نقوس المهدي
كاتب
أصبح العنف ضد النساء، بسبب شيوعه وانتشاره في مناطق جغرافية ومجتمعات عديدة، ظاهرة عالمية أخذت تستقطب اهتمام العلماء والباحثين وأنصار الحركة النسوية، نظراً لارتباط هذه الظاهرة بقضايا حقوق الإنسان، ولأنها تمس الحريات الشخصية، بل والكرامة الإنسانية للنساء اللواتي يتعرضن للعنف. الأمر الذي حدا بالجهات المعنية إلى تخصيص يوم 25/11 من كل عام، واعتباره يوماً عالمياً لمناهضة كافة أشكال العنف ضد المرأة.
ومنذ اللحظة التي تجاوزت آثارها نطاق العائلة، وأصبح إخفاء نتائجها السلبية متعذراً، كسرت ظاهرة العنف نطاق الصمت، واعتبر أي شكل من أشكال العنف ضد النساء والأطفال داخل المنزل شأناً عاماً. ولم تعد تنفع حالات المكابرة والعناد التي يبذلها المجتمع العربي، شأنه في ذلك شأن بقية المجتمعات الأبوية، في إخفاء الممارسات العنيفة والحوادث المثيرة التي أخذت بالتسرب لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وأصبحت موضوعاً للبحث والنقاش في مختلف تخصصات العلوم الاجتماعية، خصوصاً وأنها استحوذت على اهتمام الرأي العام من خلال التقارير والإحصاءات والدراسات الميدانية التي يقدمها حقوقيون وناشطون اجتماعيون وأطباء وأخصائيون نفسيون من الجنسين.
يترابط ذلك مع ما تواجهه الحضارة الحديثة، بالمقارنة مع مختلف الحضارات السابقة، وبالتوازي مع مجمل ما حققته من فتوحات علمية واكتشافات تكنولوجية وثورات معرفية، من إمكانية تدمير نفسها ذاتياً، من خلال ما أنتجته من أشكال الفناء وأسباب الموت والعنف المعمم التي تمارسها على الحلقات الأضعف من شعوبها وأممها وأفرادها.
ونظراً لصعوبة الإحاطة بهذا العنف الكوني، وخروج ذلك عن طاقتنا وعن ضرورات هذا المقال، فإننا سنكتفي بتركيز الانتباه على مظهر مركزي للعنف برأينا، وهو العنف الرمزي. وذلك من خلال سؤال، لا يستقيم التحليل الذي يلحظ الترابطات الخفية والبنية للمسألة، دون تأمله نقدياً، وهو: هل توصّف صيغ العنف المعروفة من سياسية واقتصادية وأسرية مختلف أشكال الإكراه التي تمارس على المرأة في المجتمع العربي، أم أن هنالك مظاهر وصيغاً أخرى للعنف متخفية ومحروسة جيداً بفعل نظام الخطاب السائد في الثقافة العربية بسمتيه الأساسيتين: الأبوية والرمزية؟
وبما أن الإجابة التي يستدعيها القسم الأول من السؤال تقع في إطار المتفق عليه عموماً، حيث لا أحد ينكر المظاهر العديدة للعنف السياسي الذي طال الرجال والنساء معاً، مثله في ذلك مثل الإكراه الاقتصادي، فإن ما يميز وضعية النساء ويبرز معاناتهن الإضافية، إنما يتمثل في القمع الاجتماعي الناجم عن النظام الأبوي التراتبي من طرف، وفي العنف الرمزي المبثوث بإحكام في أنماط السلوك وصيغ التعبير والقول والتفكير، تلك التي تكفل مجتمعه، وفق توسطات وآليات معقدة، إعادة إنتاج النظام الثقافي والرمزي القار للمجتمع العربي دون أية تغيرات أو انزياحات يُعتد بها في هذا المجال.
