حسني إبراهيم عبد العظيم - مفاهيم سوسيولوجية حديثة.. العنف الرمزي Symbolic violence

9. العنف الرمزي Symbolic violence

يقصد بالعنف بشكل عام الانتهاك البدني bodily violation أو الأذى الذي يقوم به فرد ضد فرد آخر، ويتضمن العنف بهذا المعنى عدة صور منها: الضرب Hitting الجرح wounding الاغتصاب rape التعذيب torture وبالتأكيد القتل killing، ويتميز العنف بالمعنى السابق عن الصور غير العضوية non physical للقوة الاجتماعية social power كالقهر coercion والإرغام force والأيديولوجيا، والضبط الاجتماعي.إن العنف هو التعبير الأكثر تطرفا لعلاقات القوة (Turner 2006:673)

وقد تناولت العلوم الاجتماعية مفهوم العنف من جوانب مختلفة، إذ يعرف سعد المغربي العنف بأنه استجابة تتميز بصيغة انفعالية شديدة تنطوي على انخفاض في مستوى البصيرة والتفكير، ويرى اسنارد Issnarde أن العنف كغيره من أشكال السلوك هو نتاج مأزق علائقي يصيب الشخص ذاته لتدميره، في الوقت نفسه الذي ينصبٌّ على الآخر لإبادته، إذ تشكل العدوانية طريقة معينة للدخول في علاقة مع الآخر. ويذكر سيد عويس تعريفا قريبا مما سبق إذ يذكر أن العنف هو سلوك عدواني، أو هو وليد الشعور بالعداوة قد يوجه ضد الطبيعة، أو يوجه من أفراد إلى أفراد، أو من أفراد إلى جماعات منتظمة، أو من جماعات منتظمة إلى جماعات أخرى منتظمة. أما عبد الرحمن العيسوي فيرى أن العنف هو ممارسة القوة فوق إرادة الناس، إذ يعني ذلك إثارة الفزع والهلع والخوف في الناس. (أنيسة عسوس 164:2008)

وفي إطار التحليل السوسيولوجي المعاصر لظاهرة العنف وتجلياتها المختلفة، صك علماء الاجتماع مفهوما جديدا يجسد صورة للعنف تبدو كامنة أو غير مرئية، ويكشف في ذات الوقت أبعادا جديدة لهذه الظاهرة، وهو مصطلح العنف الرمزي symbolic violence.

ظهر مفهوم العنف الرمزي في كتابات عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو المبكرة بداية من عام 1972 من خلال كتابه "إطار نظرية الممارسة" outline of theory of practice غير أنه في كتاب الهيمنة الذكورية masculine domination الذي أصدره في عام 1990 أسهب في شرح الجوانب التحليلية للمفهوم. (Krais 2006:121) .

يعرِّف بورديو العنف الرمزي بأنه القدرة على فرض دلالات ومعانِ معينة بوصفها دلالات ومعانِ شرعية، وإخفاء علاقات القوة التي تمثل الأساس الذي ترتكز عليه هذه القدرة ، وينطبق المفهوم على أي تكوين اجتماعي يتم إدراكه كنسق للقوة . وتعد التربية بكل تجلياتها : في المنزل ، في العمل ، في المدرسة ، في الإعلام مصدراً للعنف الرمزي (Mander 1987:432).

فالنشاط التربوي حسب ما يرى برديو يمثل موضوعياً نوعاً من العنف الرمزي ، وذلك باعتباره فرضاً من قبل جهة عليا "متعسفة"، حيث تسهم مختلف الأنشطة التربوية في توطيد هيمنة الطبقة المسيطرة ، وتعمل في ذات الوقت على ترسيخ الأنشطة التربوية المطلوبة لمعارفها وخبراتها حيث يحدد النشاط التربوي الغالب قيمتها في السوق الاقتصادية أو الرمزية. ( أشـــــرف عبد الوهاب 120:1999).

ويشرح بورديو مفهوم العنف الرمزي من خلال مثال هام، وهو ما يعرف بالهيمنة الذكورية Masculine domination ، إنه يعتقد أن هذه الهيمنة تمثل شكلاً نموذجياً Paradigmatic Form للعنف الرمزي، ويتسم العنف الرمزي المرتبط بالهيمنة الذكورية – بمعنى ما - بأنه غير مرئي invisible وغير ملحوظ، بحيث يبدو وكأنه جزء من طبيعة الأشياء المستقرة، حتى أن المرأة وهي المضطهدة قد لا تشعر أنها في مرتبة أدنى Inferior من الرجل. (Krais 2006:122).

