورتها .لقد كانت نحيفة ورشيقة ، كلمتان غير منصفتان لتوصيف ما كانت عليه ، وكانت ترتدي معطف فرو أسود تقريباً ، فارعة تقريبا ، جميلة تقريباً . كل الرياح الصباحية ( الآن أصبحت بالكاد نسيماً ولم تكن باردة ) هبت خلال شعرها الأشقر الذي تقشر بعيدا عن وجهها الأبيض الكئيب – كلمتان غير منصفتان – ووضعت العالم تحت قدميها معزولاً بصورة مرعبة أمام عينيها القاتمتين ، عيناها تنقضان على الأشياء مثل صقرين ، قفزتان في العدم ، نفثتان من اللعاب الأخضر. أنا لا أصف الأمر . و قلت نفثتان من اللعاب الأخضر .
لنكن منصفين ، الصبي كان ذو هندام جيد بما يكفي وكان يرتدي قفازين أصفرين واللذان يمكنني أن أقسم بانهما كانا ملك أخيه الأكبر ، طالب قانون أو اجتماع ؛ وقد كان لطيفاً رؤية أصابع القفازين تبرز من جيبي بذلته . لمدة طويلة لم أرى وجهه ، بالكاد بملمح جانبي ، ليس غبياً – طائر مذعور ، ملاك فرا فليبو ، أرز بالحلوى والحليب – قفا مراهق يتخذ وضعية الجودو لخوض معركة أو إثنتين دفاعاً عن فكرة أو عن شقيقته . يبدو في الرابعة عشر ،و ربما الخامسة عشر من العمر ، يمكن لأحدهم أن يخمن بأنه لا يزال يكسى ويطعم من والديه بلا درهم في جيبه ، مضطراً للجدال مع رفاقه قبل أن يقرر شراء فنجان قهوة أو كأس كونياك أو علبة تبغ . وهو من الممكن أن يتجول عبر الطرقات متفكراً في بنات صفه ، وفي كيف أنه من الرائع أن يذهب إلى السينما لمشاهدة أحدث الأفلام ، أو شراء الروايات أو ربطات العنق أو قوارير الليكيور التي تحمل ديباجة الأخضر بالأبيض .أما في المنزل ( سيكون منزلاً محترماً ، بغداء يفرش عند الظهر و براري رومانسية على الجدران ، بمدخل مظلم ومظلة من الماهوقني تنتصب وراء البوابة ) فهنالك سيكون التساقط البطيء للوقت ، للمذاكرة ، و ليكون أمل أمه ، و ليبدو شبيهاً بأبيه ، و ليخط رسالة إلى خالته بأفيغنون. ولكي يكون هنالك الكثير من التجوال ، فالشوارع ، وكل النهر ملكه ( ولكن بلا درهم ) ومدينة ذوي الخمسة عشر ربيعاً الغامضة ، بعلاماتها على البوابات ، وقططها المخيفة ،حيث شريحة البطاطس المشوية بثلاثين فرانكا ، ومجلة الجنس مطوية أربع طيات ، حيث التحية تلقى مثل الخواء في جيوبه ، يكون الشوق إلى الكثير ، ذاك الذي هو عصي على الاستيعاب ولكنه مشع بحب شامل ، وبالمتاحية مثلما الريح والشوارع .
هذه كانت سيرة الصبي ، وأي صبي آخر أياً كان ، لكن هذه تحديداً والآن ، يمكنك أن ترى بأنه كان معزولاً ، محاصراً فقط بحضور الشقراء التي كانت تواصل حديثها معه .( لقد تعبت من الإصرار ، ولكن إثنتان مشققتان طولياً للتو عبرتا بالجوار ) ذاك الصباح أعتقد بأنني لم أتطلع نحو السماء ولا مرة واحدة ، لأن ما كان يجري للصبي وللمرأة بدا عاجلاً ، ولم يكن بإستطاعتي فعل أي شيء سوى النظر إليهما والانتظار ، النظر إليهما و....) لأختصر الأمر ، كان الصبي مستثاراً وبإمكان الواحد أن يخمن بلا عناء كبير ما قد حدث للتو قبل دقائق قليلة منصرمة ، أوعلى أبعد تقدير قبل نصف ساعة . فالصبي قد جاء إلى رأس الجزيرة ، وعندما شاهد المرأة بدت له في حسبانه رائعة . بينما كانت المرأة تتوقع ذلك ، لأنها كانت هناك في انتظار ذلك ، أو ربما يكون الصبي قد وصل قبلها ورأته من إحدى الشرفات أو من سيارة فخرجت لملاقاته ، مبتدئة للحديث بأي أمر كان ، ومن البداية هي كانت متأكدة من أنه سيذعر وسيرغب في الفرار بعيداً ، وأنه ، بالطبع ، سيبقى ، متصلباً متجهماً ، متظاهراً بالدراية والاستمتاع بالمغامرة. بقية الأمر كانت سهلة لأنها كانت تحدث على مرمى عشرة أقدام مني ، وأي شخص كان بإمكانه قياس مراحل اللعبة ، والمبارزة التنافسية المضحكة ؛ ولم يكن أكثر ما يجذب في الأمر هو أنه كان يحدث ولكن في توقع انفراجته . كأن يحاول الصبي إنهاء الأمر بالتظاهر بأنه على موعد غرامي ، أو لديه إلتزام ، أو أي أمر كان ، ويبتعد متعثراً مرتبكاً ، متمنياً لو أنه كان يمشي ببعض الثقة ، لكنه عاريا تشيعه النظرة الساخرة التي كانت لتتبعه حتى يغيب عن النظر. أو ربما الأرجح ، أن يحاول البقاء هناك ، مفتوناً أو ببساطة مسلوباً من القدرة على المبادرة ، ولبدأت المرأة في لمس وجهه بلطف ، ونفش شعره ، وهي لا تزال تتحدث إليه بلا صوت ، وسرعان ما تأخذه من ذراعه لتقوده إلى ما يجب فعله ، ما لم يقم هو ، بعدم ارتياح بالبدء في إظهار حد الشهوة ، وحتى حصته في المغامرة ، هي أن يستثار ليضع ذراعه حول خصرها وأن يقبلها .أي من هذا كان يمكن أن يحدث ، رغم أنه لم يحدث ، وبصورة ملفتة ، تربص مايكل ، جالساً على المتراس ، وهو يقوم بالإعدادات تقريباً بدون النظر إلى الكاميرا ، جاهزاً لإلتقاط منظر طبيعي لركن من الجزيرة به عاشقين أحدهما إلى الآخر دون مشترك يجمعهما للحديث .
غريب كيف أن المشهد ( تقريباً لا شيء : هنالك رقمان غير متوافقين في شبابهما ) كان يتخذ هالة مقلقة. اعتقدت بأنني كنت أتهيئوها ، وأن صورتي ، إذا إلتقطتها ، ستعيد الأشياء إلى بلادتها الحقيقي . كنت لأتمنى أن أعرف ما كان يفكر فيه ، رجل ذو قبعة رمادية يجلس خلف مقود سيارة مركونة على الرصيف المفضي إلى جسر المشاة ، وهل كان يقرأ الصحيفة أم أنه كان نائماً . لقد إكتشفته للتو لأن الناس حينما يكونون داخل سيارات مركونة يميلون إلى الاختفاء ، يضيعون بداخل ذاك القفص البائس منزوع الجمال الذي يكتسيه عند الحركة والمخاطرة .ورغم ذلك ، فالسيارة كانت موجودة هناك طوال الوقت ، مشكلة جزءاً ( أو مشوهة لذلك الجزء ) من الجزيرة . سيارة : كمثل القول مصباح طريق مضاء و مقعد حديقة . وليس أبداً كالقول رياح ، ضياء شمس ، تلك العناصر دائماً جديدة على البشرة وعلى الأعين ، وكذلك الصبي والمرأة ، فريدين ، وضعا هناك لتغيير الجزيرة ، كي أشاهدها بصورة مغايرة . أخيراً ، ربما يكون ذاك الرجل حامل الصحيفة بدوره ، بسبب إدراكه لما كان يجري لكان ، مثلي ، يشعر بتلك الإثارة الماكرة لانتظار كل شيء ليحدث .
الآن قامت المرأة بالدوران بنعومة ، واضعة الصبي اليافع بينها والجدار ، وقد رأيتهما جانبياً تقريباً ، وهو كان أطول ، لكن ليس أطول بكثير ، رغم ذلك فهي كانت تسيطر عليه ، وبدا الأمر وكأنها تحلق فوقه ( ضحكتها ، دفعة واحدة ، كرباج من الريش ) ، تحطمه بمجرد وجودها هناك ، مبتسمة ، يد واحدة تتهادى عبر الهواء . لم الإنتظار أكثر ؟ الفتحة على ستة عشر ، وزاوية لا تشمل السيارة السوداء المريعة ، ولكن نعم ، تلك الشجرة ، ضرورية لكسر الفضاء الرمادي الضافي.
رفعت الكاميرا ، وتظاهرت باختبار مشهد لا يشملهما ، وانتظرت أراقب الأمور لصيقا ، بالقطع فإنني سأمسك بالتعبير الفاضح ، ذاك الذي سيلخص كل شيء ، الحياة مدوزنة على الحركة ولكن لقطة جامدة تدمرها ، تأخذ الزمن بصورة مقطعية ، ما لم نختر الشظية الأساسية اللامرئية منه . لم يكن علي الإنتظار طويلاً .
