إبراهيم أسيكار - التيمات و مرتكزات التأويل في كتاب ” الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون ”

تقديم :
من غير تمهيدات نظرية حول الثقافة الشعبية والحاجة إلى الاهتمام بها، يضع كتاب ” الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون”، قارئه بشكل عام في جوهر الكينونة الميمونية المتجذرة في العمق الشعبي المغربي. ذلك أن صاحبه الأستاذ محمد بازي، الباحث الأكاديمي المتخصص في قضايا الفهم و التأويل مثلما هو معلوم ، تناسى في كتابه هذا الأدوات المفاهيمية و النظرية الأكاديمية ، ليعانق بكل فطرية وتلقائية شجون الحكمة المستمدة من الأقوال و الأمثال و الحكم و الطرائف و العبارات التي شكلت وعي الإنسان الميموني و رؤيته للعالم من حوله.
لقد جاء هذا الكتاب لتلبية حاجة الثقافة المغربية عامة، و الميمونية خاصة، إلى كثير من التحصين ضد الهشاشة و الذوبان، في زمن اختار أقوياؤه رفع شعار تنميط الثقافة الإنسانية عن طريق الاستلاب و التغريب، قافزين على الخصوصيات الثقافية لغيرهم الذي لا يريدونه إلا منتجا للفلكلور، ومؤثتا لأسواق السياحة الثقافية .
لهذا الاعتبار اختار الأستاذ محمد بازي عن اقتناع، الإبحار ضد التيار فعمد إلى النبش في ترسّبات ذاكرة أجيال الميمونيين، انطلاقا من أمثالهم و حكمهم التي تعكسهم في جدّهم و هزلهم و فرحهم و حزنهم . و لعل اختيار النبش في المتن الأمثولي و الحكمي بشكل أساس، و التصدي له بالجمع و الشرح ، يعكس وعيا قويا بأهمية الأمثال و الحكم في واقع العلاقات الاجتماعية و الإنسانية ، إذ هي في كل الثقافات أداة تعبيرية هامة و مغرية وعميقة في إبلاغ معان تعكس هواجس الذاكرة الشعبية . من هنا لم يكن بدعا أن يلتجئ إليها الإنسان الميموني ، لتكون واحدة من أقوى آلياته الإبلاغية و البلاغية .
إن القراءة الأولية لكتاب ” الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون ” الذي يضم أكثر من ألفي مادة تم تدوينها في صورتها التلقائية ، تعكس رغبة في تجاوز ما ارتبط بهذا النمط من التراث الشعبي في عقول العامة، من مظاهر الازدراء و مدلولات القدح إلى صيغة ترتفع بتذوقه لإدرك جوهر الألق الإنساني في الثقافة الشعبية. و في إطار هذا الطموح نتصور أن كتاب ” الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون ” يسعى إلى توفير أرضية للإجابة و لو لاحقا عن أسئلة ثلاثة مركزية نفترضها كالآتي :
كيف يمكن الحفاظ على أنماط الموروث الأمثولي و الحكمي في الثقافات الشعبية الشفوية ؟
ما السبيل الأنجع الذي يمكن بواسطته نقل الرصيد الأمثولي و الحكمي داخل ثقافة شعبية شفوية ما من السّلف إلى الخلف ؟
ما الذي يحول دون انتقال المتون الأمثولية و الحكمية في الثقافات الشعبية الشفوية من مستوى المتعة و الترفيه إلى مستوى العبرة و التوعية ؟

