نقوس المهدي
كاتب
ما كان في وسع الغائط أن يؤكد أهميته الرمزية، ونفاذ تأثيره في النفوس، لحظة الاكتفاء به من خلال المدونات التي تشير إليه بصيغ متنوعة، حيث يكون عالم العيانيات، إنما كان لا بد من التمهيد لما هو ذهني، تخيلي، حُلميٌّ!
لعل ذلك يبرز جلياً في الحلم، وما أشبه الحلم هذا بالمفارق لنا فيما نريد ونرفض، حيث إن الحالم فينا لا يكاد يشبهنا بقدر ما يتراءى معارضاً لنا، شامتاً بنا، يوتّرنا في نوعية ما يواجهنا به بين الحين والآخر، إنه يقيم داخلنا دون أن نعلم به، ويختفي عن الأنظار دون إعلامنا، فيكون في حضوره وغيابه، كما لو أننا أضعف مما نتصور، لا بل ومما نعتقد، أننا خلاف ما هو قائم باسمنا من حولنا، تأكيداً على أننا، ونحن نتكلم عن الإرادة، لسنا من يقرر ماهية الإرادة بالطريقة التي نزعم أنها كذلك، وإنما نكون دون حقيقتها، وحتى إن شدَّدنا على ذلك، فيا لبؤس ما نصنعه هنا، عندما يباغتنا الحلم ونحن طوع أمر النوم، بمجريات أحداث نعجز كثيراً حتى عن استردادها، وكذلك عن محاولة أولية للبت في بنيتها، وما يترتب على ذلك من شعور بالحيرة والاضطراب، كما كان حال أولئك الذين عاشوا قبلنا منذ آلاف السنين وهم يعتقدون بوجود أناس، بشر من نوع آخر في كل واحد منهم، يختلفون في بنيتهم الشخصية ولغتهم التي يتكلمون بها، وطبيعة تحركاتهم وأهوائهم وصلاتهم مع العالم الخارجي وفيما بينهم..
إنه العالم الأكثر قابلية للإثارة بالنسبة لنا وفينا، حيث نظل منقسمين على أنفسنا في الكثير الكثير مما نحلم، وبشكل خاص عندما نشعر أن ثمة ما يضغط علينا ويتلبسنا في هيئات مخيفة، ومرعبة أيضاً، خلاف المعتاد في حياتنا.
يكون هناك مفسّر الأحلام وهو ليس واحداً، إذ إن الثقافات كما هو تاريخ الحلم قد أنتجت بصورة ما، أصنافاً من المفسرين متعددي المراتب بأوقافه، يجمعون بين خاصية الثقافة التي ينتمون إليها وحتى العقيدة وتأثيرها في الثقافة تلك وجانب الثقافة الإنساني وقابلية المفسَّر خارج نطاق الشخصي أو الفئوي، وما يجلوه هذا التنوع في الموقف من الحلم ثراء عالمه وصعوبة التكيف معه باعتباره غير خاضع لمنطقنا المتداول من ناحية وتخصصيته في رموزه ذات الصلة بالبيئة والثقافة المحلية وتأثيرها على شخصية القائم بالتفسير المركَّب من ناحية أخرى.
لكننا، ولأننا لا نملك إلا خيار الإصغاء إلى هؤلاء، وكلٌّ بحسب عمق المعنى ووقفه وصنفه فيما يفسّره ويثيره بصدد طبيعة الحلم ونوعه وظروف زمانه ومكانه والشخص الحالم وموقعه...الخ، فإن المقدَّم يشغلنا ويعنينا كون المفسَّر يبقى أولاً وأخيراً عائداً إلينا، في تعميق نظرتنا إلى الكون والآخرين وإلى الذات أكثر من أي شيء آخر..
كان هناك فرويد الذي ألمحنا إليه قليلاً، وسوف نعود إليه لاحقاً، نظراً لأهمية ما أثاره جهةَ المقاربة التفسيرية وحتى على صعيد البنيان الثقافي والوعي الحضاري، وآخرون جاؤوا من بعده، أضفوا عليه طابعاً من العالمية، حيث لا أظن أن ثمة من اهتم بالحلم، ولم يخصص جانباً من اهتماماته به في منظومته التحليلنفسية الشديدة الثراء.
في موضوعنا الذي يكتسب قيمة تخصصية جداً جداً، يبرز الحالم في موقع لا يحسَد عليه، رغم كل الإغراءات المقدَّمة من أهل التفسير، ودورها في تخفيف صدمة التعامل اللاشعورية، وهي شعورية الحلم، بالخراء بالذات في تنوع هيئاته ومن يصلنا بهم، أو ما يصلنا به باعتباره خراءنا وقد تعددت صوره، وروائحه وحالات النظر إليه ومواقعنا ...الخ، لأن الثقافة التي لما نزل نعيشها ونتفاعل معها باعتبارها الرئيسة في حياتنا لم تمنح الحلم ما يستحق من مكانة، طالما أنه ينتمي إلى عالم الآخر: اللامرئي والصامت فينا، وكونه يمس أدق التفاصيل- ولو رمزياً- في حياتنا، وتكون هيئاته من التعقيد وما في ذلك من إحراج لنا كما هو المألوف فينا، بحيث نتكتم عليه أو لا نكون أمناء في نقله ووصفه حرفياً.
إن المفسّر الإسلامي ابن سيرين “ت110هـ”، وفي معلَمه الإسلامي، ومن خلال ثقافته الإسلامية، ترك لنا تراثاً ثميناً عرَّفنا بعالمنا الآخر، لا نستطيع التقليل من مقامه المعرفي في التفسير تبعاً لوضعياتنا وانتمائنا النوعي.
من خلال الشمولية وما فيها من تنوع، أفصح عن ذلك الاعتراف بتفاعل العناصر فيما بينها بحسب لائحة قواها ونظراتنا إليها، وكذلك تأثرنا بها، وكأن هذا الإجراء تعبيراً عن وحدة الكائن فينا وهو متنوع الصلات بمحيطه.
لقد كان للخراء “نصيب” ملحوظ في أدبياته الحُلمية، وهو المتصف بالورع والزهد والتفقه في الدين، كما هو المدوَّن عنه في تاريخ الأعلام، حيث إن كل مادة مفسَّرة، وتبعاً للأبواب المتسلسلة، تبرز نوع علمه وفقهه وتاريخيته، من خلال مدونته المنسوبة إليه ( تفسير الأحلام)، وما يعنيه العنوان هذا من طابع التعميم أو الشمولية..
إن أول ما نستشعره لحظة قراءة الباب المتعلق بالخراء “الغائط”، هو أنه من حيث التحفظ عليه نظراً لما اعتدناه في حياتنا اليومية، يلي من جهة الأهمية وعامل الإحراج في طبيعته ما يصلنا بأقرب المقربين إلينا، وكل من له شأن في حياتنا، على صعيد الجنس ( الاتصال الجنسي بالمحارم، أو الدخول في علاقات جنسية في أكثر من حالة ومن وضعية مع ذوي نفوذ وسلطة..)، وتأثير ذلك فينا ونحن نحتك بهم أو نشعر بهم كقوى فاعلة في الحياة.
الغائط باسمه الوارد في المدونة السيرينية لا يسبب لنا إحراجاً، إنما ربما يولّد فينا الامتعاض وكراهية الذات بقدر ما يكون حضوره خلاف اليومي. إن طرحناه في عملية بيولوجية محضة، أقبلنا عليه برغبة ما، حلمية، ونحن نيام، إنها رسالته التي تردنا بين الحين والآخر، وهي تعلمنا بأنه خلاف ما نتصوره عنه.
إن أهم فكرة، وهي مأثرة ابن سيرين قبل ثلاثة عشر قرناً ونيّف تنسَب إليه بصدد النقطة هذه، هي أن الذي نستهين به لا يستحق ذلك. إن قدرتنا على التبرز تعني قابلينا للحياة. إن خراءنا دليلنا الحي على أننا مستمرون في الحياة من خلال عملية الهضم الجيد. إنه هديتنا البينذاتية( بيننا وبين أنفسنا)، كما لو أننا نستعيد طفولتنا في كل مرة يكون خراؤنا مادتنا الحلمية، وهنا يكون فرويد حاضراً، والذي ألمح فيه إلى أن البراز واقعاً هو بمثابة الولادة: ولادته في الحياة، لأن تغوطنا الأول هو توقيعنا السفلي على سطح عالم غير مرئي، تكون الأم قادرة على أرشفته في ذاكرتها وإعلامنا حين نكبر، ولادة مقابل ولادة أخرى، استعداداً لحياة تنتظرنا، بقدر ما يكون هديتنا إلى العالم الخارجي، إيذاناً لمن هم حولنا أننا أصحَّاء، أننا أهل للحياة، وهذا يفرحهم بصورة ما.
ابن سيرين وبعيداً عن المقاربة التشريحية: الفيزيولوجية والثقافية التي تميَّز بها فرويد، قبل قرن ونيّف، كان لديه عمق الرؤية لخاصية الرؤيا العائدة إلى الحلم، إلى المقدرة الذاتية على تفكيك خاصية الحلم بثقافته التي هضمها، ومن ثم طرحها في محيطه، حيث يكون التركيز على الخراء، تبيناً لفعل الخراء هذا من قيمة حياتية مركَّبة..
ما الذي أثاره ابن سيرين في تفسيره الحلْمي المنسوب إليه، عن الغائط ومقام الغائط وأدوار الغائط في حياة الكائن الذي تصوَّره أو كما تهيَّأ له؟
سأعمد، إلى إيراد جملة أقواله ذات الصلة، ومن ثم سأتوقف عند بنيتها الدلالية ومقاربتها ثقافياً:
( وأما الغائط فقد قيل: هو رزق من ظلم، وقيل: هو دليل الفرج. ومَن رأى أنه أحدث ذهب غمُّه، فإن كان ذا مال فإنه يزكّي ماله. وإن رأى كأنه أحدث غائطاً كثيراً وكان على سفر فإنه لا يسافر، وتنقطع عليه الطريق. وأكل العذرة وإصابتها وإحرازها مال حرام مع ندامة، وربما كان كلاماً يندم عليه لطمع. ومن أحدث وكان الحديث جامداً فإنه ينفق بعض ماله في عافية. وإن كان سائلاً فإنه ينفق عامة ماله. فإن كان موضع الحدث معروفاً مثل الموضأ فإن نفقته معروفة بشهوته. وإن كان مجهولاً فإنه ينفق فيما لا يعرف مالاً حراماً لا يؤجر عليه ولا يشكر عليه، وكل ذلك يطيب نفس منه. وكل ما خرج من بطون الناس والدواب من الأوراث فهو مال إلا أن تحليله وتحريمه بقدر ريحه وقذره وأذاه للناس، إلا أن يكون شيئاً غالباً كثيراً من عذرة الناس شبه الوحل، فهو همٌّ أو خوف من سلطان. فإن أحدث في ثيابه أحدث فاحشة، وإن أحدث في سراويله غضب على زوجته ووفَّر عليها مهرها. فإن رأى أنه أحدث في موضع وستره بالتراب فإنه يستر مالاً. فإن أحدث على نفسه وقع في خطيئة. فإن أحدث في فراشه مرض مرضاً طويلاً لأنه ما يفعل ذلك في اليقظة إلا من لا يستطيع القيام، وتدل هذه الرؤيا على مفارقة الرجل امرأته.
