نقوس المهدي
كاتب
تمور الساحةُ الإسلاميَّة بأراجيفَ، لا يمكن وصفُها بأنها ممَّا تُلقيه الضمائر على الألسن، وإنَّما هي مِن نَفْث الشياطين.
فبَعْدَ أن قطع الإعجازُ العلمي بحقائقه أيَّ مدخل للتلبيس، أخذتِ الشياطين تتْلو على مَلَكةِ الفِقه الإسلامي صِيغَ الشكوك والتمريض، فمتى ما تمَّ الطعن في الفقهاء، ضلَّ الناس أمامَ النصوص، وتاهوا في البرْزخ بين الظني والقطعي، ونظَرَ الناس لتراث الأمَّة بعين الريب، فيُصبح الناس ويُمسون في بناءٍ معرفي لا يكاد يرتفع حتى يُهدَم.
ولم يألُ الدعاةُ جهدًا في الذودِ عن حِياض الشريعة الغرَّاء، كما أنَّ الدعوة في الغرْب تُعالِج أعراضًا وأمراضًا ذاتية مِن داخل جسَد الأمَّة، ومِن تلوُّث البيئة الغربية.
أحَد المراكز الإسلاميَّة وجَّه دعوة لمربٍّ فاضل تَمرَّس في العمل الدعوي غربًا؛ ليحاضرَ عن مكانة المرأة في الإسلام، الموضوع الذي لاكتْه ألْسنُ شياطين الأنس قبل الجان، حتى مجَّه السمع، وعادةً ما يُوضع بريد إلكتروني لمَن يُريد أن يفضي بسؤال، أو مداخلة...إلخ.
وفي قاعة المحاضرات المخصَّصة، والتي هي بجوار المركز، حيث يُتاح الدخول للحائِض، وغير الملتزم، والمحب للاطِّلاع ممَّن هم على مِلَّة أخرى، أزِفُ الموعد، فدخَل شيخٌ في العقد الخامِس من العمر، تَزيد ابتسامتُه من إشراقِ وجهه، وجلس إلى جوارِه مُقدِّم الحفل، الذي بدأ بالتعريف بالشيخ، وعنوان المحاضرة، ثُمَّ أعطى الكلمةَ له، فقال بعدَ الحمد والصلاة على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والترحيب بالحضور، وشُكْر الإدارة على إتاحةِ الفرصة:
عكفتُ ليلةَ أمس على قراءةِ ما وصَلَني منكم عبرَ البريد الإلكتروني، كانت أسئلة، وطلب إضاءات، وعرْض أراجيف وشُبهات، فأسهرتُ ليلي في تبويبِ كلِّ ذلك، وخلصتُ إلى نتيجةٍ مفادُها: أنَّ الأعداء يتَّكِئون على الطعن من جِهة الفقهاء، في أنهم - أي: الفقهاء - بفَهْمهم البشري غمَطوا حقوقًا للمرأة، حتى الْتاثَ الأمرُ على مَن ليس له حظٌّ وافِر مِن العلم، فاستخرتُ المولى، بعدَما أيقظت رأيي، وأسهرتُ قلمي، وعجمتُ ما قيل ويقال، فقرَّرتُ أن أذُبَّ الليلة عن عِرْض سادتنا الفقهاء، تاركًا بعضَ الأسئلة - إن لم يُسعفِ الوقت - لإمام المركز.
وسأقصر الحديث على نُقولاتٍ مِن كلام سادتِنا الفقهاء، تلك الثُّلَّة المسلِمة التي أفْنَتْ ذُبالةَ أعمارها في معالجةِ قضايا الأمَّة.
واستهلال كلامِي بالقول: إنَّ المشكلة بدأتْ منذ قرنين من الزمان، وتحديدًا مع حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798م، وكثير مِن المؤرِّخين للحروب الاستعمارية يحصرون الأسبابَ بالمصالِح المادية، والواقع يُثبت كلَّ يوم البُعد العقدي لعدائنا مع الغَرْب، ثم تسنَّم المهمَّةَ محمد علي باشا وبعوثه للغرْب، ومنهم رفاعة الطهطاوي،....إلخ[1].
والسؤال: لماذا المرأة؟
والجواب: لأنَّ المرأةَ قاعدةُ الأُسْرة، والأُسْرة نواةُ المجتمع، وفَهْمُكم كفاية.
وكثيرًا ما روَّج الناسُ أنَّ الفقه ذكوري، وأنَّ التأنيث منقصة، ومسألة التأنيث لم يُكتب فيها - برأيي المتواضِع - أجمل مِن عبارات خطَّها فقيه حنفي هو ابنُ عبدالسلام أبو المكارم الفقيه الواعظ (وردتْ ترجمته في طبقات الحنفية للغزنوي)، حيث يقول عن التأنيث:
• العين تُؤنَّث وبها يُتوصَّل إلى الحقائق.
• والأذن تُؤنَّث وبها يُتوصَّل إلى الدقائق.
• واليد تُؤنَّث وهي المتصدية لتحبيرِ الإنشاء.
• والفِرْدوس تُؤنَّث... وبها وُعِدَ الأخيار الأبرار.
أمَّا قضيةُ ناقصات عقل، فلعَمْرُ الله إنَّها لفِرية قتَلها دعاتنا ردًّا، أمَّا ردُّ العبد الضعيف، فهو حال الفُقهاء لا كلامهم الذي اجْتُزِئ بعض منه للطعن، فكم مِن شيخ فقيه طلاَّع ثنايا المعقول والمنقول، تلقَّى العِلم ممَّن يزعمون أنهنَّ ناقصات عقل، وهل مِن المنطق أن يفخر عالِمٌ بلغ مرتبةَ الاجتهاد أنَّ مَن لقَّنه العلم، حتى عدَّه مِن سلسلة سنده، ناقِصة عقل؟!