قراءة تيماتية في الكتاب
لقد اختار الأستاذ محمد بازي تنظيم متن كتابه وفق الطريقة الألف بائية ، لصعوبة الحسم في الموضوعات التي تستحق التقديم أو التأخير، خاصة و أن جميع هذه الموضوعات تبقى على قدر المساواة من حيث الأهمية و صلتُها الحميمة بوعي منتجيها و متداوليها .
تبرز المادة التي تمدنا بها الأمثال والحكم و الأقوال الواردة في كتاب ” الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون ” مدى تعلق مبدعيها بالحياة اليومية للإنسان الميموني اجتماعيا واقتصاديا ، خاصة و أن مجموع هذه الأمثال و الحكم و الأقوال يرتبط مكانيا بالقرية الميمونية و محيطها الجغرافي القريب ك :” أيت عميرة” و” غزالة” و “الخربة” و “البرايج” و”تفنيت”...ممن يعتبر أهلها آخر بالنسبة للإنسان الميموني، و أبلغ مثل في هذا الإطار (زيد الما زيد الدگيگ را ولاد عميرة فالطريگ )، مثلما تعكس هذه الأمثال و الحكم و الأقوال القرية الميمونية إنسانيا بمثل: الرجال و النساء و الأطفال و الفلاحين و الحرفيين و الصناع، وتعكسها أيضا طبيعيا بمثل نباتات: ”الفرزيز” و” الدّلاح” و” الكرعة” و “الزرعط و” الزرْبط و” النخلة” و “البصلة” ، و تعكسها أيضا حيوانيا بمثل : “الذيب” و”الحْمار” و “البْگر” و “المعز” و “الدجاج” و”الكلب” و “البومة” و “الناگة” و “الجمل” و “العَود” ...
ويبقى أهم ما يلفتنا اجتماعيا فيما جمعه الأستاذ محمد بازي في كتابه،هو الإلحاح على التضامن و التعاضد و الأخلاق و التحذير من عواقب الزمن و تقلبات الحياة ، و كأن الحكيم الشعبي الميموني يحرص على تحديد العلاقات الاجتماعية بما يرضي الله و العباد.
و إذا كان من اللازم تحديد التيمات الأساس التي ينطوي عليها كتاب ” الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون ” فلن نجد أهم مما يلي :

٭ الفلاحة : و من العبارات الدالة عليها نجد : ( إلاّ جات الشتا فالصمايم بيعْ الزرع و اشْري
البهايم ) / ( بلّغ يا حراث بين المراجع مال التاجر عندك راجع ) / ( ثبت و خلّي الزرع ينبت ) / ( لا تْصاحبْ حتى تجرّبْ و لا تحرث حتى تزرّب و لا تضرب حتى تقرّب ) / ( النعيجة و العويجة و العام إلى جاء ) / ( واحد البگرة تخسر النوبة ) ( حصّاد بحْمارو شْهاب بنارو) / ( الشتاء ديال لليالي بحال لعْب دراري)/ ( گعد ألجوع حتى ندرسو)/ ( اللّي حرث الجمل دكّو ) / ( اللّي نگى حصْد ).

إن تأمل مجموع هذه الأمثال والحكم ، يكشف عن زراعية تفكير الحكيم الميموني الذي رأى في الزراعة، و ما يتعلق بها من تربية الماشية واجبا يستلزم الاستعداد و الإتقان و الاستمرار و الحيطة و الحذر...
٭ الرجولة : ومن الأمثال و الأقوال الدالة عليها : ( حتى يجو الرجال ) / ( الرجال يتْلاگاو
و الجبال ما يتلاگاو) / ( الراجْل بالهمة أما اللحْية حتى المعز عندو) / ( الرجل بحال لفاس فين مّا مشى يحْفر ) / ( الرّجل يموت على بلادو ولاّ ولادو ) ( الرّجْلة ما تتْباع ما تشرا ) / ( الرجل اللّي يتبع المرا مرا نيت هداك ) ...

من مجموع هذه الأمثال و الأقوال نلحظ تنصيص الحكيم الميموني على حقيقة الرجل الذي لا يكون كذلك بالهيئة فحسب، بل بالشهامة و القدرة على التحمل و عدم الخضوع للمرأة .

