نقوس المهدي
كاتب
(1)
قال ابن الأثير في تاريخه عن هشام بن عبد الملك التالي:
كان ذلك في الشهر الأخير من عام 124 للهجرة؛ الموافق الخامس عشر من أكتوبر عام 742 ميلادية.
(2)
وتقول الرواية إن خالد القسري قد أوثق الجعد كتافا؛ قبل أن يصعد المنبر ويخطب في الناس خطبته تلك؛ وانه لما ذبحه كان مقيدا ملقيا تحت المنبر؛ وان الذبح تم على مرأى من آلاف الناس من أهل الكوفة؛ الذين احتشدوا لصلاة العيد؛ وفي ذهنهم إن يذهبوا لذبح ضحاياهم من الخرفان والأنعام بعد الصلاة؛ فكان إن أتحفهم خالد القسري بمشهد ذبح إنسان؛ وهو من كرمه القرآن حيا وميتا؛ وقيل أن أيا من المصليين لم يعترض.. وأنى له ذلك وسيف خالد القسري لا يزال يقطر دما؛ ورأس الجعد الملقى تحت المنبر لا يزال ينظر إليهم؛ بينما جسده لا يزال مقيدا يرتجف.
(3)
ولو كان خالد القسري قد تأمل قليلا – في ذكرى عيد الأضحى – لعلم أن الله – وفقا للقرآن- قد افتدى في مثل ذلك اليوم الإنسان من الذبح؛ حين حلم النبي إبراهيم بأنه قد ذبح ابنه؛ ولما تكرر الحكم حكى لابنه ما حلم به؛ فما كان من الابن إلا إن قال افعل ما أمرت به؛ باعتبار إن ذلك الحلم – في تكراره - ما هو إلا تجسيد لأمر رباني.. وفي لحظة التنفيذ حيث ارتجفت اليد؛ وحين اصطرعت المشاعر البشرية مع الأوامر الإلهية؛ جاءت البشارة أن قف؛ فقد فديناه بذبح سمين.
(4)
القسري في يوم العيد؛ استجاب للشيطاني في داخله؛ والوثني في ذاته؛ فبدلا من أن يذهب ليضحي بالأنعام؛ كما أمره الله؛ اختار أن يضحى بالإنسان؛ الذي افتداه الله. فكأنه في ذلك كان يعاند الله؛ وكأنه كان يريد أن يرجع الكرة؛ فيمضي الفعل الأول؛ فعل القربان بالإنسان؛ وهو الذي أتت كل قصة الضحية لتخلص منه بني البشر؛ وهم يخرجون من توحش البدائية – المتمثل في التضحية بالبشر - إلى أولى سلالم الإنسانية – المتمثلة في افتداء البشر بقربان من بني الحيوان.
(5)
وكان الجعد بن درهم؛ كما يقال وينسب إليه؛ من أوائل من ذهبوا مذهبا عقليا في تفسير القرآن؛ ويعتقده الكثيرون – مع تلميذه الجهم بن صفوان؛ والذي قتل في ظروف لا تقل مأساوية – من الرواد الذين بنى علي بعض أفكارهم من بعد المعتزلة؛ رغم انه ينسب للمرجئة؛ والمعتزلة يرفضون الإرجاء. وكان من أقواله رفض نسب الصفات إلى الله؛ حتى لا يشبهه بالإنسان؛ وقيل انه رأى إن الله ليس على العرش حقيقة؛ وأن معنى استوى استولى؛ ومما نسب له قوله بان القرآن مخلوق؛ وانه أنكر أن يكون الله تكلم به حقيقة بحرف وصوت؛ وأنكر أن يكون قد اتخذ إبراهيم خليلا؛ أو كلم موسى تكليما؛ مما قاله القسري؛ واتخذه ذريعة للتضحية به.
(6)
ومن الواضح إن الجعد كان يعاني من قلق معرفي كبير؛ فقد قيل إن الجعد كان يتردد إلى شيخه وهب بن منبه؛ وأنه كلما راح إلى وهب كان يغتسل ويقول : انه أجمع للعقل ، وكان يسأله عن ماهية الله ، حتى قال له وهب يوما: > وذكر له الصفات من العلم والكلام وغير ذلك.