"ورَدَ في ترجمة الإمام الزهري، قال: قال لي القاسمُ بن محمد - تابعي مِن فُقهاء المدينة السَّبْعة - يا غلامُ، أراك تحرِص على طلب العلم، أفلا أدلُّك على وعائه؟ قال - الزهري -: قلتُ: بلَى، قال: عليك بعَمْرة بنت عبدالرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية، فإنَّها كانت في حجْرِ عائشةَ - رضي الله عنها - قال الزهري: فأتيتُها فوجدتُها بحرًا لا يُنْزَف"، وانظروا إنْ شِئتم مدْحَ الحافِظ والفقيه ابن حجر صاحِب "الفتح" لأخته ستِّ الرَّكْب، ومدْح الفَقيه العلاَّمة الموسوعي ابن القيِّم لشيخاته، والفقيه المحدِّث المفسِّر ابن كثير، لشيخاته كذلك - رحمهم الله جميعًا.... إلخ، بل حتَّى مَن يُوصَمون ظلمًا بالتعصُّب، ويُومَأ إليهم حتى للأسف من بعض الإسلاميِّين بالتشدُّد، كانوا فُقهاء أعطوا للمرأةِ مَكانةً عزَّ نظيرُها في مجتمعهم.
هل تَعلمون أنَّ بنتَ الشيخ العلامة المجدِّد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - فاطمة كانتْ تقوم بتدريس النِّساء والرجال [وإذا كان تدريسُها للنساء متوقعًا ومعروفًا، فإنَّ تدريسها للرجال كذلك، نستدلُّ عليه ممَّا يُروَى أنها كانتْ تجلس لطلاَّب العلم، وتجعل بينهم وبينها سُترةً أثناءَ التدريس][2].
والفُتيا والقضاء، بينهما اشتراكٌ وافتراقٌ عندَ الفقهاء، وإنْ كان القضاء مِن الولايات العامَّة، وللعلماء فيه آراء، كالحنفيَّة الذين أجازوا للمرأةِ جزءًا من القضاء، وابن حزْم في المحلَّى (8/528) يُجيز إسناد القضاءِ مطلقًا للمرأة، والفقهاء مُجْمِعون على جواز الإفتاء للمرأة، وقد ناقَش ابنُ القيم الجوزية المسألةَ بشكل وافٍ في سِفْره الرائع "إعلام الموقعين".
وأنقُل لكم مِن كلامِ الإمام النووي الشافعي قولَه عن شروط المفتي: "كونه مُكلَّفًا، مسلمًا، ثِقة، مأمونًا، متنزهًا من أسباب الفسق وخوارم المروءة، فقيه النَّفْس، سواء فيه الرجل والمرأة"[3].
وترْجَم الحافظُ الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" لأَمَة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل، فقال: كانتْ تُفْتي مع أبي عليِّ بن أبي هُريرَة، وكانت من أحفظِ الناس للفِقه.
• • •
ووقَف الشيخُ يطوف ببصرِه على الحضور، ثم تابع: وأعْرِض الآن أقوالاً فقهيَّة، غرفًا مِن بحور الفقهاء، بل مِن محيطاتهم حسبَ ما مَنَّ المولى عليَّ مِن السباحة على شواطئهم، وهي دُرَر من أصدافهم الجميلة:
• فمسألة اختيار الزوج مثلاً مشهورة، وتفاصيل الفُقهاء - ومنها الكفاءة - معلومة، وأَزيدكم لمعةً مِن تقدير الفقهاء للمرأة، فلقدْ قال الجمهورُ: إنَّ مَن طلَّق امرأة قبل الدخول بها، فإنْ رغِبَ بها ثانية، فهو محتاجٌ لعقْد ومهْر جديدين، وليس له مراجعتها، واستثنَى الحنابلةُ أنَّ له مراجعتَها، إذا توفَّر له خُلوةٌ شرعيَّة وإنْ لم يدخلْ بها، فلو كانتِ المرأة رخيصةً بنظرهم لمَا حافظوا على كرامتها بتقدُّم الخاطبِ مِن جديد، ولو أنَّ رجلاً عقَد على امرأةٍ، وقَبْل أن يدخل بها أهْدَى لها هدايا، ثم فسَخ العقد، فعندَ الشافعية والحنابلة ليس له الرجوعُ في شيء ممَّا أهداه، سواءً كان موجودًا أو هالكًا؛ لأنَّ الهدية حُكمها حُكم الهِبة.
وتقرأ العجبَ عنِ النَّفَقة، والحَضانة، والعِدَّة...إلخ، بل إنَّ صاحبَ أبي حنيفة أبا يوسف قال عنِ المرأة ذات المكانة الاجتماعية: "ويُقرَّر لها خادمان يقومانِ على شؤونها، خادم داخِلَ المنزل، وآخر لحاجاتها خارجَ المنزل"، وحتَّى العناية بالأطفال موضِع شَدٍّ وجذْب بين الفقهاء، نقل صاحبُ "الفتح" ابن حجر، عن الفِقيه ابن بطَّال قوله: "وعون المرأةِ زَوْجَها في ولده ليس بواجبٍ عليها، وإنَّما هو مِن جميل العِشْرة، ومِن شِيمة صالحات النِّساء"؛ "فتح الباري" عند شرْح الحديث رقم (5052).
• ونأتي لقضيةِ التعدُّد، وهي مسألةٌ شرعيَّة، للفقهاء أقوالٌ فيها مِن حيث تحقيقُ المناط، والحنابلة اعتبروا أنَّ تحقيقَ مناط العدل أقربُ للواحدة منه إلى التعدُّد.
والقِوامة ميزةٌ أُعطيتْ للرجل بشروط، ليس ثَمَّة مجال هنا للتفاصيل، وأُشير بلمعة مِن فقهاء الأندلس، فقد قال أبو حيَّان في "تفسير المحيط": "الرجال قوَّامون على النساء، إنْ كانوا رجالاً؛ أي: تحقَّقوا بصفاتِ الرجولة".