كانت المرأة مستمرة في مهمة تقييد الصبي بنعومة ، نازعة عنه ما تبقى من حريته شعرة فشعرة ، في تعذيب بطيء ولذيذ بصورة مذهلة . تخيلت النهايات المحتملة ( الآن تظهر سحابة صغيرة زغبية ، وحيدة تقريباً في السماء ) ، رأيت وصولهما إلى المنزل ( شقة تحت أرضية محتملاً ، والتي قامت هي بملئها بالأرائك الوثيرة وبالسنانير ) وهي قد خمنت ذعر الصبي وتصميمه اليائس على اللعب ببرود والإنقياد متظاهراً بعدم جدة الأمر بالنسبة إليه . أغضمت عينيا ، إن كنت قد أغمضتهما فعلاً ، رسمت المشهد : القبلات المثيرة ، تقوم المرأة بنعومة بصد اليدين التين تحاولان تعريتها ، مثلما يحدث في الروايات ، على سرير يغطيه لحاف ليلكي اللون ، ومن ناحية أخرى تقوم هي بنزع ملابسه ، تلاعبه لعبة الأم والإبن تحت انسكاب ضوء أصفر حليبي ، وكل شيء ربما ينتهي كالمعتاد ، ولكن محتمل أن يسير كل شيء خلاف ذلك ، وأن لا يقوم المراهق بالمبادرة ، هي لن تدعه أن يبادر ، بعد مقدمة طويلة من الإرباكات ، المداعبات المحنقة ، من يعلم إلام سيفضي تمرير اليدين على الجسدين ، إلى افتراق ومتعة فردية ، إلى رفض عدواني تشوبه ممارسة فن الانهاك والاحباط القصويين على البراءة المسكينة . ربما سارت الأمور على ذلك النحو ، ربما سارت الأمور تماماً على ذلك النحو ؛ تلك المرأة لم تكن ترى في الصبي عشيقا ، وفي نفس الوقت كانت توجهه نحو مصير يستحيل فهمه إن لم تتخيل الأمر كلعبة قاسية ، الرغبة في الرغبة دون اشباع ، لإستثارة نفسها لأجل شخص آخر ، شخص لا يمكن لذلك الصبي أن يكونه بأية حال من الأحوال.
مايكل هو المذنب في صناعة أدب ، متميع في الأخيلة المصطنعة . لا شيء يرضيه أكثر من تخيل كل شذوذ عن قاعدة ، مسوخاً خارج الأنواع ، وليس دائما ، وحوشا كريهة . لكن تلك المرأة قد استدعت التأمل ، ربما بإعطائها مفاتيحاً كافية للخيال حتى يتمكن من إصابة كبد الحقيقة . وقبل أن تقوم بالمغادرة ، وهي ستكون شاغلاً لخيالي لأيام عديدة ، ولأنني قد أخذت بالتأمل، قررت أن لا أفقد أية برهة مزيداً . حصرت كل شيء خلال فتحة النظر ( بما في ذلك الشجرة و المتراس وشمس الحادية عشر ) ثم أخذت اللقطة . لوهلة كافية لأدرك بأنهما معا قد تنبها ووقفا هناك يتطلعان نحوي ، الصبي مندهشاً وكأنه يتساءل ، لكنها كانت منزعجة ، وجهها وجسدها انتصبا بصورة عدائية ، تشعر بانه قد تمت سرقتها ، وبخساسة دمغت على صورة كيميائية صغيرة .
كان بمقدوري أن أتحدث عن ذلك بتفاصيل أوفى بكثير لكن الأمر لا يستحق العناء . قالت المرأة بأن لا أحد يملك حق التصوير بدون استئذان ، وطلبت مني تسليمها الفيلم . كل هذا بصوت جاف وواضح ذي لكنة باريسية جيدة ، تلك التي تنمو لوناً ونغمة مع كل جملة . من جانبي ، لم يكن يهمني كثيراً حصولها على بكرة الفيلم من عدمه ، لكن أي أحد يعرفني سيخبرك ، بأنك إذا كنت تريد مني أي شيء ، فعليك الطلب بلطف . بالنتيجة فقد حصرت نفسي في صياغة رأي مفاده بأن التصوير في الأماكن العامة لم يكن غير ممنوع فحسب ، بل كان ينظر إليه بعين التفضيل ، سواءاً من العامة والرسميين. وبينما كان هذا يقال ، لاحظت خلسة كيف كان الصبي يقع وراءاً ، كنوع من المساندة النشطة عبر عدم الجمود ، وفي لحظة ( يبدو أمراً لا يصدق ) فقد استدار وطفق يركض ، الطفل المسكين ، كان يظن بأنه يمشي مبتعداً وفي الواقع هو كان في طيران كامل ، يركض إلى جانب السيارة ، مختفياً مثل خيط حريري من بصقة ملاك عبر نسيم الصباح.
لكن خيوط بصقة الملاك تسمى أيضاً ببصقة الشيطان ، وكان على مايكل أن يحتمل لعنات خاصة ، أن يسمع مناداته بالمتطفل والمعتوه ، متحملاً لألام عظمية وهو يحاول الابتسام وأن يهدأ بابتسامة وإيماءات من رأسه ، أمر صعب الابتلاع . وحينما كنت قد بدأت أتعب ، سمعت باب السيارة وهو يصطفق . الرجل ذو القبعة الرمادية كان هناك ، ينظر إلينا . حينها فقط أدركت بأنه كان يلعب دوراً في هذه الملهاة .
وقد بدأ في السير بإتجاهنا ، وهو يحمل الصحيفة التي كان يتظاهر بقراءتها . وأفضل ما أتذكر هو تلك التكشيرة التي لوت فمه بصورة مائلة ، و غطت وجهه بالتجاعيد ، وغيرت بطريقة ما موضعها وشكلها لأن شفتيه كانتا ترتعشان وتدحرجت التكشيرة من طرف فمه إلى الطرف الآخر وكأنها تنزلق على دواليب ، مستقلة ولا إرادية.أما البقية فقد ظلت ثابتة ، مهرج ذو وجه مطلي بالطحين أو رجل بلا دماء ، دمية جافة الجلد ، العينان الأعمق ، المنخران مظلمان ومرئيان بصورة ملفتة ، أشد إسوداداً من الحاجبين أو شعر الرأس أو ربطة العنق السوداء . يمشي بحذر لكأنما حجارة الرصيف تؤذي قدميه ؛ رأيت حذاءاً لامعاً ذا نعل رفيع يحتم عليه أن يشعر بأدنى خشونة على الرصيف . لا أعلم لم ترجلت عن المتراس ، ولا حتى بشكل أفضل لم قررت عدم إعطائهم الصورة ، رافضاً لتلك الرغبة مراهناً بحدسي على خوفهم وجبنهم .المهرج والمرأة تشاورا في صمت : لقد صنعنا مثلثاً مثالياً وغير محتمل ، شعرت بشيء قد كسر بفرقعة سوط . ضحكت في وجهيهما وبدأت في السير مبتعداً ، بصورة أكثر بطئاً ، يخيل إلي ، من الصبي .عند مستوى البيوت الأولى ، بقرب جسر المشاة الحديدي ، استدرت وراءا للنظر إليهما . لم يكونا يتحركان ، لكن الرجل ألقى صحيفته ؛ وبدا لي أن المرأة ، وظهرها إلى المتراس ، تجري بيديها على الحجارة في تلميحة تقليدية وممجوجة لشخص ملاحق يبحث عن مهرب .
ما جرى بعد ذلك حدث هنا ، تقريباً الآن ، في حجرة بالطابق الخامس . مضت أيام عديدة قبل أن يحمض مايكل الصور التي إلتقطها يوم في يوم الأحد ؛ لقطاته لمعهد الموسيقى ولكنيسة سانت شابل كلها كانت كما يجب . بعدها وجد صورتين أو ثلاث تجريبيات كان قد نسيها ، محاولة يائسة لتصوير قط جاثم بأعجوبة على سقف متهالك لمبولة عامة ، وكذلك صورة المرأة الشقراء والمراهق .كان النيجاتف جيداً للغاية مما دفعه إلى تكبير اللقطات ؛ وكان التكبير جيداً جداً مما حدا به إلى عمل آخر كبير للغاية ، تقريباً في حجم البوستر . لم يخطر له ( الآن أحدهم يتعجب ويتعجب ) بأن صور الكنيسة وحدها استحقت كل هذا الجهد الكبير .من بين جميع اللقطات ، كانت اللقطة على طرف الجزيرة هي الوحيدة التي جذبت اهتمامه . قام بتثبيت التكبير على حائط بالغرفة وفي اليوم الأول أمضى بعض الوقت محدقاً إليه ومستذكراً ، تلك العملية الكئيبة من أجل مقارنة الذكرى بالواقع المنقضي ؛ ذكرى هامدة ، مثل أي صورة ، حيث لا شيء منتقص ، ولا حتى ، وبالأخص ، العدم ، المالئ الحقيقي للمشهد .