وقيل: من رأى كأنه يأكل الخبز بالعذرة دلَّ على أنه يأكل الخبز بالعسل في اليقظة، وقيل: هو مخالفة السنَّة، فإن تغوَّط من غير قصد منه فحمله بيده فإنه يُرزق كيس دنانير حراماً على قدر الغائط. ومن رأى كأنه يحدث في الأسواق العابرة العامرة أو في الحمامات والجماعات دلَّ على غضب الله عليه والملائكة، وتناله فضيحة عظيمة، وخسارة كبيرة، وظهور ما يخفيه الإنسان. ويدل أيضاً على نقص يعرض لصاحب الرؤيا. فإن أحدث في مزبلة أو شط البحر أو في موضع لا ينكر لذلك فهو دليل خير وذهاب الهم والوجع. فإن رأى كأن إنساناً معروفاً يرميه بشيء من زبل الناس فإن ذلك يدل على معاداة ومخالفة في الرأي والظلم يعرض له ممن رماه بها ومضرة عظيمة.
وكثرة زبل الناس أيضاً تدل على تعويق عن الحركات والإقبال على مضار كثيرة. والتلطخ بزبل الإنسان مرض أو خوف، وهو أيضاً دليل خير لمن أفعاله قبيحة وقد امتحنا أن ذلك مما ينتفعون به..)(1)..
هذه القائمة الواردة تمثل مجمل ما توقف عنده ابن سيرين، والسؤال هو: كيف يمكننا التوقف عند الذي توقف عنده؟ هل من قراءة احترازية، وفي زماننا، تراعي قراءة مفسّرنا تاريخياً، ومدى أهليتها للاستمرار حتى الآن؟
إن النظرة الأولى لمجموعة أقوال وردت بصدد الغائط في كتاب( تفسير الأحلام)، تستوقفنا قبل كل شيء، لاتخاذ الحيطة والتروي قبل الدخول في أي حوار أو مساءلة حول المجموعة هذه، من خلال دلالة فعل الماضي(قيل)، وما يعنيه هذا الفعل من احتمال وقوع الصواب والخطأ في الوارد، أن نعتبر ما قيل في حكم الممكن تبينه، دون البت بأي قرار يمثّل حقيقة من الحقائق المتعلقة بما تقدَّم، كما لو أن الأمر مدوَّن من باب الطرافة، ولكنها الطرافة التي ينبغي ألا تدعنا بعيدين عن بنية الوارد، وكأن الذي تفوه به لا صلة له بما يقول، وبمن يتحدث عنهم، من خلال ثقافة قائمة، يمكن أن تستثير ردود أفعال حادة، فالوارد ينحصر في نطاق المدرَك لأهمية الجاري تفسيره اعتماداً على تصورات عقيدية وثقافية، وكذلك استنداً إلى وشائج قربى بين الجسم والموقف منه دلالياً.
ثمة علاقة متينة بين رؤية الجسم بمفهومه المادي وكيفية تلبيسه بما هو معتقدي، عدا عن وجود إلمام معرفي: علمي ونتيجة معاينة فعلية لما يخرج منه، وعلاقة الجسم بالهضم جهة الطعام، ومكانة الشخص والمكان ذاته.
يمكن اللجوء إلى نوع من التبويب أو الترقيم بشأن الغائط وتنوع دلالاته:
الغائط الذي يشير إلى الآخر: ذلك أن الغائط بقدر ما يكون غائطنا، فإنه يكاد ينفصل عنا من جهة توقيت خروجه، أي طرحه العضوي، كما يقال، إنه حصيلة عملية هضمية، ننتظرها لنكون على بيّنة، وهي أننا بخير فيما نحن عليه، كما لو أن الذي يحدث داخلنا، أن هذا المتشكل في غيبة عنا يقوم به أحد ما، يعنينا ولا يعنينا انطلاقاً من تلك الخاصية الحيوية المستقلة عن رغبتنا النفسية، سوى أن الأهم هنا، هو ارتباط الغائط بما هو قائم خارجنا من سلع استهلاكية وطريقة الحصول عليها ومن نتعامل معهم في وسطنا وكيف أننا نبذل جهداً في التحصيل، وأن ما يؤخَذ لا يستهان به، إنما ثمة معاناة، حتى لو كان الشخص متنفذاً، فالآخر يظل متخيّلاً، وإمكان تهديده له يبقى وارداً، كما لو أن الغائط، وهو في قلب العملية الهضمية، إعلام بحضور المفارق والمؤثّر فينا، بحيث لا نقدر على تطويعه لنا كما نريد. إنه عالمنا الداخلي، عنف الآخر وهو فينا، وكأننا وجدنا لأجله، وعلينا إدراك هذه الحقيقة.
من جهة أخرى، يكون هذا المحصَّل عبر التغوط بمثابة النتيجة المتوخاة. إن من يتغوط فعلاً يعني أن الذي كان يعيشه في داخله، بعد تناول الطعام، بزمن معين، عليه أن يخرج، وكأنه مأزوم طالما أن الخروج لم يحصل.
إننا نبدي الكثير من علامات الارتياح، بقدر ما نعاني من قبض، وما القبض في حقيقة أمره، إلا فعل دخول في حكم من نعجز عن مواجهته كما نريد، إنه نوع من الأسر، أو الوقوع في أزمة، مأزق، ضيق معين، ونحن لا شأن لنا به على صعيد المواجهة كونه يخضع لنظام حيوي، حيث إن أقصى ما فينا بذله، هو في اللجوء إلى وسيلة ما، لها صلة بعملية الطرح. أن يكون الغائط دليل فرَج، فهو المعبّر عن وضع جسمي يثقل علينا من الداخل، وما علينا إلا أن نسايره، أن يكون لنا ساعياً وما في ذلك من لين، لتسهيل عملية التغوط. إنها لعبة كاملة نحن طاقمها..
ولهذا، فإن ابن سيرين، عندما يشير إلى الغائط وقد حصل، يكون ثمة ربط لافت، بين البعد المجازي في تجنب أذى ما: ظلم معين، في الحالة الأولى، والبعد المجازي الآخر، في استعادة التوازن، حصول الفرَج لاحقاً.
إنه غائطنا الذي يعلمنا دائماً بخطورة دوره، في إشاراته المستمرة إلى جدل الداخل والخارج والذي نكون ساحته.
ينطبق ذلك حتى على المغموم، باعتبار الغم داخلياً، وهو لصيق بالحياة، وهي عملية استبدالية، عندما يكون الجاري في الداخلي قريناً للخارج، وعدم التغوط عبء أو مسبب عبء وهو غم، وحصول التغوط التماس لراحة مرجوة، أو كما لو أن الذي يتغوط يريد جسمه، ويتوازن به، وهو أصل ذهاب الغم وإيتاء الزكاة برغبة معلومة!
الغائط الذي يحول دون السفر: ما العلاقة بين الغائط الكبير وعدم القيام بالسفر؟ هل من قراءة متعدية لذلك؟
ثمة ما يمنعنا من السفر طبعاً، بوجود أسباب وجيهة، إنها أسبابنا الخاصة أو المحيطية، تبقينا في ذات المكان، استجابة لضغوط أو مستجدات لا بد من أخذها بعين الاعتبار. لعل الغائط الكبير يشكل تجاوزاً من حيث المفهوم، لما هو معتاد في الغائط العادي. إننا نهوّل رؤية غائطنا الكبير فكيف برؤية غائط الآخرين؟ إذ يكون محط نظر خاص من قبلنا، وهو يشغلنا بطبيعته، لكأنه علامة شر، لأن ثمة عدم تناسب بين الذي نتبصره أسفلنا، وما نظن أنه خلافه لحظة تناولنا للطعام وما يمكن أن يحصل تالياً. إنها مضاعفة النظر فيما ليس مألوفاً، وما يعقبه هذا النظر من تفكير بما جرى، أو يمكن أن يجري، حيث يشغلنا بمستجده، خلاف الحالة العادية، عدا عن أن الغائط الكبير في تقديرنا يشغل الآخرين أيضاً، إنه مجال للتعليق أو للمساءلة- ولو كانت صامتة- لعل فيه كشفاً حسابياً لما يعنيه في أدق أسراره أو في بيته وماله ومحاولة مراجعة ما تم الإغفال عنه، لتعود الأمور إلى ما كانت عليه.
العذرة بين الحرام والطمع: ثمة تحويل بالمفردة، حيث الغائط استحال عذرة: خراء. ما وجه الارتباط بين أكل العذرة هذه، ودون تحديد المرجع( لمن تكون)، وتلك الصفة الأخلاقية: الحرام بمعناه الديني والطمع اجتماعياً؟
تشير العذرة إلى الآخر، إلى شخص ما يتبرز حيث تكون العذرة منفصلة عن الذي يقبل على أكلها، ولعل في حال الإقبال على أكل العذرة ما يحدد صفة اشتهاء الآخر، كون العذرة تخص جانباً من ملكيته، بقدر ما تسمّي الشخص في المجتمع، كما لو أن التغوط هو فعل ذاتي، أما العذرة فخروج إلى الآخر، وبحث عنه، وليكون في أكل العذرة تصيد لشخص في مال له دون وجه حق بحيلة ما، ربما في غفلة منه وما ينطوي عليه هذا الإقدام من شعور بالذنب، أو بالندامة. إن خراء الآخر علامة مسجَّلة باسمه، والاقتراب منها بلبلة لنظام اجتماعي وحالة تعدَّ ما على ملكية خاصة، إلى جانب أن رؤية العذرة باعتباره سراً لشخص مختلف، تثير الفضول بالاقتراب مثلما تحفّز الشعور القنصي ببعض الاختلاس، وعدم إدراك خطورة الحالة كما هو شأن الكلام الذي نتمادى فيه، وما في هذا الربط بين التغوط أرضياً، والتفوه بالكلام علوياً من علاقات مرئية ولامرئية تتجاوزنا في حدودنا الزمكانية، وما نعتقده خاصياتنا الفردية. في الحلم تتقابل الفتحتان الرئيستان عملياً، لا بد أن تكون السيادة للفتحة العاملة أكثر من الأخرى، حيث لا يعود الفم يعمل ربما حتى في التنفس، لأن ذلك يشغل الأنف كثيراً، ليكون الشرج فماً أكثر اعتماداً عليه، إنه عالمنا الذي نحسب له ألف حساب، حتى ونحن أيقاظ، إذ نحرص عليه ونحن نيام، مع شعورنا الذي يمتزج بالخوف مما يمكن أن يحصل، حيث نكون قابلين لتصيد الآخر، في عداد رغباتهم إساءةً ونهباً..