وقد أفاض بورديو في شرح تلك الفكرة عند حديثه عن التقابل بين الذكورة والأنوثة ، فهو يرى أن الوسيلة في تطبيع Naturalization التقابل بين الذكورة والأنوثة هي إدخال تلك الثنائية في سلسلة من التقابلات التي تعمل على حصر المرأة في مواقع محددة: منزلية ورعوية في مقابل المواقع الذكورية التي تنتشر في الفضاء العام لمجتمع القبائل في الجزائر .(Mcnay 1999:99) .

إن التقابل بين الذكورة والأنوثة يتجسد أو يتحقق في شكل استعمال الجسد أو اتخاذ أوضاع في أشكال من التصرفات والسلوكيات، وفي أشكال من التقابلات: بين المستقيم والمنحني (أو الذي جُعل منحنياً) الرجل يمشي مستقيماً رافعاً رأسه، والمرأة تفرض عليها الحشمة أن تمشي منخفضة الرأس، طريقة الأكل تعبر كذلك عن تقابل بين الجنسين ، وبشكل خاص طريقة استخدام الفم ؛ الرجل يأكل بملء فمه ويفتحه بشكل واسع ، في حين تأكل المرأة بشكل مخالف بنهاية الفم وكأنها لا تأكل ، كما تتجلى التقابلات في طريقة استقبال الناس: الرجل ينظر مباشرة وجهاً لوجه لمن يستقبله، في حين لا تستخدم المرأة نفس الحركات، بل تنظر بمواربة بنوع من الخجل والانحناء .إنها خصائص فيزيقية ترتبط بها صفات أخلاقية متقابلة : الصرامة والاستقامة والصراحة بالنسبة للرجل ، والاحتشام والرقة والانعزال بالنسبة للمرأة. (زينب المعادي 28:2004) .

إن الجسد هنا يعبر عن عالمين متناقضين: عالم الأنوثة الذي يتضمن فضائل نسوية feminine virtue كالحياء ، والاحتشام ، والتحفظ ، والتخفي ، إنها فضائل توجه الجسد الأنثوي إلى الأسفل ، نحو الأرض ، نحو الداخل ، إلى المنزل ، أما عالم الذكورة فيتضمن مزايا مغايرة تماماً ، الحركة نحو الأعلى ، نحو الخارج ، إلى العوالم الأخرى. (Covington 2008:7) .

إن علاقة الرجال والنساء / الذكورة والأنوثة تعكس نوعين من العلاقات مع العالم ، ومع الآخر ، ومع الزمن، ونسقين متقابلين من القيم، فالأخلاق أو"البناء الاجتماعي للجسد" يطبع جسد المرأة بالانحناء ، ويجعل جسد الرجل مستقيماً لأعلى ، إن هذه التقابلات تستمد رمزيتها من حيث كونها تترجم إلى حركات تبدو تلقائية وكأنها تعبر عن طبيعة الأشياء ، فالتشكيل الاجتماعي لخصائص الجسد وحركاته هو في نفس الوقت إضفاء صفة الطبيعي على الاختيارات الاجتماعية الأكثر عمقاً. (زينب المعادي28:2004)

ويستند بورديو إلى مفهوم العنف الرمزي لتعميق فكرة تطبيع الفوارق بين الجنسين _ أي إظهار تلك الفوارق وكأنها فوارق حتمية تحددها طبيعة الأشياء، فالعنف الرمزي المرتبط بالجسد هو شكل من السلطة يمارس على الجسد بطريقة مباشرة، وكأنه يملك مفعولاً سحريا، إذ أن تلك السلطة تتم خارج كل "إكراه"، إلا أن هذا "السحر" لا يكون مؤثراً إلا إذا ارتكز على استعدادات كامنة في عمق الجسد.... إن النساء بصفتهن ضحايا للعنف الرمزي يقبلن علاقات التراتبية الجنسية الاعتيادية بطريقة تلقائية، وهذه التلقائية هي التي يصفها بورديو كشــــكل من الخضوع لمفعول السـحر. (فاطمة المرنيسي 2002 :231 -233)

يتضح مما سبق أن العنف الرمزي وفق ما يراه بورديو يتضمن كل أنماط الهيمنة الاجتماعية والثقافية، وقد لا يتم إدراك تلك الهيمنة بصورة مباشرة ، فمن سمات العنف الرمزي أنه هيمنة غير ملحوظة (أو خفية Tacit) .ويرى بورديو أن النظام التربوي والهيمنة الذكورية يمثلان صورة واضحة للعنف الرمزي في المجتمع المعاصر.
 
أعلى