كما انه من الواضح إن الجعد كان على معرفة بالآراء الفلسفية في عهده؛ والتي ازدهرت فيما بعد في علم الكلام الإسلامي والفلسفة الإسلامية؛ وينسب إليه انه تأثر بفلاسفة الصابئة من أهل حران التي ينتمي إليها؛ وهم قوم يسمون بالفلاسفة الروحانيين؛ وقد تأثروا هم بفلاسفة اليونان؛ وربما من هذا يرجع جذور إنكاره للصفات.
(7)
ورغم أن أقطاب السلفية من بعد؛ قد حاولوا أن يصوروا الجعد جاهلا وملحدا؛ إلا أن الوقائع تثبت العكس؛ فقد كان الرجل معلما في بلاط الأمويين؛ وهم الذين سيقتلونه من بعد؛ كما كان معروفا عنه الورع والتقوى؛ ولقد قال عنه كبير سلفيو العصور الحديثة؛ محمد بن عبد الوهاب؛ انه كان << من أشهر الناس بالعلم والعبادة>>. وقد حاولوا كذلك أن ينسبوا له الشؤم؛ حين قالوا انه كان مؤدبا لمروان بن محمد؛ آخر خلفاء بني أمية؛ والذي سُمي بمروان الحمار؛ وانه نحس دولة بني أمية؛ دون أن يوضحوا لنا ما علاقة الشؤم والتطير – الذي نهى الإسلام عنه- بقيام الدول أو انهيارها؛ ودون أن يوضحوا لماذا حاربت الدولة الأموية دعوة الجعد وقتلته؛ ثم من بعده الجهم بن صفوان؛ والذي وقف ضدها محاربا بالسلاح.
(8)
ولم يكن قتل خالد القسري للجعد بن درهم أول جرائمه؛ فقد قبض على سعيد بن جبير في مكة؛ حينما كان حاكما لها؛ وأرسله إلى الحجاج بن يوسف بالعراق؛ وذلك بعد انهزام ثورة عبد الرحمن بن الأشعث التي انضم إليها ابن جبير؛ حيث قتله الحجاجفي 16 شعبانمن سنة 95 هـجرية؛ وقال عن مقتله سفيان الثوري <<لقد قُتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه>>.
ولا نستبعد عن الجعد بن درهم؛ معارضته للدولة الأموية بعد خدمته لها؛ رغم اتفاق بعض أرائه الفلسفية – الإرجاء – معها؛ فقد قاتلها مرجئة مثلالحارث بن سريج وجديع الكرماني؛ كما دعم المرجئة ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وكذلك ثورة يزيد بن المهلب؛ فلا نستغرب إذن إذا كان قتل خالد القسري للجعد سياسيا؛ وتُنسب للجعد أبيات شهيرة قيل انه وجهها للحجاج يهجوه فيها ويقول: ليث علي وفي الحروب نعامة * فتخاء تجفل من صفير الصافر / هلا برزت إلى غزالة في الوغى*بل كان قلبك في جناحي طائر .
(9)
ولأن من يحارب بالسيف يُقتل به؛ فان خالد القسري قد قُتل بعد قتله للجعد بوقت قصير؛ في خلافات من خلافات السلطة وأحابيلها ومؤامراتها؛ وذلك على يد الخليفة الأموي الوليد بن يزيد؛ والذي قتله بعد أن حبسه واخذ ماله وعذبه؛ ودفعه إلى واليه على العراق يوسف بن عمر؛ الذي أخذه إلى الكوفة وقتله هناك ( وهي نفس المدينة التي قتل فيها الجعد بن درهم). وكما يقول عن ذلك ابن خلدون << فدفعه إلى يوسف فألبسه عباءة وحمله على غير وطاء وعذبه عذاباً شديداً وهو لا يكلمه. ثم حمله إلى الكوفة فاشتد في عذابـه ثـم قتلـه ودفنـه فـي عبـاءة يقـال إنـه قتله بشيء وضعه على وجهه وقيل وضع على رجليه الأعواد وقام عليها الرجال حتى تكسرت قدماه. >>.