وللسوسي (فقيه مالكي مغربي)، وصفٌ تَعْجبون منه، وطَّأ الشيخ فيه لحقِّ للمرأة توطئةً لم تصِلْ إليها أرْقَى الدول مدنيَّة، أقرأ لكم الوصف، ومِن ثَمَّ الحُكم: "فهذه المرأة الإلغية - منطقة في المغرِب - ككلِّ نِساء تلك النواحي، هي التي تقومُ بشؤون بيتها، فتظلُّ نهارَها في الأعمال المترتِّبة على أوقات اليوم، تقوم سَحَرًا لتطحن، ثم تُسخِّن ماءَ الوضوء مع الفجْر، ثم تحلب البقرة، ثم تَسقي مِن البئر بالقُلَّة على ظهرها، ثم إنْ أرادت أن تحطب فإنَّها تبكِّر، ولا تطلع الشمس عليها إلا وهي وراءَ روابي إلغ، ثم لا تكاد تدخُل الدار حتى تُهيِّئ الغَداء،...، وترضع ولدها"، وختَم الفتوى بحقِّ المرأة بالسعاية في بيتِ زوْجِها، وبنصيب خاصٍّ مِن التركة قبلَ توزيع الإرث[4].
ومِن قبله فتوى ابن عرضون المالكي تَبِعتْها فتاوى أخرى، وأطلق بعضٌ منهم على حقِّها في العوض عن خِدمة البيت، تسمية حِرْفة اليد، ومِن مسائل عمل المرأة، يُفتي ابن النُّجَيم الحنفي في "الأشباه والنظائر": "وقد تحتاج البلادُ إلى جهودٍ نِسائية خاصَّة، أو أنهنَّ أحسن أداءً، فلا يُترك الكلُّ لمصلحة الجزء، فهذه مصلحةٌ عامَّة، مقابلَ مصلحة خاصَّة، وهي مصلحة الأزواج فقط"، وهو يتكلَّم عن زمانِه في القرن العاشِر الهِجري، فما بالُكم الآن؟!
وفي "فتح الباري" عندَ شرح حديث الإمام البخاري عن الربيع بنت مُعوِّذ وخروجها لمداواةِ الجرْحَى، علَّق ابنُ حجر "جواز معالجةِ المرأةِ الأجنبية الرجلَ الأجنبي للضرورة"، والحنابلة نصُّوا على جوازِ خروج المرأة للتمريضِ، وعمَل الداية - توليد المرأة.
ومِن المراعاة الفِقهيَّة، في مسألة استخدامِ الحرير، وهو مُحرَّم على الرِّجال اتفاقًا، وحلال على النِّساء، "...أنَّ الرجل يجوز له افتراشُ الحرير تبعًا لزوجِه، ولا يفترشه استقلالاً، بل ذَهَبوا إلى أنَّ الرجل لا يَدخُل فراشَ الحرير إلا بعدَ أن تدخُل زوجُه، ولا يبقَى فيه بعدها، وهو ما ذَهَب إليه ابنُ العربي"[5].
• وفي العقوبات، الكلُّ يعلم أنَّ عقوبة الزاني غيرِ المحصَن مائة جَلْدة مع التغريب، وعندَ المالكية حُكْم به تخفيفٌ عن المرأة الزانية غير المحصَنة، تقول المالكية: "لكن التغريب لا يَجِب على الزانية غير المحصَنة؛ لأنَّ نفيَها ربما صار سببًا لتعرُّضِها للفساد، وقد قال المالكيةُ بأنَّ المرأة لا تُغرَّب حتى لو رضِيَتْ، وحتى لو رافَقها ذو مَحْرَم؛ حفاظًا على شرَفِها"[6].
ولمُطَّلعٍ على فتاوى الفقهاء أن يَعْجب مِن صنيعِ الإمام البخاري، في بابِ الصلاة، حيث لم يصحَّ عندَه صفةٌ لجلوسِ المرأة في الصلاة، إلا قوله" كانتْ أمُّ الدرداء - الصُّغْرى - تَجْلِس جِلْسة الرجل، ثم أرْدَف: وكانتْ فقيهة.
• وفي باب الحج نجد مزيدًا مِنَ العناية، ممَّا حدَا بالإمام البخاري - والذي أجمع العلماءُ أنَّ فِقهه في صحيحه يكْمُن في العنوانات - أنْ خصَّص بابًا بعنوان "باب استحباب تقديم الضَّعَفة من النساء"، وفي طبقات الحنابلة لابن الفرَّاء، في ترجمة الفقيه يوسف بن موسى بن راشد القطان الكوفي، قال: نقَل عن الإمام أحمد بن حنبل: "إذا أراد الرجلُ أن يحجَّ عن أبويه يبدأ بالأمِّ".
والأم لها مكانةٌ شرعيَّة خاصَّة، شرَع لها الفقهاء استنباطًا ما لم تعلمْه كثيرٌ مِن النساء، يقول القاضي عِياض في كتابه "ترتيب المدارك"، عند ترجمةِ ابن حيَّان: "كان فقيهًا فاضلاً مقتديًا بالسَّلَف، وكان موصوفًا ببرِّ والدته، حتى إنَّه أسخط أباه بإرضائها، لما وكلتْه بمخاصمةٍ في حقوق ادعتْها بعد فراقِها ... ثم يكمل القاضي عياض: ووردتْ هذه المسألة في فتوى أُخرى للإمامِ أبي بكر الطرطوشي، فأشار عليه بأنْ يُطيعَ أمَّه؛ مراعاةً أنَّ مبرَّة الأم آكدُ؛ للحديثِ الوارد في ذلك"، والعرَب تفْخَر نسبًا بالأب، إلا أنَّ الفقيه المغربي المراكشي له رأيٌ آخر، فألَّف كتابًا أسماه "إسْماع الصُّم في إثبات الشَّرَف من قِبل الأم ".