كانت المرأة هناك ، كان المراهق موجوداً ، الشجرة جامدة فوق رأسيهما ، السماء ساكنة مثل حجارة المتراس ، السحب والحجارة انصهرت في خليط واحد غير قابل للفصل ( الآن واحدة ذات أطراف حادة تعبر بالقرب ، مثل نذير العاصفة ) .خلال أول يومين تقبلت كل ما قمت بإنجازه ، بدءاً من إلتقاط الصورة نفسها ثم تكبيرها وتثبيتها على الجدار ، ولم أتساءل حتى عن الدافع الذي كان ليدفعني عند كل سانحة إلى مقاطعة ترجمة عقد خوزيه نوربيرتو ألليندي لأعاود النظر إلى وجه المرأة والبقع الداكنة على المتراس . يا لي من أحمق ؛ لم يكن ليخطر لي أبداً بأننا عندما ننظر إلى صورة من الأمام ، تقوم أعيننا بإعادة تمثيل وضعية ورؤية العدسات تماماً . هذه هي الأمور التي تؤخذ كمسلمات، ولا يمكن أن يخطر ببال أي أحد أن يعيد التفكير فيها .من على مقعدي ، حيث الآلة الكابتة أمامي بالضبط ، نظرت إلى الصورة المثبتة على بعد عشرة أقدام مني ، وصدف أن كنت من على مقعدي أنظر من زاوية العدسات تماماً . لقد بدت جيدة للغاية من هذه الزاوية ؛ لا شك ، أنها كانت أفضل طريقة لتقدير صورة ، على الرغم من أن النظر إليها قطرياً ،بلا شك له فتنته وربما يفضح جوانباً مغايرة . بعد كل دقائق معدودة ، على سبيل المثال عندما كنت غير قادر على إيجاد صيغة فرنسية جيدة لأقول ما يقوله خوزيه نوربيرتو ألليندي بلغة إسبانية ناصعة ، كنت أرفع عيني وأنظر إلى الصورة ؛ كانت المرأة أحياناً تجذب نظري ، أحياناً المراهق ، أحياناً الرصيف حيث سقطت ورقة جافة ، بصورة تدعو إلى الإعجاب ، واستقرت لتزين الفراغ المحيط . بعدها أخذت استراحة من عملي ، وانغمست مرة أخرى بسعادة في ذلك الصباح الذي كانت الصورة فيه مغمورة للتحميض ، تذكرت بسخرية ، الوجه الساخط للمرأة وهي تطلب مني تسليمها الصورة ، الهروب السخيف ومحزن للمراهق ، دخول الرجل ذو الوجه الأبيض إلى المشهد .في دواخلي كنت راضياً عن نفسي ؛ لم يكن دوري مميزاً ، وبما أن الفرنسيين موهوبين في الردود المفحمة ، لم أفهم تماماً لماذا آثرت الانصراف دون أن أقوم باستعراض كامل للحقوق والامتيازات والحقوق الحصرية للمواطنين . الشيء المهم ، الشيء المهم حقاً كان هو مساعدتي للمراهق على الفرار في الوقت المناسب ( هذا في حال أن تنظيري كان صائباً ، وهو لم يتم برهنته بصورة كافية ، ولكن حادثة الفرار نفسها جعلته يبدو كذلك ) بحشريتي المباشرة ، منحته فرصة ليستفيد أخيراً من طاقة ذعره ويحقق شيئاً مفيداً ؛ الآن سيكون نادماً على ذلك ، تحت وطأة الشعور بالإهانة وبالرجولة المهدرة.لكن ذلك كان أفضل من البقاء تحت نظرات المرأة ، التي كانت تسلطها عليه في الجزيرة .كان مايكل متديناً نوعاً ما في بعض الأحيان ، فهو يؤمن بأنه لا يجوز إغواء شخص بالقوة . في قرارة نفسه كانت هذه الصورة عملاً صالحاً .
لكن لم يكن نظري إليها خلال عملي بين فقرة وأخرى لكون أنها كانت عملاً صالحاً . في ذلك الوقت لم أكن أعلم لم كنت أعاود النظر إليها ، ولا لم قمت بتثبيت النسخة المكبرة على الجدران . لربما كانت هذه هي طريقة وقوع كل الأحداث المصيرية ، لربما كان هذا هو شرط تحققها . لا أعتقد بأن الارتعاشة وشيكة الاثمار لأوراق الشجرة قد كانت كافية لتشتيت انتباهي ، عن متابعة جملة كنت قد بدأتها وأنهيتها بصورة بديعة . العادات تشبه عطارة كبيرة ، وفي نهاية الأمر ، فإن تكبيراً بمقدار ثمانين في ستين سنتميتراً مثل شاشة عرض ، حيث على طرف جزيرة تظهر إمرأة تحادث مراهقاً بينما شجرة تهز أوراقها الجافة فوق رأسيهما .
لكن أياديها كانت قد تجاوزت الحد في كثرتها . للتو قمت بترجمة العبارة : " في تلك الحالة ، فإن المخرج الثاني يكمن في الطبيعة الجوهرية لصعوبات المجتمعات التي..." – لحظة أن رأيت كف المرأة وقد بدأ ينقبض بطيئاً ، إصبعاً إثر إصبع. لم يتبقى مني شيء ، فقرة بالفرنسية ربما لن أكملها أبداً ، آلة طابعة على الأرض ، كرسي يصدر صريراً وهزة ، بقعة ضباب. قام المراهق بإحناء رأسه مثل ملاكم خارت قواه ينتظر الضربة القاضية ؛ كان قد رفع ياقة معطفه وبدى أشبه بسجين أكثر من أي وقت مضى ، الضحية المثالية التي تساعد على حلول مصيرها . الآن المرأة تهمس في أذنه ، وبسطت كفها مرة أخرى لتضعها على خده ، لتداعبه وتداعبه ، حتى تلهبه، على مهل . كان المراهق مشدوهاً أكثر من كونه مرتاباً ، مرة أو إثنتان قام بالتحديق من أعلى كتف المرأة ، واستمرت هي في حديثها ، تتحدث عن أمر جعله يعاود النظر كل بضع دقائق تجاه تلك المنطقة حيث ، ومايكل كان يعلم يقيناً ، كانت السيارة والرجل ذو القبعة الرمادية ، محذوفين بعناية من إطار الصورة لكنهما حاضرين في انعكاس عيني المراهق ( كيف يمكن لأحد أن يشكك في هذا الآن ) وفي كلمات المرأة ، في يدي المرأة ، وفي الحضور الخفي للمرأة .
عندما شاهدت الرجل قادماً ومتوقفاً إلى جانبهما ، حاشراُ يديه بجيبيه وهيئته توحي بحالة بين الإشمئزاز والرغبة ، رجل يوشك على الصفير لكلبه بعد أن أكمل جولته بالميدان ، لقد فهمت ، إن كان هذا مما يمكن فهمه ، ماذا كان يجب أن يحدث ، ماذا كان يجب أن يكون قد حدث ، ماذا كان ليجب أن يحدث في تلك اللحظة ، بين هؤلاء الأشخاص ، تماماً عندما قمت بحشر أنفي لتخريب مجريات أمور مقررة ، متدخلاً ببراءة في مجريات ذاك الحدث الذي لم يقع بعد ، ولكنه الآن وشيك الحدوث ، الآن وشيك التحقق . و كان ما تخيلته آنفاً أقل فظاعة من الحقيقة بكثير ، تلك المرأة ، التي لم تكن هناك لأجل نفسها ، لم تكن تداعب أو تغوي أو تلهث من أجل متعتها الذاتية ، من أجل استدراج الملاك الأشعث والتلاعب بذعره ولهفته . وقد كان السيد الحقيقي ينتظر ، مبتسماً بغيظ ، وهو مطمئن إلى سلامة العملية. هو لم يكن أول من يستخدم أمرأة طعماً ، لتجلب له صيدها مقيداً بالأزهار . فالبقية ستكون غاية في السهولة ، السيارة ، منزل بمكان ما ، مشروبات ، لمسات مثيرة ، دموع متأخرة ثم الاستيقاظ في الجحيم . هذه المرة لم يكن هنالك ما يمكنني أن أفعله ، هذه المرة لم يكن بمقدوري فعل أي شيء على الإطلاق . كانت كل قوتي في صورة ، هذه ، هناك ، حيث سيقومان بالانتقام مني ، بعرض ما كان سيحدث وشيكاً ، بيناً .لقد تم إلتقاط الصورة ، والوقت قد مر ؛ وكنا مفرقين للغاية عن بعضنا البعض ، الجريمة قطعاً قد اكتملت ، والدموع قد سكبت ، وبقية الحدس والحزن . وفجأة انقلبت المجريات ، كانوا أحياءاً ، يتحركون ، يقررون ويمشون ، لقد كانوا يتوجهون نحو مستقبلهم ؛ وأنا على هذه الناحية ، حبيس لزمن آخر ، لغرفة على الطابق الخامس ، لجهلي عمن كانت تلك المرأة ، ذاك الرجل وذاك المراهق ، لكون أني أصبحت لا شيء أكثر من عدسات كاميرتي ، شيء ، جامد ، عاجز عن التدخل .
كانت سخريتهما مني ، هي الأفظع ، كانا يسخران مني بإرتكاب الأمر أمام عيني العمياوتين ، بجعل الفتى المراهق تارة أخرى ينظر إلى المهرج ذي الوجه الطحيني ، وبجعلي أفهم بأنه كان على وشك الموافقة ، وأن العرض كان يحتوي على نقود أو حيلة ، وبأني لم أستطع أن أصيح فيه محذراً للفرار، أو لأقوم ببساطة بتمكين هروبه من جديد بواسطة لقطة أخرى ، بتدخل صغير ومتواضع للغاية يمزق حوله شبكة اللعاب والعطر . كل شيء كان مقدماً على حل نفسه هناك تماماً ، في تلك اللحظة ؛ كان هنالك صمت مطبق ولا علاقة له بالصمت الحسي . كان صمتاً يتمدد ويتسلح . أعتقد بأنني صرخت ، صرخت بصورة مريعة ، وحدث ذلك تماماً في اللحظة التي أدركت فيها بأنني بدأت في الإقتراب منهم ، عشرة سنتمترات ، خطوة ، خطوة أخرى ، كانت الشجرة في الواجهة تتمايل بأغصانها برتابة ، وطفحت البقعة التي على المتراس خارج الإطار ، ودار وجه المرأة تجاهي ، وكأنها تباغتت ، كان يتضخم . وعندها انحرفت قليلاً – أعنى بأن الكاميرا قد انحرفت قليلاً – ومن غير إفلات المرأة من المشهد ، بدأت في تقريب الرجل ، الذي كان يحدق تجاهي بالفجوتين السوداوتين التين كانتا في مكان العينين ، مذهولاً وغاضباً معاً ، بدى ، وكأنه يرغب في دقي بالمسامير إلى الهواء . وفي تلك اللحظة ومن خارج البؤرة تمكنت من مشاهدة طائر ضخم وهو ينقض دفعة واحدة من أمام المشهد ، ثم إنحنيت تجاه حائط غرفتي وكنت فرحاً للغاية لأن المراهق كان قد أفلت هارباً للتو ، رأيته وهو يعدو ، ثم مجدداً في البؤرة ، يعدو وشعره يرفرف مع الريح ، أخيراً قد عرف كيف يحلق فوق الجزيرة ، ليصل إلى جسر المشاة ، قافلاً إلى المدينة . لقد تمكن للمرة الثانية من الفرار منهما ، لقد ساعدته للمرة الثانية على الهرب وأرجعته إلى فردوسه الزائل . بأنفاس حبيسة ، وقفت أمامهم ؛ لم تكن هنالك أية حاجة للإقتراب بعد قيد أنملة ؛ فاللعبة قد انتهت . بالكاد يمكن لأحدهم رؤية كتف المرأة وجزءاً من شعرها ، وقد بتره اطار الصورة بوحشية ؛ لكن الرجل كان في المركز تماماً ، فمه نصف مفغور . وهناك بداخل فمه ، رأيت لسانه الأسود يتأرجح ، وهو يرفع يديه بطيئاً ، إلى الأمام ، وكانت اللحظة لا تزال في قبضة البؤرة تماماً ، ثم أصبح كله بقعة تبتلع الجزيرة ، الشجرة ، ثم أغمضت عيني ، لم أكن راغباً في رؤية المزيد ، غطيت وجهي وأنفجرت باكياً كالأبله .