وبما أن العنف الرمزي يستهدف الإنسان وثقته بنفسه وهويته وانتماءه، فهو أخطر من العنف المادي المباشر وأعمق أثراً. كونه يأتي وفق صيغ أقرب إلى البداهات التي تمثل الفطرة فيحجب إمكانية تفحصها والتشكيك بها كما أنه يتزيا بثوب المقدس، بوصفه حقلاً يتعدى حدود النقاش، موظفاً الميول الاعتقادية والاستعدادات الإيمانية لخدمة غاياته، وهو أخطر أيضاً، لأنه يدّعي امتلاك الحقيقة ويحتكر حق التعبير عنها والنطق باسمها. علاوة على أنه يوظّف لخدمة وتبرير الممارسات العنيفة الأخرى من سياسية واقتصادية واجتماعية محاولاً تقديمها على أنها من طبيعة الأمور. أما الوظيفة الأبعد للعنف الرمزي؛ فهي تخريب الوعي العفوي والحس السليم، وهما حاضنة تشكّل الوعي النقدي الذي لا غنى عنه لمن أراد إدراك ظاهرة العنف ومواجهتها.
تضمنت المادة الأولى من الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة الصادر عن الأمم المتحدة عام 1993 تعريفاً محدداً للعنف مفاده: "إن العنف هو أي عمل أو تصرف عدائي أو مؤذٍ أو مهين يرتكب بأية وسيلة وبحق أية امرأة لكونها امرأة. ينجم عنه، أو يحتمل أن ينجم عنه، أذى أو معاناة جسدية أو جنسية أو نفسية للمرأة. وذلك من خلال الخداع أو التهديد أو الاستغلال أو التحرش، أو الإكراه والعقاب. بما في ذلك الحرمان التعسفي من الحرية وإنكار أو إهانة كرامتها الإنسانية. ويتراوح بين حد الإهانة بالكلام وصولاً إلى القتل".
وهو يشمل العنف الأسري، ومختلف أشكال التمييز ضد المرأة وحرمانها من حقوقها الإنسانية الأساسية التي تمارس من قبل أفراد وجماعات أو مؤسسات بشكل منظم أو عشوائي وعلى نطاق عالمي.
وفي إطار الحملة العالمية لمناهضة العنف ضد المرأة، يتم التركيز على العنف والتمييز اللذين تتعرض لهما المرأة في الأسرة والمجتمع كالاعتداء بالضرب، والاغتصاب من ذوي القربى، والزواج والحمل بالإكراه، وعدم توفير العناية الكافية للنساء، وصولاً إلى استغلال التراث والمعتقدات لقمع المرأة وجعل التمييز المجتمعي ضدها والنظرة الدونية التي تعانيها طبيعية أو مشروعة، وفي أحسن الحالات غير مستهجنة.
وبينما أصبحت أشكال العنف الأسري معروفة، رغم الاعتقاد الخاطئ بأنها مسائل عائلية ولا يجوز التدخل بها، ورغم التستر على العديد من الحالات، فإن جهود الحركة النسوية كان لها أكبر الأثر في إثارة موضوع العنف ووضعه على جدول أعمال الأمم المتحدة، إضافة إلى المساهمة في استصدار العديد من القرارات والاتفاقيات التي تحمي النساء من مختلف أشكال العنف والتمييز، بما في ذلك من تشريعات وقوانين محلية فضلاً عن إيجاد آليات تضمن تطبيق هذه القوانين. وبينما حدث ذلك بنسبة معقولة من النجاح والفاعلية. وإن اختلفت من مجتمع لآخر ومن منطقة حضارية إلى سواها، بقي الجذر المشترك لكافة صيغ وأنواع العنف السابقة تحت السطح، ولم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه، رغم أنه هو الذي يبرر العنف ويعطيه المشروعية عبر جعله مقبولاً أو مسكوتاً عنه أو غير مرفوض بدرجة كافية، وهو يعود برأينا إلى العنف الرمزي المؤسس له ثقافياً والمثبوت جيداً في مختلف أنساق ومرجعيات الثقافة السائدة. ورغم أهميته الحاسمة اكتفت الحملة العالمية الثالثة لمناهضة العنف بالإشارة إليه بشكل عابر، عندما تحدثت عن استغلال التراث والمعتقدات لقمع المرأة دون إيلائه ما يستحق من عناية بوصفه الأساس الذي تبنى عليه التصورات الذهنية وطرق التفكير ومكونات الشخصية واعتقاداتها وموقفها من المرأة وحقوقها.