• أمَّا قضية الشهادة وما يُحاول بعضُ مريضي النفوس استغلالَها، وهو موضوعٌ أُشبِع بحثًا، فإنَّ فريقًا من الفقهاء يَرْونها في الشؤون المالية حصرًا، وإنَّ الإمام الفقيه ابن القيم وشيخَه الفقيه المجتهد ابن تيمية - رحمهما الله - لهما بحثٌ رائع فيها، وللمرأةِ خمس شهادات في الشريعة لا تُقبل فيها شهادةُ الرجل، مهما علاَ كعْبُه في العدل، وهي: (الولادة، والرَّضاع، وعيوب ما تحتَ الثوب للمرأة، وانقضاء العِدَّة، واستهلال الصبي)، والفقيه العلاَّمة ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية" بوَّب بابًا بعنوان "شهادة النساء منفردات"، وجوَّز الإمامُ أحمد شهادةَ النِّساء منفرداتٍ فيما لو كان الحادثُ وقَع في مجاميعِ النساء، مثل الحمامات، ومِن شهادتها المأخوذ بها: رؤية هلال رمضان، يقول الشيخ الفقيه ابن عثمين - رحمه الله - في "الشرح الممتع على زاد المستقنع" بعد أن تَكلَّم عن شهادة المرأة في رؤية الهلال: "ودليل المذهب أنَّ هذا خبرٌ دِيني يستوي فيه الذُّكورُ والإناث، كما تستوي الذكورُ والإناث في الرواية" (6/ 326).
وقبل أنْ أختمَ هذه الفِقرة، لا بدَّ مِن ذكر الإمام الفقيه ابن حزم، كما وصَل إليه استقراءُ الكتاني حيث قال: "وما مِن مسألة اختلف فيها الفقهاءُ بين مُشدِّد على المرأةِ وميسِّر، إلا كان ابنُ حزم يسلُك سبيلَ التيسير، وعندَه المرأةُ كالرجل إلا ما خصَّه الدليل".
• وممَّا يُثار حوله نقْعُ الشكوك قضيةُ الميراث، ولا يُمكِن بسْطُ القول حولَ الميراث؛ لأنَّه يأخذ وقتًا طويلاً في شرْح الأسس، وتفريع المسائل، وقد كفانا الشيخُ الفقيه المغربي مصطفى بنحمزة - أمْتَع الله به - مؤونةَ ذلك، عندما أشار في كتابه "كرامة المرأة في التشريع الإسلامي": أنَّ نِسبة ما يحصُل عليه الرجل أكثر مِن المرأة لا يتعدَّى 16.34% من مجموعِ قضايا الميراث، والباقي، إمَّا المساواة، أو أن تأخذَ المرأةُ أكثرَ من الرجل.
• ويُثار أيضًا استخدام كلمة ناشِز، كاصطِلاح فقهي يَحُدُّ مِن حرية المرأة، وكلمة ناشز كلمةٌ قرآنية استُخدِمت للجنسين، وارجعوا إلى الآيات في سورة النساء (34)، و(128).
• ومسألةُ تأديبِ الرجل لزوجِه، نصَّ الفقهاء أنَّ الضرب مِن المباح، وترْكه عندَ الجمهور أوْلى؛ إعمالاً للمقاصد في الآية (23) من سورة النساء، ولا يجوز الضربُ عندَ الجمهور مِن أوَّل نشوز، بل عندَ تَكْرار النشوز، وعدم جدْوَى العِظَة والهَجْر، ويستدلُّ على ذلك ممَّا علق به الإمام الفقيهُ شارحُ البخاري في "الفتح"، عندَ كلامه على باب البخاري "باب ما يُكْرَه من ضرْب النساء"، قال ابن حجر: "فيه إشارةٌ إلى أنَّ الضرب لا يُباح مطلقًا، بل فيه ما يُكرَه تنزيهًا وتحريمًا"؛ "فتح الباري" (11/639)، ونقل الفقيهُ المالكي ابنُ العربي في "أحكام القرآن" " قال عطاء - وهو مِن فقهاء التابعين -: لا يَضرِبُها وإنْ أمرَها ونهاها فلم تطعْه، ولكن يغضَب عليها"، وعلَّق ابن العربي بقوله: وهذا مِن فِقه عطاء.
ويُحذِّر الفقيهُ ابن عرفة، كما في "حاشية الدسوقي": "ولا يجوز الضَّرْبُ المبرح ولو عَلِم الزوج أنَّها لن تتركَ النشوز، فإنْ وقَع فلها التطليقُ عليه، والقصاص".
• • •
سكَت الشيخُ بُرهةً ونظَر لساعته، ثم قال: يبدو أنَّ الوقت سرقَنا كما يقال، وأنا أعلمُ أنَّ بعضًا منكم يقطن في مناطقَ بعيدة، فأريد أن أختمَ بقول شيخ الفِقه المقارن المعاصر، الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي - أمتع الله به - في بحْثٍ شارَكَ فيه بندوة أُقيمتْ في مجمع علماء الشريعة في أمريكا، والبحث منشورٌ على موقعهم، قال فيه: "ولا بدَّ مِن التنويه مسبقًا بأنَّ معظمَ أحكام الشريعة الغرَّاء، يشترك فيها الرجالُ والنساء معًا بالتساوي، وهذا يصل إلى 90% من العقيدةِ والفِقه والأخلاق، ثم يأتي الاختلافُ بينهما في 10%، لتأخذَ المرأة 5% فيما يختصُّ بها، ويأخذ الرجل 5% ما يخصُّه، وهذا الاختصاصُ نبَع أصلاً مِنَ الاختلاف الفطري".
[1] الفكر الإسلامي وتربية المرأة في القرن التاسع عشر، د. محروس موسى.
[2] نساء شهيرات من نجد، د دلال الحربي.
[3] المجموع شرح المهذب للنووي.
[4] المعسول، للسوسي (1/58).
