نقوس المهدي
كاتب
يصف السيوطي في كتاب له بعنوان (نزهة المتأمل ومرشد المتأهل في الخاطب والمتزوج) حال نساء عصره فيقول: «فلما رأيت نساء هذا الزمان يتزيين بزي الفاحشات، ويمشين في الأسواق وهن للدين كالمحاربات، ويكشفن وجوههن وأيديهن عند الناس لتميل إليهن النفوس بالوسواس، ويلعبن في الولائم مع الشبان، وهن عند أزواجهن في عدم طاعتهن لهن بخلاف ذلك، إلا أن يقصدن الخروج لذلك». يعقب القاضي المالكي أحمد المجيلدي معاتبا بشدة الأزواج المتساهلين في رقابة وضبط حال زوجاتهم «الخراجات الولاجات»، فيقول: «من كانت له زوجة تخرج وتتصرف في حوائجها بادية الوجه والأطراف كما جرت عادة أهل البوادي لا تجوز إمامته، ولا تقبل شهادته، ولا يحل أن يعطى له من الزكاة إن احتاج إليها، وإنه لم يزل في غضب الله مادام مصرا على ذلك».
تشكل هذه النماذج من التوجيهات والإرشادات الدينية التي تكاثرت مع ازدهار الحياة الحضرية في الأزمنة الأولى من عمر الدولة الإسلامية تعبيرا عن انتفاضة فقهية لمواجهة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، في ظل تنامي الفرص الجاذبة المغرية لخروج النساء من «خدرهن» الذي اعتدن ملازمته، والبقاء فيه، ومزاحمة الرجال في الفضاء العام الذي كان حكرا عليهم.
تستند هذه النصائح على إرث اجتماعي قديم يقوم على توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة في الحياة العشائرية الأولى، التي يكون فيها الذكر الرجل هو الممسك بزمام السلطة، فهو الذي يجب أن يتصف بالقوة والخشونة والصلابة الجسدية، فعلى عاتقه مسؤولية حماية «الحريم»، فهو من يحق له ركوب الخيل حتى يقوم بحراسة الخيام من الأغراب أو المعتدين، ويخرج للغزو أو السلب لتوفير الرزق لمن يتبعونه ممن يتوارون في الخدور من النساء والجواري والإماء والأطفال والعجزة، ومن هنا يستمد سلطته بصفته المنفق ومتحمل المؤونة، والذاب عن الحمى. كما أنه ينتفض غضبا ضد أي اعتداء قد يلوث شرفه أو شرف اسم عشيرته في التراب، لذلك يضع الأستار والحجب والموانع التي تمنع من حدوث أي اختراق أو اعتداء قد يجعل وجهه أسودَ بين العرب ذات يوم.
في المقابل أصبح البقاء في البيت صفة لازمة للنساء، والقيام بأعماله وتدبير شؤونه من أهم لوازم اكتمال أنوثة المرأة ورجحان منطقها، وصلاحها مستقبلا كزوجة وأم مطيعة ربة بيت. تنصح أم ابنتها فتقول: «أي بنية أبرمي لزوجك الطاعة فمعها الجنة، وأكثري له الشفقة ففيها المحبة، واحتملي غضبه ينفعك في رضاه، واصبري على شدته يكافئك في رخاه، وعليك بالطيب الأكبر فإنه للقذى جلاء، وللثقل نقاء». هذه التوجيهات والنصوص التي تزخر بها كثير من كتب التراث الإسلامي لا يمكن فصلها عن الأوضاع الاجتماعية والنفسية، وطبيعة الصلات بين الرجل والمرأة في ذلك الزمان، فلا يمكن إنكار التداخل الذي يحدث أحيانا بين العادات والأعراف والتقاليد وبين المفاهيم الدينية، خصوصا إذا كان بعض هذه التقاليد ذا أصل نبيل وشريف. كما أن الظروف الاجتماعية تساهم بشكل كبير في تحديد طبيعة الأحكام الفقهية التي تعلو وتصبح نافذة، فكل زمان له روحه وبصمته التي تطبع في قلب العلوم والآداب والفنون. إضافة إلى مسائل الأسرة والتربية وأحوال المرأة هي من القضايا التي تدخل كثيرا في أبواب الآداب والأخلاق ضمن المصنفات التراثية، وفي هذا الباب توسع في التوجيه والإرشاد والوعظ الذي لا يكتسب صفة الإلزام الشرعي، بقدر ما يأتي في سياق الورع والتحوط الديني.
