فريال العلي - الجواري في الأندلس وجدل العبوديّة والإبداع

۞ تعكس المصادر نظرة المجتمع الأندلسيّ إلي الجواري، وهي نظرة متناقضة شأنها شأن كلّ شيء في الحياة، فهنّ تارة بضاعة وتارة بشرًا، غربيّات وعربيّات، عالمات ومبتذلات، حاكمات ومحكومات، في دائرة الضّوء وفي الزّوايا المعتمة، لكنّ جواري الخدمة لا يكدن يظهرن إلا ظهورًا عابرًا علي هامش الحياة، ولم أجد شيئًا يذكر عنهنّ غير أرجوزة أوردها ابن بسّام في الذّخيرة للشّاعر أبي عبد الله ابن مسعود نظمها علي لسان جاريته وهي تشكو زمانها وتبكي سوء حالها، ويفهم منها أنّ هذه الجارية اتّخذها للّذة والخدمة معًا، وهو أمر متوقّع فليس كلّ النّاس من اليسار بحيث يستكثرون منهنّ، وقد يكتفي أبناء الطّبقات الوسطي بجارية أو اثنتين، علي عكس القصور وبيوت الأغنياء الّتي ربّما لم يعرف أصحابها عدد الجواري فيها، ولم يروا وجوه بعضهنّ. أمّا الأخريات فمعظم أخبارهنّ تأتي في سياق الحديث عن الخلفاء والملوك والأمراء وأصحاب البيوتات، لكنّ اللافت للنّظر أنّ المؤرّخين يتحدّثون عنهنّ باحترام كبير، ويخلعون عليهنّ الألقاب السّنيّة مثل السّيدة، السّلطانة، أمّ الملوك، وكانت المؤدّبات منهنّ يحظين باحترام وتقدير، بل إنّ كثيرات منهنّ دفنّ في مقابر الخاصّة.ومن الصّعب في هذا المقام تتبّع أخبارهنّ لكنّني سأكتفي بالوقوف علي جانب واحد هو إسهامهنّ في النّهضة الثّقافيّة في الأندلس.
أثر الجواري في الثّقافة الأندلسيّة
لم تكن الجواري خارج المنظومة الثّقافيّة للمجتمع الأندلسيّ عامّة، ولم يبتدعن حراكًا خاصًّا بهنّ في أزمنة التّراجع، بل سرن في تناغم مع المجتمع تصاعديًّا وتنازليًّا. وظهر أثر الجواري في الحياة الثّقافيّة منذ بداية تأسيس الإمارة علي يد عبد الرّحمن الدّاخل سنة 138 هـ، وصعد نجمهنّ في عصر الخلافة وملوك الطّوائف، وتراجعت مكانتهنّ بعد ذلك مع تراجع المدّ الثّقافيّ زمن المرابطين والموحّدين، بالإضافة إلي سبب مهمّ وجوهريّ آخر هو أنّ المرابطين والموحّدين كانوا من البربر الّذين عرف عن نسائهنّ سطوتهنّ الشّديدة وإدارتهنّ المطلقة لشؤون أسرهنّ، وما كان لهنّ أن يتركن للجواري أيّ فرصة للحلول محلّهنّ، وكان الموحّدون في الغالب يفضّلون استقدام الجواري من لمتونة البربريّة، كما أنّ هذه المرحلة من تاريخ الأندلس برز فيها التّشدّد الدّينيّ ممّا أثّر في حركة الغناء بصورة خاصّة، علي النّقيض ممّا كانت عليه الحال زمن الأمويّين والطّوائف الّذين عرف عنهم اللين والتّسامح، ووردت بعض القصص والإشارات إلي إقبال بعض الفقهاء والقضاة زمن الأمويّين والطّوائف علي مجالس الغناء والطّرب.