[5] مواهب الجليل للحطاب (1/ 505).
[6] منح الجليل للشيخ عليش (6/262).
فبَعْدَ أن قطع الإعجازُ العلمي بحقائقه أيَّ مدخل للتلبيس، أخذتِ الشياطين تتْلو على مَلَكةِ الفِقه الإسلامي صِيغَ الشكوك والتمريض، فمتى ما تمَّ الطعن في الفقهاء، ضلَّ الناس أمامَ النصوص، وتاهوا في البرْزخ بين الظني والقطعي، ونظَرَ الناس لتراث الأمَّة بعين الريب، فيُصبح الناس ويُمسون في بناءٍ معرفي لا يكاد يرتفع حتى يُهدَم.
ولم يألُ الدعاةُ جهدًا في الذودِ عن حِياض الشريعة الغرَّاء، كما أنَّ الدعوة في الغرْب تُعالِج أعراضًا وأمراضًا ذاتية مِن داخل جسَد الأمَّة، ومِن تلوُّث البيئة الغربية.
أحَد المراكز الإسلاميَّة وجَّه دعوة لمربٍّ فاضل تَمرَّس في العمل الدعوي غربًا؛ ليحاضرَ عن مكانة المرأة في الإسلام، الموضوع الذي لاكتْه ألْسنُ شياطين الأنس قبل الجان، حتى مجَّه السمع، وعادةً ما يُوضع بريد إلكتروني لمَن يُريد أن يفضي بسؤال، أو مداخلة...إلخ.
وفي قاعة المحاضرات المخصَّصة، والتي هي بجوار المركز، حيث يُتاح الدخول للحائِض، وغير الملتزم، والمحب للاطِّلاع ممَّن هم على مِلَّة أخرى، أزِفُ الموعد، فدخَل شيخٌ في العقد الخامِس من العمر، تَزيد ابتسامتُه من إشراقِ وجهه، وجلس إلى جوارِه مُقدِّم الحفل، الذي بدأ بالتعريف بالشيخ، وعنوان المحاضرة، ثُمَّ أعطى الكلمةَ له، فقال بعدَ الحمد والصلاة على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والترحيب بالحضور، وشُكْر الإدارة على إتاحةِ الفرصة:
عكفتُ ليلةَ أمس على قراءةِ ما وصَلَني منكم عبرَ البريد الإلكتروني، كانت أسئلة، وطلب إضاءات، وعرْض أراجيف وشُبهات، فأسهرتُ ليلي في تبويبِ كلِّ ذلك، وخلصتُ إلى نتيجةٍ مفادُها: أنَّ الأعداء يتَّكِئون على الطعن من جِهة الفقهاء، في أنهم - أي: الفقهاء - بفَهْمهم البشري غمَطوا حقوقًا للمرأة، حتى الْتاثَ الأمرُ على مَن ليس له حظٌّ وافِر مِن العلم، فاستخرتُ المولى، بعدَما أيقظت رأيي، وأسهرتُ قلمي، وعجمتُ ما قيل ويقال، فقرَّرتُ أن أذُبَّ الليلة عن عِرْض سادتنا الفقهاء، تاركًا بعضَ الأسئلة - إن لم يُسعفِ الوقت - لإمام المركز.
وسأقصر الحديث على نُقولاتٍ مِن كلام سادتِنا الفقهاء، تلك الثُّلَّة المسلِمة التي أفْنَتْ ذُبالةَ أعمارها في معالجةِ قضايا الأمَّة.
واستهلال كلامِي بالقول: إنَّ المشكلة بدأتْ منذ قرنين من الزمان، وتحديدًا مع حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798م، وكثير مِن المؤرِّخين للحروب الاستعمارية يحصرون الأسبابَ بالمصالِح المادية، والواقع يُثبت كلَّ يوم البُعد العقدي لعدائنا مع الغَرْب، ثم تسنَّم المهمَّةَ محمد علي باشا وبعوثه للغرْب، ومنهم رفاعة الطهطاوي،....إلخ[1].
والسؤال: لماذا المرأة؟
والجواب: لأنَّ المرأةَ قاعدةُ الأُسْرة، والأُسْرة نواةُ المجتمع، وفَهْمُكم كفاية.
وكثيرًا ما روَّج الناسُ أنَّ الفقه ذكوري، وأنَّ التأنيث منقصة، ومسألة التأنيث لم يُكتب فيها - برأيي المتواضِع - أجمل مِن عبارات خطَّها فقيه حنفي هو ابنُ عبدالسلام أبو المكارم الفقيه الواعظ (وردتْ ترجمته في طبقات الحنفية للغزنوي)، حيث يقول عن التأنيث:
• العين تُؤنَّث وبها يُتوصَّل إلى الحقائق.
• والأذن تُؤنَّث وبها يُتوصَّل إلى الدقائق.
• واليد تُؤنَّث وهي المتصدية لتحبيرِ الإنشاء.
• والفِرْدوس تُؤنَّث... وبها وُعِدَ الأخيار الأبرار.
أمَّا قضيةُ ناقصات عقل، فلعَمْرُ الله إنَّها لفِرية قتَلها دعاتنا ردًّا، أمَّا ردُّ العبد الضعيف، فهو حال الفُقهاء لا كلامهم الذي اجْتُزِئ بعض منه للطعن، فكم مِن شيخ فقيه طلاَّع ثنايا المعقول والمنقول، تلقَّى العِلم ممَّن يزعمون أنهنَّ ناقصات عقل، وهل مِن المنطق أن يفخر عالِمٌ بلغ مرتبةَ الاجتهاد أنَّ مَن لقَّنه العلم، حتى عدَّه مِن سلسلة سنده، ناقِصة عقل؟!