في الأزمنة القديمة كانت المرأة تجد الحماية والرزق والحقوق والانتقام من الخصوم في كنف العشيرة والعائلة، فهي لا تستطيع العيش خارج نطاقها أو الخروج عنها، لأن ذلك يعني تعرضها لمخاطر كثيرة جدا لا طاقة لها بها، لأنها ستصبح كحمل وديع ضل خارج القطيع فدخل غابة موحشة مليئة بالأخطار.
لكن الدولة المدنية الحديثة اليوم أعادت مفهوم العشيرة والعائلة إلى النطاق الطبيعي القائم على التراحم والاحترام والتواصل والتكافل -أو هكذا يجب- ، وأصبح الجميع سواسية أمام القضاء والقانون، تنتصر لهم الدولة بصفتهم أفرادا مواطنين يتمتعون بحقوق المواطنة، وفرص العمل والرزق في سوق تنافسية متاحة للجميع، لا تفرق بين أفراد المواطنين، لا بين لون أو عرق أو دين أو مذهب أو جنس.
لذلك تراجعت العوامل التي كانت تعطي للسيد الولي مسوغات سلطته أو «تسلطه» على أهل بيته من النساء، فحق القوة واستخدام العنف أصبح محتكراً بيد الدولة، وأبواب العمل والتعليم لم تعد حصرا على الذكور، وثروات النساء واستثماراتهن أصبحت تزاحم الرجال. تغيرت الأحوال، وتضعضعت تلك العوامل والأسباب التي كانت تشرعن للرجل الذكر سلطته الإلزامية الاحتكارية على أهل بيته من النساء، مع بقاء سلطان الاحترام والتراحم المستمد من فطرة روابط الدم والعائلة.
إن القاعدة الفقهية التي تقول «تتغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان» هي مدخل مهم لفهم تطور الأحكام والمذاهب الفقهية، ومعرفة الظروف النفسية والاجتماعية التي ساهمت في تشكلها، فدراسة هذه الظروف وفهمها واستيعابها، ووضع كل قضية في إطارها الذي نشأت فيه دون تعسف لاستنساخها المتكرر الجامد لأزمان لا تصلح لها. كل ذلك من شأنه أن يطور حركة العطاء الفقهي، ويجدد تواصلها بزمانها، ويفعل من دورها الحضاري المتسق مع أحوال الناس وتطلعاتهم وآفاقهم.
لقد لعبت عوامل اجتماعية وجغرافية في صبغ مذهب فقهي دون غيره بمزايا اختص بها، فالمذهب الحنفي الذي نشأ بالكوفة موطن الإمام أبي حنيفة، أصبح أصحابه يقال لهم «أهل الرأي» لأن الحديث كان قليلا بالعراق، فاستكثروا من القياس ومهروا فيه، ولإمامهم مقام في الفقه كبير، شهد له بذلك مالك والشافعي.
أما مذهب الإمام مالك، فاشتهر أصحابه بوصف «أهل الحديث» فإمام المذهب من أهل المدينة، راوية للسنة، صاحب «الموطأ»، لذلك أصبح من أصول منهجه التي اختص بها في الاستدلال والنظر، الاحتجاج بـ «عمل أهل المدينة» في ترجيح الأحكام. واشتهر الإمام الشافعي في مذهبه بالقديم والجديد، فأملى في مصر كتبا تخالف في كثير منها ما كان قد أملاه بالعراق، لم يتردد أن يغير أو يبدل، بل كان تجدده سراً من مزايا مذهبه، حين أنضجته تجربة الترحال، واختلط بألوان أخرى من الشعوب وأنماط مختلفة في التفكير، ولاقى علماء آخرين استفاد منهم، مما حمله على تغيير قوله في كثير من المسائل.
لقد كان تنوع المذاهب الفقهية في عصر ازدهارها علامة من علامات الثراء الحضاري في التراث الإسلامي، ومرحلة مهمة تطور فيها عدد كبير من العلوم الشرعية واللغوية، استطاع هذا التنوع الفقهي أن يلم تحت بساطه أشكالا مختلفة من الأمم والشعوب والأعراق الذين لم يكن من الممكن صبغهم جميعا بلون واحد.