تتمثل الأطروحة الأساسية التي نحاول من خلالها تفسير ظاهرة توسع وانتشار العنف الرمزي في العالم بوجود علاقة شراكة وتوافق غير معلن بين النسقين الثقافيين الأكثر سيطرة وانتشاراً اليوم؛ أي ثقافة الصورة والثقافة الأصولية، إذ تتمثل حالة الاستقطاب الثقافي الذي يعيشها العالم المعاصر في كل من ثقافة الصورة المرئية بوصفها تجسيداً لمذهب اللذات الحسية وأداة اقتصاد السوق المعرفية من طرف، والثقافة الأصولية بما تعنيه من نزعة ماضوية ونظام عقيدي يسبغ على عصبيتها واتباعها طابعاً مثالياً غير قابل للتساؤل والنقد من طرف آخر.
وإذا كانت النسوية في جوهرها - فيما نرى - قيامة واعية ضد البطريركية والتمييز الجنسي، فإن من أولى مهامها كشف الآليات التي تنتج بها البنية الثقافية الأبوية خطابها الخاص الذي ما فتئ يحاول الاستيلاء على الحقيقة واللغة، ويصادر إمكانيات الاختلاف من خلال سعيه المتواصل إلى التطابق مع نفسه وشطر الوجود إلى حدين متناقضين الذكورة والأنوثة باعتبارهما ماهيتين متمايزتين على نحو ضدي ودائم، تحوز معه الذكورة خاصية التفاعل والعقل والإيجاب، ولا يبقى للأنوثة، على المحور الآخر، سوى خاصيات الانفعال والطبيعة والسلب. هذا التقسيم الماهوي المعزّز بفيض الرموز الثاوية في نسيج الخطاب الأبوي التقليدي، هو الذي يتولى إعادة إنتاج منظومة وأنساق الثقافة السائدة بقواعدها ومفاهيمها ومطلقاتها النظرية. لهذا، فإن أية دعوة لتحرر المرأة ستكون مجتزأة، إن لم تأخذ التحرر الثقافي والتحوّل في الوعي على مستوى التعبير وفرص الوصول إلى النظام الرمزي بعين الاعتبار. وقد سبق لـ "عبد الله الغذامي" في كتابه "المرأة واللغة" أن بيّن مدى اغتراب المرأة العربية في تاريخ اللغة الذكوري. فقد نجحت الذكورة في تدجين الأنثى لا عن طريق القمع الاجتماعي فحسب، بل عبر استيلائها على اللغة التي أصبحت مثل مختلف جوانب الثقافة الأخرى، منحازة للرجل، حتى حين تستخدمها المرأة الكاتبة.
ودون القيام بهذه المهمة المحورية، أقصد خلخلة نظام إنتاج الرموز المسيطر واستبداله بقواعد ومفاهيم ولغة أكثر رحابة وديمقراطية، ستبقى غالبية الجهود التي تحاول من خلالها الحركة النسوية تحسين مواقعها ضمن النظام السائد هامشية وغير فاعلة. وستسفر في أحسن حالاتها عن تبادلٍ للمواقع بين الجلاد والضحية. وتعزز، ومن حيث لا تريد، البنية التي حاولت هدمها. وسأعرض لتوضيح هذه الفكرة مثالين الأول تراثي من "ألف ليلة وليلة" والثاني معاصر.
فمن المعروف أن شخصية "شهرزاد" تمتلك من الموهبة والذكاء ما مكّنها من تبوؤ مكانة مركزية في عوالم "ألف ليلة وليلة"، وهي من خلال موهبتها كراوية وامرأة حكيمة واسعة المعرفة، استطاعت إنقاذ بنات جنسها من خلال اعتمادها على براعة السرد واستخدامها لمختلف حيل وأحابيل "كيد النساء". لهذا حفلت العديد من القراءات المعاصرة لألف ليلة وليلة بإعجاب شديد بهذه الشخصية، واعتبرها البعض أماً نسوية ومثالاً ريادياً للشخصية النسائية المتكلمة عند الكاتبات المعاصرات.