٭ المرأة : كثيرة هي الأمثال و الأقوال المتصلة بالمرأة في التداول الأمثولي و الحكمي الميموني ومن ذلك : ( خذ المجنونة بنت العاقلة و لا تاخذ العاقلة بنت المجنونة )/ ( الرّبح من المرا و الخسارة من المرا )/ ( زمان الغرايب هذا المرا مكحلة و الرجل غايب ) / ( سال على الأم قبل ما تلام )/ (فعرسها نعّاسة و فعرس الناس رقّاصة ) / ( كاينة المرا اللي هي بالصح مرا ، و كاينة المرا اللي بحال مسمار عشرة، و كاينة مرا بحال مسمار عشرة مدگوگ فالعنگرة )/ ( كولْ مع المرا الوالدة و ما تمشي معاها )/ (اللّي تزوج بنت عمو نسى همو)/ (اللّي طلقها ما يوريها دار بّها)/ ( اللّي ما عندو بنات حد ما عرف باش ماتْ)/ (ما تاكل البلبولة المالحة غير
المرا الفالحة)/ ( ما تفهم المرا غير مرا)/ ( ماتدير يدّها فالماء )/ ( المرا اللّي تطوف ما تغزل صوف )/ ( المرا بلا ولاد بحال الخيمة بلا وتاد)/ ( مرا لسّاسة تغلب ميات سحاّرة و سحّارة )/ مراة المنحوس ما هي مطلقة ما هي عروس)/) معرفة الرجال كْنوز و معرفة النسا خْنوز)/( مول الطاحونة و السانية و المرا الثانية عمرو ما يشوف ليلة هانية)...
من خلال التمعن في مجموع هذه الأمثال وغيرها كثير، نلاحظ أنها ذات طبيعة وعظية إرشادية تميز بين المرأة المقبولة و المرفوضة .
فمن مواصفات المرأة المقبولة : العقل و الحشمة و الجد و القرابة و الإنجاب وحسن النسب . فيما مواصفات المرأة المرفوضة : الخاملة و العاقر والمحتالة... وعموما تبقى قيمة المرأة في مجموع هذه الأمثال متوقفة على دورها الأسري المنضبط ، مع ملاحظة تتعلق بالتنويه الواضح بالمرأة الأم و البنت . و لا ندري ما إذا كانت هذه الأمثال صادرة عن حكماء أم حكيمات .

مرتكزات الخطاب الشارح في الكتاب.
سننطلق من أجل ملامسة مرتكزات الخطاب الشارح في كتاب ” الجوهر المكنون في كلام أولاد ميمون ” من قول مؤلفه : ” حاولت ما أمكن أن أشرح القول أو المثل أو العبارة وأوضح سياقها ... كان القصد أولا و أخيرا التدوين و الشرح و التأويل و التصنيف ” .
يتضح لنا من هذا الكلام أن جهد المؤلف في هذا الكتاب انصب على ثلاث مسائل أساس هي: التدوين و التصنيف و الشرح باعتباره مستوى من مستويات التأويل ، هذا مع العلم أنه إن كان الشرح ينطوي على رأي و اجتهاد ، فإن التدوين و التصنيف لن يتما من جهتهما من غير رأي، مادامت أي عملية تدوينية للموروث الشفوي في كل حقبة زمنية هي بمثابة غربلة تسمح بمرور أشياء و منع أخرى ، ذلك أن التدوين ” حتى بمعنى الجمع و التصنيف لا غير، لا يمكن أن يتم بدون رأي ” حسب ما يرى محمد عابد الجابري .
لنترك جانبا عمليتي التدوين و التصنيف مركزين على عملية التأويل، فنسجل أن التأويل في اللغة يعني التقدير و التفسير مثلما جاء في معجم لسان العرب في مادة ” أول ” ” أوّل الكلام و تأوّله: دبّره و قدّره ، و تأوّله فسّره ” . ينضاف إلى ذلك أن التأويل / الشرح تقليد علمي عربي قديم اتخذ أشكالا عدة في مختلف المصنفات العربية القديمة ، ككتب الطبقات والتراجم، و كتب النقد والبلاغة، و كتب التفسير و كتب الإعجاز .
إننا لاننكر وعي الأستاذ محمد بازي بالأبعاد العلمية و المنهجية لخطاب التأويل في أي ممارسة علمية ، وهو من اختبر في أكثر من بحث أسئلة و شجون التأويل في التفكيرين العربي و الغربي . لذلك ليس بدعا أن تحضر مرتكزات التأويل و آلياته الجوهرية في شرحه لأقوال وأمثال و حكم و طرائف أولاد ميمون . و بوسعنا أن نميز عنده في هذا الإطار بشكل مختزل جدا بين المرتكزات التأويلية الآتية:

٭ مرتكز التأويل بالقرآن :
اعتمد المؤلف في تأويل بعض الأمثال و الحكم و الأقوال على النص القرآني باعتباره جزءا من ذخيرته المعرفية، و ذلك من أجل تأكيد مصداقية القول المؤوّل. و من نماذج هذا المرتكز التأويلي، تأويل الحكمة ( دوام الحال من المُحال ) ب: ” أحوال الدنيا متبدلة ، و (كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام ). و تأويل المثل ( قدْ الحْديد قدْ دقتو) ب : ” على قدر أهمية الحديد في الحياة و منافعه تكون مصائبه و بأسه “.

و قد صدق الله تعالى : ( و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس). وتأويل القول ( كُنْ الدنيا تدومْ كون دامت للْولى ) ب : (كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام )”. ثم تأويل القول ( اللّي يصْلي ويقطع من جهنما ما يطْلع ) ب: ” عبارة سمعتها من غلام ينصح صاحبه بمداومة الصلاة. وفيها تخويف من قطع الصلاة أو التهاون بشأنها أو السهو عنها. قال الله تعالى ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ) .

٭ مرتكز التأويل بالحديث الشريف :
إلى جانب القرآن الكريم، استند المؤلف في تأويله إلى الحديث الشريف، و ذلك لنفس الاعتبارات التي دعته للتأويل بالقرآن . و من نماذج هذا النوع من التأويل نجد : تأويل القول ( شاوْرْ مراتك و ما تدير بكلامها ) ب : كما في الحديث : “شاوروهن و خالفوهن”.
و تأويل القول ( عْلاهْ الشيطان درّي ) ب : الشيطان متمكن من ابن آدم تمكنا كبيرا ، و قادر على إغوائه بكل الوسائل ، كما في الحديث النبوي : ” إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع ” . و تأويل القول : ( كرش بنادم ما يعمّرها غير التراب ) ب : ” في عدم محدودية طمع الإنسان و انفتاح شهيته للماديات . و هو نقل للحديث ” لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا، و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ” . ثم تأويل القول ( مول الدار ما يفرط و الضيف ما يشرط ) ب : ” المُضيفُ يكرم ضيفه ، و الضيف يكتفي بما هو موجود . و في الحديث ” من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه ” .

٭ مرتكز التأويل بالشعر :
كثيرة هي الأمثال و الحكم و الأقوال التي عضّد المؤلف تأويلها بأبيات من الشعر العربي القديم ، و ذلك من باب تقوية مفعولها الإقناعي . و من اللافت جدا أن يأتي شعراء أمثال طرفة و المتنبي و المعري و أبي تمام و الشريف الرضي و عبد الرحمان المجذوب في مقدمة من استُحضرت أشعارهم، لكونهم أكثر شعراء أزمانهم انفعالا و حدة عاطفة، و أبعدهم تفكيرا ورأيا، و أكثرهم ضربا للحكمة و المثل . و مما يعزز مرتكز التأويل بالشعر في الكتاب طي التقديم ، تأويل القول (ما كذبوش اللي گالو عيش تشوف) ببيت طرفة بن العبد :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ٭ و يأتيك بالأخبار من لم تزود
و تأويل القول ( حدْ النزاهة ركوب الخيل) ببيت المتنبي :
أعز مكان في الدنى ظهر سابح٭ و خير جليس في الزمان كتاب
و تأويل القول ( إلا جيت تحقّقْ تحمق) ببيت المتنبي :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ٭ و أخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
و تأويل القول ( سْكن مع المحسادْ و ما تسكْن مع المْعْيان ) ببيتي أبي تمام :
و إذا أراد الله نشر فضيلة ٭ طُويت أتاح لها لسان حسود
و تأويل القول ( ما يْتْقرقب غير السطل الخاوي ) ببيت الشريف الرضي :
ملأى السّنابل تنحني تواضعا ٭ و الفارغات رؤوسهن شوامخ
و تأويل القول
( راح داك الزمان بناسو و جا هاذ الزمان بفاسو) ببيتي عبد الرحمان المجذوب :
راح ذاك الزمان بناسو ٭ و جا هاذ الزمان بفاسو
و كل من يتكلم بالحق ٭ كسرو لو راسو
و لا ندري ما إذا كان العلاقة بين مجموع هذه الأبيات الشعرية و أمثال و حكم و أقوال الحكيم الميموني ، وليدة تناصات عفوية، أم أن الأمر يتعلق بتناصات مقصودة ، مادامت الحكمة الإنسانية في جوهرها واحدة ، ولا يكاد يختلف سوى لغات التعبيرعنها .