ورغم أن بعض المحافظين الممانعين يعلمون ذلك جيدا، ويتحدثون كثيرا عن الخصال البديعة للمذاهب الفقهية وسعتها وتنوعها، إلا أن كلامهم لا يجاوز حناجرهم، فحين يقفون أمام مسائل الواقع يرتكسون بظاهرية وحرفية إلى عصور الجمود، ويتوارى العقل أمام التعصب المذهبي المخلوط برواسب الأعراف والتقاليد، في حالة من الانغلاق والغرق السلبي في حقب الماضي.
وللحديث بقية.. عن العوامل النفسية التي ساهمت في تأصيل قضية (الولاية على المرأة).
تشكل هذه النماذج من التوجيهات والإرشادات الدينية التي تكاثرت مع ازدهار الحياة الحضرية في الأزمنة الأولى من عمر الدولة الإسلامية تعبيرا عن انتفاضة فقهية لمواجهة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، في ظل تنامي الفرص الجاذبة المغرية لخروج النساء من «خدرهن» الذي اعتدن ملازمته، والبقاء فيه، ومزاحمة الرجال في الفضاء العام الذي كان حكرا عليهم.
تستند هذه النصائح على إرث اجتماعي قديم يقوم على توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة في الحياة العشائرية الأولى، التي يكون فيها الذكر الرجل هو الممسك بزمام السلطة، فهو الذي يجب أن يتصف بالقوة والخشونة والصلابة الجسدية، فعلى عاتقه مسؤولية حماية «الحريم»، فهو من يحق له ركوب الخيل حتى يقوم بحراسة الخيام من الأغراب أو المعتدين، ويخرج للغزو أو السلب لتوفير الرزق لمن يتبعونه ممن يتوارون في الخدور من النساء والجواري والإماء والأطفال والعجزة، ومن هنا يستمد سلطته بصفته المنفق ومتحمل المؤونة، والذاب عن الحمى. كما أنه ينتفض غضبا ضد أي اعتداء قد يلوث شرفه أو شرف اسم عشيرته في التراب، لذلك يضع الأستار والحجب والموانع التي تمنع من حدوث أي اختراق أو اعتداء قد يجعل وجهه أسودَ بين العرب ذات يوم.
في المقابل أصبح البقاء في البيت صفة لازمة للنساء، والقيام بأعماله وتدبير شؤونه من أهم لوازم اكتمال أنوثة المرأة ورجحان منطقها، وصلاحها مستقبلا كزوجة وأم مطيعة ربة بيت. تنصح أم ابنتها فتقول: «أي بنية أبرمي لزوجك الطاعة فمعها الجنة، وأكثري له الشفقة ففيها المحبة، واحتملي غضبه ينفعك في رضاه، واصبري على شدته يكافئك في رخاه، وعليك بالطيب الأكبر فإنه للقذى جلاء، وللثقل نقاء». هذه التوجيهات والنصوص التي تزخر بها كثير من كتب التراث الإسلامي لا يمكن فصلها عن الأوضاع الاجتماعية والنفسية، وطبيعة الصلات بين الرجل والمرأة في ذلك الزمان، فلا يمكن إنكار التداخل الذي يحدث أحيانا بين العادات والأعراف والتقاليد وبين المفاهيم الدينية، خصوصا إذا كان بعض هذه التقاليد ذا أصل نبيل وشريف. كما أن الظروف الاجتماعية تساهم بشكل كبير في تحديد طبيعة الأحكام الفقهية التي تعلو وتصبح نافذة، فكل زمان له روحه وبصمته التي تطبع في قلب العلوم والآداب والفنون. إضافة إلى مسائل الأسرة والتربية وأحوال المرأة هي من القضايا التي تدخل كثيرا في أبواب الآداب والأخلاق ضمن المصنفات التراثية، وفي هذا الباب توسع في التوجيه والإرشاد والوعظ الذي لا يكتسب صفة الإلزام الشرعي، بقدر ما يأتي في سياق الورع والتحوط الديني.
في الأزمنة القديمة كانت المرأة تجد الحماية والرزق والحقوق والانتقام من الخصوم في كنف العشيرة والعائلة، فهي لا تستطيع العيش خارج نطاقها أو الخروج عنها، لأن ذلك يعني تعرضها لمخاطر كثيرة جدا لا طاقة لها بها، لأنها ستصبح كحمل وديع ضل خارج القطيع فدخل غابة موحشة مليئة بالأخطار.