الآن تعبر بالجوار سحابة بيضاء عريضة ، كما كان يحدث طوال هذه الأيام ، طوال هذا الوقت اللامحصى . ما بقي ليقال هو دائماً سحابة ، سحابتان ، أو ساعات طوال من سماء ناصعة الصحو ، مستطيل شفاف مثبت بالدبابيس على حائط غرفتي . هذا ما شاهدته عندما فتحت عيني وجففتهما بيدي : سماء صافية ، ثم سحابة تأتي من الناحية اليسرى ، تعبر برشاقة وسكينة ثم تختفي في الناحية اليمنى . ثم تلتها واحدة أخرى ، وأحياناً يصبح كل شيء رمادياً ، كل شيء هو سحابة واحدة هائلة ، وفجأة قطرات مطر تتهشم على الأرض ، ولوقت طويل يمكنك رؤيتها تمطر على الصورة ، وكأنما تعويذة البكاء قد انعكست ، وشيئاً فشيئاً ، يصبح الإطار صافياً ، وربما تشرق الشمس ، وتارة أخرى تبدأ السحب في الظهور ، فينة زوجياً ، وفينة ثلاثياً . وحمائم تحلق من وحين لآخر ، أو عصفور وحيد .
* لُعَاب إبليس
خوليو كورتاسر
Las babas del diablo
Julio Cortazar
.
وحيث أننا لا زلنا في بداية القصة ، لكان ، خروجي لتناول جعة عند المنعطف ، بينما تستمر الطابعة في العمل ذاتياً ( لأنني أكتب على آلة كاتبة ) ، نوعاً من الكمال . هذا ليس مجرد هذر كلام . كمال ، نعم ، لأنه هنا تماماً ، تكمن نقطة الضعف ، أن تسرد قصة بالتشارك مع آلة ( من نوع آخر ، كونتاكس 1.1.2) ، ولكان من الأفضل أن تعلم آلة عن الآلة الأخرى أكثر مما أعرف أنا أو أنت أو هي أو الشقراء أو السحابات . لكن كل المتاح هو مجرد حظٌ أبله. فأنا أعلم بأنه حال مغادرتي ، ستبقى هذه " الريمينغتون " كالصخرة على سطح المنضدة ، محاطة بهواء أسكن بمرتين مما هو عليه حينما تكون القطع المتحركة ساكنة . إذن علي أن أكتب . على أحد من بيننا الكتابة ، إن كان لا بد من سرد كل هذا الأمر . ليتني كنت ميتاً ، ليتني كنت أقل تصميماً من الآخرين ؛ أنا الذي لا يرى شيئاً إلا السحابات ، و الذي يفكر دون تشويش ، والذي يكتب دون تشويش (ها هي واحدة أخرى تمر ، ذات حافة رمادية ) والذي يتذكر دون تشويش ، أنا الميت ( والحي ، ليس في الأمر خدعة ، و سيتضح ذلك عندما تحين اللحظة المناسبة ، ولأنه كان علي أن أبدأ من بداية ما ، بدأت من هذه النقطة ، التي هي من الماضي ، والتي هي البداية ، والتي هي ، فوق كل شيء ، أفضل النقاط ، كلما أردت سرد قصة).
فجأة تعجبت لم علي أن أقول هذا ، ولكن إذا بدأنا في التعجب حول دوافع قيامنا بفعل كل ما قد فعلنا ، إذا تساءلنا ببساطة ، عن سبب قبولنا لدعوة غداء ( الآن تطير بالقرب حمامة ، حسبتها دوري ) ، أو عن سبب شعور كالدغدغة يسرح في البطن كلما يلقي أحدهم على أسماعنا نكتة جيدة ، شعور لا يهدأ إلا بعد أن نذهب بدورنا إلى المكتب المجاور ونلقيها على الآخرين ؛ وحال ما يحدث ذلك نشعر بالتحسن ، وبالغبطة ، فنعود إلى مكاتبنا لاستئناف عملنا . ومبلغ علمي فإنه لا أحد أبداً قد فسر ذلك ، لذا فإن أفضل شيء هو أن نتغاضى عن الرتوش و نسرد القصة محضة ، حيث أنه بعد أن أصبح الأمر في الماضي ، لن يكف أي شخص عن التنفس أو عن ارتداء نعله ، من شدة حرجه . هنالك أشياء أنت تفعلها ، وحينما يحدث أمر غريب ، حينما تجد عنكبوتاً في حذائك أو حينما يراودك إحساس بوجود زجاج مكسور ، كلما استنشقت الهواء ، عندها يجب عليك أن تتحدث بالأمر ، أن تخبر به الرفاق في العمل أو الطبيب .آه ، أيها الطبيب ، كلما تنفست....أفصح دوماً عن الأمر ، تخلص دوماً من تلك الدغدغة المزعجة ببطنك.
وبما أننا أخيراً سنسرد القصة ، دعنا نرتب الأشياء قليلاً ، دعنا ننزل على درج هذا المنزل ، نهار الأحد، السابع من نوفمبر ، قبل شهر مضى . ننزل خمسة طوابق يوم أحد ، ونقف تحت شمس غير متوقعة في نوفمبر باريس ، ولدينا رغبة عظيمة للتجوال ، للفرجة ،لإلتقاط الصور ( لأننا كنا مصورين ، أنا مصور ) . أنا أعلم بأن أصعب الأشياء سيكون إيجاد طريقة لسرد واقعة ، ولست خائفاً من تكرار نفسي . سيكون الأمر صعباً لأنه لا أحد يعلم يقيناً حقيقة الراوي ، أهو أنا أو هو ما حدث واقعياً أو هو ما أشاهده ( سحابات ، وحمامة بين الفينة والأخرى ) أو أنني ببساطة أروي حقيقة هي حقيقتي وحدي ، لذلك هي ليست بحقيقة بمعزل عما تشكله الحقيقة لمعدتي ، لأن رغبتي في الاندفاع عبر الباب وانهاء هذا الأمر ، على نحو ما ، لا تقاوم أياً كانت العواقب.
سنبدأ في سرد الواقعة رويداً ، وسنرى ما يحدث بينما أنا أكتب . وإذا ما تم استبدالي ، إذا لم يعد بجعبتي ما أضيفه ، إذا امتنعت السحابات عن المرور ، وانطلق شيء آخر (لأنه من المستحيل أن يدوم هذا ، السحابات تعبر بإستمرار وحمامة بين الفينة والأخرى ) ، إذا ما انطلق شيء من كل هذا ...وبعد هذه ال " إذا " ماذا أضيف ، كيف يمكنني إنهاء جملتي بصورة صحيحة ؟ ولكنني إذا ما شرعت في طرح الأسئلة ، سوف لن أروي أي شيء على الإطلاق ، ربما أن القصة ، ستكون هي الإجابة ، على الأقل لمن يطلع عليها .
روبرت مايكل ، مترجم فرنسية - تشيلية ، ومصور هاو في فراغه ، غادر المبنى رقم 11 ، ريو مونسيور- لي- برنس الأحد ، السابع من نوفمبر من السنة الجارية (الآن هناك إثنتان صغيرتان تعبران ذواتا خطوط فضية ) . هو كان قد أمضى ثلاثة أسابيع منكباً على النسخة الفرنسية من مقالة " العوائق والطعون " لجوزيه نوربيرتو ألليندي ، المحاضر بجامعة سانتياغو .من النادر أن تهب الرياح في باريس ، ومن الأشد ندرة أن تهب رياح مثل هذه التي تدور حول الزوايا وترتفع لتجلد الستائر الخشبية الفينسية ، حيث خلفها النسوة المندهشات يتحادثن بتعليقات مختلفة حول تقلبية الطقس في هذه الأعوام القليلة الأخيرة. لكن الشمس أيضاً كانت مشرقة ، تمتطي الريح وتصادق القطط ، لذلك لم يكن هنالك شيء يمكن أن يمنعني من التقاط صور لمعهد الموسيقى و ولكنيسة القديسة سانت- تشابيليه. كانت العاشرة وشيكة ، وخمنت بأنه عند بلوغ الحادية عشرة سيكون الضوء جيداً، ذلك أفضل ما يمكنك الحصول عليه في الخريف ؛ لقتل بعض الوقت قمت بالدوران حول جزيرة القديس لويس وبدأت في المشي على امتداد رصيف الدانجو النهري ، حدقت لبرهة في فندق لاوزون ، رددت مقاطعاً من أبولينيري ، تلك التي تطل برأسي دوماً كلما عبرت أمام فندق لاوزون ( وعند ذلك كان يجب أن أتذكر الشاعر الآخر ، إلا أن ميشيل شحاذ متعنت ) ، وعندما هجعت الرياح دفعة واحدة في سكون تام وخرجت الشمس أكثر صلابة بمرتين على الأقل ( عنيت أشد دفئاً ، لكن في الواقع الأمر سيان) ، جلست على المتراس وشعرت بفرح مريع في صباح الأحد .