الحديث بين الجامد والمائع: تلك هيئة أخرى لها صلة مباشرة بنوعية غائطنا، وتأثرنا به في كل حالة من حالاته:
حيث إن الهيئة تمثّل جانباً من جوانب الحالة والمكانة اللتين تخصان الفرد الواحد. نعم، إننا في عالم اليقظة نكون أقرب إلى التحكم بأجسامنا، ندرك ما نقوم به نوعاً ما، ولكننا نتقهقر دون دراية منا في عالم النوم، حيث يأخذ الجسم كامل راحته، أي يطبّق قوانينه الحيوية على كل ما يعنينا من منظور الجسد ككينونة جوهرانية واعية، وفي مثال الحديث، ثمة الفعل الذي يُعايَن بالبصر والبصيرة بما أن الفعل خطاب كامل ومفعّل في الجسم موجَّه من الجسم إلى الجسد، إنه رسالته المؤجَّلة وقد آن أوانها. إنه اختيار التوقيت المناسب لما هو عضوي ولفت النظر إلى أن الجاري نشاط جسمي ولكنه يشي بدلالته من منظور المكاشَف كما لو أن المؤخرة بنشاطها الحاصل في الحلم، تمثّل وضعاً برزخياً في انتقال ما هو لاشعوري إلى شعوري، وربما في تأكيد مدى نفوذ الجسمي في الجسدي.
وفي رؤية الجامد ثمة سهولة في تقدير الموقف والحالة النفسية بالذات، كون الجامد ليس أكثر من دخول الغائط في طواعية المتغوط، حيث فعل الخروج يكون بالتناسب مع ما يريده، دون وجود اضطراب أو حتى مضاعفات تترتب على الحديث، باعتباره جامداً، والجامد هذا يسهل التخلص من أثره العالق وهو قليل. لعل ذلك مشهد تصويري وشديد الفطنة لذات الغائط: الحديث، وهو على قدر تماسكه، يريح الشخص، كونه بتماسكه في كلّيته في هبوطه يحتل بقعة ضيقة دون انزياح جانبي، وهذا خلاف المائع الذي تتضاعف مشاكله، بقدر ما تكون آثاره ظاهرة على الجسم، في فعل التطريش، وتبعاً لنوعية ميوعته كما لو أن المائع إعلان تمرد وخروج عن السيطرة.
نعم، في الجامد يكون إمكان التحكم متوفراً، بينما في المائع ينعدم التحكم بالجسم بنسبة لافتة، كما في الإسهال.
تلك هي اللعبة الاقتصادية الأكثر احتفائية بالمعاني، تمتد بين طريقة اختيارنا لنظم أعمالنا،وجمع المال، وتأمين الحالات الاستهلاكية وكيفية تدبّر أوقات الطعام، ومع من وأين. إننا في منتهى الاستقلالية والقدرة على ضبط ما يخص غرائزنا أو دوافعنا، طالما أننا لم نحِول ما ابتعناه من سلع مختلفة إلى طعام، أو غذاء. ولنا أن نتصور ما نريد وما لا نريد خارج عالم المعدة، ولكن في اللحظة التي نودَع المعدة ما ابتلعناه وشرنبناه، تقوم المعدة بإشراك كامل الجسم في عملها الهضمي، وعلى قدر الكمية المدفوعة إليها، ليكون الغائط نتيجة مترتبة على ذلك.
في الجامد ثمة ما يحيل إلى منحى لغوي، وحسّي، جهة الصلابة وتبين الشكل، بينما في المائع ينعدم الشكل، إنه دخول في حالة خطر، لأن المائع ليس مجرد اختلاف في وظيفة الهضم فقط، وإنما انعكاس الأثر على كامل الجسم، كما لو أن إعلاناً لأزمة يجب التنبُّه لها. والمائع من الميوعة، حيث يكون الشخص فاقداً اعتباره.
إن المائع يشرِك كل الجسم بحدوثه، ويحثُّ على ضرورة معاينة الحالة قبل استفحالها. فهل كان ابن سيرين عالماً بقضايا الاقتصاد، والعلاقة الوثيقة بينه وبين الجسم؟ إن كل شيء يتجسم وكل جسم منظور إليه كاقتصاد معين. لهذافإننا لا نخشى على جسمنا ومنه، وفي وسط مأهول، وحتى لو كنا بمفردنا، قدر تخوفنا من الوضع الحرج الذي نحن فيه في الحالة الثانية، إذ لا يمكن توقع النتائج إلى درجة الشعور بالخطر، فيما لو استمرت حالة الميوعة هذه، وهي الحالة التي ربما تستشرف بنا ما هو دلالي في( الميوعة) الاجتماعية ونبذها أو تجنبها وقائياً.
نلتزم البيت، نقلّل من تحركاتنا، ومن اتصالنا بالآخرين، نكون قريبين من الخلاء ، أو من المرحاض، وأكثر استعداداً للحالة الطارئة لحظة الشعور بالحدوث المائع. إن المائع رعبنا مما يمكن أن يتفاقم وينذرنا بخطر أكبر.
لهذا، فإن الجامد يشير إلى اقتصاد الجسم المنتظم، إلى ساعة توقّت زمن الخروج، إنه صرفنا الذي نعلم به، ونحن نقدّره بحساب معلوم، خلاف المائع الذي ينذرنا بالإفلاس، عبر ذهاب القوة كلما تمادى فعل الإسهال، كما لو أن المائع يستشرف الوجه الكارثي لكينونتنا الجسدية بامتياز. إنه تعويم الجسد بذهاب كامل قوة الجسم في الداخل، وكيف أن ذلك يكون لافتاً لأنظار الآخرين، كوننا لا نكون وحدنا، حيث الخروج يمثّل علاقة مع آخر مختلف..
الغائط بين المعروف والمجهول مكانياً: وتلك هي قسمة الأمكنة، وقسماتها، من خلال ترددنا إليها وموقفنا منها:
في الموضأ، تكون عتبة العبادة، يكون التحكم بالشهوات، من باب التفرغ لما هو إلهي، وترك الدنيوي خارجاً، وكل ما يصلنا به، وما عدا ذلك يفسّر العكس، كما في موقع الحدث المعروف بأهميته الدينية والاجتماعية معاً، إذ إن ذلك يدل على تقديم الشهوي الذاتي على ما عداه، وليس ما هو أقرب إلى الدنيوي فينا، من هذا الغائط الذي يذكّرنا دائماً بما نسعى إليه في الطعام، ونستهلكه في الهضم، وما نطرحه عبر الشرج. إنها ذاتيتنا المتدنية إذاً، أمام سمع الناس وبصرهم، كما هي علاقاتنا بهم، وليس مما يلفت أنظارهم مثل تقديم الرغبي الخاص على العام!
ويختلف الوضع فيما لو اختلف المكان لحظة اعتباره مجهولاً، كون المال الذي نحكم عليه يُعايَن من معرفة المكان وطبيعته، كما لو أن مجهول المكان يفقِد المال حكمَه الأخلاقي وإن كان في ذلك بعض من الرغبة في ذلك.
أمكنتنا ليست أكثر من مجالات مختلفة لمقاماتنا وتبين ميولنا وأذواقنا ونظم علاقاتنا وقيمنا المختلفة، على صعيد الدنيوي، وما في الدنيوي من تجليات أهواء وضبط لها. إن غائطنا محكوم بأمكنته، وما يخرج عن حكم المعلوم لا يعود في الوسع إصدار حكم، لانتفاء شرط الاسم الواصف. إننا نرتاح ونحن نتغوط في مكان مجهول من قبلنا، ولكننا لا نعلم ماذا فيه انطلاقاً من جهلنا بجغرافيته، وقد نباغَت بأحدهم في القرب منا ونحن في الوضعية تلك.
هل ابن سيرين يدعونا من خلال هذه الوضعية التغوطية إلى المزيد من الإدراك المكاني تجنباً لمشاكل تؤذينا؟!
الغائط الخارج بين التحليل والتحريم والرائحة والقذارة: إنها سيولة المال ووجهته والذين يتداولونه فيما بينهم:
إن من السهل تذكّر مصدر المتشكل في أمعائنا، نحن الكائنات الحية، وقد تم الجمع مع الحيوان، واستخدام الروث في صيغة الجمع بالمقابل، بديلاً عن الغائط بالنسبة للإنسان. فما يخرج مقدَّر بثمن، وهذا جار تقييمه أخلاقياً.
إننا إزاء عملية وصفية، حيث إن الغائط يرتبط بقذارته، والرائحة التي تنبعث منه، وما يعنيه هذا الوصف في الطرف الآخر، على الصعيد الاجتماعي، كون الرائحة تمثّل صيت المرء أو سمعته، وأن الصيت هذا يتصل بما هو منفَّذ من قبله على أرض، خصوصاً وأن الغائط محوَّل مادي واجتماعي معاً، وأن النظرة إليه تتفاوت بين الحد الذي يرى دون القذارة والرائحة النتنة، والحد الذي يكون مبعثراً في المكان وملخطاً إياه، مصحوباً برائحة عفنة.
إن ما يضفي على الغائط قيمة اعتبارية هو في الهيئة التي يُرى عليها، من خلال التماسك أو الميوعة، إذ إن وجود الغائط يدل على وجود الطعام، أي توافر إمكانات العيش، ومن يأكل جيداً، لا بد أنه يتغوط جيداً.
وهذا يعيدنا إلى ما سبق وأن أشرنا إليه ومنحاه الاجتماعي، بصدد كل من المتماسك والمائع في الغائط سالفاً.
ولنا أن نتصور بالمقابل صلة الوصل بين الثوب الذي يلبسه المرء وتلوثه بغائط صاحبه حيث تكون الفاحشة قائمة نتيجة ذلك، كون الثوب يستر المرء، ويحجب العورة عن الأعين في الثقافة المتداولة، ليكون الغائط الملوّث للثوب تغييراً في هيئة الملبوس، بمعنى أنه يحيل المستور إلى عري، لأن الغائط يشير إلى الداخل في حالته الطبيعية.
إن كلاً من الرجل والمرأة لباس للآخر، كما ورد ذلك بجلاء في النص القرآني، ولكن يظهر أن المرأة هي المعنية بخطاب التأثيم والإدانة أكثر من الرجل، انطلاقاً من المفهوم الذكور للغة وفي التفسير كذلك.
وربما تكون الطرافة في تلطيخ المرء في سرواله بغائطه وغضبه على زوجته، إذا علمنا بأن الغائط يحيل إلى المال الذي يجنيه المرء ويحمله لوقت الحاجة، بينما المرأة فهي تحاول نزع السر هذا، انطلاقاً من السروال الذي يقودنا إلى عالم المرء الداخلي، إلى البيت واستتاره به وهو مع زوجته، وكأني بزوجته تريد نهبه ماله فيغضب.
لكنها الطرافة التي تعيدنا إلى حاضنة النص الديني وجنسانيته، عندما يكون الفاعل هو الرجل، ويكون المغطّي لجسم الرجل زوجته، وما في ذلك من تحديد القيمة الاعتبارية لكل من الهامش والمتن: الأصل والفرع..