٭ مرتكز التأويل بالشرح اللغوي :
لاعتبارات تعليمية تبسيطية للقارئ غير الميموني المفترض ، اعتمد المؤلف في تأويله لنماذج من الأمثال و الحكم و الأقوال المتداولة في القرية الميمونية آلية الشرح اللغوي، ضمانا للوضوح و يُسر التلقي .
و من تجليات هذه الآلية في الكتاب قيد التقديم تأويل القول ( الخاوَة جْدام ) ب: ” و الجدام مرض كالبَرَص”. و تأويل القول ( خَرْجو رْجليه من الشواري) ب: ” لمن تعدى حدوده ، والشواري : الخُرْجُ الذي يوضع على ظهور الدواب لحمل البضائع و الحاجات ، و يصنع من سعف النخل في الغالب ” . و تأويل القول ( شادْ معاي حاشية السّطلة ) ب: ” السّطلة: و عاء الماء ، لمن لا يريد أن يستقيم و يركن للجهة التي تركن أنت إليها ” . و تأويل القول ( الضربة للْفرطاس و الشّنْعة لْمولْ لگرون ) ب : الفرطاس : الخروف الذي لا قرون له، فإذا ضرب خروفا آخر و آذاه ، فإن الأصابع تشير لصاحب القرون . يقال لمن شكله و حاله سبب في توجيه التهم له، رغم أنه لا دخل له فيما حصل . و تأويل القول ( اللّي جاب الشقفة عطيه العفية ) ب : ” الشقفة قطعة طينية أو حديدية يحمل فيها الجمر من الموقد، أي من طلب منك شيئا و جاء بأسبابه ، فلاتردّه خائبا ”
٭ مرتكز التأويل بالتفصيح .
نقصد بالتفصيح هاهنا انتقال المؤلف بمجموعة من الأمثال و الحكم والأقوال من مستوى التداول اللغوي اليومي التلقائي ذي اللكنة الميمونية ، إلى مستوى التداول اللغوي الفصيح؛ وذلك من أجل ضمان تلق أوسع لهذه الأمثال و الحكم و الأقوال . و مما يعكس هذا المرتكز التأويلي في الكتاب تأويل القول ( سيد الناس خديمهم) ب: ” خادم الرجال سيدهم ” و تأويل عبارة ( عبّو سْكوبي ) التي تقال لمن ذكر الأمر الواحد أو فكر فيه عدة مرات بلا جدوى ب: ” و نظيره عند العرب قولهم : عُبّي و اسْكُبي ” . و تأويل الحكمة ( قْطَع الرْجل تْعْزازْ) بالحكمة العربية الفصيحة ” زُرْ غِباّ قليلا تَزْدَدْ حُبا ” . و تأويل عبارة ( كْثرة الهَمّ تْضَحكْ ) الدالة على أن كثرة الهم تضحك ، بقول العرب: ( شرّ البَلية ما يُضحكُ ) .
و تأويل القول ( ما يْحك جَلْدك غير ظُفْرك ) الدال على أن عملك لا يقوم به من هو أفضل منك ، ب: ” أصله عربي : ما حَكّ جلدك غير ظُفرك ” .