من بين أساليب مقاومة العدمية، وأفضلها ، يعتبر التصوير، نشاط يجب تعليمه للأطفال في سن مبكرة . فهو يقتضي إنضباطاً ، ومراناً جمالياً ، وعيناً جيدة ، وأصابعاً واثقة .لن تكون مهمتك مجرد التسكع في انتظار كذبة ، مثل بعض المراسلين ، أو قنص لتلويحة غبية من مسؤول كبير خارج الداونينغ ستريت رقم 10 . على كل حال ، عندما يكون الشخص بالخارج وبيده كاميرة ، فهو ملزم تقريباً ، بأن يكون متحفزاً ، كي لا يفلت ذلك الإنعكاس المفاجئ والبهيج لأشعة الشمس بعيداً عن صخرة عتيقة ، أو تلك الضفائر المتطايرة لطفلة صغيرة تركض إلى المنزل بيدها قطعة خبز أو قارورة حليب . عرف مايكل دوماً ، بأن المصور كان يتصرف بالتعديل على رؤيته هو شخصياً تجاه العالم ، أكثر فأكثر منذ أن تواشج مع كاميرته شيئاً فشيئاً ( الآن سحابة عريضة تسبح بالقرب ، سوداء تقريباً ) . مع أنه لم يكن يشكك في هذه الحقيقة ، لكنه يعلم تماماً بأن في مقدوره مغادرة المنزل بدون الكونتاكس ، وبذلك يتحرر من الرنين المشوش ، ومن كآبة النظرعبر الإطار ، وتلقي الضوء عبر حجاب أو غطاء ينغلق بسرعة 1 إلى 250 . الآن تحديداً ( يا للكلمة ، الآن ، يا للكذبة الغبية ) كنت قادراً على الجلوس بهدوء على المتراس فوق النهر أراقب إبر الصنوبر الأسود والأحمر وهي تعبر في الأسفل ، دون أن يدفعني ذلك المشهد إلى التفكير حوله فوتوغرافياً ، تاركاً لنفسي الحبل على الغارب منسابة مع سائبية الأشياء ، هائمة بسكون في تيار الزمن . وكانت الريح ساكنة.
بعدها ، تجولت على امتداد شارع " كواي دي بوربون " وصولاً إلى طرف الجزيرة ، حيث يقع الميدان الحميم ( حميم لأنه كان صغيراً ، ليس لأنه كان خفياً ، فهو يعري صدره بالكامل في وجه النهر والسماء ) ، واستمتعت ، كثيراً . لم يكن هنالك شيء سوى عاشقين ، وبالطبع ، حمائم ؛ ربما أن بعض تلك التي تطير عابرة الآن ، تريدني أن أراها . قفزة إلى الأعلى واستقريت فوق المتراس ، ثم تركت نفسي تستدير حتى أمسكتني وسمرتني أشعة الشمس ، مانحاً لها وجهي وأذنيا ويديا (احتفظت بقفازيا في جيبي ) .لم تكن لدي أية رغبة في إلتقاط صور ، فأشعلت سيجارة لأفعل شيئاً ؛ أعتقد بأنها كانت اللحظة التي أوشكت فيها الشعلة على ملامسة التبغ ، حينما رأيت الصبي المراهق للمرة الأولى .
ما كنت قد حسبته عاشقين ، يبدو الآن أكثر شبهاً بمراهق مع والدته ، رغم أنني أدركت في الوقت نفسه بأنه لم يكن صبياً ووالدته ، وأنهما كانا عاشقين بالمفهوم الذي نسبغه دوماً على العشاق حين نراهم متكئين إلى المتاريس أو متعانقين على المقاعد بالساحات . وبما أنه لم يكن لدي أي شيء آخر لأفعله ، كان لدي وقت أكثر من كافي للتساؤل حول عصبية المراهق ، مثل مهر يافع أو أرنب ، واضعاً يديه في جيبيه ، ثم منتزعهما في التو ، واحدة بعد الأخرى ، ممشطاً شعره بأصابعه ، مغيراً وقفته ، وبالخصوص لماذا كان يبدو مذعوراً ، حسناً ، يمكنك تخمين ذلك من جميع إيماءاته ، ذعر مكتوم وراء خجله ، تراجعه بحدة خلفاً ، انفراد جسده وكأنه على حافة إقلاع ، متباعداً إلى الوراء في احترازأخير بئيس.
كل هذا كان بيناً للغاية ، على بعد عشرة أقدام – وكنا لوحدنا متكئون على المتراس عند رأس الجزيرة – وكان ذعر الصبي هو ما حجبني بداية عن رؤية الشقراء جيداً . الآن ، أفكر في الأمر مجدداً ، أراها بصورة أفضل كثيراً عند تلك الثانية الأولى عندما قرأت وجهها ( لقد استدارت ملتفتة فجأة ، متأرجحة مثل مؤشر رياح معدني ، والعينان ، العينان كانتا هنالك ) ، وعندما فهمت بصورة غامضة ماذا يمكن أن يكون واقعاً على الصبي وخمنت بأن الأمر يستحق عناء البقاء والمراقبة ( كانت الرياح تعصف بكلماتهما بعيداً وكانا يتحدثان في همهمة خفيضة ). أعتقد بأنني أعرف النظر ، إن كان ذلك ثمة ما أعرف ، وكذلك بأن كل مظهر مخادع ، لأنه هو ما يلقي بنا خارج أنفسنا كأبعد ما يكون ، بلا أدنى الضمانات ، ولا أين يمكن تلمسها ، أو ( لكن مايكل أهذى لنفسه بسهولة كافية ، وما من ضرورة لتركه يواصل وعظه بهذه الطريقة ) في كل الأحوال ، إذا كان من الممكن التنبؤ بعدم الدقة ، يكون من الممكن إعادة النظر مرة أخرى ؛ ربما كان كافياً أن نختار بين المظهر والحقيقة التي ننظر إليها ، لتعرية الأشياء من جميع أثوابها غير الضرورية.إلى جانب ذلك ، قطعاً أن كل ذلك صعب.
بالنسبة للصبي أنا أتذكر صورته قبل جسده الحقيقي ( سيوضح ذلك نفسه لاحقاً ) ، بينما أنا الآن متأكد بأنني أتذكر جسد المرأة أفضل بكثير مما أتذكر صورتها .لقد كانت نحيفة ورشيقة ، كلمتان غير منصفتان لتوصيف ما كانت عليه ، وكانت ترتدي معطف فرو أسود تقريباً ، فارعة تقريبا ، جميلة تقريباً . كل الرياح الصباحية ( الآن أصبحت بالكاد نسيماً ولم تكن باردة ) هبت خلال شعرها الأشقر الذي تقشر بعيدا عن وجهها الأبيض الكئيب – كلمتان غير منصفتان – ووضعت العالم تحت قدميها معزولاً بصورة مرعبة أمام عينيها القاتمتين ، عيناها تنقضان على الأشياء مثل صقرين ، قفزتان في العدم ، نفثتان من اللعاب الأخضر. أنا لا أصف الأمر . و قلت نفثتان من اللعاب الأخضر .
لنكن منصفين ، الصبي كان ذو هندام جيد بما يكفي وكان يرتدي قفازين أصفرين واللذان يمكنني أن أقسم بانهما كانا ملك أخيه الأكبر ، طالب قانون أو اجتماع ؛ وقد كان لطيفاً رؤية أصابع القفازين تبرز من جيبي بذلته . لمدة طويلة لم أرى وجهه ، بالكاد بملمح جانبي ، ليس غبياً – طائر مذعور ، ملاك فرا فليبو ، أرز بالحلوى والحليب – قفا مراهق يتخذ وضعية الجودو لخوض معركة أو إثنتين دفاعاً عن فكرة أو عن شقيقته . يبدو في الرابعة عشر ،و ربما الخامسة عشر من العمر ، يمكن لأحدهم أن يخمن بأنه لا يزال يكسى ويطعم من والديه بلا درهم في جيبه ، مضطراً للجدال مع رفاقه قبل أن يقرر شراء فنجان قهوة أو كأس كونياك أو علبة تبغ . وهو من الممكن أن يتجول عبر الطرقات متفكراً في بنات صفه ، وفي كيف أنه من الرائع أن يذهب إلى السينما لمشاهدة أحدث الأفلام ، أو شراء الروايات أو ربطات العنق أو قوارير الليكيور التي تحمل ديباجة الأخضر بالأبيض .أما في المنزل ( سيكون منزلاً محترماً ، بغداء يفرش عند الظهر و براري رومانسية على الجدران ، بمدخل مظلم ومظلة من الماهوقني تنتصب وراء البوابة ) فهنالك سيكون التساقط البطيء للوقت ، للمذاكرة ، و ليكون أمل أمه ، و ليبدو شبيهاً بأبيه ، و ليخط رسالة إلى خالته بأفيغنون. ولكي يكون هنالك الكثير من التجوال ، فالشوارع ، وكل النهر ملكه ( ولكن بلا درهم ) ومدينة ذوي الخمسة عشر ربيعاً الغامضة ، بعلاماتها على البوابات ، وقططها المخيفة ،حيث شريحة البطاطس المشوية بثلاثين فرانكا ، ومجلة الجنس مطوية أربع طيات ، حيث التحية تلقى مثل الخواء في جيوبه ، يكون الشوق إلى الكثير ، ذاك الذي هو عصي على الاستيعاب ولكنه مشع بحب شامل ، وبالمتاحية مثلما الريح والشوارع .