"ورَدَ في ترجمة الإمام الزهري، قال: قال لي القاسمُ بن محمد - تابعي مِن فُقهاء المدينة السَّبْعة - يا غلامُ، أراك تحرِص على طلب العلم، أفلا أدلُّك على وعائه؟ قال - الزهري -: قلتُ: بلَى، قال: عليك بعَمْرة بنت عبدالرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية، فإنَّها كانت في حجْرِ عائشةَ - رضي الله عنها - قال الزهري: فأتيتُها فوجدتُها بحرًا لا يُنْزَف"، وانظروا إنْ شِئتم مدْحَ الحافِظ والفقيه ابن حجر صاحِب "الفتح" لأخته ستِّ الرَّكْب، ومدْح الفَقيه العلاَّمة الموسوعي ابن القيِّم لشيخاته، والفقيه المحدِّث المفسِّر ابن كثير، لشيخاته كذلك - رحمهم الله جميعًا.... إلخ، بل حتَّى مَن يُوصَمون ظلمًا بالتعصُّب، ويُومَأ إليهم حتى للأسف من بعض الإسلاميِّين بالتشدُّد، كانوا فُقهاء أعطوا للمرأةِ مَكانةً عزَّ نظيرُها في مجتمعهم.
هل تَعلمون أنَّ بنتَ الشيخ العلامة المجدِّد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - فاطمة كانتْ تقوم بتدريس النِّساء والرجال [وإذا كان تدريسُها للنساء متوقعًا ومعروفًا، فإنَّ تدريسها للرجال كذلك، نستدلُّ عليه ممَّا يُروَى أنها كانتْ تجلس لطلاَّب العلم، وتجعل بينهم وبينها سُترةً أثناءَ التدريس][2].
والفُتيا والقضاء، بينهما اشتراكٌ وافتراقٌ عندَ الفقهاء، وإنْ كان القضاء مِن الولايات العامَّة، وللعلماء فيه آراء، كالحنفيَّة الذين أجازوا للمرأةِ جزءًا من القضاء، وابن حزْم في المحلَّى (8/528) يُجيز إسناد القضاءِ مطلقًا للمرأة، والفقهاء مُجْمِعون على جواز الإفتاء للمرأة، وقد ناقَش ابنُ القيم الجوزية المسألةَ بشكل وافٍ في سِفْره الرائع "إعلام الموقعين".
وأنقُل لكم مِن كلامِ الإمام النووي الشافعي قولَه عن شروط المفتي: "كونه مُكلَّفًا، مسلمًا، ثِقة، مأمونًا، متنزهًا من أسباب الفسق وخوارم المروءة، فقيه النَّفْس، سواء فيه الرجل والمرأة"[3].
وترْجَم الحافظُ الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" لأَمَة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل، فقال: كانتْ تُفْتي مع أبي عليِّ بن أبي هُريرَة، وكانت من أحفظِ الناس للفِقه.
• • •
ووقَف الشيخُ يطوف ببصرِه على الحضور، ثم تابع: وأعْرِض الآن أقوالاً فقهيَّة، غرفًا مِن بحور الفقهاء، بل مِن محيطاتهم حسبَ ما مَنَّ المولى عليَّ مِن السباحة على شواطئهم، وهي دُرَر من أصدافهم الجميلة:
• فمسألة اختيار الزوج مثلاً مشهورة، وتفاصيل الفُقهاء - ومنها الكفاءة - معلومة، وأَزيدكم لمعةً مِن تقدير الفقهاء للمرأة، فلقدْ قال الجمهورُ: إنَّ مَن طلَّق امرأة قبل الدخول بها، فإنْ رغِبَ بها ثانية، فهو محتاجٌ لعقْد ومهْر جديدين، وليس له مراجعتها، واستثنَى الحنابلةُ أنَّ له مراجعتَها، إذا توفَّر له خُلوةٌ شرعيَّة وإنْ لم يدخلْ بها، فلو كانتِ المرأة رخيصةً بنظرهم لمَا حافظوا على كرامتها بتقدُّم الخاطبِ مِن جديد، ولو أنَّ رجلاً عقَد على امرأةٍ، وقَبْل أن يدخل بها أهْدَى لها هدايا، ثم فسَخ العقد، فعندَ الشافعية والحنابلة ليس له الرجوعُ في شيء ممَّا أهداه، سواءً كان موجودًا أو هالكًا؛ لأنَّ الهدية حُكمها حُكم الهِبة.
وتقرأ العجبَ عنِ النَّفَقة، والحَضانة، والعِدَّة...إلخ، بل إنَّ صاحبَ أبي حنيفة أبا يوسف قال عنِ المرأة ذات المكانة الاجتماعية: "ويُقرَّر لها خادمان يقومانِ على شؤونها، خادم داخِلَ المنزل، وآخر لحاجاتها خارجَ المنزل"، وحتَّى العناية بالأطفال موضِع شَدٍّ وجذْب بين الفقهاء، نقل صاحبُ "الفتح" ابن حجر، عن الفِقيه ابن بطَّال قوله: "وعون المرأةِ زَوْجَها في ولده ليس بواجبٍ عليها، وإنَّما هو مِن جميل العِشْرة، ومِن شِيمة صالحات النِّساء"؛ "فتح الباري" عند شرْح الحديث رقم (5052).
• ونأتي لقضيةِ التعدُّد، وهي مسألةٌ شرعيَّة، للفقهاء أقوالٌ فيها مِن حيث تحقيقُ المناط، والحنابلة اعتبروا أنَّ تحقيقَ مناط العدل أقربُ للواحدة منه إلى التعدُّد.
والقِوامة ميزةٌ أُعطيتْ للرجل بشروط، ليس ثَمَّة مجال هنا للتفاصيل، وأُشير بلمعة مِن فقهاء الأندلس، فقد قال أبو حيَّان في "تفسير المحيط": "الرجال قوَّامون على النساء، إنْ كانوا رجالاً؛ أي: تحقَّقوا بصفاتِ الرجولة".