٭ مرتكز السياق
من منطلق أن تأويل النصوص يتوقف على معرفة سياقها ، بما يكوّنه من أحداث و شخصيات و زمان و مكان ، حاول المؤلف وضع قارئه في عمق سياق بعض الأمثال و الحكم و الأقوال التي استوقفته . ومن ذلك تأويل عبارة ( الله يعطينا شي بغلة بحال هاذي) بوضعها في سياقها الذي يتعلق ” ببغلة ضربت برأسها امرأة وهي تسقيها ، و في رواية أخرى ألقتها عن ظهرها فماتت . فجاء الرجال لتعزية الرجل في وفاة زوجته . فكان بعض الرجال يعزي قائلا : رحم الله الفقيدة ...في حين كان بعض الساخطين على زوجاتهم يقول علنا : رحمها الله ، ويُسرّ في أذن الرجل عبارة... ” هل لك أن تعيرني بغلتك عدة أيام ” أو ” آه لو كانت لي بغلة مثل بغلتك ” . ثم تأويل القول ( ما بْقى لِيكْ غير شْويّ د الزيت و دِير عْشاك ) الذي قاله رجل عرف بدعابته ، ” و ذات يوم اختبأ فأر تحت سريره ، فلما لم يجد ما يرميه به لإخراجه ، رماه بأنواع مختلفة من الخضر : بصلة و فلفلة و بطاطس ثم طماطم ، لكن الفأر لم يخرج من مخبئه ، فخاطبه قائلا : لا ينقصك بعد هذا إلا قليل من الزيت و تهيئ عشاءك . و مما اعتُمد في تأويله على مرتكز السياق أقوال أخرى من قبيل ” ( ما وُلدتْ أنا ما ولد الذيب ) و ( ما شي فوق الهيضورة فاش غادي تشد يديك ) و ( ها. ها إبّا جاء ) و ( واش ابو منجل اللّي بندير فالگفة) ...

٭ مرتكز القصد
يعتبر القصد عنصرا آخر من العناصر الأساس الموجهة للفعل التأويلي، ذلك أن محاولة الإمساك بقصد أي متكلم هي السبيل الأنجع للوصول إلى تأويل مقبول لكلامه . ضمن هذا الإطار وظف الأستاذ بازي في تأويله جملة من العبارات الدالة على مقاصد الحكيم الميموني و منها : القصد و المقصود و المراد و المعنى ... و من الأمثلة الدالة على ذلك تأويل عبارة ( الجماعة سافرت و جوج عادو ثْلاثة و البْعاد قْربوا) ب : ” المقصود أن الشخص أصبح هرما ، فالجماعة المسافرة هي الأسنان و القدمان انضاف لهما العكاز و العينان اللتان كانتا تريان البعيد لم تعودا تبصران إلا ما هو قريب “. و تأويل عبارة ( دير الجّبّاد فالنّصْ) ب : ” ...و المقصود : لا تترك الثقل أو العبء على أي طرف ” . وتأويل عبارة (عاونْ الفْقيه إشاَرْطْ ) ب: ” و القصد هنا تسهيل المهمة أمام من يُقبِل على الزواج مثلا أو البناء ، بمعاونته بأي وجه من الوجوه ” . ثم تأويل القول ( اللي نگّى حْصَد ) ب: المراد من اهتم بشؤونه و رعاها بلغه منها ما يريد ” ...

خاتمة
تلك هي أهم التيمات و المرتكزات التأويلية التي عنّت لنا من خلا ل قراءتنا المتسرعة جدا لكتاب الأستاذ الدكتور محمد بازي، آملين أن تكون لنا عودة إلى هذا الكتاب مرة أخرى لدراستة دراسة أوفى و أفضل ، فهو بحق عمل يحضر فيه الأستاذ بازي باحثا لغويا وناقدا وجغرافيا و مؤرخا و طوبونيميا و سيوسيولوجيا . و لولا جميع هذه الصور لما قدم رؤية وصورة حية عن القرية الميمونية في ارتباطها الوثيق بهويتها الأصلية المستمدة من منظومة القيم المغربية و الإسلامية .
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...