وقد أسهمت الجواري في مختلف جوانب الحياة الثّقافيّة بشقّيها الماديّ والمعنويّ، وتفوّقن في مجالات عديدة في آن معًا، وليس أدلّ علي ذلك ممّا أورده ابن بسّام في الذّخيرة ( ق3م1ص112) وابن عذاري في البيان المغرب( ج3 ص308) عن جارية لابن الكتّانيّ لا نظير لها، أجادت اللغة والأدب والخطّ والكتابة والغناء والرّقص والطّبّ وعلم التّشريح واللعب بالسّيوف وغيرها من العلوم، ولم يتمكّن الملوك من شرائها لارتفاع سعرها، إلاّ أنّ عبد الملك بن رزين تمكّن أخيرًا من شرائها بثلاثة آلاف دينار. وهذه الحكاية وغيرها – ممّا لايتّسع المجال لذكره هنا- تؤكّد أنّ الجواري وصلن إلي مرتبة متقدّمة في الإبداع سواء في الشّعر واللغة والعروض أو الحساب والمنطق والطّبّ والفلك وغيرها، أو في التّعليم، بدليل إطلاق المؤرّخين لقب أديبة أو شاعرة أو عالمة أو بصيرة أو مجوّدة، وهم لن يطلقوا أحكامًا جزافًا كهذه علي نساء أنتجن القليل، لكنّ إهمال بعض المؤرّخين في الاعتناء بتدوين أخبارهنّ من ناحية وضياع الكثير من التّراث الأندلسيّ من ناحية أخري فوّتا فرصة التّعمّق في مجالات إبداع الجواري، وما بين أيدينا من أخبار لا يسعف إلاّ بإلقاء الضّوء علي بعض منها، وهي : الغناء، والشّعر، والتّعليم، وكتابة الرّسائل، ونسخ المصاحف والكتب.
التّعليم
كان للثّقافة الموسوعيّة الّتي حظيت بها الجواري أبلغ الأثر في استقدامهنّ لتعليم أبناء الأمراء والخلفاء والملوك وأكابر رجال الدّولة وذوي اليسار، ولم تنقل المصادر صورة أكثر احترامًا وإجلالاً وتقديرًا للجارية أكثر منها معلّمة، كما كنّ يحصلن علي مكافآت سخيّة من مستخدميهنّ، وكلّما ازداد علم الجارية وحفظها زاد الطّلب عليها وعلا شأنها بين الخاصّة والعامّة، وقد أشار ابن حزم في الطّوق إلي العديد من القصص حول ذلك، ولا سيّما أنّه هو نفسه تتلمذ علي أيدي الجواري، فنهل من علمهنّ الغزير، لكنّه في الوقت ذاته اطّلع علي الكثير من أسرارهنّ ومكائدهنّ ممّا حدا به إلي الاعتراف بأنّه ممن يسيؤون الظنّ بالمرأة.
الغناء
حظي غناء الجواري بالنّصيب الأوفر من الاهتمام، ومن أشهر المغنّيات الأندلسيّات العجفاء جارية الأمير عبد الرّحمن الدّاخل، وقمر جارية إبراهيم بن حجّاج، وقلم وعلم ومتعة جواري زرياب اللواتي بلغن شأنًا عظيمًا في هذه الصّناعة، وأسهمن معه في تدريب المغنّين والمغنّيات علي إجادة الغناء والعزف في المعهد الموسيقيّ الّذي أسّسه في قرطبة، ومن أشهر خرّيجات هذا المعهد مصابيح جارية الكاتب أبي حفص بن قهليل الّتي هام ابن عبد ربّه بصوتها فكتب إلي مولاها :
يا من يضنّ بصوت الطّائر الغرد كنت أحسب هذا الضّنّ من أحـد
لو أنّ أسماع الأرض قاطبة أصغت إلي الصّوت لم ينقص ولم يزد
وفي عصر الخلافة اشتهرت أنس القلوب جارية المنصور بن أبي عامر، وغيرهنّ .
