نقوس المهدي
كاتب
طلعت علينا مؤخرا إحدى المنظمات المهتمة بحقوق المرأة بأرقام صادمة حول العنف الممارس ضد النساء، مصنفة هذا العنف إلى جسدي ونفسي واقتصادي واجتماعي وقانوني وجنسي إلخ...، ويصدر من الرجل تجاه المرأة، لكن ما يغفل عنه الجميع عدا قلة تعد على رؤوس الأصابع، هو ذلك التواطئ الضمني على اضطهاد المرأة عبر تكريس صورة سلبية عنها، صورة مستمدة من الثقافة التقليدية والموروث الشعبي وتفسيرات مستمدة من الفكر الديني، تعمل كلها على تبرير وضع المرأة في أسفل الهرم الإجتماعي عملا ل"أجندة" المجتمع الذكوري التقليدي، الذي استغل سلطته ليقدس هذا المنتوج الثقافي المحتقر للمرأة ويضعه خارج نطاق المساءلة، وعندما نتحدث عن "صورة" المرأة هنا فإننا نعني بالذات ذلك البناء الذهني الذي يتم على مستوى الذاتية والرمزية والخيال، والذي يرتبط بالواقع الإنساني، و يعيه الإنسان بطريقة غير مباشرة، حيث تتواجد الأشياء في الشعور عبر "صور"، خصوصا إذا تم تداولها في محيطه بصفة كثيفة، وباستحضارنا لخطاب الأمثال الشعبية الذي يوجد على كل لسان، وجدنا أنه أقرب السبل لتكريس "صورة " معينة في المتخيل الجمعي لمجتمع ما، وبالتالي فقد عكف الكثير من الباحثين المغاربة وأغلبهم من الجنس اللطيف على تفكيك خطاب الأمثال الشعبية لإستخراج صورة المرأة، في أفق رد الاعتبار للمرأة المغربية، عبر تغيير العقليات، التي توجه تصورات وسلوكات الإنسان المغربي، في خضم السجال حول العنف المادي، "بوزي بريس" تنحو منحى مغايرا وتبحث في هذا الملف "الصورة المركبة لإضطهاد المرأة" عبر مظهر ثقافي هو الأمثال الشعبية، بشكل يزيح الستار عن خلفية المجتمع الفكرية إزاء كائن يعتبره "ناقص عقل ودين".
يعتبر خطاب الأمثال الشعبية المتعلقة بالمرأة خطابا ذكوريا موجها من الرجل إلى نظيره، سواء كان يتحدث عن المرأة أو بلسانها، حتى يرسم له صورة/خارطة طريق ترغبه في المرأة أو تحذره منها، ويستمر هذا الخطاب عبر الأجيال عن طريق فعل التنشئة الإجتماعية الذي تعتبر المرأة جزء أساسيا منه، فهل يعني هذا أن المرأة تساهم في تكريس صورتها الدونية في المجتمع؟ هذا المعطى يتكرس إذا أخذنا بالحسبان أن المرأة –وإن كانت متحررة- هي أكبر مستهلك للأمثال للشعبية وبالتالي فإنها تعترف بشرعيته؟ هل جاز إذن أن نتخيل ناشطة من حركة "فيمن" توافق بشكل غير مباشر على كلام سيدي عبد الرحمان المجذوب؟ أو كما أظهرت إحصائيات بيير بورديو فإن أغلبية النساء، يتبنين وبكيفية لا شعورية كليا، وجهة نظر الرجال في تقييم تصرفاتهن وطبيعتهن ومركزهن داخل المجتمع ! أما إذا افترضنا أن الأمثال الشعبية لا تزال ترسم صورة عن المرأة، فهما هي إذن هذه الصورة؟ وما هي دلالاتها وانعكاساتها على وضعيتها؟ هل تتغير هذه الصورة بتغير سن المرأة أو مكانتها الاجتماعية؟