هذه كانت سيرة الصبي ، وأي صبي آخر أياً كان ، لكن هذه تحديداً والآن ، يمكنك أن ترى بأنه كان معزولاً ، محاصراً فقط بحضور الشقراء التي كانت تواصل حديثها معه .( لقد تعبت من الإصرار ، ولكن إثنتان مشققتان طولياً للتو عبرتا بالجوار ) ذاك الصباح أعتقد بأنني لم أتطلع نحو السماء ولا مرة واحدة ، لأن ما كان يجري للصبي وللمرأة بدا عاجلاً ، ولم يكن بإستطاعتي فعل أي شيء سوى النظر إليهما والانتظار ، النظر إليهما و....) لأختصر الأمر ، كان الصبي مستثاراً وبإمكان الواحد أن يخمن بلا عناء كبير ما قد حدث للتو قبل دقائق قليلة منصرمة ، أوعلى أبعد تقدير قبل نصف ساعة . فالصبي قد جاء إلى رأس الجزيرة ، وعندما شاهد المرأة بدت له في حسبانه رائعة . بينما كانت المرأة تتوقع ذلك ، لأنها كانت هناك في انتظار ذلك ، أو ربما يكون الصبي قد وصل قبلها ورأته من إحدى الشرفات أو من سيارة فخرجت لملاقاته ، مبتدئة للحديث بأي أمر كان ، ومن البداية هي كانت متأكدة من أنه سيذعر وسيرغب في الفرار بعيداً ، وأنه ، بالطبع ، سيبقى ، متصلباً متجهماً ، متظاهراً بالدراية والاستمتاع بالمغامرة. بقية الأمر كانت سهلة لأنها كانت تحدث على مرمى عشرة أقدام مني ، وأي شخص كان بإمكانه قياس مراحل اللعبة ، والمبارزة التنافسية المضحكة ؛ ولم يكن أكثر ما يجذب في الأمر هو أنه كان يحدث ولكن في توقع انفراجته . كأن يحاول الصبي إنهاء الأمر بالتظاهر بأنه على موعد غرامي ، أو لديه إلتزام ، أو أي أمر كان ، ويبتعد متعثراً مرتبكاً ، متمنياً لو أنه كان يمشي ببعض الثقة ، لكنه عاريا تشيعه النظرة الساخرة التي كانت لتتبعه حتى يغيب عن النظر. أو ربما الأرجح ، أن يحاول البقاء هناك ، مفتوناً أو ببساطة مسلوباً من القدرة على المبادرة ، ولبدأت المرأة في لمس وجهه بلطف ، ونفش شعره ، وهي لا تزال تتحدث إليه بلا صوت ، وسرعان ما تأخذه من ذراعه لتقوده إلى ما يجب فعله ، ما لم يقم هو ، بعدم ارتياح بالبدء في إظهار حد الشهوة ، وحتى حصته في المغامرة ، هي أن يستثار ليضع ذراعه حول خصرها وأن يقبلها .أي من هذا كان يمكن أن يحدث ، رغم أنه لم يحدث ، وبصورة ملفتة ، تربص مايكل ، جالساً على المتراس ، وهو يقوم بالإعدادات تقريباً بدون النظر إلى الكاميرا ، جاهزاً لإلتقاط منظر طبيعي لركن من الجزيرة به عاشقين أحدهما إلى الآخر دون مشترك يجمعهما للحديث .
غريب كيف أن المشهد ( تقريباً لا شيء : هنالك رقمان غير متوافقين في شبابهما ) كان يتخذ هالة مقلقة. اعتقدت بأنني كنت أتهيئوها ، وأن صورتي ، إذا إلتقطتها ، ستعيد الأشياء إلى بلادتها الحقيقي . كنت لأتمنى أن أعرف ما كان يفكر فيه ، رجل ذو قبعة رمادية يجلس خلف مقود سيارة مركونة على الرصيف المفضي إلى جسر المشاة ، وهل كان يقرأ الصحيفة أم أنه كان نائماً . لقد إكتشفته للتو لأن الناس حينما يكونون داخل سيارات مركونة يميلون إلى الاختفاء ، يضيعون بداخل ذاك القفص البائس منزوع الجمال الذي يكتسيه عند الحركة والمخاطرة .ورغم ذلك ، فالسيارة كانت موجودة هناك طوال الوقت ، مشكلة جزءاً ( أو مشوهة لذلك الجزء ) من الجزيرة . سيارة : كمثل القول مصباح طريق مضاء و مقعد حديقة . وليس أبداً كالقول رياح ، ضياء شمس ، تلك العناصر دائماً جديدة على البشرة وعلى الأعين ، وكذلك الصبي والمرأة ، فريدين ، وضعا هناك لتغيير الجزيرة ، كي أشاهدها بصورة مغايرة . أخيراً ، ربما يكون ذاك الرجل حامل الصحيفة بدوره ، بسبب إدراكه لما كان يجري لكان ، مثلي ، يشعر بتلك الإثارة الماكرة لانتظار كل شيء ليحدث .
الآن قامت المرأة بالدوران بنعومة ، واضعة الصبي اليافع بينها والجدار ، وقد رأيتهما جانبياً تقريباً ، وهو كان أطول ، لكن ليس أطول بكثير ، رغم ذلك فهي كانت تسيطر عليه ، وبدا الأمر وكأنها تحلق فوقه ( ضحكتها ، دفعة واحدة ، كرباج من الريش ) ، تحطمه بمجرد وجودها هناك ، مبتسمة ، يد واحدة تتهادى عبر الهواء . لم الإنتظار أكثر ؟ الفتحة على ستة عشر ، وزاوية لا تشمل السيارة السوداء المريعة ، ولكن نعم ، تلك الشجرة ، ضرورية لكسر الفضاء الرمادي الضافي.
رفعت الكاميرا ، وتظاهرت باختبار مشهد لا يشملهما ، وانتظرت أراقب الأمور لصيقا ، بالقطع فإنني سأمسك بالتعبير الفاضح ، ذاك الذي سيلخص كل شيء ، الحياة مدوزنة على الحركة ولكن لقطة جامدة تدمرها ، تأخذ الزمن بصورة مقطعية ، ما لم نختر الشظية الأساسية اللامرئية منه . لم يكن علي الإنتظار طويلاً .
كانت المرأة مستمرة في مهمة تقييد الصبي بنعومة ، نازعة عنه ما تبقى من حريته شعرة فشعرة ، في تعذيب بطيء ولذيذ بصورة مذهلة . تخيلت النهايات المحتملة ( الآن تظهر سحابة صغيرة زغبية ، وحيدة تقريباً في السماء ) ، رأيت وصولهما إلى المنزل ( شقة تحت أرضية محتملاً ، والتي قامت هي بملئها بالأرائك الوثيرة وبالسنانير ) وهي قد خمنت ذعر الصبي وتصميمه اليائس على اللعب ببرود والإنقياد متظاهراً بعدم جدة الأمر بالنسبة إليه . أغضمت عينيا ، إن كنت قد أغمضتهما فعلاً ، رسمت المشهد : القبلات المثيرة ، تقوم المرأة بنعومة بصد اليدين التين تحاولان تعريتها ، مثلما يحدث في الروايات ، على سرير يغطيه لحاف ليلكي اللون ، ومن ناحية أخرى تقوم هي بنزع ملابسه ، تلاعبه لعبة الأم والإبن تحت انسكاب ضوء أصفر حليبي ، وكل شيء ربما ينتهي كالمعتاد ، ولكن محتمل أن يسير كل شيء خلاف ذلك ، وأن لا يقوم المراهق بالمبادرة ، هي لن تدعه أن يبادر ، بعد مقدمة طويلة من الإرباكات ، المداعبات المحنقة ، من يعلم إلام سيفضي تمرير اليدين على الجسدين ، إلى افتراق ومتعة فردية ، إلى رفض عدواني تشوبه ممارسة فن الانهاك والاحباط القصويين على البراءة المسكينة . ربما سارت الأمور على ذلك النحو ، ربما سارت الأمور تماماً على ذلك النحو ؛ تلك المرأة لم تكن ترى في الصبي عشيقا ، وفي نفس الوقت كانت توجهه نحو مصير يستحيل فهمه إن لم تتخيل الأمر كلعبة قاسية ، الرغبة في الرغبة دون اشباع ، لإستثارة نفسها لأجل شخص آخر ، شخص لا يمكن لذلك الصبي أن يكونه بأية حال من الأحوال.
مايكل هو المذنب في صناعة أدب ، متميع في الأخيلة المصطنعة . لا شيء يرضيه أكثر من تخيل كل شذوذ عن قاعدة ، مسوخاً خارج الأنواع ، وليس دائما ، وحوشا كريهة . لكن تلك المرأة قد استدعت التأمل ، ربما بإعطائها مفاتيحاً كافية للخيال حتى يتمكن من إصابة كبد الحقيقة . وقبل أن تقوم بالمغادرة ، وهي ستكون شاغلاً لخيالي لأيام عديدة ، ولأنني قد أخذت بالتأمل، قررت أن لا أفقد أية برهة مزيداً . حصرت كل شيء خلال فتحة النظر ( بما في ذلك الشجرة و المتراس وشمس الحادية عشر ) ثم أخذت اللقطة . لوهلة كافية لأدرك بأنهما معا قد تنبها ووقفا هناك يتطلعان نحوي ، الصبي مندهشاً وكأنه يتساءل ، لكنها كانت منزعجة ، وجهها وجسدها انتصبا بصورة عدائية ، تشعر بانه قد تمت سرقتها ، وبخساسة دمغت على صورة كيميائية صغيرة .