وأهمّ كتاب عني بتسجيل المقطوعات الشّعريّة الّتي غنّتها هؤلاء الجواري ابن فضل العمريّ في كتابه ” مسالك الأبصار”، ومن اللافت للنّظر أن جميع هذه المقطوعات خلت خلوًّا تامًّا من أيّ لفظ بذيء أو فاحش، واشتمل أغلبها علي الغزل العذريّ والمديح، والقليل منها علي الشّكوي والحنين إلي أوطانهنّ، ولا سيّما المشرقيّات منهنّ. ولم تكتف هؤلاء الجواري بغناء مقطوعات شعريّة من نظم شعراء مشهورين، بل غنّين أشعارهنّ كذلك. كما اشتهرت بعض الجواري بالتّلحين، فقد أشار ابن فضل العمري في المسالك ( 10/ 187/ مخطوط) إلي أنّ بعضهنّ وضعن ألحانًا للمقطوعات الشّعريّة الّتي غنّينها، وقال إنّ جواري الحكم ( الرّبضيّ) صنعن ألحانًا عدّة للفوز بمسابقة عقدها الحكم، وفازت بها جارية اسمها “بهجة” الّتي صنعت لحنًا في شعر عروة بن حزام، كما صنعت لحنًا للحكم في شعر أبي تمّام.
الشّعر
وردت قبل قليل الإشارة إلي أنّ بعض المغنّيات كنّ شاعرات كذلك، من أمثال قمر وأنس القلوب، ومن الجواري الشّاعرات كذلك: غاية المني في ألمريّة، والعبّاديّة جارية المعتمد بن عبّاد في إشبيلية، وهند جارية عبد الله بن مسلمة في شاطبة، وغيرهنّ.
ويأتي الغزل في مقدّمة الأغراض الّتي نظمت فيها الجواري، لكنّها لم تصل إلي الفحش والمجون والمثليّة الجنسيّة الّتي ظهرت عند شاعرات حرائر أو أنصاف حرائر من أمثال ولاّدة بنت المستكفي وحمدونة، ولم يخضن في شعر الهجاء الفاحش كما فعلت غيرهنّ من الشّاعرات رغم ما تؤكّده الدّراسات من أنّ الجواري كنّ أكثر حريّة من الحرائر، بل مدحن الخلفاء والأمراء ورجال الدّولة، كما مدحن أسيادهنّ، ممّا يشي أنّ العلاقة بين الجواري وساداتهنّ – عامّة – كانت علاقة تصالح مع الآخر، ولم تتّخذ إحداهنّ الشّعر وسيلة لرفض العبوديّة أو الشّكوي والتّذمّر من سوء المعاملة، لكنّ الحكم لا يمكن أن يكون قطعيًّا نظرًا لضياع جلّ شعرهنّ. ونظمت قمر مقطوعة شعريّة في حنينها إلي بغداد حيث نشأت وترعرت مثلها مثل كلّ مشرقيّ، ولم يقف رقّها حائلاً بينها وبين الإحساس بانتمائها إلي وطن ما، كما نظمت مقطوعة أخري في الرّدّ علي الجواري اللواتي شعرن بالغيرة منها، فما كان منها إلاّ أن انتصرت لذاتها ولكيانها، فثارت عليهنّ ودافعت عن نفسها بقولها:
لو يعقلون لما عابوا غريبتــهم للّه من أَمَة تُزري بأحـرار
ما لابن آدم فخر غيــرُ همّته بعد الدّيانة والإخلاص للبــاري
دعني من الجهل لا أرضي بصاحبه لا يخلص الجهل من سبّ ومن عار
لو لم تكن جنّة إلاّ لجاهـلة رضيت من حكـم ربّ النّاس بالنّار
الكتابة
أقصد بالكتابة أن تعمل الجارية كاتبة في ديوان الرّسائل، وهي مهنة لا تتأتي إلاّ لمن امتلك ناصية البلاغة وبلغ شأنا عظيمًا من الثّقافة والحنكة السّياسيّة، ولم تستطع امرأة مشرقيّة حرّة كانت أو جارية الوصول إلي هذا المنصب الحساس قطّ، أمّا في الأندلس فلدينا شواهد عديدة من الجواري من أمثال لبني الّتي كانت الكاتبة الخاصّة للخليفة عبد الرّحمن النّاصر وابنه المستنصر من بعده، ونظام كاتبة هشام المؤيّد المعروفة بحسن تحبير الرّسائل، وكان لرسائلها أثر في إصلاح ذات البين بين الخليفة وخصومه، وغيرهما.