أفق التشبيه الواسع
يبدو من الواضح لمن يحاول تفكيك خطاب الأمثال المغربية حول المرأة، أن عنصر التشبيه يفرض نفسه بقوة، سواء بين النساء أنفسهن، أو بينهن وبين الرجال، ويحدث أن ينزل هذا التشبيه إلى معجم الحيوانات والكائنات الغيبية ليستلهم منه ما يشبه "تحقيرا" لمكانة المرأة، أو ما يعترف بذكائها أو حيلها الواسعة، لكن ما تشترك فيه كل هذه التشبيهات نجدها في الدلالات التي تحيل عليها في الموروث الثقافي والفكر الشعبي، والتي تجعل من المشابهة والتمثيل أمر ممكنا بفضل التصورات حول وجود قواسم مشتركة ما بين المشبه والمشبه به، إذ يكثر تشبيه النساء بالحيوانات في الامثال المغربية، فإن لم تكن ماكرة كإبليس و خبيثة كالأفعى فهي غبية كالحمار، فمن جهة تتصف النساء حسب الأمثال الشعبية المغربية بصفات المكر والخداع والشر، ما يجعل "الأفعى" هي الحيوان الأجدر بإسباغ صفاته عليها، هذه المقارنة السائدة للمرأة بالأفعى لا يعود مرده بالأساس إلى إبداعية الفكر الجمعي الذي أنتج لنا هذه الأمثال بل نجد جذوره في الأساطير التي نسجت حول بداية خلق الإنسان، روى الطبراني في كتاب "التفسير"، أنه لما أراد إبليس أن يدل آدم وحواء على شجرة الخلد دخل في جوف الحية، فلما دخل بها الجنة خرج من جوفها وأخذ من شجرة الخلد وأغرى حواء بالأكل منها، وذهبت بها إلى آدم قائلة"أنظر إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، فأكل منها آدم فبدت لهما سوءاتهما".
وحتى حين أراد المثل إظهار أهمية الدور الذي تلعبه المرأة في بيت الزوجية فلم يجد أحسن من الحمارة، نظرا لما تمثله هذه الأخيرة من البلادة والقدرة على تحمل الضرب وأعمال السخرة، "مولات الدار عمارة ولو كانت حمارة"، و للدلالة على ضرورة ربطها حتى لا تنفلت من عقالها تشبه النساء في عدد من الأمثال الشعبية بالبهيمة عندما نجد "المرا كتربط من لسانها، والبهيمة تُربط من لجامها"، كما تشبه المرأة القصيرة بالبطة إن إزداد وزنها وبالقطة إذا خف "البنت القصيرة إذا سمانت بطة وإلى ضعافت قطة"، وتنزل مكانة القرد " سعد البلدة كيرد العروسة قردة، والعكوزة جلدة"، وقد تسلك سلوك الديك "اصبح الديك على الفريك، وصبحت العمشا على الكُحل"، بل وينزل هذا التشبيه إلى الحضيض ليتوسل بالحشرات، "اللوسة سوسة وَخا تكُون فحال الخنفوسة"، هذه التشبيهات إن دلت على شيء فإنما تدل على أن مقارنة النساء بالحيوانات خاصية تطبع المثل المغربي بشكل عام، خصوصا في صفاتها السلبية، عموما فإن خاصية التشبيه في الأمثال المتعلقة بالمرأة لا تقتصر على الحيوانات فقط بل تمتد إلى الجماد والشياطين والأمراض والكوارث الطبيعة وما جاورها..