وللسوسي (فقيه مالكي مغربي)، وصفٌ تَعْجبون منه، وطَّأ الشيخ فيه لحقِّ للمرأة توطئةً لم تصِلْ إليها أرْقَى الدول مدنيَّة، أقرأ لكم الوصف، ومِن ثَمَّ الحُكم: "فهذه المرأة الإلغية - منطقة في المغرِب - ككلِّ نِساء تلك النواحي، هي التي تقومُ بشؤون بيتها، فتظلُّ نهارَها في الأعمال المترتِّبة على أوقات اليوم، تقوم سَحَرًا لتطحن، ثم تُسخِّن ماءَ الوضوء مع الفجْر، ثم تحلب البقرة، ثم تَسقي مِن البئر بالقُلَّة على ظهرها، ثم إنْ أرادت أن تحطب فإنَّها تبكِّر، ولا تطلع الشمس عليها إلا وهي وراءَ روابي إلغ، ثم لا تكاد تدخُل الدار حتى تُهيِّئ الغَداء،...، وترضع ولدها"، وختَم الفتوى بحقِّ المرأة بالسعاية في بيتِ زوْجِها، وبنصيب خاصٍّ مِن التركة قبلَ توزيع الإرث[4].
ومِن قبله فتوى ابن عرضون المالكي تَبِعتْها فتاوى أخرى، وأطلق بعضٌ منهم على حقِّها في العوض عن خِدمة البيت، تسمية حِرْفة اليد، ومِن مسائل عمل المرأة، يُفتي ابن النُّجَيم الحنفي في "الأشباه والنظائر": "وقد تحتاج البلادُ إلى جهودٍ نِسائية خاصَّة، أو أنهنَّ أحسن أداءً، فلا يُترك الكلُّ لمصلحة الجزء، فهذه مصلحةٌ عامَّة، مقابلَ مصلحة خاصَّة، وهي مصلحة الأزواج فقط"، وهو يتكلَّم عن زمانِه في القرن العاشِر الهِجري، فما بالُكم الآن؟!
وفي "فتح الباري" عندَ شرح حديث الإمام البخاري عن الربيع بنت مُعوِّذ وخروجها لمداواةِ الجرْحَى، علَّق ابنُ حجر "جواز معالجةِ المرأةِ الأجنبية الرجلَ الأجنبي للضرورة"، والحنابلة نصُّوا على جوازِ خروج المرأة للتمريضِ، وعمَل الداية - توليد المرأة.
ومِن المراعاة الفِقهيَّة، في مسألة استخدامِ الحرير، وهو مُحرَّم على الرِّجال اتفاقًا، وحلال على النِّساء، "...أنَّ الرجل يجوز له افتراشُ الحرير تبعًا لزوجِه، ولا يفترشه استقلالاً، بل ذَهَبوا إلى أنَّ الرجل لا يَدخُل فراشَ الحرير إلا بعدَ أن تدخُل زوجُه، ولا يبقَى فيه بعدها، وهو ما ذَهَب إليه ابنُ العربي"[5].
• وفي العقوبات، الكلُّ يعلم أنَّ عقوبة الزاني غيرِ المحصَن مائة جَلْدة مع التغريب، وعندَ المالكية حُكْم به تخفيفٌ عن المرأة الزانية غير المحصَنة، تقول المالكية: "لكن التغريب لا يَجِب على الزانية غير المحصَنة؛ لأنَّ نفيَها ربما صار سببًا لتعرُّضِها للفساد، وقد قال المالكيةُ بأنَّ المرأة لا تُغرَّب حتى لو رضِيَتْ، وحتى لو رافَقها ذو مَحْرَم؛ حفاظًا على شرَفِها"[6].
ولمُطَّلعٍ على فتاوى الفقهاء أن يَعْجب مِن صنيعِ الإمام البخاري، في بابِ الصلاة، حيث لم يصحَّ عندَه صفةٌ لجلوسِ المرأة في الصلاة، إلا قوله" كانتْ أمُّ الدرداء - الصُّغْرى - تَجْلِس جِلْسة الرجل، ثم أرْدَف: وكانتْ فقيهة.
• وفي باب الحج نجد مزيدًا مِنَ العناية، ممَّا حدَا بالإمام البخاري - والذي أجمع العلماءُ أنَّ فِقهه في صحيحه يكْمُن في العنوانات - أنْ خصَّص بابًا بعنوان "باب استحباب تقديم الضَّعَفة من النساء"، وفي طبقات الحنابلة لابن الفرَّاء، في ترجمة الفقيه يوسف بن موسى بن راشد القطان الكوفي، قال: نقَل عن الإمام أحمد بن حنبل: "إذا أراد الرجلُ أن يحجَّ عن أبويه يبدأ بالأمِّ".
والأم لها مكانةٌ شرعيَّة خاصَّة، شرَع لها الفقهاء استنباطًا ما لم تعلمْه كثيرٌ مِن النساء، يقول القاضي عِياض في كتابه "ترتيب المدارك"، عند ترجمةِ ابن حيَّان: "كان فقيهًا فاضلاً مقتديًا بالسَّلَف، وكان موصوفًا ببرِّ والدته، حتى إنَّه أسخط أباه بإرضائها، لما وكلتْه بمخاصمةٍ في حقوق ادعتْها بعد فراقِها ... ثم يكمل القاضي عياض: ووردتْ هذه المسألة في فتوى أُخرى للإمامِ أبي بكر الطرطوشي، فأشار عليه بأنْ يُطيعَ أمَّه؛ مراعاةً أنَّ مبرَّة الأم آكدُ؛ للحديثِ الوارد في ذلك"، والعرَب تفْخَر نسبًا بالأب، إلا أنَّ الفقيه المغربي المراكشي له رأيٌ آخر، فألَّف كتابًا أسماه "إسْماع الصُّم في إثبات الشَّرَف من قِبل الأم ".