لكن قراءة مغايرة لحكايا "شهرزاد" تبين أن المرأة الوحيدة المأمونة الجانب، في المجتمع الأبوي، لابدّ أن تكون امرأة متواطئة تنفذ مؤامرات من إنتاج ذكوري. فالتناقض بين مضمون الحكايات المشحونة بكراهية النساء وبين شخصية "شهرزاد" المرأة الطيبة والحبيبة المشتهاة، والراوية التي لا تضاهى، يُحّل عندما تكافئ في النهاية وتصبح ملكة. وسرعان ما تتهم نفسها بنفسها، وتقبل عن دراية أن تكون جزءاً من لعبة إشباع رغبات الذكورة السويّة أو المرضية. ولهذا فشلت كأنثى في تأسيس نظام رمزي غير ذكوري، رغم أنها شاركت في إنتاجه ولعبت دوراً محورياً فيه.
أما المثال المعاصر، فيرتكز على ملاحظة أنه حتى في حال وصول المرأة إلى مواقع القرار في العديد من المجتمعات، فإنها، على الأغلب، لا تعبّر عن وضع وطموح جموع النساء. تقول "دلال البزري": "النساء اللواتي وصلن إلى مراكز القرار لا يغيرن شيئاً جوهرياً، بل ينفذّن سياسة النظم القائمة بانضباط أكبر من الذكور أنفسهم".
أخلص مما سبق، إلى أن العنف الذي يمارس على النساء بمختلف تلاوينه ومصادره، جزء من ظاهرة العنف الكوني الذي يتغذى من الأنساق الثقافية الرئيسة في الحضارة المعاصرة؛ أي الأصولي والليبرالي. وهذا ما يحيل على ضرورة التفكير في إيجاد معالجات وحلول غير آنية تتصل بالتصدي للآليات المولّدة للعنف وكشفها، سواء على صعيد الثقافة أو التربية أو القانون، لأن ذلك يمثل الشرط الأولي لتفكيك البنى الاجتماعية والسلوكيات الموصوفة بالعنيفة. وأحسب أن للنساء دوراً شديد الفاعلية والتأثير في بلورة وإنضاج هذا التوجه، لا باعتبارهن من أبرز ضحايا العنف فحسب، بل بوصفهن قوة المستقبل التي لم تمارس كامل فعالياتها وتأثيراتها بعد.
د. كريم أبو حلاوة
ومنذ اللحظة التي تجاوزت آثارها نطاق العائلة، وأصبح إخفاء نتائجها السلبية متعذراً، كسرت ظاهرة العنف نطاق الصمت، واعتبر أي شكل من أشكال العنف ضد النساء والأطفال داخل المنزل شأناً عاماً. ولم تعد تنفع حالات المكابرة والعناد التي يبذلها المجتمع العربي، شأنه في ذلك شأن بقية المجتمعات الأبوية، في إخفاء الممارسات العنيفة والحوادث المثيرة التي أخذت بالتسرب لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وأصبحت موضوعاً للبحث والنقاش في مختلف تخصصات العلوم الاجتماعية، خصوصاً وأنها استحوذت على اهتمام الرأي العام من خلال التقارير والإحصاءات والدراسات الميدانية التي يقدمها حقوقيون وناشطون اجتماعيون وأطباء وأخصائيون نفسيون من الجنسين.
يترابط ذلك مع ما تواجهه الحضارة الحديثة، بالمقارنة مع مختلف الحضارات السابقة، وبالتوازي مع مجمل ما حققته من فتوحات علمية واكتشافات تكنولوجية وثورات معرفية، من إمكانية تدمير نفسها ذاتياً، من خلال ما أنتجته من أشكال الفناء وأسباب الموت والعنف المعمم التي تمارسها على الحلقات الأضعف من شعوبها وأممها وأفرادها.