لكن الدولة المدنية الحديثة اليوم أعادت مفهوم العشيرة والعائلة إلى النطاق الطبيعي القائم على التراحم والاحترام والتواصل والتكافل -أو هكذا يجب- ، وأصبح الجميع سواسية أمام القضاء والقانون، تنتصر لهم الدولة بصفتهم أفرادا مواطنين يتمتعون بحقوق المواطنة، وفرص العمل والرزق في سوق تنافسية متاحة للجميع، لا تفرق بين أفراد المواطنين، لا بين لون أو عرق أو دين أو مذهب أو جنس.
لذلك تراجعت العوامل التي كانت تعطي للسيد الولي مسوغات سلطته أو «تسلطه» على أهل بيته من النساء، فحق القوة واستخدام العنف أصبح محتكراً بيد الدولة، وأبواب العمل والتعليم لم تعد حصرا على الذكور، وثروات النساء واستثماراتهن أصبحت تزاحم الرجال. تغيرت الأحوال، وتضعضعت تلك العوامل والأسباب التي كانت تشرعن للرجل الذكر سلطته الإلزامية الاحتكارية على أهل بيته من النساء، مع بقاء سلطان الاحترام والتراحم المستمد من فطرة روابط الدم والعائلة.
إن القاعدة الفقهية التي تقول «تتغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان» هي مدخل مهم لفهم تطور الأحكام والمذاهب الفقهية، ومعرفة الظروف النفسية والاجتماعية التي ساهمت في تشكلها، فدراسة هذه الظروف وفهمها واستيعابها، ووضع كل قضية في إطارها الذي نشأت فيه دون تعسف لاستنساخها المتكرر الجامد لأزمان لا تصلح لها. كل ذلك من شأنه أن يطور حركة العطاء الفقهي، ويجدد تواصلها بزمانها، ويفعل من دورها الحضاري المتسق مع أحوال الناس وتطلعاتهم وآفاقهم.
لقد لعبت عوامل اجتماعية وجغرافية في صبغ مذهب فقهي دون غيره بمزايا اختص بها، فالمذهب الحنفي الذي نشأ بالكوفة موطن الإمام أبي حنيفة، أصبح أصحابه يقال لهم «أهل الرأي» لأن الحديث كان قليلا بالعراق، فاستكثروا من القياس ومهروا فيه، ولإمامهم مقام في الفقه كبير، شهد له بذلك مالك والشافعي.
أما مذهب الإمام مالك، فاشتهر أصحابه بوصف «أهل الحديث» فإمام المذهب من أهل المدينة، راوية للسنة، صاحب «الموطأ»، لذلك أصبح من أصول منهجه التي اختص بها في الاستدلال والنظر، الاحتجاج بـ «عمل أهل المدينة» في ترجيح الأحكام. واشتهر الإمام الشافعي في مذهبه بالقديم والجديد، فأملى في مصر كتبا تخالف في كثير منها ما كان قد أملاه بالعراق، لم يتردد أن يغير أو يبدل، بل كان تجدده سراً من مزايا مذهبه، حين أنضجته تجربة الترحال، واختلط بألوان أخرى من الشعوب وأنماط مختلفة في التفكير، ولاقى علماء آخرين استفاد منهم، مما حمله على تغيير قوله في كثير من المسائل.
لقد كان تنوع المذاهب الفقهية في عصر ازدهارها علامة من علامات الثراء الحضاري في التراث الإسلامي، ومرحلة مهمة تطور فيها عدد كبير من العلوم الشرعية واللغوية، استطاع هذا التنوع الفقهي أن يلم تحت بساطه أشكالا مختلفة من الأمم والشعوب والأعراق الذين لم يكن من الممكن صبغهم جميعا بلون واحد.
ورغم أن بعض المحافظين الممانعين يعلمون ذلك جيدا، ويتحدثون كثيرا عن الخصال البديعة للمذاهب الفقهية وسعتها وتنوعها، إلا أن كلامهم لا يجاوز حناجرهم، فحين يقفون أمام مسائل الواقع يرتكسون بظاهرية وحرفية إلى عصور الجمود، ويتوارى العقل أمام التعصب المذهبي المخلوط برواسب الأعراف والتقاليد، في حالة من الانغلاق والغرق السلبي في حقب الماضي.
وللحديث بقية.. عن العوامل النفسية التي ساهمت في تأصيل قضية (الولاية على المرأة).