الخطّ
من المعروف أنّ نسخ الكتب في العصور الوسطي كان حالة إبداعيّة تحتاج إلي مهارة عالية وتجويد للخطّ وصبر وأناة، وقد تزيّن ببعض اللوحات والرّسومات، وتشير المصادر إلي أنّ أهل الأندلس كانوا يفضّلون اقتناء المصاحف والكتب الّتي تنسخها النّساء، بل كانوا يطلبون شراء نسخ بخطّ نساء بأعينهنّ، وقد راجت هذه المهنة رواجًا عظيمًا في الأندلس نظرًا لازدهار سوق الكتب فيها، ولا سيّما قرطبة، وكانت هذه المهنة مهنة مشتركة بين الحرائر من العوامّ – في الغالب – والجواري، وقد أحصي عبد الواحد المراكشيّ في كتابه المعجب في الرّبض الشّرقيّ بقرطبة فقط 170 امرأة يكتبن المصاحف بالخطّ الكوفيّ، ولنا أن نتخيّل العدد في أنحاء قرطبة – دار العلوم – الأخري، وفي الأندلس بأسرها، وتشير بعض التّراجم إلي تميّز عدد من الجواري وتفوّقهنّ الباهر في هذه الصّنعة.
جدل العبوديّة والإبداع
بعد هذه الإضاءة علي إبداع الجواري يأتي السّؤال الأهمّ: كيف يمكن للمستعبد أن يبدع، والحريّة في نظر أغلب النّاس شرط الإبداع وجوهره ؟
عليّ ابتداء أن أقرّر أمرًا مهمًّا قبل أن أمضي قدمًا في الحديث عن هذه الجدليّة، وهي أنّه لابدّ من الحفاظ علي الوعي بالسّياق الثّقافي السّائد وعدم الوقوع في شرك الإسقاط التّاريخيّ الذي يميّز حقبة بعينها، وما يمكن أن تتعرض له قيمة الأفكار إذا ما خضعت لعملية التهجير القسري، حيث الفصل المباشر عن المرجعيات والأصول المعرفية التي استقت منها مدلولاتها ومضامينها، والطريقة التي يتم بها إنتاج المعاني المتداولة، بل الاتجاهات الفكرية والنزعات السائدة ومستويات التفكير أيضا التي تميز حقبة تاريخية من أخري، وبمنطلقات كهذه، أسس ميشيل فوكو لمضمون القطيعة المعرفية من أجل الوقوف علي المميزات الأصيلة والراسخة لكل مرحلة تاريخية، بعيدا عن فخ الاستمرارية الذي يودي بالكثير من المعاني إلي هوة الجاهزية والتفسير المباشر والآني علينا إذن أن نضع هذه الجدليّة في سياقها الطّبيعيّ وأن لا ننظر إليها بقيمنا السّائدة اليوم، وبرفضنا لفكرة العبوديّة أساسًا لأننا ولدنا أحرارًا في زمن انتفت فيه العبوديّة رسميّا في الدّول الّتي وافقت علي بنود اتّفاقيّة حقوق الإنسان، رغم عدم انتفاء تجارة الرّقيق الأبيض إلي يومنا هذا.
يقول اتين دي لابويسيه في كتابه مقال في العبودية المختارة :
إنا لا نفتقد ما لم نحصل عليه قط، وإنّما يأتي الأسف في أعقاب المسرّة، ودوما تأتي ذكري الفرح المنقضي مع خبرة الألم. أجل إنّ طبيعة الإنسان أن يكون حرّاً وأن يريد كونه كذلك، ولكن من طبيعته أيضا أن يتطبّع بما نشأ عليه.