ونظراً لصعوبة الإحاطة بهذا العنف الكوني، وخروج ذلك عن طاقتنا وعن ضرورات هذا المقال، فإننا سنكتفي بتركيز الانتباه على مظهر مركزي للعنف برأينا، وهو العنف الرمزي. وذلك من خلال سؤال، لا يستقيم التحليل الذي يلحظ الترابطات الخفية والبنية للمسألة، دون تأمله نقدياً، وهو: هل توصّف صيغ العنف المعروفة من سياسية واقتصادية وأسرية مختلف أشكال الإكراه التي تمارس على المرأة في المجتمع العربي، أم أن هنالك مظاهر وصيغاً أخرى للعنف متخفية ومحروسة جيداً بفعل نظام الخطاب السائد في الثقافة العربية بسمتيه الأساسيتين: الأبوية والرمزية؟
وبما أن الإجابة التي يستدعيها القسم الأول من السؤال تقع في إطار المتفق عليه عموماً، حيث لا أحد ينكر المظاهر العديدة للعنف السياسي الذي طال الرجال والنساء معاً، مثله في ذلك مثل الإكراه الاقتصادي، فإن ما يميز وضعية النساء ويبرز معاناتهن الإضافية، إنما يتمثل في القمع الاجتماعي الناجم عن النظام الأبوي التراتبي من طرف، وفي العنف الرمزي المبثوث بإحكام في أنماط السلوك وصيغ التعبير والقول والتفكير، تلك التي تكفل مجتمعه، وفق توسطات وآليات معقدة، إعادة إنتاج النظام الثقافي والرمزي القار للمجتمع العربي دون أية تغيرات أو انزياحات يُعتد بها في هذا المجال.
وبما أن العنف الرمزي يستهدف الإنسان وثقته بنفسه وهويته وانتماءه، فهو أخطر من العنف المادي المباشر وأعمق أثراً. كونه يأتي وفق صيغ أقرب إلى البداهات التي تمثل الفطرة فيحجب إمكانية تفحصها والتشكيك بها كما أنه يتزيا بثوب المقدس، بوصفه حقلاً يتعدى حدود النقاش، موظفاً الميول الاعتقادية والاستعدادات الإيمانية لخدمة غاياته، وهو أخطر أيضاً، لأنه يدّعي امتلاك الحقيقة ويحتكر حق التعبير عنها والنطق باسمها. علاوة على أنه يوظّف لخدمة وتبرير الممارسات العنيفة الأخرى من سياسية واقتصادية واجتماعية محاولاً تقديمها على أنها من طبيعة الأمور. أما الوظيفة الأبعد للعنف الرمزي؛ فهي تخريب الوعي العفوي والحس السليم، وهما حاضنة تشكّل الوعي النقدي الذي لا غنى عنه لمن أراد إدراك ظاهرة العنف ومواجهتها.
تضمنت المادة الأولى من الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة الصادر عن الأمم المتحدة عام 1993 تعريفاً محدداً للعنف مفاده: "إن العنف هو أي عمل أو تصرف عدائي أو مؤذٍ أو مهين يرتكب بأية وسيلة وبحق أية امرأة لكونها امرأة. ينجم عنه، أو يحتمل أن ينجم عنه، أذى أو معاناة جسدية أو جنسية أو نفسية للمرأة. وذلك من خلال الخداع أو التهديد أو الاستغلال أو التحرش، أو الإكراه والعقاب. بما في ذلك الحرمان التعسفي من الحرية وإنكار أو إهانة كرامتها الإنسانية. ويتراوح بين حد الإهانة بالكلام وصولاً إلى القتل".
وهو يشمل العنف الأسري، ومختلف أشكال التمييز ضد المرأة وحرمانها من حقوقها الإنسانية الأساسية التي تمارس من قبل أفراد وجماعات أو مؤسسات بشكل منظم أو عشوائي وعلى نطاق عالمي.
وفي إطار الحملة العالمية لمناهضة العنف ضد المرأة، يتم التركيز على العنف والتمييز اللذين تتعرض لهما المرأة في الأسرة والمجتمع كالاعتداء بالضرب، والاغتصاب من ذوي القربى، والزواج والحمل بالإكراه، وعدم توفير العناية الكافية للنساء، وصولاً إلى استغلال التراث والمعتقدات لقمع المرأة وجعل التمييز المجتمعي ضدها والنظرة الدونية التي تعانيها طبيعية أو مشروعة، وفي أحسن الحالات غير مستهجنة.