تأثير الفكر الديني
استمدت العديد من الأمثال الشعبية المهينة للمرأة "مشروعيتها" من التأويلات الخاطئة وغير التامة للنصوص الدينية سواء كانت قرآنا منزلا أو أحاديثا للنبي محمد "صلعم"، حيث انتزعت من سياقها وشروطها التاريخية، وحذفت منها معاني محددة كما أضيفت أخرى، لتشكل صيغا جاهزة لأمثال شعبية سهلة الإستخدام في ظروف مختلفة تتنكر لمعناها الأول، ما يدفع العديد من العدميين إلى تحميل الفكر الديني الإسلامي مسؤولية جزء من الأفكار الدونية للمرأة، ومن بين أكثر الأمثال شيوعا بهذا الصدد " المر ضلعة عوجا" الذي يراهن العديد من مستعمليه على مصدره الديني الصحيح، ففي حديث الرسول صلعم قال: استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرت، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء"، بناء على هذا الحديث الشريف، فقد قفز الفكر الشعبي بسرعة على استعمال هذا المفهوم متجاهلا أحاديث أخرى تكرم المرأة، يقول الأستاذ علي أفرار بهذا الصدد في كتابه "صورة المرأة بين المنظور الديني والشعبي والعلماني"، إن أهم ما يلتقي فيه الخطاب الديني بالخطاب الشعبي هو النزعة الذكورية المغلفة بمنظور أنثوي مزيف، ذلك أم المثل في بعض الأحيان يتماهى مع النص الديني ليسبغ على نفسه نوعا من القدسية ويقدم نفسه كحكمة إلهية أو نبوية في حين ليس إلا نتاج علاقات اجتماعية وتصورات ثقافية وليدة تمييز جنسي لا يلتقي مع النص الديني في أي شيء، ويتجلى هذا الامر بكل وضوح إذا وضعنا النص الديني الذي يستمد منه المثل الشعبي قوته في سياقه التاريخي وأبعاده الدلالية وغاياته ومقاصده.
الزواج وصورة المرأة:
يعتبر دخول المرأة للقفص الذهبي علامة فارقة تنهي عهدا وتدشن آخرا، وفي الأوساط التقليدية يبقى هاجس الأسرة هو إعداد البنت للاضطلاع بمسؤولية الزوجة وربة البيت، وللحفاظ بعد ذلك على هذا الدور باعتباره امتيازا، فقبل الزواج تختلف الزوايا التي يتقمصها المجتمع ليرى الفتاة، فقد تكون هذه النظرة إيجابية كما هو الحال في هذا المثل: (اللي ما عندو بنات ما عرفو حد باش مات)حيث تعتبر الفتاة أمينة أسرار أمها، لهذا فالمرأة التي ليس لها بنات، ستحمل معها أسرارها إلى دار البقاء عندما تموت، غير أن الأمثال ترسم، أحيانا صورة متناقضة للبنت، فهي من جهة أساس البيت: (البنات عمارة الدار) لأن كل المسؤوليات المنزلية ملقاة على كاهلها. فالبنت للعمل ومساعدة الأم، بل وللنهوض بكل الأعباء المنزلية، في حين الولد يتفرغ للهو و للعب خارج البيت، للتمتع بطفولته. ولكن من جهة أخرى، فإن البنت حتى وهي تنهض بأعمال البيت، يظل عملها غير مقنع:(البنت تأكل ما تشبع وتخدم ما تقنع)كما أن الرهان على البنت، في المنظور الشعبي، هو رهان على الفراغ:(دار البنات خاوية)لأن البنت منذورة للزواج، وسرعان ما ستغادر البيت إلى بيت الزوجية، لتترك بيت الأهل فارغا، لا سيما إذا استحضرنا تثمين الأوساط التقليدية للزواج المبكر.
يمارس خطاب الأمثال الشعبية ديكتاتورية صريحة ضد الفتاة بهضم أبسط حقوقها في التعليم والتمدرس، عندما يقول "البنت لا تعلمها حروف ولا تسكنها غروف"، لأنه يدعم الاستقلالية ويقوي الشخصية، ويفتح أبواب الانحراف والضياع: (الفكوسة تتعوج من الصغر)
من منطلق أن التعليم يجر إلى المعرفة، والمعرفة سلطة، وينبغي في المنظور الشعبي، الحسم في مسألة تربية الفتاة، والتعامل معها بصرامة، وحتى قدراتها العقلية في يد الرجل، رب البيت، هو الذي يأمر بإغلاقها أو بفتحها، ومثلما يفضل إغلاف الباب في الأوساط الشعبية، التي تتعامل مع البيت باعتباره الحرمة ينبغي حجبها عن أعين الاجانب، كذلك الشأن بالنسبة إلى عقل العاتق، ينبغي حجبه عن العلم والمعرفة.