• أمَّا قضية الشهادة وما يُحاول بعضُ مريضي النفوس استغلالَها، وهو موضوعٌ أُشبِع بحثًا، فإنَّ فريقًا من الفقهاء يَرْونها في الشؤون المالية حصرًا، وإنَّ الإمام الفقيه ابن القيم وشيخَه الفقيه المجتهد ابن تيمية - رحمهما الله - لهما بحثٌ رائع فيها، وللمرأةِ خمس شهادات في الشريعة لا تُقبل فيها شهادةُ الرجل، مهما علاَ كعْبُه في العدل، وهي: (الولادة، والرَّضاع، وعيوب ما تحتَ الثوب للمرأة، وانقضاء العِدَّة، واستهلال الصبي)، والفقيه العلاَّمة ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية" بوَّب بابًا بعنوان "شهادة النساء منفردات"، وجوَّز الإمامُ أحمد شهادةَ النِّساء منفرداتٍ فيما لو كان الحادثُ وقَع في مجاميعِ النساء، مثل الحمامات، ومِن شهادتها المأخوذ بها: رؤية هلال رمضان، يقول الشيخ الفقيه ابن عثمين - رحمه الله - في "الشرح الممتع على زاد المستقنع" بعد أن تَكلَّم عن شهادة المرأة في رؤية الهلال: "ودليل المذهب أنَّ هذا خبرٌ دِيني يستوي فيه الذُّكورُ والإناث، كما تستوي الذكورُ والإناث في الرواية" (6/ 326).
وقبل أنْ أختمَ هذه الفِقرة، لا بدَّ مِن ذكر الإمام الفقيه ابن حزم، كما وصَل إليه استقراءُ الكتاني حيث قال: "وما مِن مسألة اختلف فيها الفقهاءُ بين مُشدِّد على المرأةِ وميسِّر، إلا كان ابنُ حزم يسلُك سبيلَ التيسير، وعندَه المرأةُ كالرجل إلا ما خصَّه الدليل".
• وممَّا يُثار حوله نقْعُ الشكوك قضيةُ الميراث، ولا يُمكِن بسْطُ القول حولَ الميراث؛ لأنَّه يأخذ وقتًا طويلاً في شرْح الأسس، وتفريع المسائل، وقد كفانا الشيخُ الفقيه المغربي مصطفى بنحمزة - أمْتَع الله به - مؤونةَ ذلك، عندما أشار في كتابه "كرامة المرأة في التشريع الإسلامي": أنَّ نِسبة ما يحصُل عليه الرجل أكثر مِن المرأة لا يتعدَّى 16.34% من مجموعِ قضايا الميراث، والباقي، إمَّا المساواة، أو أن تأخذَ المرأةُ أكثرَ من الرجل.
• ويُثار أيضًا استخدام كلمة ناشِز، كاصطِلاح فقهي يَحُدُّ مِن حرية المرأة، وكلمة ناشز كلمةٌ قرآنية استُخدِمت للجنسين، وارجعوا إلى الآيات في سورة النساء (34)، و(128).
• ومسألةُ تأديبِ الرجل لزوجِه، نصَّ الفقهاء أنَّ الضرب مِن المباح، وترْكه عندَ الجمهور أوْلى؛ إعمالاً للمقاصد في الآية (23) من سورة النساء، ولا يجوز الضربُ عندَ الجمهور مِن أوَّل نشوز، بل عندَ تَكْرار النشوز، وعدم جدْوَى العِظَة والهَجْر، ويستدلُّ على ذلك ممَّا علق به الإمام الفقيهُ شارحُ البخاري في "الفتح"، عندَ كلامه على باب البخاري "باب ما يُكْرَه من ضرْب النساء"، قال ابن حجر: "فيه إشارةٌ إلى أنَّ الضرب لا يُباح مطلقًا، بل فيه ما يُكرَه تنزيهًا وتحريمًا"؛ "فتح الباري" (11/639)، ونقل الفقيهُ المالكي ابنُ العربي في "أحكام القرآن" " قال عطاء - وهو مِن فقهاء التابعين -: لا يَضرِبُها وإنْ أمرَها ونهاها فلم تطعْه، ولكن يغضَب عليها"، وعلَّق ابن العربي بقوله: وهذا مِن فِقه عطاء.
ويُحذِّر الفقيهُ ابن عرفة، كما في "حاشية الدسوقي": "ولا يجوز الضَّرْبُ المبرح ولو عَلِم الزوج أنَّها لن تتركَ النشوز، فإنْ وقَع فلها التطليقُ عليه، والقصاص".
• • •
سكَت الشيخُ بُرهةً ونظَر لساعته، ثم قال: يبدو أنَّ الوقت سرقَنا كما يقال، وأنا أعلمُ أنَّ بعضًا منكم يقطن في مناطقَ بعيدة، فأريد أن أختمَ بقول شيخ الفِقه المقارن المعاصر، الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي - أمتع الله به - في بحْثٍ شارَكَ فيه بندوة أُقيمتْ في مجمع علماء الشريعة في أمريكا، والبحث منشورٌ على موقعهم، قال فيه: "ولا بدَّ مِن التنويه مسبقًا بأنَّ معظمَ أحكام الشريعة الغرَّاء، يشترك فيها الرجالُ والنساء معًا بالتساوي، وهذا يصل إلى 90% من العقيدةِ والفِقه والأخلاق، ثم يأتي الاختلافُ بينهما في 10%، لتأخذَ المرأة 5% فيما يختصُّ بها، ويأخذ الرجل 5% ما يخصُّه، وهذا الاختصاصُ نبَع أصلاً مِنَ الاختلاف الفطري".
[1] الفكر الإسلامي وتربية المرأة في القرن التاسع عشر، د. محروس موسى.
[2] نساء شهيرات من نجد، د دلال الحربي.
[3] المجموع شرح المهذب للنووي.
[4] المعسول، للسوسي (1/58).
[5] مواهب الجليل للحطاب (1/ 505).
[6] منح الجليل للشيخ عليش (6/262).