وبصيغة أخرى، يكون أي ثوب في العرف السائد، بمثابة حماية المرء وظهوره بالمظهر المتناسب ونوع الثوب الملبوس، لأن ذلك يحدد موقعه، وبالتالي فإن ما يلوث الثوب هو ما يعرّضه لخسارة أو لانتكاسة يعلم المحيطون به، وفي الجانب الآخر، يكون السروال الداخلي السر العميق للمرء: الرجل، والمرأة هي أكثر الناس معرفة به، وربما يعني ذلك أن تلوث سرواله الداخلي بالغائط، يرتد في سببه إلى زوجته، إلى أنها كانت وراء مصيبته تلك.
أليس المتردد حتى راهناً في وسطنا بأن المال قذارة الدنيا، أو وسخها، وعلينا ألا نغفل عن حقيقته، وأن المرأة هي عين الرجل وكاتمة سره وفضاحته، وهي القادرة على إلحاق الأذى به، وإغضابه باعتبارها لصيقة به (2).
إنه الحراك الوظيفي اليومي للمرء، وما يستند إلى عنصر الدعم الحياتي والجدير بالتسمية، بما أن الغائط مردود الرجل، أو رصيده المادي من وراء عمله، بينما المرأة فتكون ثابتة، وهي تكون فاعلة تبعاً لسويتها الأخلاقية في تقدير مصير الرجل: زوجها، عبرالحفاظ عليه ومساندته، أو من خلال السعي إلى نشر سره بين الناس قاطبةً.
الغائط بموضعه: نحن هنا إزاء لعبة العلامات الكبرى، رغم أن التفسير السيريني يذخر باللعبة العلاماتية المثيرة:
بين أن يكون جارياً استتاره بالتراب وإشهاره من خلال مراعاة الموقع وما يتمثَّل في الموقع اجتماعياً وبؤرة التوتر الاعتقادية وفاعليتها في ذلك، ومنه وفيه كمون سرنا الكبير ومأساتنا، لكن التحول إلى النفس يمارس زحزحة للمفهوم لأن النفس لا تكتم سراً إنما تذيعه وخصوصاً في وضع افتضاحي كهذا. النفس سطح كتيم، عصي على نفاذ الآخر والتستر عليه وهو في الأصل موجه إليها من باب الإساءة وليكون الفراش الذي يتغوط فيه علامة مركزة ومهددة لحياة الرجل، إذ الفراش موجود في البيت وهو مستقر الرجل، أي زوجته كما لو أن التغوط في فراش يعني الإفصاح عن وضعية مميتة لأن الفراش ينشر الرائحة علامة على نهاية مدة صلاحيته!
الغائط المشتهى كثيراً: إنها لطرافة أخرى، لا يمكن التقليل من ذكاء القائل بها، عندما يكون الوصل الشديد قائماً بين الخبز والغائط( ولكم تعف نفسنا من ذكر علاقة كهذه؟!، ولكنه عالم النوم، الحلم برموزه!)، عندما يكون غمس الخبز في العذرة تحديداً، إشارة إلى غمس في العسل في حال اليقظة، وثمة من يعتبر ذلك مخالفةً للسنَّة!
في وسع أي كان وربما بإجماع الاعتراض على هذا الدمج بين الخبز والعذرة. إنما مهلاً! في الخبز قوتنا اليومي، إنه المادة الرئيسة في الغذاء في تركيبه البروتيني الرئيس، ولكن لماذا العذرة؟ إنها حالة كشكولية، أو تنوع، أو صهر لأكثر من عنصر في وحدة واحدة هي صهارة المعدة، وخلاصة الطعام، حيث يكون المطروح شاهداً عليه.
في الطرف المقابل، يأتي العسل، ومن ينكر أن العسل ليس أكثر من صهر أنواع من رحيق الزهور، أو أرواح نباتات معينة، لتكون الوجبة الدسمة والمشتهاة: العسل، والذي يتناسب وخاصية الخبز وكفاءة التركيب للجسم!
وليكون الاعتراض على عملية الوصل، ليس أكثر من فعل الاستساغة غير المقبول وما يشكله العسل من جماع قوى، من تركيبة حية لروائح حية وشهية من روح كائنات لها اعتباراتها المؤثرة، كما في حال السنَّة حيث إن التفريق بينهما يصعد بالموضوع إلى دنيا الذوق أو عالمه من خلال المعطى الاعتباري للخبز حياتياً وما يمنَح لذات العذرة من قيمة مغايرة لما تعرَف به في حياتنا اليومية. إنها عملية كيمياء الذوق والحدود المرسومة للخراء.
ولكن التفسير المتعلق بالحلم في عالمه اللاشعوري، يكون له مبحث آخر بأدواته المغايرة كلياً لما نعتمده واقعاً.
الغائط بين الإشهار والاستتار: يعود الغائط إلى شخص معين، إنه رأسماله الشديد الذاتية، والذي لا يجوز الكشف عنه، لأن مجرد إظهاره يعني الكشف عن سره للآخرين. إنه ذهبه الذي يتباهى به أمام الملأ، ويستثيرهم به.
وابن سيرين حين يبرز فداحة الموقف وفظاعته، جهة استعراض التبرز في أكثر الأماكن ارتياداً من قبل الناس: الأسواق والحمامات والجماعات، فكأنما يتعدى أكثر الحدود قدسية، باعتبارها خاصيات الآخرين وتكون مرفوعة القيمة إلى الله، أي كأنما يسخط الله فيما هو دار ٍ به، ومن خلال مؤخرة يجب سترها، وفي ذلك يكون الإثم العظيم.
ولا أظن أن ثمة ما يترهبه أحدنا أكثر من مؤخرته حيث يكون في أكثر لحظاته انغماراً بمأثرة الذات وقد تفرَّغ لها استجابة لمتطلبات الظرف الخاصة، في غفلة عن الآخرين، وكل ذلك يسمح برؤية الناس له في موقفه المريب.
إنها اللحظة التي لا يتمناها أحد، وهي اللحظة التي يشدّد عليها المفسّر كفقيه وعالم بما هو أخلاقي وذوقي كذلك.
في السياق نفسه، يلاحَظ مدى اهتمامه بتفاوتات المكان تبعاً لصلته بالناس وكيفية تعامل الناس معه، أو تصرفهم فيه، عندما يظهِر الوجه الإيجابي في التغوط بعيداً عن الآخرين، في الأمكنة التي يمكن أن يختفي الغائط سريعاً، أو لا ينظَر فيها ويدقَّق كما في الحالات السالفة الذكر( فإن أحدث في مزبلة أو شط البحر أو في موضع لا ينكر لذلك فهو دليل خير وذهاب الهم والوجع)، لأن إيجابية الموقف تستدعي نوعية المكان وما هو موجود أو قائم فيه.
في هذا التحديد ثمة ذهاب بالتفكير إلى وضع خرائطية اجتماعية – مدينية إلى إحداثيات النظر وكيف يمكن للثقافة أن تكون تعبيراً عن مستجدات تاريخية والاستقرار الأفضل في المكان وما يكسِب المكان، من قيم اجتماعية شتى.
المزبلة تسمّي المكان الواحد بهيئة معينة، بقدر ما تعزله عما عداه كما لو أنها تعتبر كل داخل فيها في عداد اللامنظور، وهذا ينطبق على مفهوم التغوط ومشهد المتغوط، إذ لا أحد ينظر جهة المزبلة لهذا الغرض الموسوم.
ولأن الزبل- أصلاً- يرتد إلى الجهة السفلية من الكائن، ولذلك يكون القرف منه، فإن الاعتماد عليه أداة رمي ٍإلى أحدهم، يعني مباشرة احتقاره أو التعبير عن مدى الإساءة إليه، سواء أكان هو السبب أم لأن هناك من يخاصمه.
ثمة فن إدارة الواقع عبر لعبة خاصة، لها قوانينها وأساليب اللعب فيها، وطبيعة خاصة بالنسبة للذين يشكلون عناصرها أو يتفرجون عليها، لا أحد ببعيد عنها، في عالم الحلم، ولكل امرىء موقعه داخل اللعبة: بين مندمج ومتفرج، ومتابع عن كثب، ومتعرض لآثارها، كما هو وضع الناس وما يجري فيما بينهم على صعيد الأكثر الأعمال سفالة أو رذالة ونقيضها، وردود أفعالهم فيما بينهم. إنها لعبة مؤخرات وما يخرج منها ويسمّيها كذلك.
ولأن للزبل، كما هو موصوف عند ابن سيرين مكانة لافتة في السلب والإيجاب، فإن وقوعه في الطريق يعترض العابر ويصدمه ، يفصح عن الخلل الحاصل في المجتمع،لأنه المنتوج اليومي والدائم للإنسان ولأي كائن حي في وسطه أو بجواره، ويحيله إلى عالمه الجوفي. الزبل علامة فارقة لأكثر أرصدتنا الجسمية أنانية وإثارة للشبهات، عروضنا التي تجلو ما لا نريد من أحد رؤيته في الحالة العادية، وما نعلم به على أنه يسيء إلى الآخرين وأي إساءة، ولا بد لها أن تقع خارج منطقة النظر الاجتماعي، كما هو مفهوم القمامة أو المزبلة مدينياً!
ابن سيرين فيما انطلق منه وانتهى إليه، كان يعبّر عن علاقة نسب وانتماء إلى مجتمع ممهور بثقافة دينية: إسلامية، إنما تكون تلك ثقافة لها أركانها وفروعها التي تنتظم داخلها علاقات الناس، من خلال هذا الذي يسمّي في المرء سرَّه الداخلي، ويمتزج بأسرار الآخرين، بينما تكون جملة حيوات مكشوفة في التفاعل الاجتماعي.
لكن ما يجب التنبه له في كل معاودة تبين ٍلأي مفردة وردت في المعجم السيريني الحلمي، وفي أي مسألة ذات صلة بالموضوع، هو الوقوف على دلالة المفردة هذه، جهةَ احتمالية المعاني والظن، كما في( قيل)، وما يرادف هذا الفعل الماضي، وليكون الرجل في موقع الناقل، أو إلقاء المسئولية على مصدر مجهول، لأن ما يقاربه ليس بالأمر السهل أولاً، وليمنح القارىء، أي قارىء، ما يتحفز له من جهة أخرى، إلا إذا قطع ظناً بيقين، في قولة لا لبس فيها، من مثل( وأنا أرى، أرى، أقول...الخ)، ليكون الغائط في مستوى مركّباته وعدته المساهمة في تكوينه!
هل يمكن معايشة ابن سيرين فيما استعرضه غائطياً، كمتخيَّل على الأقل؟
الهوامش:
1- ابن سيرين، محمد: تفسير الأحلام، تحقيق يوسف علي بديوي، دار ابن كثير، دمشق- بيروت، ط2/1993، صص 161- 162، وخط التشديد من عندي، لأهمية النص المتعدد الإيحاءات والدلالات.
2— في المصدر نفسه، يقول ابن سرين في فصل، أو باب( الكسوة..)، عن تفسير( السراويل)، ما يلي( السراويل امرأة ديّنة أو جارية أعجمة... والتسرول دليل العصمة عن المعاصي. وتغوطه“أي الرجل” فيه دليل غضبه على امرأته.. وانحلال سراويله ظهور امرأته للرجال...الخ. ص 211).