(الدفة بالقفل والعاتق بالعقل)، وحتى التربية السليمة لا تربى عليها إلا نكاية في الأعداء (ربي بناتك تنكي حسادك)، رغم أن هذه التربية ليست إلا تقليدية ولا تركز إلا على إعداد البنت لدور الزوجة وربة البيت، لدرجة أن الأم تكون مطالبة، في لحظة ما، بالتنحي عن عالم الأنوثة، لتفسح المجال لبناتها: (اللي فاتك خليه لبناتك) وفي هذا الصدد ترى مليكة البلغيتي أن موقف الآباء اتجاه زواج بناتهم"يخضع لمنطق محدد بغياب آفاق أخرى بالنسبة لهن غير الزواج وبالخوف من رؤيتهن يسقطن في الدعارة"[26] وحسب المنظور الشعبي فليس هناك خيار أمام البنت سوى الزواج: ( البنت إما رجلها وإما قبرها)أي أن المكان الطبيعي للفتاة التي بلغت سن الزواج (وهو سن لا علاقة له بما تنص عليه مدونة الأسرة) هو بيت زوجها، بل إن بقاءها في بيت العائلة قد يجلب العار و الفضيحة(العاتق في الدار عار)،أو على الأقل قد يتسبب في إثارة المشاكل:( شدو علينا ولادكم ره بنتنا قهرتنا)، حتى أنه ينظر إلى البنت التي بلغت سن الزواج كما لو أنها في محنة ينبغي إخراجها منها:(البنت وصلات عتقوها بالزواج).ثم إنه غالبا ما ينظر إلى المرأة الصغيرة في السن على أنها سهلة الانقياد والخضوع لسلطة الرجل(وهذا ما يريده) وهي صورة أو مادة خام يمكن أن يشكلها الرجل كما يريد، وبالتالي فهي مصدر خير بالنسبة إليه:(اللي يتزوج المرا صغيرة كيحوز الخير والتدبيرة).
وبعد التفكير مليا في هذا القرار المصيري وبدخول الزوجين حياة جديدة بعدما أخذا كل الترتيبات اللازمة قبل الإقدام على الزواج (زواج ليلة تدبيرو عام)، يبقى بالإمكان أن تتحدد صورة المرأة المتزوجة حتى قبل الزواج، خاصة لدى الرجل الذي يمنحه المجتمع حق تحديد مواصفات شريكة حياته. ومن المواصفات التي يتم التأكيد عليها بقوة نجد مسألة الأصل والنسب: (خذ المرا الأصيلة ونم على الحصيرة) لأن المرأة ذات الأصول سند للرجل في الأيام العصيبة ومفخرة له أمام الآخرين: (إلا تتزوج تزوج الأصول ما يجبر العدو ما يقول)، لكن في بعض الأحيان يسود منطق العصبية في وجه هذه المواصفات، المنظور الشعبي يحث على "الزواج العشائري"، أي يحث على تبادل النساء "بلغة كلود لفي ستراوس" داخل القبيلة نفسها، وبين أبناء العمومة:(اللي تزوج من بنات عمو بحال اللي ذبح من غنمو)، هذا النوع من الزواج يعود بالنفع على الرجل والعائلة والقبيلة، فهو يشكل مصدر قوة وغنى بالنسبة إلى المجتمع التقليدي، حتى وإن كان يتعارض مع منطق المجتمع الحديث الذي يقوم على روابط أخرى غير رابطة الدم، وبعد هذا الزواج، لا يملك البيت أي معنى إذا لم تنجب الزوجة أولادا يضمنون إستمرارية النسل، وهو ما يعني أن المرأة العاقر هي كائن بلا قيمة:(لمرا بلا ولاد بحال الخيمة بلا وتاد)أي أن المرأة العاقر لا تستطيع الصمود أمام تقلبات الزمن، فالأولاد مثل أوتاد الخيمة، ضمانة لاستقرارها، مهما كانت قوة الظروف المعاكسة.