كان بمقدوري أن أتحدث عن ذلك بتفاصيل أوفى بكثير لكن الأمر لا يستحق العناء . قالت المرأة بأن لا أحد يملك حق التصوير بدون استئذان ، وطلبت مني تسليمها الفيلم . كل هذا بصوت جاف وواضح ذي لكنة باريسية جيدة ، تلك التي تنمو لوناً ونغمة مع كل جملة . من جانبي ، لم يكن يهمني كثيراً حصولها على بكرة الفيلم من عدمه ، لكن أي أحد يعرفني سيخبرك ، بأنك إذا كنت تريد مني أي شيء ، فعليك الطلب بلطف . بالنتيجة فقد حصرت نفسي في صياغة رأي مفاده بأن التصوير في الأماكن العامة لم يكن غير ممنوع فحسب ، بل كان ينظر إليه بعين التفضيل ، سواءاً من العامة والرسميين. وبينما كان هذا يقال ، لاحظت خلسة كيف كان الصبي يقع وراءاً ، كنوع من المساندة النشطة عبر عدم الجمود ، وفي لحظة ( يبدو أمراً لا يصدق ) فقد استدار وطفق يركض ، الطفل المسكين ، كان يظن بأنه يمشي مبتعداً وفي الواقع هو كان في طيران كامل ، يركض إلى جانب السيارة ، مختفياً مثل خيط حريري من بصقة ملاك عبر نسيم الصباح.
لكن خيوط بصقة الملاك تسمى أيضاً ببصقة الشيطان ، وكان على مايكل أن يحتمل لعنات خاصة ، أن يسمع مناداته بالمتطفل والمعتوه ، متحملاً لألام عظمية وهو يحاول الابتسام وأن يهدأ بابتسامة وإيماءات من رأسه ، أمر صعب الابتلاع . وحينما كنت قد بدأت أتعب ، سمعت باب السيارة وهو يصطفق . الرجل ذو القبعة الرمادية كان هناك ، ينظر إلينا . حينها فقط أدركت بأنه كان يلعب دوراً في هذه الملهاة .
وقد بدأ في السير بإتجاهنا ، وهو يحمل الصحيفة التي كان يتظاهر بقراءتها . وأفضل ما أتذكر هو تلك التكشيرة التي لوت فمه بصورة مائلة ، و غطت وجهه بالتجاعيد ، وغيرت بطريقة ما موضعها وشكلها لأن شفتيه كانتا ترتعشان وتدحرجت التكشيرة من طرف فمه إلى الطرف الآخر وكأنها تنزلق على دواليب ، مستقلة ولا إرادية.أما البقية فقد ظلت ثابتة ، مهرج ذو وجه مطلي بالطحين أو رجل بلا دماء ، دمية جافة الجلد ، العينان الأعمق ، المنخران مظلمان ومرئيان بصورة ملفتة ، أشد إسوداداً من الحاجبين أو شعر الرأس أو ربطة العنق السوداء . يمشي بحذر لكأنما حجارة الرصيف تؤذي قدميه ؛ رأيت حذاءاً لامعاً ذا نعل رفيع يحتم عليه أن يشعر بأدنى خشونة على الرصيف . لا أعلم لم ترجلت عن المتراس ، ولا حتى بشكل أفضل لم قررت عدم إعطائهم الصورة ، رافضاً لتلك الرغبة مراهناً بحدسي على خوفهم وجبنهم .المهرج والمرأة تشاورا في صمت : لقد صنعنا مثلثاً مثالياً وغير محتمل ، شعرت بشيء قد كسر بفرقعة سوط . ضحكت في وجهيهما وبدأت في السير مبتعداً ، بصورة أكثر بطئاً ، يخيل إلي ، من الصبي .عند مستوى البيوت الأولى ، بقرب جسر المشاة الحديدي ، استدرت وراءا للنظر إليهما . لم يكونا يتحركان ، لكن الرجل ألقى صحيفته ؛ وبدا لي أن المرأة ، وظهرها إلى المتراس ، تجري بيديها على الحجارة في تلميحة تقليدية وممجوجة لشخص ملاحق يبحث عن مهرب .
ما جرى بعد ذلك حدث هنا ، تقريباً الآن ، في حجرة بالطابق الخامس . مضت أيام عديدة قبل أن يحمض مايكل الصور التي إلتقطها يوم في يوم الأحد ؛ لقطاته لمعهد الموسيقى ولكنيسة سانت شابل كلها كانت كما يجب . بعدها وجد صورتين أو ثلاث تجريبيات كان قد نسيها ، محاولة يائسة لتصوير قط جاثم بأعجوبة على سقف متهالك لمبولة عامة ، وكذلك صورة المرأة الشقراء والمراهق .كان النيجاتف جيداً للغاية مما دفعه إلى تكبير اللقطات ؛ وكان التكبير جيداً جداً مما حدا به إلى عمل آخر كبير للغاية ، تقريباً في حجم البوستر . لم يخطر له ( الآن أحدهم يتعجب ويتعجب ) بأن صور الكنيسة وحدها استحقت كل هذا الجهد الكبير .من بين جميع اللقطات ، كانت اللقطة على طرف الجزيرة هي الوحيدة التي جذبت اهتمامه . قام بتثبيت التكبير على حائط بالغرفة وفي اليوم الأول أمضى بعض الوقت محدقاً إليه ومستذكراً ، تلك العملية الكئيبة من أجل مقارنة الذكرى بالواقع المنقضي ؛ ذكرى هامدة ، مثل أي صورة ، حيث لا شيء منتقص ، ولا حتى ، وبالأخص ، العدم ، المالئ الحقيقي للمشهد .
كانت المرأة هناك ، كان المراهق موجوداً ، الشجرة جامدة فوق رأسيهما ، السماء ساكنة مثل حجارة المتراس ، السحب والحجارة انصهرت في خليط واحد غير قابل للفصل ( الآن واحدة ذات أطراف حادة تعبر بالقرب ، مثل نذير العاصفة ) .خلال أول يومين تقبلت كل ما قمت بإنجازه ، بدءاً من إلتقاط الصورة نفسها ثم تكبيرها وتثبيتها على الجدار ، ولم أتساءل حتى عن الدافع الذي كان ليدفعني عند كل سانحة إلى مقاطعة ترجمة عقد خوزيه نوربيرتو ألليندي لأعاود النظر إلى وجه المرأة والبقع الداكنة على المتراس . يا لي من أحمق ؛ لم يكن ليخطر لي أبداً بأننا عندما ننظر إلى صورة من الأمام ، تقوم أعيننا بإعادة تمثيل وضعية ورؤية العدسات تماماً . هذه هي الأمور التي تؤخذ كمسلمات، ولا يمكن أن يخطر ببال أي أحد أن يعيد التفكير فيها .من على مقعدي ، حيث الآلة الكابتة أمامي بالضبط ، نظرت إلى الصورة المثبتة على بعد عشرة أقدام مني ، وصدف أن كنت من على مقعدي أنظر من زاوية العدسات تماماً . لقد بدت جيدة للغاية من هذه الزاوية ؛ لا شك ، أنها كانت أفضل طريقة لتقدير صورة ، على الرغم من أن النظر إليها قطرياً ،بلا شك له فتنته وربما يفضح جوانباً مغايرة . بعد كل دقائق معدودة ، على سبيل المثال عندما كنت غير قادر على إيجاد صيغة فرنسية جيدة لأقول ما يقوله خوزيه نوربيرتو ألليندي بلغة إسبانية ناصعة ، كنت أرفع عيني وأنظر إلى الصورة ؛ كانت المرأة أحياناً تجذب نظري ، أحياناً المراهق ، أحياناً الرصيف حيث سقطت ورقة جافة ، بصورة تدعو إلى الإعجاب ، واستقرت لتزين الفراغ المحيط . بعدها أخذت استراحة من عملي ، وانغمست مرة أخرى بسعادة في ذلك الصباح الذي كانت الصورة فيه مغمورة للتحميض ، تذكرت بسخرية ، الوجه الساخط للمرأة وهي تطلب مني تسليمها الصورة ، الهروب السخيف ومحزن للمراهق ، دخول الرجل ذو الوجه الأبيض إلى المشهد .في دواخلي كنت راضياً عن نفسي ؛ لم يكن دوري مميزاً ، وبما أن الفرنسيين موهوبين في الردود المفحمة ، لم أفهم تماماً لماذا آثرت الانصراف دون أن أقوم باستعراض كامل للحقوق والامتيازات والحقوق الحصرية للمواطنين . الشيء المهم ، الشيء المهم حقاً كان هو مساعدتي للمراهق على الفرار في الوقت المناسب ( هذا في حال أن تنظيري كان صائباً ، وهو لم يتم برهنته بصورة كافية ، ولكن حادثة الفرار نفسها جعلته يبدو كذلك ) بحشريتي المباشرة ، منحته فرصة ليستفيد أخيراً من طاقة ذعره ويحقق شيئاً مفيداً ؛ الآن سيكون نادماً على ذلك ، تحت وطأة الشعور بالإهانة وبالرجولة المهدرة.لكن ذلك كان أفضل من البقاء تحت نظرات المرأة ، التي كانت تسلطها عليه في الجزيرة .كان مايكل متديناً نوعاً ما في بعض الأحيان ، فهو يؤمن بأنه لا يجوز إغواء شخص بالقوة . في قرارة نفسه كانت هذه الصورة عملاً صالحاً .