(10)
وكان الجعد من شهداء الرأي دون شك؛ فحين قبض عليه خالد القسري؛ وسأله عن آرائه؛ أقر بها جميعا؛ وعندما طلب منه أن ينكرها؛ رفض ذلك؛ وعندما وضع أمامه الموت كخيار؛ أبى إلا أن يموت عليها.. وقد مات على يدي ارعن جاهل؛ في أمر اغلب الظن انه سياسي؛ وليس ديني؛ رغم الغلالة الدينية التي البس بها؛ وليس غريبا من بعد أن وقف تلميذه الجهم ضد الأمويين يقاتلهم بالسلاح. في هذا يقول سيد قطب عن حادثة مقتل الجعد وغيرها من الجرائم؛ قبل أن يصبح مُنظّرا للعنف: << في الغالب كانت تتلبس بها حالات سياسية وتكمن خلفها نزعات حزبية؛ ... ؛ وقد جاءت على أيدي أناس ينكر عليهم الإسلام أن يكونوا فهمة للإسلام>>.
(11)
ثم إن محمد طه كان مثل الجعد بن الدرهم؛ في شكه المعرفي؛ وفي بحثه عن الحق؛ وفي تمسكه برأيه وموته دونه؛ وفي شكل موته المأساوي –البطولي. كما لا شك انه قد قتل لآرائه السياسية؛ وليس لكفره المزعوم. ولا ينتقص منه أن ذبحه أهل الوحشية والمرتدون إلى الجاهلية؛ ممن يضحوا بالإنسان الذي كُرم واُفتدي بالحيوان؛ وإنما ينتقص ذلك منهم؛ وسيرتد إليهم كيدهم في نحرهم؛ وسيدفعوا ثمنه ولو بعد حين؛ كما دفع خالد القسري ثمن جهله وعنفه وذبحه للجعد بن درهم.
(12)
ويبقى الجعد بن درهم ويبقى محمد طه محمد أحمد؛ وغيرهم من ضحايا التطرف والوحشية والجهل وخدم السلطان؛ رموزا تدفعنا إلى إعلاء قيمة العقل الذي ألهمهما؛ ومحاربة ظلامات الجهل والتوحش الذي قتلهما؛ وذلك لان في كل منا – معشر البشر- جعدا كامنا؛ لا يمنعه من أن يقع رأسه تحت السكين أو أن يسجي عنقه فوق النطع إلا أن يصبح العقل هو الأقوى؛ والكرامة الإنسانية هي القيمة الأساس؛ التي نحارب بها كل سيف وكل سياف؛ وكل سكين وكل جزار؛ في كل زمان ومكان.
قال ابن الأثير في تاريخه عن هشام بن عبد الملك التالي:
كان ذلك في الشهر الأخير من عام 124 للهجرة؛ الموافق الخامس عشر من أكتوبر عام 742 ميلادية.
(2)
وتقول الرواية إن خالد القسري قد أوثق الجعد كتافا؛ قبل أن يصعد المنبر ويخطب في الناس خطبته تلك؛ وانه لما ذبحه كان مقيدا ملقيا تحت المنبر؛ وان الذبح تم على مرأى من آلاف الناس من أهل الكوفة؛ الذين احتشدوا لصلاة العيد؛ وفي ذهنهم إن يذهبوا لذبح ضحاياهم من الخرفان والأنعام بعد الصلاة؛ فكان إن أتحفهم خالد القسري بمشهد ذبح إنسان؛ وهو من كرمه القرآن حيا وميتا؛ وقيل أن أيا من المصليين لم يعترض.. وأنى له ذلك وسيف خالد القسري لا يزال يقطر دما؛ ورأس الجعد الملقى تحت المنبر لا يزال ينظر إليهم؛ بينما جسده لا يزال مقيدا يرتجف.
(3)
ولو كان خالد القسري قد تأمل قليلا – في ذكرى عيد الأضحى – لعلم أن الله – وفقا للقرآن- قد افتدى في مثل ذلك اليوم الإنسان من الذبح؛ حين حلم النبي إبراهيم بأنه قد ذبح ابنه؛ ولما تكرر الحكم حكى لابنه ما حلم به؛ فما كان من الابن إلا إن قال افعل ما أمرت به؛ باعتبار إن ذلك الحلم – في تكراره - ما هو إلا تجسيد لأمر رباني.. وفي لحظة التنفيذ حيث ارتجفت اليد؛ وحين اصطرعت المشاعر البشرية مع الأوامر الإلهية؛ جاءت البشارة أن قف؛ فقد فديناه بذبح سمين.