أما إذا فشلت تجربة الزواج، فإن النظرة السلبية تلاحق المرأة المطلقة أينما حلت وارتحلت، وبما أن نظرة المجتمع التقليدي للمرأة تختزل في الجسد فقط فإن " صلاحيته" تنتهي بمجرد الطلاق:(لحم الهجالة مسوس وخا دير لو الملحة قلبي عافو)، ولن تتخلص من ثقل هذه النظرة أو النظرات إلا إذا تزوجت من جديد، وهو ما يؤكد "إن كرامة المرأة واحترام الواقع لها مشروطان بارتباطها الشرعي برجل يحميها ويحافظ عليها" مهما بلغت قساوة العيش "تحت" ظهرانيه، وبالتالي فبقدر ما نجد أمثالا تمجد المرأة وترفع من شأنها، بقدر ما نجد أمثالا أخرى تحط من مكانتها وتقلل من قيمتها، حتى أننا قد نصادف أحيانا تعايش التناقض في المثل الواحد("الخير مرا والشر مرا" ، "الربح من لمرا والزلط من لمرا"،" مرا تعليك ومرا تعريك"). وتعكس هذه الأمثال النظرة المتناقضة التي يحملها المجتمع تجاه المرأة، فهي موضوع للرغبة وموضوع للرهبة في الآن نفسه..
يعتبر خطاب الأمثال الشعبية المتعلقة بالمرأة خطابا ذكوريا موجها من الرجل إلى نظيره، سواء كان يتحدث عن المرأة أو بلسانها، حتى يرسم له صورة/خارطة طريق ترغبه في المرأة أو تحذره منها، ويستمر هذا الخطاب عبر الأجيال عن طريق فعل التنشئة الإجتماعية الذي تعتبر المرأة جزء أساسيا منه، فهل يعني هذا أن المرأة تساهم في تكريس صورتها الدونية في المجتمع؟ هذا المعطى يتكرس إذا أخذنا بالحسبان أن المرأة –وإن كانت متحررة- هي أكبر مستهلك للأمثال للشعبية وبالتالي فإنها تعترف بشرعيته؟ هل جاز إذن أن نتخيل ناشطة من حركة "فيمن" توافق بشكل غير مباشر على كلام سيدي عبد الرحمان المجذوب؟ أو كما أظهرت إحصائيات بيير بورديو فإن أغلبية النساء، يتبنين وبكيفية لا شعورية كليا، وجهة نظر الرجال في تقييم تصرفاتهن وطبيعتهن ومركزهن داخل المجتمع ! أما إذا افترضنا أن الأمثال الشعبية لا تزال ترسم صورة عن المرأة، فهما هي إذن هذه الصورة؟ وما هي دلالاتها وانعكاساتها على وضعيتها؟ هل تتغير هذه الصورة بتغير سن المرأة أو مكانتها الاجتماعية؟
أفق التشبيه الواسع
يبدو من الواضح لمن يحاول تفكيك خطاب الأمثال المغربية حول المرأة، أن عنصر التشبيه يفرض نفسه بقوة، سواء بين النساء أنفسهن، أو بينهن وبين الرجال، ويحدث أن ينزل هذا التشبيه إلى معجم الحيوانات والكائنات الغيبية ليستلهم منه ما يشبه "تحقيرا" لمكانة المرأة، أو ما يعترف بذكائها أو حيلها الواسعة، لكن ما تشترك فيه كل هذه التشبيهات نجدها في الدلالات التي تحيل عليها في الموروث الثقافي والفكر الشعبي، والتي تجعل من المشابهة والتمثيل أمر ممكنا بفضل التصورات حول وجود قواسم مشتركة ما بين المشبه والمشبه به، إذ يكثر تشبيه النساء بالحيوانات في الامثال المغربية، فإن لم تكن ماكرة كإبليس و خبيثة كالأفعى فهي غبية كالحمار، فمن جهة تتصف النساء حسب الأمثال الشعبية المغربية بصفات المكر والخداع والشر، ما يجعل "الأفعى" هي الحيوان الأجدر بإسباغ صفاته عليها، هذه المقارنة السائدة للمرأة بالأفعى لا يعود مرده بالأساس إلى إبداعية الفكر الجمعي الذي أنتج لنا هذه الأمثال بل نجد جذوره في الأساطير التي نسجت حول بداية خلق الإنسان، روى الطبراني في كتاب "التفسير"، أنه لما أراد إبليس أن يدل آدم وحواء على شجرة الخلد دخل في جوف الحية، فلما دخل بها الجنة خرج من جوفها وأخذ من شجرة الخلد وأغرى حواء بالأكل منها، وذهبت بها إلى آدم قائلة"أنظر إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، فأكل منها آدم فبدت لهما سوءاتهما".