لعل ذلك يبرز جلياً في الحلم، وما أشبه الحلم هذا بالمفارق لنا فيما نريد ونرفض، حيث إن الحالم فينا لا يكاد يشبهنا بقدر ما يتراءى معارضاً لنا، شامتاً بنا، يوتّرنا في نوعية ما يواجهنا به بين الحين والآخر، إنه يقيم داخلنا دون أن نعلم به، ويختفي عن الأنظار دون إعلامنا، فيكون في حضوره وغيابه، كما لو أننا أضعف مما نتصور، لا بل ومما نعتقد، أننا خلاف ما هو قائم باسمنا من حولنا، تأكيداً على أننا، ونحن نتكلم عن الإرادة، لسنا من يقرر ماهية الإرادة بالطريقة التي نزعم أنها كذلك، وإنما نكون دون حقيقتها، وحتى إن شدَّدنا على ذلك، فيا لبؤس ما نصنعه هنا، عندما يباغتنا الحلم ونحن طوع أمر النوم، بمجريات أحداث نعجز كثيراً حتى عن استردادها، وكذلك عن محاولة أولية للبت في بنيتها، وما يترتب على ذلك من شعور بالحيرة والاضطراب، كما كان حال أولئك الذين عاشوا قبلنا منذ آلاف السنين وهم يعتقدون بوجود أناس، بشر من نوع آخر في كل واحد منهم، يختلفون في بنيتهم الشخصية ولغتهم التي يتكلمون بها، وطبيعة تحركاتهم وأهوائهم وصلاتهم مع العالم الخارجي وفيما بينهم..
إنه العالم الأكثر قابلية للإثارة بالنسبة لنا وفينا، حيث نظل منقسمين على أنفسنا في الكثير الكثير مما نحلم، وبشكل خاص عندما نشعر أن ثمة ما يضغط علينا ويتلبسنا في هيئات مخيفة، ومرعبة أيضاً، خلاف المعتاد في حياتنا.
يكون هناك مفسّر الأحلام وهو ليس واحداً، إذ إن الثقافات كما هو تاريخ الحلم قد أنتجت بصورة ما، أصنافاً من المفسرين متعددي المراتب بأوقافه، يجمعون بين خاصية الثقافة التي ينتمون إليها وحتى العقيدة وتأثيرها في الثقافة تلك وجانب الثقافة الإنساني وقابلية المفسَّر خارج نطاق الشخصي أو الفئوي، وما يجلوه هذا التنوع في الموقف من الحلم ثراء عالمه وصعوبة التكيف معه باعتباره غير خاضع لمنطقنا المتداول من ناحية وتخصصيته في رموزه ذات الصلة بالبيئة والثقافة المحلية وتأثيرها على شخصية القائم بالتفسير المركَّب من ناحية أخرى.
لكننا، ولأننا لا نملك إلا خيار الإصغاء إلى هؤلاء، وكلٌّ بحسب عمق المعنى ووقفه وصنفه فيما يفسّره ويثيره بصدد طبيعة الحلم ونوعه وظروف زمانه ومكانه والشخص الحالم وموقعه...الخ، فإن المقدَّم يشغلنا ويعنينا كون المفسَّر يبقى أولاً وأخيراً عائداً إلينا، في تعميق نظرتنا إلى الكون والآخرين وإلى الذات أكثر من أي شيء آخر..
كان هناك فرويد الذي ألمحنا إليه قليلاً، وسوف نعود إليه لاحقاً، نظراً لأهمية ما أثاره جهةَ المقاربة التفسيرية وحتى على صعيد البنيان الثقافي والوعي الحضاري، وآخرون جاؤوا من بعده، أضفوا عليه طابعاً من العالمية، حيث لا أظن أن ثمة من اهتم بالحلم، ولم يخصص جانباً من اهتماماته به في منظومته التحليلنفسية الشديدة الثراء.
في موضوعنا الذي يكتسب قيمة تخصصية جداً جداً، يبرز الحالم في موقع لا يحسَد عليه، رغم كل الإغراءات المقدَّمة من أهل التفسير، ودورها في تخفيف صدمة التعامل اللاشعورية، وهي شعورية الحلم، بالخراء بالذات في تنوع هيئاته ومن يصلنا بهم، أو ما يصلنا به باعتباره خراءنا وقد تعددت صوره، وروائحه وحالات النظر إليه ومواقعنا ...الخ، لأن الثقافة التي لما نزل نعيشها ونتفاعل معها باعتبارها الرئيسة في حياتنا لم تمنح الحلم ما يستحق من مكانة، طالما أنه ينتمي إلى عالم الآخر: اللامرئي والصامت فينا، وكونه يمس أدق التفاصيل- ولو رمزياً- في حياتنا، وتكون هيئاته من التعقيد وما في ذلك من إحراج لنا كما هو المألوف فينا، بحيث نتكتم عليه أو لا نكون أمناء في نقله ووصفه حرفياً.
إن المفسّر الإسلامي ابن سيرين “ت110هـ”، وفي معلَمه الإسلامي، ومن خلال ثقافته الإسلامية، ترك لنا تراثاً ثميناً عرَّفنا بعالمنا الآخر، لا نستطيع التقليل من مقامه المعرفي في التفسير تبعاً لوضعياتنا وانتمائنا النوعي.
من خلال الشمولية وما فيها من تنوع، أفصح عن ذلك الاعتراف بتفاعل العناصر فيما بينها بحسب لائحة قواها ونظراتنا إليها، وكذلك تأثرنا بها، وكأن هذا الإجراء تعبيراً عن وحدة الكائن فينا وهو متنوع الصلات بمحيطه.
لقد كان للخراء “نصيب” ملحوظ في أدبياته الحُلمية، وهو المتصف بالورع والزهد والتفقه في الدين، كما هو المدوَّن عنه في تاريخ الأعلام، حيث إن كل مادة مفسَّرة، وتبعاً للأبواب المتسلسلة، تبرز نوع علمه وفقهه وتاريخيته، من خلال مدونته المنسوبة إليه ( تفسير الأحلام)، وما يعنيه العنوان هذا من طابع التعميم أو الشمولية..
إن أول ما نستشعره لحظة قراءة الباب المتعلق بالخراء “الغائط”، هو أنه من حيث التحفظ عليه نظراً لما اعتدناه في حياتنا اليومية، يلي من جهة الأهمية وعامل الإحراج في طبيعته ما يصلنا بأقرب المقربين إلينا، وكل من له شأن في حياتنا، على صعيد الجنس ( الاتصال الجنسي بالمحارم، أو الدخول في علاقات جنسية في أكثر من حالة ومن وضعية مع ذوي نفوذ وسلطة..)، وتأثير ذلك فينا ونحن نحتك بهم أو نشعر بهم كقوى فاعلة في الحياة.
الغائط باسمه الوارد في المدونة السيرينية لا يسبب لنا إحراجاً، إنما ربما يولّد فينا الامتعاض وكراهية الذات بقدر ما يكون حضوره خلاف اليومي. إن طرحناه في عملية بيولوجية محضة، أقبلنا عليه برغبة ما، حلمية، ونحن نيام، إنها رسالته التي تردنا بين الحين والآخر، وهي تعلمنا بأنه خلاف ما نتصوره عنه.
إن أهم فكرة، وهي مأثرة ابن سيرين قبل ثلاثة عشر قرناً ونيّف تنسَب إليه بصدد النقطة هذه، هي أن الذي نستهين به لا يستحق ذلك. إن قدرتنا على التبرز تعني قابلينا للحياة. إن خراءنا دليلنا الحي على أننا مستمرون في الحياة من خلال عملية الهضم الجيد. إنه هديتنا البينذاتية( بيننا وبين أنفسنا)، كما لو أننا نستعيد طفولتنا في كل مرة يكون خراؤنا مادتنا الحلمية، وهنا يكون فرويد حاضراً، والذي ألمح فيه إلى أن البراز واقعاً هو بمثابة الولادة: ولادته في الحياة، لأن تغوطنا الأول هو توقيعنا السفلي على سطح عالم غير مرئي، تكون الأم قادرة على أرشفته في ذاكرتها وإعلامنا حين نكبر، ولادة مقابل ولادة أخرى، استعداداً لحياة تنتظرنا، بقدر ما يكون هديتنا إلى العالم الخارجي، إيذاناً لمن هم حولنا أننا أصحَّاء، أننا أهل للحياة، وهذا يفرحهم بصورة ما.
ابن سيرين وبعيداً عن المقاربة التشريحية: الفيزيولوجية والثقافية التي تميَّز بها فرويد، قبل قرن ونيّف، كان لديه عمق الرؤية لخاصية الرؤيا العائدة إلى الحلم، إلى المقدرة الذاتية على تفكيك خاصية الحلم بثقافته التي هضمها، ومن ثم طرحها في محيطه، حيث يكون التركيز على الخراء، تبيناً لفعل الخراء هذا من قيمة حياتية مركَّبة..
ما الذي أثاره ابن سيرين في تفسيره الحلْمي المنسوب إليه، عن الغائط ومقام الغائط وأدوار الغائط في حياة الكائن الذي تصوَّره أو كما تهيَّأ له؟
سأعمد، إلى إيراد جملة أقواله ذات الصلة، ومن ثم سأتوقف عند بنيتها الدلالية ومقاربتها ثقافياً:
( وأما الغائط فقد قيل: هو رزق من ظلم، وقيل: هو دليل الفرج. ومَن رأى أنه أحدث ذهب غمُّه، فإن كان ذا مال فإنه يزكّي ماله. وإن رأى كأنه أحدث غائطاً كثيراً وكان على سفر فإنه لا يسافر، وتنقطع عليه الطريق. وأكل العذرة وإصابتها وإحرازها مال حرام مع ندامة، وربما كان كلاماً يندم عليه لطمع. ومن أحدث وكان الحديث جامداً فإنه ينفق بعض ماله في عافية. وإن كان سائلاً فإنه ينفق عامة ماله. فإن كان موضع الحدث معروفاً مثل الموضأ فإن نفقته معروفة بشهوته. وإن كان مجهولاً فإنه ينفق فيما لا يعرف مالاً حراماً لا يؤجر عليه ولا يشكر عليه، وكل ذلك يطيب نفس منه. وكل ما خرج من بطون الناس والدواب من الأوراث فهو مال إلا أن تحليله وتحريمه بقدر ريحه وقذره وأذاه للناس، إلا أن يكون شيئاً غالباً كثيراً من عذرة الناس شبه الوحل، فهو همٌّ أو خوف من سلطان. فإن أحدث في ثيابه أحدث فاحشة، وإن أحدث في سراويله غضب على زوجته ووفَّر عليها مهرها. فإن رأى أنه أحدث في موضع وستره بالتراب فإنه يستر مالاً. فإن أحدث على نفسه وقع في خطيئة. فإن أحدث في فراشه مرض مرضاً طويلاً لأنه ما يفعل ذلك في اليقظة إلا من لا يستطيع القيام، وتدل هذه الرؤيا على مفارقة الرجل امرأته.
