فاطمة واياو - العنف الرمزي والمقاومة الصامتة في المغرب

العنف ضد النساء ليس ظاهرة فردية ولا شأنا مغربيا محضا، بل هو اشكالية عامة ودولية تأخذ أبعادا متعددة وتأويلات مختلفة، وهي ليست أحادية الأسباب والنتائج.
من هنا يصبح اي تفكير في القضاء على ظاهرة العنف ضد النساء تفكيرا عالميا مشتركا بين جميع الأمم، ولا يمكن للمغرب كدولة منضوية تحت لواء الأمم المتحدة ان تشتغل في معزل عن الآليات القانونية الدولية والأبحاث الاجتماعية العالمية التي قدمت الكثير من اجل تحليل ودراسة الظواهر الاجتماعية المتعلقة بالعنف الاجتماعي الذي لا يمكن عزله عن العنف الرمزي العام، والذي يعتبر مظلة للعنف الايديولوجي والاقتصادي.
من هنا وقببل الاحتفال باليوم العالمي لمحاربة العنف ضد النساء، لا يمكننا غض الطرف عن أن اية استراتيجية لمحاربة العنف لا تستحضر النظرة الشمولية للظاهرة تاريخيا، سياسيا، ثقافيا، اجتماعيا وفكريا لا يمكنها إلا ان تبوء بالفشل رغم ما يمكن ان يرصد لها من إمكانيات مادية هائلة، فالمال وحده لا يصنع الإرادات السياسية الحقيقية والني تعتبر عصب كل تغيير صادق، حقيقي وفعال.
انواع العنف وتجلياته
يمكن القول ان ظاهرة العنف ضد النساء هي حلقة دائرية متوارثة، مما يعني أن القضاء عليها مسألة ليست هينة ان لم نقل مستحيلة. مما يعني ان جهودنا يجب ان تتركز حول الحد من هذه الظاهرة، وتطويقها في محاولة من اجل تمكين الأجيال القادمة من العيش في مجتمع واسرة خالية من العنف.
من المعلوم ان العنف يشكل أنواعا متعددة وهو ينتشر في طبقات مختلفة، ولأن المجال لا يتسع للإفاضة في تحليل كل أشكال العنف، فإنني سأقتصر على العنف الرمزي.
لماذا العنف الرمزي؟
يعتبر مفهوم العنف الرمزي من المفاهيم التي حظيت باهتمام العالم السوسيولوجي بيير بورديو، فالعنف الرمزي يعني سلب الضحية كيانها وأساس وجودها من هنا خطورته، فهو وسيلة لسلب هوية الضحية، ولعل بورديو كان محقا حين أولى أهمية كبرى للعنف الرمزي، فهذا النوع من العنف يعتبر اداة من اجل فرض السيطرة والهيمنة، السيطرة الإيديولوجية ولكن أيضا الهيمنة الذكورية. يهدف ممارس العنف الرمزي إذن إلى فرض أفكار وتصورات ورؤى إيديولوجية على فئة مستلبة أو على شخص مستلب. ويتصف هذا النوع من العنف بأنه لا مرئي، غير محسوس وغير واضح حتى بالنسبة لضحاياه.
من الهيمنة الذكورية إلى السيطرة السياسية :
إن الحديث عن العنف الرمزي يجعلنا في صلب الإشكال البنيوي لظاهرة العنف التي لا يمكن النظر إليها نظرة تجزيئية انتقائية، فالعنف الممارس على المرأة من طرق فرد (ذكر) هو امتداد للعنف اليومي الذي يعاني من المواطنون. فالدول ذات الأنظمة الشمولية تمارس عنفا يوميا متسلسلا على مواطنيها (وفي حالة المغرب رعاياها) تستخدم في تنفيذه كل الوسائل الضرورية، فمن إعلام موجه، وتعليم مقنن إلى قمع ممنهج عبر آلياته القمعية. وهذه الأنظمة وبفضل علاقات السيطرة التي تنهجها عبر القوانين الجائرة والمظالم التي تتفنن في ارتكابها ضد ضحاياها تصبح مشاركا في ممارسة العنف ضد النساء وليس في محاربته.
بهذا المعنى تصبح الهيمنة الذكورية قانونية بل وشرعية حيث يتدخل مرة أخرى القانون والشريعة في حماية المعتدي، ولعل الفصل 475 من القانون الجنائي لخير دليل على الحماية التي يوفرها القانون المغربي لمرتكبي الاغتصاب وهي أقسى أشكال العنف الجسدي والنفسي الذي يتضمن عنفا رمزيا صارخا. كما أن شرعنة ضرب النساء من خلال الاستشهاد بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، ليس هذا مجال تفنيذها أو تأويلها بما يناقض هذه الشرعنة.
النساء ضحايا العنف:
العنوان أعلاه يأخد طابعا غرائبيا، إذا علمنا أن ليس هناك ناجية من العنف الرمزي، فكل النساء هن ضحايا العنف الرمزي، والأخطر انه وبحسب ما ذهب إليه بورديو فكلنا ضحايا العنف رجالا ونساء، أميين ومثقفين، فقراء وأغنياء، صغارا وكبارا. يظل هذا النوع من العنف إذن مسكوتا عنه، وخفيا بل ومشجعا من طرف المجتمع بكل أطيافه ، حاكميه ومحكوميه.
رغم الاعتقاد السائد أن مكان العنف هو الفضاء الخاص، فإن الآليات والمعتقدات المشجعة على ممارسة العنف تتبلور في الفضاء العام، وبالتالي فإن ترويج العنف الأسري وفي نفس الآن التشدق بضرورة حماية الأسرة وخصوصياتها ، ما هو إلا أسلوب من أساليب عزل الضحية، والمشاركة في ممارسة العنف باعتبار ان علاقات القوى غير متكافئة بين الرجال والنساء بين المسيطرين والمسيطر عليهم بين الضحايا والجلادين.
إن الهيمنة الذكورية في مجتمعنا تأخذ أبعادا خطيرة حينما تتحول إلى مجال للنقاش الديني، وربما الجدل المذهبي، ويصبح عزل الضحية هو من صميم حماية نواة المجتمع أي الأسرة، وهو ما يجرنا للحديث عن المواطنة الناقصة للنساء على الخصوص. فالنساء مقصيات من المجال العام، بدعوى أفكار ومعتقدات باتت من المسلمات او كما يطلق عليها بورديو لادوكسا ( la doxa) " وهي مجموعة معتقدات وتصرفات اجتماعية أصبحت طبيعية ومسلم بها ولا يجب أن تكون محط نقاش أو مراجعة"
هنا مكمن الخطورة التي يتميز بها العنف الرمزي، فهو يسير بالضحية إلى درجة القبول بل والتواطؤ مع الجلاد فتغدو كل محاولة للمقاومة غير واردة. العنف الرمزي إذن هو أخطر أنواع العنف لأنه يلغي هوية الآخر وهو هنا الضحية -المرأة أو الشعب إذا تعلق الأمر بالدولة الممارسة للعنف. عزل الضحية وسلبه هويته يفضي إلى التمكن من ممارسة كل أشكال العنف الممكنة، من العنف الجسدي والجنسي، والعنف النفسي إلى العنف الفكري والاجتماعي مرورا بالعنف المادي والاقتصادي. والعنف الرمزي هو اسقاطات وتمثلات في الوعي الجماعي، وما يعزز هذا الرأي هو ان النساء القرويات مثلا رغم انهن يساهمن في اقتصاد الأسرة إلا أنهن يتعرضن للعنف بكل أشكاله دون ان يثير ذلك ادنى مقاومة او احتجاج بل يبدو الأمر طبيعيا وان مجرد إثارته للمناقشة غير وارد.
محاربة العنف بين الاستراتيجيات الحكومية والمقاومة الصامتة للنساء
على الرغم من كون الحملات التحسيسية والتوعوية التي تنظمها الجمعيات النسائية والحقوقية بالمغرب، أذابت جليد الصمت الذي كان يلف ظاهرة العنف ضد النساء، إلا أن النتائج على ارض الواقع لم تتجاوز فضح هذه الظاهرة و الضغط على الحكومة من أجل تبني استراتيجية فعالة لمحاربة كل أشكال العنف الممارس ضد النساء. غير انه انطلاقا مما قلناه سابقا حول العنف الرمزي والسيطرة الأيديولوجية للدولة يجعل مثل هذه الاستراتيجيات موضع تساؤل حول مدى فعالياتها بل ومدى جديتها.
عندما لا تحارب الحكومة العنف الرمزي الممارس عبر وسائل الإعلام وعبر البرامج التعليمية والفتاوي والخطابات المهينة للمرأة على منابر المساجد، وعبر الأغاني والأعمال الفنية، تصبح كل الاستراتيجيات مجرد ذر الرماد في أعين المنظمات الحقوقية العالمية والجمعيات النسائية والحقوقية المحلية. العنف الرمزي هو احد ركائز الأنظمة القمعية والإقصائية، فهي من خلال هذا العنف الممنهج تفرض سيطرتها وتجعل علاقات القوى لصالحها وتجعل الضحية لا تتبين سبب العنف ولا سبل الخروج منه، بل وتضمر إحساسا بالخطيئة وبالذنب مما يحول الضحية إلى متهمة.
أمام كل هذا العنف الممارس ضد المرأة، وأمام تقاعس الدولة على توفير الحماية الحقيقية، تصبح ضحايا العنف مبدعات لأشكال من المقاومة يمكن اعتبارها مقاومة صامتة، وقد تتمثل في عدة أشكال بعضها مقاومة ايجابية وبعضها مقاومة سلبية، من إبداع أشكال التعبير للخروج من المعاناة، والانخراط في حركات احتجاجية وجمعيات نسائية إلى اللجوء لأشكال السحر والشعوذة.



بروكسل
 
أعلى