وحتى حين أراد المثل إظهار أهمية الدور الذي تلعبه المرأة في بيت الزوجية فلم يجد أحسن من الحمارة، نظرا لما تمثله هذه الأخيرة من البلادة والقدرة على تحمل الضرب وأعمال السخرة، "مولات الدار عمارة ولو كانت حمارة"، و للدلالة على ضرورة ربطها حتى لا تنفلت من عقالها تشبه النساء في عدد من الأمثال الشعبية بالبهيمة عندما نجد "المرا كتربط من لسانها، والبهيمة تُربط من لجامها"، كما تشبه المرأة القصيرة بالبطة إن إزداد وزنها وبالقطة إذا خف "البنت القصيرة إذا سمانت بطة وإلى ضعافت قطة"، وتنزل مكانة القرد " سعد البلدة كيرد العروسة قردة، والعكوزة جلدة"، وقد تسلك سلوك الديك "اصبح الديك على الفريك، وصبحت العمشا على الكُحل"، بل وينزل هذا التشبيه إلى الحضيض ليتوسل بالحشرات، "اللوسة سوسة وَخا تكُون فحال الخنفوسة"، هذه التشبيهات إن دلت على شيء فإنما تدل على أن مقارنة النساء بالحيوانات خاصية تطبع المثل المغربي بشكل عام، خصوصا في صفاتها السلبية، عموما فإن خاصية التشبيه في الأمثال المتعلقة بالمرأة لا تقتصر على الحيوانات فقط بل تمتد إلى الجماد والشياطين والأمراض والكوارث الطبيعة وما جاورها..
تأثير الفكر الديني
استمدت العديد من الأمثال الشعبية المهينة للمرأة "مشروعيتها" من التأويلات الخاطئة وغير التامة للنصوص الدينية سواء كانت قرآنا منزلا أو أحاديثا للنبي محمد "صلعم"، حيث انتزعت من سياقها وشروطها التاريخية، وحذفت منها معاني محددة كما أضيفت أخرى، لتشكل صيغا جاهزة لأمثال شعبية سهلة الإستخدام في ظروف مختلفة تتنكر لمعناها الأول، ما يدفع العديد من العدميين إلى تحميل الفكر الديني الإسلامي مسؤولية جزء من الأفكار الدونية للمرأة، ومن بين أكثر الأمثال شيوعا بهذا الصدد " المر ضلعة عوجا" الذي يراهن العديد من مستعمليه على مصدره الديني الصحيح، ففي حديث الرسول صلعم قال: استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرت، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء"، بناء على هذا الحديث الشريف، فقد قفز الفكر الشعبي بسرعة على استعمال هذا المفهوم متجاهلا أحاديث أخرى تكرم المرأة، يقول الأستاذ علي أفرار بهذا الصدد في كتابه "صورة المرأة بين المنظور الديني والشعبي والعلماني"، إن أهم ما يلتقي فيه الخطاب الديني بالخطاب الشعبي هو النزعة الذكورية المغلفة بمنظور أنثوي مزيف، ذلك أم المثل في بعض الأحيان يتماهى مع النص الديني ليسبغ على نفسه نوعا من القدسية ويقدم نفسه كحكمة إلهية أو نبوية في حين ليس إلا نتاج علاقات اجتماعية وتصورات ثقافية وليدة تمييز جنسي لا يلتقي مع النص الديني في أي شيء، ويتجلى هذا الامر بكل وضوح إذا وضعنا النص الديني الذي يستمد منه المثل الشعبي قوته في سياقه التاريخي وأبعاده الدلالية وغاياته ومقاصده.