وبينما أصبحت أشكال العنف الأسري معروفة، رغم الاعتقاد الخاطئ بأنها مسائل عائلية ولا يجوز التدخل بها، ورغم التستر على العديد من الحالات، فإن جهود الحركة النسوية كان لها أكبر الأثر في إثارة موضوع العنف ووضعه على جدول أعمال الأمم المتحدة، إضافة إلى المساهمة في استصدار العديد من القرارات والاتفاقيات التي تحمي النساء من مختلف أشكال العنف والتمييز، بما في ذلك من تشريعات وقوانين محلية فضلاً عن إيجاد آليات تضمن تطبيق هذه القوانين. وبينما حدث ذلك بنسبة معقولة من النجاح والفاعلية. وإن اختلفت من مجتمع لآخر ومن منطقة حضارية إلى سواها، بقي الجذر المشترك لكافة صيغ وأنواع العنف السابقة تحت السطح، ولم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه، رغم أنه هو الذي يبرر العنف ويعطيه المشروعية عبر جعله مقبولاً أو مسكوتاً عنه أو غير مرفوض بدرجة كافية، وهو يعود برأينا إلى العنف الرمزي المؤسس له ثقافياً والمثبوت جيداً في مختلف أنساق ومرجعيات الثقافة السائدة. ورغم أهميته الحاسمة اكتفت الحملة العالمية الثالثة لمناهضة العنف بالإشارة إليه بشكل عابر، عندما تحدثت عن استغلال التراث والمعتقدات لقمع المرأة دون إيلائه ما يستحق من عناية بوصفه الأساس الذي تبنى عليه التصورات الذهنية وطرق التفكير ومكونات الشخصية واعتقاداتها وموقفها من المرأة وحقوقها.
تتمثل الأطروحة الأساسية التي نحاول من خلالها تفسير ظاهرة توسع وانتشار العنف الرمزي في العالم بوجود علاقة شراكة وتوافق غير معلن بين النسقين الثقافيين الأكثر سيطرة وانتشاراً اليوم؛ أي ثقافة الصورة والثقافة الأصولية، إذ تتمثل حالة الاستقطاب الثقافي الذي يعيشها العالم المعاصر في كل من ثقافة الصورة المرئية بوصفها تجسيداً لمذهب اللذات الحسية وأداة اقتصاد السوق المعرفية من طرف، والثقافة الأصولية بما تعنيه من نزعة ماضوية ونظام عقيدي يسبغ على عصبيتها واتباعها طابعاً مثالياً غير قابل للتساؤل والنقد من طرف آخر.
وإذا كانت النسوية في جوهرها - فيما نرى - قيامة واعية ضد البطريركية والتمييز الجنسي، فإن من أولى مهامها كشف الآليات التي تنتج بها البنية الثقافية الأبوية خطابها الخاص الذي ما فتئ يحاول الاستيلاء على الحقيقة واللغة، ويصادر إمكانيات الاختلاف من خلال سعيه المتواصل إلى التطابق مع نفسه وشطر الوجود إلى حدين متناقضين الذكورة والأنوثة باعتبارهما ماهيتين متمايزتين على نحو ضدي ودائم، تحوز معه الذكورة خاصية التفاعل والعقل والإيجاب، ولا يبقى للأنوثة، على المحور الآخر، سوى خاصيات الانفعال والطبيعة والسلب. هذا التقسيم الماهوي المعزّز بفيض الرموز الثاوية في نسيج الخطاب الأبوي التقليدي، هو الذي يتولى إعادة إنتاج منظومة وأنساق الثقافة السائدة بقواعدها ومفاهيمها ومطلقاتها النظرية. لهذا، فإن أية دعوة لتحرر المرأة ستكون مجتزأة، إن لم تأخذ التحرر الثقافي والتحوّل في الوعي على مستوى التعبير وفرص الوصول إلى النظام الرمزي بعين الاعتبار. وقد سبق لـ "عبد الله الغذامي" في كتابه "المرأة واللغة" أن بيّن مدى اغتراب المرأة العربية في تاريخ اللغة الذكوري. فقد نجحت الذكورة في تدجين الأنثى لا عن طريق القمع الاجتماعي فحسب، بل عبر استيلائها على اللغة التي أصبحت مثل مختلف جوانب الثقافة الأخرى، منحازة للرجل، حتى حين تستخدمها المرأة الكاتبة.