(4)
القسري في يوم العيد؛ استجاب للشيطاني في داخله؛ والوثني في ذاته؛ فبدلا من أن يذهب ليضحي بالأنعام؛ كما أمره الله؛ اختار أن يضحى بالإنسان؛ الذي افتداه الله. فكأنه في ذلك كان يعاند الله؛ وكأنه كان يريد أن يرجع الكرة؛ فيمضي الفعل الأول؛ فعل القربان بالإنسان؛ وهو الذي أتت كل قصة الضحية لتخلص منه بني البشر؛ وهم يخرجون من توحش البدائية – المتمثل في التضحية بالبشر - إلى أولى سلالم الإنسانية – المتمثلة في افتداء البشر بقربان من بني الحيوان.
(5)
وكان الجعد بن درهم؛ كما يقال وينسب إليه؛ من أوائل من ذهبوا مذهبا عقليا في تفسير القرآن؛ ويعتقده الكثيرون – مع تلميذه الجهم بن صفوان؛ والذي قتل في ظروف لا تقل مأساوية – من الرواد الذين بنى علي بعض أفكارهم من بعد المعتزلة؛ رغم انه ينسب للمرجئة؛ والمعتزلة يرفضون الإرجاء. وكان من أقواله رفض نسب الصفات إلى الله؛ حتى لا يشبهه بالإنسان؛ وقيل انه رأى إن الله ليس على العرش حقيقة؛ وأن معنى استوى استولى؛ ومما نسب له قوله بان القرآن مخلوق؛ وانه أنكر أن يكون الله تكلم به حقيقة بحرف وصوت؛ وأنكر أن يكون قد اتخذ إبراهيم خليلا؛ أو كلم موسى تكليما؛ مما قاله القسري؛ واتخذه ذريعة للتضحية به.
(6)
ومن الواضح إن الجعد كان يعاني من قلق معرفي كبير؛ فقد قيل إن الجعد كان يتردد إلى شيخه وهب بن منبه؛ وأنه كلما راح إلى وهب كان يغتسل ويقول : انه أجمع للعقل ، وكان يسأله عن ماهية الله ، حتى قال له وهب يوما: > وذكر له الصفات من العلم والكلام وغير ذلك.
كما انه من الواضح إن الجعد كان على معرفة بالآراء الفلسفية في عهده؛ والتي ازدهرت فيما بعد في علم الكلام الإسلامي والفلسفة الإسلامية؛ وينسب إليه انه تأثر بفلاسفة الصابئة من أهل حران التي ينتمي إليها؛ وهم قوم يسمون بالفلاسفة الروحانيين؛ وقد تأثروا هم بفلاسفة اليونان؛ وربما من هذا يرجع جذور إنكاره للصفات.
(7)
ورغم أن أقطاب السلفية من بعد؛ قد حاولوا أن يصوروا الجعد جاهلا وملحدا؛ إلا أن الوقائع تثبت العكس؛ فقد كان الرجل معلما في بلاط الأمويين؛ وهم الذين سيقتلونه من بعد؛ كما كان معروفا عنه الورع والتقوى؛ ولقد قال عنه كبير سلفيو العصور الحديثة؛ محمد بن عبد الوهاب؛ انه كان << من أشهر الناس بالعلم والعبادة>>. وقد حاولوا كذلك أن ينسبوا له الشؤم؛ حين قالوا انه كان مؤدبا لمروان بن محمد؛ آخر خلفاء بني أمية؛ والذي سُمي بمروان الحمار؛ وانه نحس دولة بني أمية؛ دون أن يوضحوا لنا ما علاقة الشؤم والتطير – الذي نهى الإسلام عنه- بقيام الدول أو انهيارها؛ ودون أن يوضحوا لماذا حاربت الدولة الأموية دعوة الجعد وقتلته؛ ثم من بعده الجهم بن صفوان؛ والذي وقف ضدها محاربا بالسلاح.
(8)
ولم يكن قتل خالد القسري للجعد بن درهم أول جرائمه؛ فقد قبض على سعيد بن جبير في مكة؛ حينما كان حاكما لها؛ وأرسله إلى الحجاج بن يوسف بالعراق؛ وذلك بعد انهزام ثورة عبد الرحمن بن الأشعث التي انضم إليها ابن جبير؛ حيث قتله الحجاجفي 16 شعبانمن سنة 95 هـجرية؛ وقال عن مقتله سفيان الثوري <<لقد قُتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه>>.