الزواج وصورة المرأة:
يعتبر دخول المرأة للقفص الذهبي علامة فارقة تنهي عهدا وتدشن آخرا، وفي الأوساط التقليدية يبقى هاجس الأسرة هو إعداد البنت للاضطلاع بمسؤولية الزوجة وربة البيت، وللحفاظ بعد ذلك على هذا الدور باعتباره امتيازا، فقبل الزواج تختلف الزوايا التي يتقمصها المجتمع ليرى الفتاة، فقد تكون هذه النظرة إيجابية كما هو الحال في هذا المثل: (اللي ما عندو بنات ما عرفو حد باش مات)حيث تعتبر الفتاة أمينة أسرار أمها، لهذا فالمرأة التي ليس لها بنات، ستحمل معها أسرارها إلى دار البقاء عندما تموت، غير أن الأمثال ترسم، أحيانا صورة متناقضة للبنت، فهي من جهة أساس البيت: (البنات عمارة الدار) لأن كل المسؤوليات المنزلية ملقاة على كاهلها. فالبنت للعمل ومساعدة الأم، بل وللنهوض بكل الأعباء المنزلية، في حين الولد يتفرغ للهو و للعب خارج البيت، للتمتع بطفولته. ولكن من جهة أخرى، فإن البنت حتى وهي تنهض بأعمال البيت، يظل عملها غير مقنع:(البنت تأكل ما تشبع وتخدم ما تقنع)كما أن الرهان على البنت، في المنظور الشعبي، هو رهان على الفراغ:(دار البنات خاوية)لأن البنت منذورة للزواج، وسرعان ما ستغادر البيت إلى بيت الزوجية، لتترك بيت الأهل فارغا، لا سيما إذا استحضرنا تثمين الأوساط التقليدية للزواج المبكر.
يمارس خطاب الأمثال الشعبية ديكتاتورية صريحة ضد الفتاة بهضم أبسط حقوقها في التعليم والتمدرس، عندما يقول "البنت لا تعلمها حروف ولا تسكنها غروف"، لأنه يدعم الاستقلالية ويقوي الشخصية، ويفتح أبواب الانحراف والضياع: (الفكوسة تتعوج من الصغر)
من منطلق أن التعليم يجر إلى المعرفة، والمعرفة سلطة، وينبغي في المنظور الشعبي، الحسم في مسألة تربية الفتاة، والتعامل معها بصرامة، وحتى قدراتها العقلية في يد الرجل، رب البيت، هو الذي يأمر بإغلاقها أو بفتحها، ومثلما يفضل إغلاف الباب في الأوساط الشعبية، التي تتعامل مع البيت باعتباره الحرمة ينبغي حجبها عن أعين الاجانب، كذلك الشأن بالنسبة إلى عقل العاتق، ينبغي حجبه عن العلم والمعرفة.
(الدفة بالقفل والعاتق بالعقل)، وحتى التربية السليمة لا تربى عليها إلا نكاية في الأعداء (ربي بناتك تنكي حسادك)، رغم أن هذه التربية ليست إلا تقليدية ولا تركز إلا على إعداد البنت لدور الزوجة وربة البيت، لدرجة أن الأم تكون مطالبة، في لحظة ما، بالتنحي عن عالم الأنوثة، لتفسح المجال لبناتها: (اللي فاتك خليه لبناتك) وفي هذا الصدد ترى مليكة البلغيتي أن موقف الآباء اتجاه زواج بناتهم"يخضع لمنطق محدد بغياب آفاق أخرى بالنسبة لهن غير الزواج وبالخوف من رؤيتهن يسقطن في الدعارة"[26] وحسب المنظور الشعبي فليس هناك خيار أمام البنت سوى الزواج: ( البنت إما رجلها وإما قبرها)أي أن المكان الطبيعي للفتاة التي بلغت سن الزواج (وهو سن لا علاقة له بما تنص عليه مدونة الأسرة) هو بيت زوجها، بل إن بقاءها في بيت العائلة قد يجلب العار و الفضيحة(العاتق في الدار عار)،أو على الأقل قد يتسبب في إثارة المشاكل:( شدو علينا ولادكم ره بنتنا قهرتنا)، حتى أنه ينظر إلى البنت التي بلغت سن الزواج كما لو أنها في محنة ينبغي إخراجها منها:(البنت وصلات عتقوها بالزواج).ثم إنه غالبا ما ينظر إلى المرأة الصغيرة في السن على أنها سهلة الانقياد والخضوع لسلطة الرجل(وهذا ما يريده) وهي صورة أو مادة خام يمكن أن يشكلها الرجل كما يريد، وبالتالي فهي مصدر خير بالنسبة إليه:(اللي يتزوج المرا صغيرة كيحوز الخير والتدبيرة).