ودون القيام بهذه المهمة المحورية، أقصد خلخلة نظام إنتاج الرموز المسيطر واستبداله بقواعد ومفاهيم ولغة أكثر رحابة وديمقراطية، ستبقى غالبية الجهود التي تحاول من خلالها الحركة النسوية تحسين مواقعها ضمن النظام السائد هامشية وغير فاعلة. وستسفر في أحسن حالاتها عن تبادلٍ للمواقع بين الجلاد والضحية. وتعزز، ومن حيث لا تريد، البنية التي حاولت هدمها. وسأعرض لتوضيح هذه الفكرة مثالين الأول تراثي من "ألف ليلة وليلة" والثاني معاصر.
فمن المعروف أن شخصية "شهرزاد" تمتلك من الموهبة والذكاء ما مكّنها من تبوؤ مكانة مركزية في عوالم "ألف ليلة وليلة"، وهي من خلال موهبتها كراوية وامرأة حكيمة واسعة المعرفة، استطاعت إنقاذ بنات جنسها من خلال اعتمادها على براعة السرد واستخدامها لمختلف حيل وأحابيل "كيد النساء". لهذا حفلت العديد من القراءات المعاصرة لألف ليلة وليلة بإعجاب شديد بهذه الشخصية، واعتبرها البعض أماً نسوية ومثالاً ريادياً للشخصية النسائية المتكلمة عند الكاتبات المعاصرات.
لكن قراءة مغايرة لحكايا "شهرزاد" تبين أن المرأة الوحيدة المأمونة الجانب، في المجتمع الأبوي، لابدّ أن تكون امرأة متواطئة تنفذ مؤامرات من إنتاج ذكوري. فالتناقض بين مضمون الحكايات المشحونة بكراهية النساء وبين شخصية "شهرزاد" المرأة الطيبة والحبيبة المشتهاة، والراوية التي لا تضاهى، يُحّل عندما تكافئ في النهاية وتصبح ملكة. وسرعان ما تتهم نفسها بنفسها، وتقبل عن دراية أن تكون جزءاً من لعبة إشباع رغبات الذكورة السويّة أو المرضية. ولهذا فشلت كأنثى في تأسيس نظام رمزي غير ذكوري، رغم أنها شاركت في إنتاجه ولعبت دوراً محورياً فيه.
أما المثال المعاصر، فيرتكز على ملاحظة أنه حتى في حال وصول المرأة إلى مواقع القرار في العديد من المجتمعات، فإنها، على الأغلب، لا تعبّر عن وضع وطموح جموع النساء. تقول "دلال البزري": "النساء اللواتي وصلن إلى مراكز القرار لا يغيرن شيئاً جوهرياً، بل ينفذّن سياسة النظم القائمة بانضباط أكبر من الذكور أنفسهم".
أخلص مما سبق، إلى أن العنف الذي يمارس على النساء بمختلف تلاوينه ومصادره، جزء من ظاهرة العنف الكوني الذي يتغذى من الأنساق الثقافية الرئيسة في الحضارة المعاصرة؛ أي الأصولي والليبرالي. وهذا ما يحيل على ضرورة التفكير في إيجاد معالجات وحلول غير آنية تتصل بالتصدي للآليات المولّدة للعنف وكشفها، سواء على صعيد الثقافة أو التربية أو القانون، لأن ذلك يمثل الشرط الأولي لتفكيك البنى الاجتماعية والسلوكيات الموصوفة بالعنيفة. وأحسب أن للنساء دوراً شديد الفاعلية والتأثير في بلورة وإنضاج هذا التوجه، لا باعتبارهن من أبرز ضحايا العنف فحسب، بل بوصفهن قوة المستقبل التي لم تمارس كامل فعالياتها وتأثيراتها بعد.
د. كريم أبو حلاوة