وقيل: من رأى كأنه يأكل الخبز بالعذرة دلَّ على أنه يأكل الخبز بالعسل في اليقظة، وقيل: هو مخالفة السنَّة، فإن تغوَّط من غير قصد منه فحمله بيده فإنه يُرزق كيس دنانير حراماً على قدر الغائط. ومن رأى كأنه يحدث في الأسواق العابرة العامرة أو في الحمامات والجماعات دلَّ على غضب الله عليه والملائكة، وتناله فضيحة عظيمة، وخسارة كبيرة، وظهور ما يخفيه الإنسان. ويدل أيضاً على نقص يعرض لصاحب الرؤيا. فإن أحدث في مزبلة أو شط البحر أو في موضع لا ينكر لذلك فهو دليل خير وذهاب الهم والوجع. فإن رأى كأن إنساناً معروفاً يرميه بشيء من زبل الناس فإن ذلك يدل على معاداة ومخالفة في الرأي والظلم يعرض له ممن رماه بها ومضرة عظيمة.
وكثرة زبل الناس أيضاً تدل على تعويق عن الحركات والإقبال على مضار كثيرة. والتلطخ بزبل الإنسان مرض أو خوف، وهو أيضاً دليل خير لمن أفعاله قبيحة وقد امتحنا أن ذلك مما ينتفعون به..)(1)..
هذه القائمة الواردة تمثل مجمل ما توقف عنده ابن سيرين، والسؤال هو: كيف يمكننا التوقف عند الذي توقف عنده؟ هل من قراءة احترازية، وفي زماننا، تراعي قراءة مفسّرنا تاريخياً، ومدى أهليتها للاستمرار حتى الآن؟
إن النظرة الأولى لمجموعة أقوال وردت بصدد الغائط في كتاب( تفسير الأحلام)، تستوقفنا قبل كل شيء، لاتخاذ الحيطة والتروي قبل الدخول في أي حوار أو مساءلة حول المجموعة هذه، من خلال دلالة فعل الماضي(قيل)، وما يعنيه هذا الفعل من احتمال وقوع الصواب والخطأ في الوارد، أن نعتبر ما قيل في حكم الممكن تبينه، دون البت بأي قرار يمثّل حقيقة من الحقائق المتعلقة بما تقدَّم، كما لو أن الأمر مدوَّن من باب الطرافة، ولكنها الطرافة التي ينبغي ألا تدعنا بعيدين عن بنية الوارد، وكأن الذي تفوه به لا صلة له بما يقول، وبمن يتحدث عنهم، من خلال ثقافة قائمة، يمكن أن تستثير ردود أفعال حادة، فالوارد ينحصر في نطاق المدرَك لأهمية الجاري تفسيره اعتماداً على تصورات عقيدية وثقافية، وكذلك استنداً إلى وشائج قربى بين الجسم والموقف منه دلالياً.
ثمة علاقة متينة بين رؤية الجسم بمفهومه المادي وكيفية تلبيسه بما هو معتقدي، عدا عن وجود إلمام معرفي: علمي ونتيجة معاينة فعلية لما يخرج منه، وعلاقة الجسم بالهضم جهة الطعام، ومكانة الشخص والمكان ذاته.
يمكن اللجوء إلى نوع من التبويب أو الترقيم بشأن الغائط وتنوع دلالاته:
الغائط الذي يشير إلى الآخر: ذلك أن الغائط بقدر ما يكون غائطنا، فإنه يكاد ينفصل عنا من جهة توقيت خروجه، أي طرحه العضوي، كما يقال، إنه حصيلة عملية هضمية، ننتظرها لنكون على بيّنة، وهي أننا بخير فيما نحن عليه، كما لو أن الذي يحدث داخلنا، أن هذا المتشكل في غيبة عنا يقوم به أحد ما، يعنينا ولا يعنينا انطلاقاً من تلك الخاصية الحيوية المستقلة عن رغبتنا النفسية، سوى أن الأهم هنا، هو ارتباط الغائط بما هو قائم خارجنا من سلع استهلاكية وطريقة الحصول عليها ومن نتعامل معهم في وسطنا وكيف أننا نبذل جهداً في التحصيل، وأن ما يؤخَذ لا يستهان به، إنما ثمة معاناة، حتى لو كان الشخص متنفذاً، فالآخر يظل متخيّلاً، وإمكان تهديده له يبقى وارداً، كما لو أن الغائط، وهو في قلب العملية الهضمية، إعلام بحضور المفارق والمؤثّر فينا، بحيث لا نقدر على تطويعه لنا كما نريد. إنه عالمنا الداخلي، عنف الآخر وهو فينا، وكأننا وجدنا لأجله، وعلينا إدراك هذه الحقيقة.
من جهة أخرى، يكون هذا المحصَّل عبر التغوط بمثابة النتيجة المتوخاة. إن من يتغوط فعلاً يعني أن الذي كان يعيشه في داخله، بعد تناول الطعام، بزمن معين، عليه أن يخرج، وكأنه مأزوم طالما أن الخروج لم يحصل.
إننا نبدي الكثير من علامات الارتياح، بقدر ما نعاني من قبض، وما القبض في حقيقة أمره، إلا فعل دخول في حكم من نعجز عن مواجهته كما نريد، إنه نوع من الأسر، أو الوقوع في أزمة، مأزق، ضيق معين، ونحن لا شأن لنا به على صعيد المواجهة كونه يخضع لنظام حيوي، حيث إن أقصى ما فينا بذله، هو في اللجوء إلى وسيلة ما، لها صلة بعملية الطرح. أن يكون الغائط دليل فرَج، فهو المعبّر عن وضع جسمي يثقل علينا من الداخل، وما علينا إلا أن نسايره، أن يكون لنا ساعياً وما في ذلك من لين، لتسهيل عملية التغوط. إنها لعبة كاملة نحن طاقمها..
ولهذا، فإن ابن سيرين، عندما يشير إلى الغائط وقد حصل، يكون ثمة ربط لافت، بين البعد المجازي في تجنب أذى ما: ظلم معين، في الحالة الأولى، والبعد المجازي الآخر، في استعادة التوازن، حصول الفرَج لاحقاً.
إنه غائطنا الذي يعلمنا دائماً بخطورة دوره، في إشاراته المستمرة إلى جدل الداخل والخارج والذي نكون ساحته.
ينطبق ذلك حتى على المغموم، باعتبار الغم داخلياً، وهو لصيق بالحياة، وهي عملية استبدالية، عندما يكون الجاري في الداخلي قريناً للخارج، وعدم التغوط عبء أو مسبب عبء وهو غم، وحصول التغوط التماس لراحة مرجوة، أو كما لو أن الذي يتغوط يريد جسمه، ويتوازن به، وهو أصل ذهاب الغم وإيتاء الزكاة برغبة معلومة!
الغائط الذي يحول دون السفر: ما العلاقة بين الغائط الكبير وعدم القيام بالسفر؟ هل من قراءة متعدية لذلك؟
ثمة ما يمنعنا من السفر طبعاً، بوجود أسباب وجيهة، إنها أسبابنا الخاصة أو المحيطية، تبقينا في ذات المكان، استجابة لضغوط أو مستجدات لا بد من أخذها بعين الاعتبار. لعل الغائط الكبير يشكل تجاوزاً من حيث المفهوم، لما هو معتاد في الغائط العادي. إننا نهوّل رؤية غائطنا الكبير فكيف برؤية غائط الآخرين؟ إذ يكون محط نظر خاص من قبلنا، وهو يشغلنا بطبيعته، لكأنه علامة شر، لأن ثمة عدم تناسب بين الذي نتبصره أسفلنا، وما نظن أنه خلافه لحظة تناولنا للطعام وما يمكن أن يحصل تالياً. إنها مضاعفة النظر فيما ليس مألوفاً، وما يعقبه هذا النظر من تفكير بما جرى، أو يمكن أن يجري، حيث يشغلنا بمستجده، خلاف الحالة العادية، عدا عن أن الغائط الكبير في تقديرنا يشغل الآخرين أيضاً، إنه مجال للتعليق أو للمساءلة- ولو كانت صامتة- لعل فيه كشفاً حسابياً لما يعنيه في أدق أسراره أو في بيته وماله ومحاولة مراجعة ما تم الإغفال عنه، لتعود الأمور إلى ما كانت عليه.
العذرة بين الحرام والطمع: ثمة تحويل بالمفردة، حيث الغائط استحال عذرة: خراء. ما وجه الارتباط بين أكل العذرة هذه، ودون تحديد المرجع( لمن تكون)، وتلك الصفة الأخلاقية: الحرام بمعناه الديني والطمع اجتماعياً؟
تشير العذرة إلى الآخر، إلى شخص ما يتبرز حيث تكون العذرة منفصلة عن الذي يقبل على أكلها، ولعل في حال الإقبال على أكل العذرة ما يحدد صفة اشتهاء الآخر، كون العذرة تخص جانباً من ملكيته، بقدر ما تسمّي الشخص في المجتمع، كما لو أن التغوط هو فعل ذاتي، أما العذرة فخروج إلى الآخر، وبحث عنه، وليكون في أكل العذرة تصيد لشخص في مال له دون وجه حق بحيلة ما، ربما في غفلة منه وما ينطوي عليه هذا الإقدام من شعور بالذنب، أو بالندامة. إن خراء الآخر علامة مسجَّلة باسمه، والاقتراب منها بلبلة لنظام اجتماعي وحالة تعدَّ ما على ملكية خاصة، إلى جانب أن رؤية العذرة باعتباره سراً لشخص مختلف، تثير الفضول بالاقتراب مثلما تحفّز الشعور القنصي ببعض الاختلاس، وعدم إدراك خطورة الحالة كما هو شأن الكلام الذي نتمادى فيه، وما في هذا الربط بين التغوط أرضياً، والتفوه بالكلام علوياً من علاقات مرئية ولامرئية تتجاوزنا في حدودنا الزمكانية، وما نعتقده خاصياتنا الفردية. في الحلم تتقابل الفتحتان الرئيستان عملياً، لا بد أن تكون السيادة للفتحة العاملة أكثر من الأخرى، حيث لا يعود الفم يعمل ربما حتى في التنفس، لأن ذلك يشغل الأنف كثيراً، ليكون الشرج فماً أكثر اعتماداً عليه، إنه عالمنا الذي نحسب له ألف حساب، حتى ونحن أيقاظ، إذ نحرص عليه ونحن نيام، مع شعورنا الذي يمتزج بالخوف مما يمكن أن يحصل، حيث نكون قابلين لتصيد الآخر، في عداد رغباتهم إساءةً ونهباً..