لكن لم يكن نظري إليها خلال عملي بين فقرة وأخرى لكون أنها كانت عملاً صالحاً . في ذلك الوقت لم أكن أعلم لم كنت أعاود النظر إليها ، ولا لم قمت بتثبيت النسخة المكبرة على الجدران . لربما كانت هذه هي طريقة وقوع كل الأحداث المصيرية ، لربما كان هذا هو شرط تحققها . لا أعتقد بأن الارتعاشة وشيكة الاثمار لأوراق الشجرة قد كانت كافية لتشتيت انتباهي ، عن متابعة جملة كنت قد بدأتها وأنهيتها بصورة بديعة . العادات تشبه عطارة كبيرة ، وفي نهاية الأمر ، فإن تكبيراً بمقدار ثمانين في ستين سنتميتراً مثل شاشة عرض ، حيث على طرف جزيرة تظهر إمرأة تحادث مراهقاً بينما شجرة تهز أوراقها الجافة فوق رأسيهما .
لكن أياديها كانت قد تجاوزت الحد في كثرتها . للتو قمت بترجمة العبارة : " في تلك الحالة ، فإن المخرج الثاني يكمن في الطبيعة الجوهرية لصعوبات المجتمعات التي..." – لحظة أن رأيت كف المرأة وقد بدأ ينقبض بطيئاً ، إصبعاً إثر إصبع. لم يتبقى مني شيء ، فقرة بالفرنسية ربما لن أكملها أبداً ، آلة طابعة على الأرض ، كرسي يصدر صريراً وهزة ، بقعة ضباب. قام المراهق بإحناء رأسه مثل ملاكم خارت قواه ينتظر الضربة القاضية ؛ كان قد رفع ياقة معطفه وبدى أشبه بسجين أكثر من أي وقت مضى ، الضحية المثالية التي تساعد على حلول مصيرها . الآن المرأة تهمس في أذنه ، وبسطت كفها مرة أخرى لتضعها على خده ، لتداعبه وتداعبه ، حتى تلهبه، على مهل . كان المراهق مشدوهاً أكثر من كونه مرتاباً ، مرة أو إثنتان قام بالتحديق من أعلى كتف المرأة ، واستمرت هي في حديثها ، تتحدث عن أمر جعله يعاود النظر كل بضع دقائق تجاه تلك المنطقة حيث ، ومايكل كان يعلم يقيناً ، كانت السيارة والرجل ذو القبعة الرمادية ، محذوفين بعناية من إطار الصورة لكنهما حاضرين في انعكاس عيني المراهق ( كيف يمكن لأحد أن يشكك في هذا الآن ) وفي كلمات المرأة ، في يدي المرأة ، وفي الحضور الخفي للمرأة .
عندما شاهدت الرجل قادماً ومتوقفاً إلى جانبهما ، حاشراُ يديه بجيبيه وهيئته توحي بحالة بين الإشمئزاز والرغبة ، رجل يوشك على الصفير لكلبه بعد أن أكمل جولته بالميدان ، لقد فهمت ، إن كان هذا مما يمكن فهمه ، ماذا كان يجب أن يحدث ، ماذا كان يجب أن يكون قد حدث ، ماذا كان ليجب أن يحدث في تلك اللحظة ، بين هؤلاء الأشخاص ، تماماً عندما قمت بحشر أنفي لتخريب مجريات أمور مقررة ، متدخلاً ببراءة في مجريات ذاك الحدث الذي لم يقع بعد ، ولكنه الآن وشيك الحدوث ، الآن وشيك التحقق . و كان ما تخيلته آنفاً أقل فظاعة من الحقيقة بكثير ، تلك المرأة ، التي لم تكن هناك لأجل نفسها ، لم تكن تداعب أو تغوي أو تلهث من أجل متعتها الذاتية ، من أجل استدراج الملاك الأشعث والتلاعب بذعره ولهفته . وقد كان السيد الحقيقي ينتظر ، مبتسماً بغيظ ، وهو مطمئن إلى سلامة العملية. هو لم يكن أول من يستخدم أمرأة طعماً ، لتجلب له صيدها مقيداً بالأزهار . فالبقية ستكون غاية في السهولة ، السيارة ، منزل بمكان ما ، مشروبات ، لمسات مثيرة ، دموع متأخرة ثم الاستيقاظ في الجحيم . هذه المرة لم يكن هنالك ما يمكنني أن أفعله ، هذه المرة لم يكن بمقدوري فعل أي شيء على الإطلاق . كانت كل قوتي في صورة ، هذه ، هناك ، حيث سيقومان بالانتقام مني ، بعرض ما كان سيحدث وشيكاً ، بيناً .لقد تم إلتقاط الصورة ، والوقت قد مر ؛ وكنا مفرقين للغاية عن بعضنا البعض ، الجريمة قطعاً قد اكتملت ، والدموع قد سكبت ، وبقية الحدس والحزن . وفجأة انقلبت المجريات ، كانوا أحياءاً ، يتحركون ، يقررون ويمشون ، لقد كانوا يتوجهون نحو مستقبلهم ؛ وأنا على هذه الناحية ، حبيس لزمن آخر ، لغرفة على الطابق الخامس ، لجهلي عمن كانت تلك المرأة ، ذاك الرجل وذاك المراهق ، لكون أني أصبحت لا شيء أكثر من عدسات كاميرتي ، شيء ، جامد ، عاجز عن التدخل .
كانت سخريتهما مني ، هي الأفظع ، كانا يسخران مني بإرتكاب الأمر أمام عيني العمياوتين ، بجعل الفتى المراهق تارة أخرى ينظر إلى المهرج ذي الوجه الطحيني ، وبجعلي أفهم بأنه كان على وشك الموافقة ، وأن العرض كان يحتوي على نقود أو حيلة ، وبأني لم أستطع أن أصيح فيه محذراً للفرار، أو لأقوم ببساطة بتمكين هروبه من جديد بواسطة لقطة أخرى ، بتدخل صغير ومتواضع للغاية يمزق حوله شبكة اللعاب والعطر . كل شيء كان مقدماً على حل نفسه هناك تماماً ، في تلك اللحظة ؛ كان هنالك صمت مطبق ولا علاقة له بالصمت الحسي . كان صمتاً يتمدد ويتسلح . أعتقد بأنني صرخت ، صرخت بصورة مريعة ، وحدث ذلك تماماً في اللحظة التي أدركت فيها بأنني بدأت في الإقتراب منهم ، عشرة سنتمترات ، خطوة ، خطوة أخرى ، كانت الشجرة في الواجهة تتمايل بأغصانها برتابة ، وطفحت البقعة التي على المتراس خارج الإطار ، ودار وجه المرأة تجاهي ، وكأنها تباغتت ، كان يتضخم . وعندها انحرفت قليلاً – أعنى بأن الكاميرا قد انحرفت قليلاً – ومن غير إفلات المرأة من المشهد ، بدأت في تقريب الرجل ، الذي كان يحدق تجاهي بالفجوتين السوداوتين التين كانتا في مكان العينين ، مذهولاً وغاضباً معاً ، بدى ، وكأنه يرغب في دقي بالمسامير إلى الهواء . وفي تلك اللحظة ومن خارج البؤرة تمكنت من مشاهدة طائر ضخم وهو ينقض دفعة واحدة من أمام المشهد ، ثم إنحنيت تجاه حائط غرفتي وكنت فرحاً للغاية لأن المراهق كان قد أفلت هارباً للتو ، رأيته وهو يعدو ، ثم مجدداً في البؤرة ، يعدو وشعره يرفرف مع الريح ، أخيراً قد عرف كيف يحلق فوق الجزيرة ، ليصل إلى جسر المشاة ، قافلاً إلى المدينة . لقد تمكن للمرة الثانية من الفرار منهما ، لقد ساعدته للمرة الثانية على الهرب وأرجعته إلى فردوسه الزائل . بأنفاس حبيسة ، وقفت أمامهم ؛ لم تكن هنالك أية حاجة للإقتراب بعد قيد أنملة ؛ فاللعبة قد انتهت . بالكاد يمكن لأحدهم رؤية كتف المرأة وجزءاً من شعرها ، وقد بتره اطار الصورة بوحشية ؛ لكن الرجل كان في المركز تماماً ، فمه نصف مفغور . وهناك بداخل فمه ، رأيت لسانه الأسود يتأرجح ، وهو يرفع يديه بطيئاً ، إلى الأمام ، وكانت اللحظة لا تزال في قبضة البؤرة تماماً ، ثم أصبح كله بقعة تبتلع الجزيرة ، الشجرة ، ثم أغمضت عيني ، لم أكن راغباً في رؤية المزيد ، غطيت وجهي وأنفجرت باكياً كالأبله .
الآن تعبر بالجوار سحابة بيضاء عريضة ، كما كان يحدث طوال هذه الأيام ، طوال هذا الوقت اللامحصى . ما بقي ليقال هو دائماً سحابة ، سحابتان ، أو ساعات طوال من سماء ناصعة الصحو ، مستطيل شفاف مثبت بالدبابيس على حائط غرفتي . هذا ما شاهدته عندما فتحت عيني وجففتهما بيدي : سماء صافية ، ثم سحابة تأتي من الناحية اليسرى ، تعبر برشاقة وسكينة ثم تختفي في الناحية اليمنى . ثم تلتها واحدة أخرى ، وأحياناً يصبح كل شيء رمادياً ، كل شيء هو سحابة واحدة هائلة ، وفجأة قطرات مطر تتهشم على الأرض ، ولوقت طويل يمكنك رؤيتها تمطر على الصورة ، وكأنما تعويذة البكاء قد انعكست ، وشيئاً فشيئاً ، يصبح الإطار صافياً ، وربما تشرق الشمس ، وتارة أخرى تبدأ السحب في الظهور ، فينة زوجياً ، وفينة ثلاثياً . وحمائم تحلق من وحين لآخر ، أو عصفور وحيد .
* لُعَاب إبليس
خوليو كورتاسر
Las babas del diablo
Julio Cortazar
صورة مفقودة
.