وبعد التفكير مليا في هذا القرار المصيري وبدخول الزوجين حياة جديدة بعدما أخذا كل الترتيبات اللازمة قبل الإقدام على الزواج (زواج ليلة تدبيرو عام)، يبقى بالإمكان أن تتحدد صورة المرأة المتزوجة حتى قبل الزواج، خاصة لدى الرجل الذي يمنحه المجتمع حق تحديد مواصفات شريكة حياته. ومن المواصفات التي يتم التأكيد عليها بقوة نجد مسألة الأصل والنسب: (خذ المرا الأصيلة ونم على الحصيرة) لأن المرأة ذات الأصول سند للرجل في الأيام العصيبة ومفخرة له أمام الآخرين: (إلا تتزوج تزوج الأصول ما يجبر العدو ما يقول)، لكن في بعض الأحيان يسود منطق العصبية في وجه هذه المواصفات، المنظور الشعبي يحث على "الزواج العشائري"، أي يحث على تبادل النساء "بلغة كلود لفي ستراوس" داخل القبيلة نفسها، وبين أبناء العمومة:(اللي تزوج من بنات عمو بحال اللي ذبح من غنمو)، هذا النوع من الزواج يعود بالنفع على الرجل والعائلة والقبيلة، فهو يشكل مصدر قوة وغنى بالنسبة إلى المجتمع التقليدي، حتى وإن كان يتعارض مع منطق المجتمع الحديث الذي يقوم على روابط أخرى غير رابطة الدم، وبعد هذا الزواج، لا يملك البيت أي معنى إذا لم تنجب الزوجة أولادا يضمنون إستمرارية النسل، وهو ما يعني أن المرأة العاقر هي كائن بلا قيمة:(لمرا بلا ولاد بحال الخيمة بلا وتاد)أي أن المرأة العاقر لا تستطيع الصمود أمام تقلبات الزمن، فالأولاد مثل أوتاد الخيمة، ضمانة لاستقرارها، مهما كانت قوة الظروف المعاكسة.
أما إذا فشلت تجربة الزواج، فإن النظرة السلبية تلاحق المرأة المطلقة أينما حلت وارتحلت، وبما أن نظرة المجتمع التقليدي للمرأة تختزل في الجسد فقط فإن " صلاحيته" تنتهي بمجرد الطلاق:(لحم الهجالة مسوس وخا دير لو الملحة قلبي عافو)، ولن تتخلص من ثقل هذه النظرة أو النظرات إلا إذا تزوجت من جديد، وهو ما يؤكد "إن كرامة المرأة واحترام الواقع لها مشروطان بارتباطها الشرعي برجل يحميها ويحافظ عليها" مهما بلغت قساوة العيش "تحت" ظهرانيه، وبالتالي فبقدر ما نجد أمثالا تمجد المرأة وترفع من شأنها، بقدر ما نجد أمثالا أخرى تحط من مكانتها وتقلل من قيمتها، حتى أننا قد نصادف أحيانا تعايش التناقض في المثل الواحد("الخير مرا والشر مرا" ، "الربح من لمرا والزلط من لمرا"،" مرا تعليك ومرا تعريك"). وتعكس هذه الأمثال النظرة المتناقضة التي يحملها المجتمع تجاه المرأة، فهي موضوع للرغبة وموضوع للرهبة في الآن نفسه..