الحديث بين الجامد والمائع: تلك هيئة أخرى لها صلة مباشرة بنوعية غائطنا، وتأثرنا به في كل حالة من حالاته:
حيث إن الهيئة تمثّل جانباً من جوانب الحالة والمكانة اللتين تخصان الفرد الواحد. نعم، إننا في عالم اليقظة نكون أقرب إلى التحكم بأجسامنا، ندرك ما نقوم به نوعاً ما، ولكننا نتقهقر دون دراية منا في عالم النوم، حيث يأخذ الجسم كامل راحته، أي يطبّق قوانينه الحيوية على كل ما يعنينا من منظور الجسد ككينونة جوهرانية واعية، وفي مثال الحديث، ثمة الفعل الذي يُعايَن بالبصر والبصيرة بما أن الفعل خطاب كامل ومفعّل في الجسم موجَّه من الجسم إلى الجسد، إنه رسالته المؤجَّلة وقد آن أوانها. إنه اختيار التوقيت المناسب لما هو عضوي ولفت النظر إلى أن الجاري نشاط جسمي ولكنه يشي بدلالته من منظور المكاشَف كما لو أن المؤخرة بنشاطها الحاصل في الحلم، تمثّل وضعاً برزخياً في انتقال ما هو لاشعوري إلى شعوري، وربما في تأكيد مدى نفوذ الجسمي في الجسدي.
وفي رؤية الجامد ثمة سهولة في تقدير الموقف والحالة النفسية بالذات، كون الجامد ليس أكثر من دخول الغائط في طواعية المتغوط، حيث فعل الخروج يكون بالتناسب مع ما يريده، دون وجود اضطراب أو حتى مضاعفات تترتب على الحديث، باعتباره جامداً، والجامد هذا يسهل التخلص من أثره العالق وهو قليل. لعل ذلك مشهد تصويري وشديد الفطنة لذات الغائط: الحديث، وهو على قدر تماسكه، يريح الشخص، كونه بتماسكه في كلّيته في هبوطه يحتل بقعة ضيقة دون انزياح جانبي، وهذا خلاف المائع الذي تتضاعف مشاكله، بقدر ما تكون آثاره ظاهرة على الجسم، في فعل التطريش، وتبعاً لنوعية ميوعته كما لو أن المائع إعلان تمرد وخروج عن السيطرة.
نعم، في الجامد يكون إمكان التحكم متوفراً، بينما في المائع ينعدم التحكم بالجسم بنسبة لافتة، كما في الإسهال.
تلك هي اللعبة الاقتصادية الأكثر احتفائية بالمعاني، تمتد بين طريقة اختيارنا لنظم أعمالنا،وجمع المال، وتأمين الحالات الاستهلاكية وكيفية تدبّر أوقات الطعام، ومع من وأين. إننا في منتهى الاستقلالية والقدرة على ضبط ما يخص غرائزنا أو دوافعنا، طالما أننا لم نحِول ما ابتعناه من سلع مختلفة إلى طعام، أو غذاء. ولنا أن نتصور ما نريد وما لا نريد خارج عالم المعدة، ولكن في اللحظة التي نودَع المعدة ما ابتلعناه وشرنبناه، تقوم المعدة بإشراك كامل الجسم في عملها الهضمي، وعلى قدر الكمية المدفوعة إليها، ليكون الغائط نتيجة مترتبة على ذلك.
في الجامد ثمة ما يحيل إلى منحى لغوي، وحسّي، جهة الصلابة وتبين الشكل، بينما في المائع ينعدم الشكل، إنه دخول في حالة خطر، لأن المائع ليس مجرد اختلاف في وظيفة الهضم فقط، وإنما انعكاس الأثر على كامل الجسم، كما لو أن إعلاناً لأزمة يجب التنبُّه لها. والمائع من الميوعة، حيث يكون الشخص فاقداً اعتباره.
إن المائع يشرِك كل الجسم بحدوثه، ويحثُّ على ضرورة معاينة الحالة قبل استفحالها. فهل كان ابن سيرين عالماً بقضايا الاقتصاد، والعلاقة الوثيقة بينه وبين الجسم؟ إن كل شيء يتجسم وكل جسم منظور إليه كاقتصاد معين. لهذافإننا لا نخشى على جسمنا ومنه، وفي وسط مأهول، وحتى لو كنا بمفردنا، قدر تخوفنا من الوضع الحرج الذي نحن فيه في الحالة الثانية، إذ لا يمكن توقع النتائج إلى درجة الشعور بالخطر، فيما لو استمرت حالة الميوعة هذه، وهي الحالة التي ربما تستشرف بنا ما هو دلالي في( الميوعة) الاجتماعية ونبذها أو تجنبها وقائياً.
نلتزم البيت، نقلّل من تحركاتنا، ومن اتصالنا بالآخرين، نكون قريبين من الخلاء ، أو من المرحاض، وأكثر استعداداً للحالة الطارئة لحظة الشعور بالحدوث المائع. إن المائع رعبنا مما يمكن أن يتفاقم وينذرنا بخطر أكبر.
لهذا، فإن الجامد يشير إلى اقتصاد الجسم المنتظم، إلى ساعة توقّت زمن الخروج، إنه صرفنا الذي نعلم به، ونحن نقدّره بحساب معلوم، خلاف المائع الذي ينذرنا بالإفلاس، عبر ذهاب القوة كلما تمادى فعل الإسهال، كما لو أن المائع يستشرف الوجه الكارثي لكينونتنا الجسدية بامتياز. إنه تعويم الجسد بذهاب كامل قوة الجسم في الداخل، وكيف أن ذلك يكون لافتاً لأنظار الآخرين، كوننا لا نكون وحدنا، حيث الخروج يمثّل علاقة مع آخر مختلف..
الغائط بين المعروف والمجهول مكانياً: وتلك هي قسمة الأمكنة، وقسماتها، من خلال ترددنا إليها وموقفنا منها:
في الموضأ، تكون عتبة العبادة، يكون التحكم بالشهوات، من باب التفرغ لما هو إلهي، وترك الدنيوي خارجاً، وكل ما يصلنا به، وما عدا ذلك يفسّر العكس، كما في موقع الحدث المعروف بأهميته الدينية والاجتماعية معاً، إذ إن ذلك يدل على تقديم الشهوي الذاتي على ما عداه، وليس ما هو أقرب إلى الدنيوي فينا، من هذا الغائط الذي يذكّرنا دائماً بما نسعى إليه في الطعام، ونستهلكه في الهضم، وما نطرحه عبر الشرج. إنها ذاتيتنا المتدنية إذاً، أمام سمع الناس وبصرهم، كما هي علاقاتنا بهم، وليس مما يلفت أنظارهم مثل تقديم الرغبي الخاص على العام!
ويختلف الوضع فيما لو اختلف المكان لحظة اعتباره مجهولاً، كون المال الذي نحكم عليه يُعايَن من معرفة المكان وطبيعته، كما لو أن مجهول المكان يفقِد المال حكمَه الأخلاقي وإن كان في ذلك بعض من الرغبة في ذلك.
أمكنتنا ليست أكثر من مجالات مختلفة لمقاماتنا وتبين ميولنا وأذواقنا ونظم علاقاتنا وقيمنا المختلفة، على صعيد الدنيوي، وما في الدنيوي من تجليات أهواء وضبط لها. إن غائطنا محكوم بأمكنته، وما يخرج عن حكم المعلوم لا يعود في الوسع إصدار حكم، لانتفاء شرط الاسم الواصف. إننا نرتاح ونحن نتغوط في مكان مجهول من قبلنا، ولكننا لا نعلم ماذا فيه انطلاقاً من جهلنا بجغرافيته، وقد نباغَت بأحدهم في القرب منا ونحن في الوضعية تلك.
هل ابن سيرين يدعونا من خلال هذه الوضعية التغوطية إلى المزيد من الإدراك المكاني تجنباً لمشاكل تؤذينا؟!
الغائط الخارج بين التحليل والتحريم والرائحة والقذارة: إنها سيولة المال ووجهته والذين يتداولونه فيما بينهم:
إن من السهل تذكّر مصدر المتشكل في أمعائنا، نحن الكائنات الحية، وقد تم الجمع مع الحيوان، واستخدام الروث في صيغة الجمع بالمقابل، بديلاً عن الغائط بالنسبة للإنسان. فما يخرج مقدَّر بثمن، وهذا جار تقييمه أخلاقياً.
إننا إزاء عملية وصفية، حيث إن الغائط يرتبط بقذارته، والرائحة التي تنبعث منه، وما يعنيه هذا الوصف في الطرف الآخر، على الصعيد الاجتماعي، كون الرائحة تمثّل صيت المرء أو سمعته، وأن الصيت هذا يتصل بما هو منفَّذ من قبله على أرض، خصوصاً وأن الغائط محوَّل مادي واجتماعي معاً، وأن النظرة إليه تتفاوت بين الحد الذي يرى دون القذارة والرائحة النتنة، والحد الذي يكون مبعثراً في المكان وملخطاً إياه، مصحوباً برائحة عفنة.
إن ما يضفي على الغائط قيمة اعتبارية هو في الهيئة التي يُرى عليها، من خلال التماسك أو الميوعة، إذ إن وجود الغائط يدل على وجود الطعام، أي توافر إمكانات العيش، ومن يأكل جيداً، لا بد أنه يتغوط جيداً.
وهذا يعيدنا إلى ما سبق وأن أشرنا إليه ومنحاه الاجتماعي، بصدد كل من المتماسك والمائع في الغائط سالفاً.
ولنا أن نتصور بالمقابل صلة الوصل بين الثوب الذي يلبسه المرء وتلوثه بغائط صاحبه حيث تكون الفاحشة قائمة نتيجة ذلك، كون الثوب يستر المرء، ويحجب العورة عن الأعين في الثقافة المتداولة، ليكون الغائط الملوّث للثوب تغييراً في هيئة الملبوس، بمعنى أنه يحيل المستور إلى عري، لأن الغائط يشير إلى الداخل في حالته الطبيعية.
إن كلاً من الرجل والمرأة لباس للآخر، كما ورد ذلك بجلاء في النص القرآني، ولكن يظهر أن المرأة هي المعنية بخطاب التأثيم والإدانة أكثر من الرجل، انطلاقاً من المفهوم الذكور للغة وفي التفسير كذلك.
وربما تكون الطرافة في تلطيخ المرء في سرواله بغائطه وغضبه على زوجته، إذا علمنا بأن الغائط يحيل إلى المال الذي يجنيه المرء ويحمله لوقت الحاجة، بينما المرأة فهي تحاول نزع السر هذا، انطلاقاً من السروال الذي يقودنا إلى عالم المرء الداخلي، إلى البيت واستتاره به وهو مع زوجته، وكأني بزوجته تريد نهبه ماله فيغضب.
لكنها الطرافة التي تعيدنا إلى حاضنة النص الديني وجنسانيته، عندما يكون الفاعل هو الرجل، ويكون المغطّي لجسم الرجل زوجته، وما في ذلك من تحديد القيمة الاعتبارية لكل من الهامش والمتن: الأصل والفرع..