لنقل إذن أن ما درج الإنسان عليه وتعوّده يجري عنده بمثابة الشيء الطّبيعيّ، فلا شيء ينتسب إلي فطرته سوي ما تدعوه إليه طبيعته الخالصة الّتي لم يمسّها التّغيّر. ومنه كانت العادة أوّل أسباب العبوديّة المختارة”.
هذا هو السّبب الجوهريّ – من وجهة نظري – في قدرة هؤلاء الجواري علي الإبداع رغم عدم امتلاكهنّ للحريّة، أنّهن ولدن ونشأن علي العبوديّة، ولم يعرفن ما الحرّيّة ابتداء، فلم يشكّل لهنّ سؤال الحريّة أرقًا ، ويبدو الحرّ أكثر انشغالاً بحرّيّته لأنّه يدرك قيمة هذا المكتسب ويسعي للحفاظ عليه، وما لم يخضع المستعبد لتحريض خارجيّ يثيره ويدفعه إلي التّمرّد فإنّه لن يفعل، ولا سيّما إن لم يجرّد تمامًا من إنسانيّته.
السّبب الثّاني هو تمتّع العبيد والجواري في ظلّ الإسلام ببعض الحقوق والامتيازات وتكليفهم بالمقابل ببعض الواجبات، وتحميلهم تبعات أخطائهم بما تحتمله طبيعة استرقاقهم، كما حثّ الإسلام علي عتقهم، وفي المصادر الكثير من القصص الّتي انتهت بعتق الجارية وزواج سيّدها منها بوصفها امرأة حرّة، وأشير هنا إلي مسألة قد لا تبدو مهمّة في رأي كثيرين، لكنّني أراها تضفي بعدًا نفسيًّا مريحًا علي الجواري، ذلك هو تخيّر أسماء عربيّة جميلة الجرس والمعني للجواري اللواتي يحملن أسماء أعجميّة.
السّبب الثّالث يأتي من باب ” ربّ ضارّة نافعة “؛ إذ سعي تجّار الرّقيق – بهدف رفع أثمان الجواري- إلي تعليمهنّ القرآن واللغة والشّعر والأدب والغناء والخطّ والمنطق والحساب وغيرها من العلوم والفنون، فطبّقوا عليهنّ – من حيث لا يشعرون – نظريّة تعليم الإبداع، وهي عملية أعمق من مجرد تنمية القدرات العقلية أو التأثير في الخصال الشخصية، بل إنّها منظومة واسعة، تتحدد من خلال خبرات الفرد وقيمه وأسلوب حياته، بما يسمح له بتكوين نظرة متفردة للعالم من حوله، وبلورة موقف متميز من الحياة. ومتي نجح الفرد في تكوين هذه الرؤية الخاصة، يجيء دور توظيف القدرات العقلية والخصال الشخصية للتعبير عن هذه الرؤية، وما أحسب أنّهن كنّ بعيدات عن ذلك، فالعقل – عقل رجل كان أو امرأة – متي غذّي بالمعرفة النّافعة السّمينة أصبح قادرًا علي الإنتاج والتّحليل والتّفكير النّاقد والإبداع.
سبب رابع يمكن الحديث عنه هو البيئة الموائمة للإبداع؛ إذ عشن في كنف بيوت علم وثقافة وفكر، فنهلن منها كلّ حسب قدراتها ورغباتها، وخرجت بعضهنّ بأوفر حظّ من كلّ ذلك، لاسيّما مع ما عرف عن أمراء بني أميّة وخلفائهم – خاصّة -من شغف شديد بالعلم ورعايتهم للثّقافة والإبداع.
ومن الأسباب المهمّة كذلك أنّ الجواري لم يبعن في الغالب لأكثر من سيّد واحد، ولم تكن الجارية تباع إلاّ بعد وفاة سيّدها ممّا يعفيها من قلق التّفكير بالانتقال من مكان إلي آخر ويضمن لها الاستقرار المكانيّ والنّفسيّ، لكنّها كانت تهدي أحيانًا إلي علية القوم، ممّا قد يوفّر لها جوًّا أفضل أحيانًا وبيئة أكثر ترفًا.