ولا نستبعد عن الجعد بن درهم؛ معارضته للدولة الأموية بعد خدمته لها؛ رغم اتفاق بعض أرائه الفلسفية – الإرجاء – معها؛ فقد قاتلها مرجئة مثلالحارث بن سريج وجديع الكرماني؛ كما دعم المرجئة ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وكذلك ثورة يزيد بن المهلب؛ فلا نستغرب إذن إذا كان قتل خالد القسري للجعد سياسيا؛ وتُنسب للجعد أبيات شهيرة قيل انه وجهها للحجاج يهجوه فيها ويقول: ليث علي وفي الحروب نعامة * فتخاء تجفل من صفير الصافر / هلا برزت إلى غزالة في الوغى*بل كان قلبك في جناحي طائر .
(9)
ولأن من يحارب بالسيف يُقتل به؛ فان خالد القسري قد قُتل بعد قتله للجعد بوقت قصير؛ في خلافات من خلافات السلطة وأحابيلها ومؤامراتها؛ وذلك على يد الخليفة الأموي الوليد بن يزيد؛ والذي قتله بعد أن حبسه واخذ ماله وعذبه؛ ودفعه إلى واليه على العراق يوسف بن عمر؛ الذي أخذه إلى الكوفة وقتله هناك ( وهي نفس المدينة التي قتل فيها الجعد بن درهم). وكما يقول عن ذلك ابن خلدون << فدفعه إلى يوسف فألبسه عباءة وحمله على غير وطاء وعذبه عذاباً شديداً وهو لا يكلمه. ثم حمله إلى الكوفة فاشتد في عذابـه ثـم قتلـه ودفنـه فـي عبـاءة يقـال إنـه قتله بشيء وضعه على وجهه وقيل وضع على رجليه الأعواد وقام عليها الرجال حتى تكسرت قدماه. >>.
(10)
وكان الجعد من شهداء الرأي دون شك؛ فحين قبض عليه خالد القسري؛ وسأله عن آرائه؛ أقر بها جميعا؛ وعندما طلب منه أن ينكرها؛ رفض ذلك؛ وعندما وضع أمامه الموت كخيار؛ أبى إلا أن يموت عليها.. وقد مات على يدي ارعن جاهل؛ في أمر اغلب الظن انه سياسي؛ وليس ديني؛ رغم الغلالة الدينية التي البس بها؛ وليس غريبا من بعد أن وقف تلميذه الجهم ضد الأمويين يقاتلهم بالسلاح. في هذا يقول سيد قطب عن حادثة مقتل الجعد وغيرها من الجرائم؛ قبل أن يصبح مُنظّرا للعنف: << في الغالب كانت تتلبس بها حالات سياسية وتكمن خلفها نزعات حزبية؛ ... ؛ وقد جاءت على أيدي أناس ينكر عليهم الإسلام أن يكونوا فهمة للإسلام>>.
(11)
ثم إن محمد طه كان مثل الجعد بن الدرهم؛ في شكه المعرفي؛ وفي بحثه عن الحق؛ وفي تمسكه برأيه وموته دونه؛ وفي شكل موته المأساوي –البطولي. كما لا شك انه قد قتل لآرائه السياسية؛ وليس لكفره المزعوم. ولا ينتقص منه أن ذبحه أهل الوحشية والمرتدون إلى الجاهلية؛ ممن يضحوا بالإنسان الذي كُرم واُفتدي بالحيوان؛ وإنما ينتقص ذلك منهم؛ وسيرتد إليهم كيدهم في نحرهم؛ وسيدفعوا ثمنه ولو بعد حين؛ كما دفع خالد القسري ثمن جهله وعنفه وذبحه للجعد بن درهم.
(12)
ويبقى الجعد بن درهم ويبقى محمد طه محمد أحمد؛ وغيرهم من ضحايا التطرف والوحشية والجهل وخدم السلطان؛ رموزا تدفعنا إلى إعلاء قيمة العقل الذي ألهمهما؛ ومحاربة ظلامات الجهل والتوحش الذي قتلهما؛ وذلك لان في كل منا – معشر البشر- جعدا كامنا؛ لا يمنعه من أن يقع رأسه تحت السكين أو أن يسجي عنقه فوق النطع إلا أن يصبح العقل هو الأقوى؛ والكرامة الإنسانية هي القيمة الأساس؛ التي نحارب بها كل سيف وكل سياف؛ وكل سكين وكل جزار؛ في كل زمان ومكان.