وبصيغة أخرى، يكون أي ثوب في العرف السائد، بمثابة حماية المرء وظهوره بالمظهر المتناسب ونوع الثوب الملبوس، لأن ذلك يحدد موقعه، وبالتالي فإن ما يلوث الثوب هو ما يعرّضه لخسارة أو لانتكاسة يعلم المحيطون به، وفي الجانب الآخر، يكون السروال الداخلي السر العميق للمرء: الرجل، والمرأة هي أكثر الناس معرفة به، وربما يعني ذلك أن تلوث سرواله الداخلي بالغائط، يرتد في سببه إلى زوجته، إلى أنها كانت وراء مصيبته تلك.
أليس المتردد حتى راهناً في وسطنا بأن المال قذارة الدنيا، أو وسخها، وعلينا ألا نغفل عن حقيقته، وأن المرأة هي عين الرجل وكاتمة سره وفضاحته، وهي القادرة على إلحاق الأذى به، وإغضابه باعتبارها لصيقة به (2).
إنه الحراك الوظيفي اليومي للمرء، وما يستند إلى عنصر الدعم الحياتي والجدير بالتسمية، بما أن الغائط مردود الرجل، أو رصيده المادي من وراء عمله، بينما المرأة فتكون ثابتة، وهي تكون فاعلة تبعاً لسويتها الأخلاقية في تقدير مصير الرجل: زوجها، عبرالحفاظ عليه ومساندته، أو من خلال السعي إلى نشر سره بين الناس قاطبةً.
الغائط بموضعه: نحن هنا إزاء لعبة العلامات الكبرى، رغم أن التفسير السيريني يذخر باللعبة العلاماتية المثيرة:
بين أن يكون جارياً استتاره بالتراب وإشهاره من خلال مراعاة الموقع وما يتمثَّل في الموقع اجتماعياً وبؤرة التوتر الاعتقادية وفاعليتها في ذلك، ومنه وفيه كمون سرنا الكبير ومأساتنا، لكن التحول إلى النفس يمارس زحزحة للمفهوم لأن النفس لا تكتم سراً إنما تذيعه وخصوصاً في وضع افتضاحي كهذا. النفس سطح كتيم، عصي على نفاذ الآخر والتستر عليه وهو في الأصل موجه إليها من باب الإساءة وليكون الفراش الذي يتغوط فيه علامة مركزة ومهددة لحياة الرجل، إذ الفراش موجود في البيت وهو مستقر الرجل، أي زوجته كما لو أن التغوط في فراش يعني الإفصاح عن وضعية مميتة لأن الفراش ينشر الرائحة علامة على نهاية مدة صلاحيته!
الغائط المشتهى كثيراً: إنها لطرافة أخرى، لا يمكن التقليل من ذكاء القائل بها، عندما يكون الوصل الشديد قائماً بين الخبز والغائط( ولكم تعف نفسنا من ذكر علاقة كهذه؟!، ولكنه عالم النوم، الحلم برموزه!)، عندما يكون غمس الخبز في العذرة تحديداً، إشارة إلى غمس في العسل في حال اليقظة، وثمة من يعتبر ذلك مخالفةً للسنَّة!
في وسع أي كان وربما بإجماع الاعتراض على هذا الدمج بين الخبز والعذرة. إنما مهلاً! في الخبز قوتنا اليومي، إنه المادة الرئيسة في الغذاء في تركيبه البروتيني الرئيس، ولكن لماذا العذرة؟ إنها حالة كشكولية، أو تنوع، أو صهر لأكثر من عنصر في وحدة واحدة هي صهارة المعدة، وخلاصة الطعام، حيث يكون المطروح شاهداً عليه.
في الطرف المقابل، يأتي العسل، ومن ينكر أن العسل ليس أكثر من صهر أنواع من رحيق الزهور، أو أرواح نباتات معينة، لتكون الوجبة الدسمة والمشتهاة: العسل، والذي يتناسب وخاصية الخبز وكفاءة التركيب للجسم!
وليكون الاعتراض على عملية الوصل، ليس أكثر من فعل الاستساغة غير المقبول وما يشكله العسل من جماع قوى، من تركيبة حية لروائح حية وشهية من روح كائنات لها اعتباراتها المؤثرة، كما في حال السنَّة حيث إن التفريق بينهما يصعد بالموضوع إلى دنيا الذوق أو عالمه من خلال المعطى الاعتباري للخبز حياتياً وما يمنَح لذات العذرة من قيمة مغايرة لما تعرَف به في حياتنا اليومية. إنها عملية كيمياء الذوق والحدود المرسومة للخراء.
ولكن التفسير المتعلق بالحلم في عالمه اللاشعوري، يكون له مبحث آخر بأدواته المغايرة كلياً لما نعتمده واقعاً.
الغائط بين الإشهار والاستتار: يعود الغائط إلى شخص معين، إنه رأسماله الشديد الذاتية، والذي لا يجوز الكشف عنه، لأن مجرد إظهاره يعني الكشف عن سره للآخرين. إنه ذهبه الذي يتباهى به أمام الملأ، ويستثيرهم به.
وابن سيرين حين يبرز فداحة الموقف وفظاعته، جهة استعراض التبرز في أكثر الأماكن ارتياداً من قبل الناس: الأسواق والحمامات والجماعات، فكأنما يتعدى أكثر الحدود قدسية، باعتبارها خاصيات الآخرين وتكون مرفوعة القيمة إلى الله، أي كأنما يسخط الله فيما هو دار ٍ به، ومن خلال مؤخرة يجب سترها، وفي ذلك يكون الإثم العظيم.
ولا أظن أن ثمة ما يترهبه أحدنا أكثر من مؤخرته حيث يكون في أكثر لحظاته انغماراً بمأثرة الذات وقد تفرَّغ لها استجابة لمتطلبات الظرف الخاصة، في غفلة عن الآخرين، وكل ذلك يسمح برؤية الناس له في موقفه المريب.
إنها اللحظة التي لا يتمناها أحد، وهي اللحظة التي يشدّد عليها المفسّر كفقيه وعالم بما هو أخلاقي وذوقي كذلك.
في السياق نفسه، يلاحَظ مدى اهتمامه بتفاوتات المكان تبعاً لصلته بالناس وكيفية تعامل الناس معه، أو تصرفهم فيه، عندما يظهِر الوجه الإيجابي في التغوط بعيداً عن الآخرين، في الأمكنة التي يمكن أن يختفي الغائط سريعاً، أو لا ينظَر فيها ويدقَّق كما في الحالات السالفة الذكر( فإن أحدث في مزبلة أو شط البحر أو في موضع لا ينكر لذلك فهو دليل خير وذهاب الهم والوجع)، لأن إيجابية الموقف تستدعي نوعية المكان وما هو موجود أو قائم فيه.
في هذا التحديد ثمة ذهاب بالتفكير إلى وضع خرائطية اجتماعية – مدينية إلى إحداثيات النظر وكيف يمكن للثقافة أن تكون تعبيراً عن مستجدات تاريخية والاستقرار الأفضل في المكان وما يكسِب المكان، من قيم اجتماعية شتى.
المزبلة تسمّي المكان الواحد بهيئة معينة، بقدر ما تعزله عما عداه كما لو أنها تعتبر كل داخل فيها في عداد اللامنظور، وهذا ينطبق على مفهوم التغوط ومشهد المتغوط، إذ لا أحد ينظر جهة المزبلة لهذا الغرض الموسوم.
ولأن الزبل- أصلاً- يرتد إلى الجهة السفلية من الكائن، ولذلك يكون القرف منه، فإن الاعتماد عليه أداة رمي ٍإلى أحدهم، يعني مباشرة احتقاره أو التعبير عن مدى الإساءة إليه، سواء أكان هو السبب أم لأن هناك من يخاصمه.
ثمة فن إدارة الواقع عبر لعبة خاصة، لها قوانينها وأساليب اللعب فيها، وطبيعة خاصة بالنسبة للذين يشكلون عناصرها أو يتفرجون عليها، لا أحد ببعيد عنها، في عالم الحلم، ولكل امرىء موقعه داخل اللعبة: بين مندمج ومتفرج، ومتابع عن كثب، ومتعرض لآثارها، كما هو وضع الناس وما يجري فيما بينهم على صعيد الأكثر الأعمال سفالة أو رذالة ونقيضها، وردود أفعالهم فيما بينهم. إنها لعبة مؤخرات وما يخرج منها ويسمّيها كذلك.
ولأن للزبل، كما هو موصوف عند ابن سيرين مكانة لافتة في السلب والإيجاب، فإن وقوعه في الطريق يعترض العابر ويصدمه ، يفصح عن الخلل الحاصل في المجتمع،لأنه المنتوج اليومي والدائم للإنسان ولأي كائن حي في وسطه أو بجواره، ويحيله إلى عالمه الجوفي. الزبل علامة فارقة لأكثر أرصدتنا الجسمية أنانية وإثارة للشبهات، عروضنا التي تجلو ما لا نريد من أحد رؤيته في الحالة العادية، وما نعلم به على أنه يسيء إلى الآخرين وأي إساءة، ولا بد لها أن تقع خارج منطقة النظر الاجتماعي، كما هو مفهوم القمامة أو المزبلة مدينياً!
ابن سيرين فيما انطلق منه وانتهى إليه، كان يعبّر عن علاقة نسب وانتماء إلى مجتمع ممهور بثقافة دينية: إسلامية، إنما تكون تلك ثقافة لها أركانها وفروعها التي تنتظم داخلها علاقات الناس، من خلال هذا الذي يسمّي في المرء سرَّه الداخلي، ويمتزج بأسرار الآخرين، بينما تكون جملة حيوات مكشوفة في التفاعل الاجتماعي.
لكن ما يجب التنبه له في كل معاودة تبين ٍلأي مفردة وردت في المعجم السيريني الحلمي، وفي أي مسألة ذات صلة بالموضوع، هو الوقوف على دلالة المفردة هذه، جهةَ احتمالية المعاني والظن، كما في( قيل)، وما يرادف هذا الفعل الماضي، وليكون الرجل في موقع الناقل، أو إلقاء المسئولية على مصدر مجهول، لأن ما يقاربه ليس بالأمر السهل أولاً، وليمنح القارىء، أي قارىء، ما يتحفز له من جهة أخرى، إلا إذا قطع ظناً بيقين، في قولة لا لبس فيها، من مثل( وأنا أرى، أرى، أقول...الخ)، ليكون الغائط في مستوى مركّباته وعدته المساهمة في تكوينه!
هل يمكن معايشة ابن سيرين فيما استعرضه غائطياً، كمتخيَّل على الأقل؟
الهوامش:
1- ابن سيرين، محمد: تفسير الأحلام، تحقيق يوسف علي بديوي، دار ابن كثير، دمشق- بيروت، ط2/1993، صص 161- 162، وخط التشديد من عندي، لأهمية النص المتعدد الإيحاءات والدلالات.
2— في المصدر نفسه، يقول ابن سرين في فصل، أو باب( الكسوة..)، عن تفسير( السراويل)، ما يلي( السراويل امرأة ديّنة أو جارية أعجمة... والتسرول دليل العصمة عن المعاصي. وتغوطه“أي الرجل” فيه دليل غضبه على امرأته.. وانحلال سراويله ظهور امرأته للرجال...الخ. ص 211).