ولا نستطيع التّغاضي عن أنّ الجارية كانت أكثر حريّة من الحرّة نفسها في الحركة والتّنقّل من مكان إلي آخر، والخروج سافرة إلي الأسواق في الوقت الّذي كان حجاب الحرّة مغلّظًا،وإن كان هذا الحجاب لم يمنع كونها صاحبة نفوذ في بيتها، كما عرف عن الأندلسيّين تسامحهم في مخالطة الجواري للرّجال ومجالستهم ومنادمتهم في حين يذكر ابن حزم في الطّوق أنّ الحرّة كانت لا تخرج إلاّ بوجود حرس في الأسر المحافظة والمتشدّدة، بل إنّ بعض الجواري امتلكن من النّفوذ والسّلطة ما أتاح لهنّ التّدخّل في كلّ صغيرة وكبيرة من شؤون الحكم، مثل طروب جارية عبد الرّحمن الأوسط، وصبح جارية المستنصر، واعتماد جارية المعتمد، ولعلّ الجواري وجدن في هذه الحريّة وهذا النّفوذ تعويضًا عن استرقاقهنّ فآثرن الدّعة والسّكينة ما دامت المرأة أصلاً – حرّة كانت أو مستعبدة – خاضعة لهيمنة ذكوريّة عامّة.
ومن الأسباب كذلك كلف الأمراء والخلفاء والملوك ببعض الجواري كلفًا شديدًا حتّي إنّ النّاصر بني مدينته الخالدة الزّهراء تكريمًا لجاريته وأطلق اسمها علي هذه المدينة الّتي فاقت شهرتها الأمصار قاطبة وخلّدها الشّعر والتّاريخ وخلّدا معها اسم هذه الجارية، وقصة المعتمد مع جاريته اعتماد الّتي جبل لها طين حديقتها بالمسك مشهورة، بل وصل من كلف الأسياد بالجواري أن امتلكن سطوة لا تصدّق عليهم ورفضن منحهم قلوبهنّ ولا حتّي أجسادهنّ كما حدث لسعيد بن منذر حين رفضت جاريته أن تهبه قلبها أو جسدها، بل إنّها امتلكت قرارها برفض عتقها مقابل زواجه بها، ولا يمكن أن ننفي أنّ هذه الامتيازات كفيلة بالقضاء علي أيّ محاولة ثورة ضدّ الرّقّ أو المسترقّ الّذي لا نكاد نلمس منه إخضاعًا أو إذلالا، بل خضوعًا وتذلّلاً لهذه القادرة علي منحه مختلف ألوان اللذة.
ومن العوامل الّتي قد تخفي علي البعض يسار هؤلاء الجواري إن لم نقل غناهنّ الفاحش أحيانًا، إذ كانت تصرف لهنّ جرايات دائمة، فضلا عن الهدايا والمكافآت الّتي كنّ يحصلن عليها، فجارية الخليفة النّاصر مرجان – علي سبيل المثال – كانت لها حقول عظيمة بقرطبة، واشتهر عنها حبّها لأعمال البرّ والإحسان، ويذكر ابن الأبّار في التّكملة ( ج4 ص246-247) أنّها اشترت ليلة من زوجة الخليفة النّاصر الحرّة بعشرة آلاف دينار، كما تشير المصادر إلي قيام بعض الجواري ببناء الجوامع وماء السّبيل علي نفقتهنّ الخاصّة.
وعود إلي قصّة قمر الجارية ودفاعها المستميت عن ذاتها وفخرها بنفسها فما أحسب إبداع الجواري إلاّ فعلاً تحرّريًا بذاته، وكلّما أبدعت الجارية قهرت عبوديّتها أكثر فأكثر.
فهل سنبقي سؤال الحرية يستنزف طاقاتنا ويهدر أعمارنا في جدل لن ننتهي منه؟!.أو علينا أن نتحرّر من خلال ما ننجز؟؟

*كاتبة وأكاديمية أردنية
 
أعلى