محمد عبد الحي - العودة إلى سنار

النشيد الأول
البحر

بالأمس مرَّ أوّل الطّيور فوقنا، ودار دورتين قبل أن
يغيبَ، كانت كلُّ مرآة على المياه فردوساً
من الفسفورِ – يا حدائق الفسفور والمرايا
أيّتها الشمس التي توهّجتْ واهترَأت
في جسد الغياب، ذوبي مرّة أخيرةً،
وانطفئي، أمس رأينا أوّل الهدايا
ضفائر الأشنةِ والليفِ على الأجاجِ
من بقايا
الشجر الميت والحياة في ابتدائها الصامتِ
بين علق البحارْ
في العالمِ الأجوفِ
حيث حشرات البحرِ في مَرَحِها الأعْمَى
تدب في كهوفِ الليفِ والطحلبِ
لا تعي
انزلاقَ
الليلِ
والنهارْ
وحمل الهواءْ
رائحةَ الأرضِ،
ولوناً غير لون هذه الهاوية الخضراءْ
وحشرجات اللغة المالحة الأصداءْ.
وفي الظَّلامْ
في فجوةِ الصَّمت التي تغور في
مركز فجوةِ الكلامْ،
كانت مصابيح القرى
على التِّلال السودِ والأشجارْ
تطفو وتدنو مرَّة
ومرَّة تنأى تغوصُ
في الضَّباب والبخارْ
تسقطُ مثل الثّمر النّاضجِ
في الصَّمتِ الكثيفِ
بين حدِّ الحلم الموحشِ
وابتداء الانتظارْ.
وارتفعتْ من عتمةِ الأرضِ
مرايا النّارْ
وها هيَ الآن جذوع الشّجر الحيِّ
ولحم الأرضِ
والأزهارْ.

الليلة يستقبلني أهلي:
خيلٌ تحجل في دائرة النّارِ،
وترقص في الأجراس وفي الدِّيباجْ
امرأة تفتح باب النَّهر وتدعو
من عتمات الجبل الصامت والأحراجْ
حرّاس اللغةَ – المملكة الزرقاءْ
ذلك يخطر في جلد الفهدِ،
وهذا يسطع في قمصان الماءْ.

الليلة يستقبلني أهلي:
أرواح جدودي تخرج من
فضَّة أحلام النّهر، ومن
ليل الأسماءْ
تتقمص أجساد الأطفالْ.
تنفخ في رئةِ المدّاحِ
وتضرب بالساعد
عبر ذراع الطبّالْ.

الليلة يستقبلني أهلي:
أهدوني مسبحةً من أسنان الموتى
إبريقاً جمجمةً،
مصلاة من جلد الجاموسْ
رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوسْ
لغةً تطلعُ مثلَ الرّمحْ
من جسد الأرضِ
وعبَر سماء الجُرحْ.

الليلة يستقبلني أهلي.

وكانت الغابة والصحراءْ
امرأةً عاريةً تنامْ
على سرير البرقِ في انتظارِ
ثورها الإلهي الذي يزور في الظلامْ.
وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً.
يزهر في سلطنة البراءة
وحمأ البداءةْ
على حدودِ النورِ والظلمةِ بين الصحوِ والمنامْ.


النشيد الثاني
المدينة

سأعود اليوم يا سنَّار، حيث الحلم ينمو تحت ماء الليل أشجاراً
تعرَّى في خريفي وشتائي
ثم تهتزّ بنار الأرض، ترفَضُّ لهيباً أخضر الرّيش لكي
تنضج في ليل دمائي
ثمراً أحمر في صيفي، مرايا جسدٍ أحلامه تصعد في
الصّمتِ نجوماً في سمائي
سأعودُ اليوم، يا سنّارُ، حيث الرمزُ خيطٌ،
من بريقٍ أسود، بين الذرى والسّفح،
والغابةِ والصحراء، والثمر النّاضج والجذر القديمْ.
لغتي أنتِ وينبوعي الذي يؤوي نجومي،
وعرق الذَّهب المبرق في صخرتيَ الزرقاء،
والنّار التي فيها تجاسرت على الحبِّ العظيمْ
فافتحوا، حرَّاسَ سنّارَ، افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
افتحوا للعائد الليلة أبوابَ المدينة
افتحوا الليلة أبواب المدينة.

- "بدوىُّ أنتَ؟"
- "لا"
- " من بلاد الزَّنج؟"
- "لا"

أنا منكم. تائهٌ عاد يغنِّي بلسانٍ
ويصلَّي بلسانٍ

من بحارٍ نائياتٍ
لم تنرْ في صمتها الأخضر أحلامُ الموانئ.
كافراً تهتُ سنيناً وسنينا
مستعيراً لي لساناً وعيونا
باحثاً بين قصور الماء عن ساحرةِ الماء الغريبة
مذعناً للرِّيح في تجويف جمجمة البحر الرهيبة
حالماً فيها بأرض جعلت للغرباء
-تتلاشى تحت ضوء الشمس كي تولد من نار المساءْ _
ببناتِ البحر ضاجعنَ إله البحر في الرغو...
(إلى آخِرِهِ ممّا يغنِّي الشعراءْ!)
ثمَّ لّما كوكب الرعب أضاءْ
ارتميت
ورأيتُ ما رأيتُ:
مطراً أسود ينثوه سماءٌ من نحاسٍ وغمام أحمر. شجراً أبيض – تفاحاً وتوتاً – يثمرُ
حيث لا أرض ولا سقيا سوى ما رقرق الحامض من رغو الغمام.
وسمعتُ ما سمعتُ:
ضحكات الهيكل العظميِّ، واللحم المذابْ
فوق فُسفورِ العبابْ
يتلوى وهو يهتزّ بغصّات الكلامْ.

وشهدتُ ما شهدتُ:
كيف تنقضّ الأفاعي المرعدة
حينما تقذف أمواج الدخان المزبدة
جثةً خضراء في رملٍ تلظَّى في الظلامْ.

صاحبي قلْ ما ترى بين شعاب الأرخبيلْ
أرض "ديك الجن" أم "قيس" القتيل؟
أرض "أوديب" و"لير" أم متاهات "عطيل"؟
أرض "سنغور" عليها من نحاس البحر صهدٌ لا يسيلْ؟
أم بخار البحر قد هيّأ في البحر لنا
مدناً طيفيّةً؟ رؤيا جمالٍ مستحيل؟
حينما حرّك وحش البحر فخذيه: أيصحو
من نعاسٍ صدفي؟ أم يمجُّ النار والماء الحميمْ؟

وبكيتُ ما بكيت:
من ترى يمنحني
طائراً يحملني
لمغاني وطني
عبر شمس الملح والريح العقيمْ
لغة تسطعُ بالحبِّ القديمْ.

ثم لّما امتلأ البحرُ بأسماكِ السماءِ
واستفاقَ الجرسُ النائم في إشراقةِ الماء
سألتُ ما سألت:
هل ترى أرجع يوماً
لابساً صحوي حلماً
حاملاً حلمي همّاً
في دجى الذاكرة الأولى وأحلام القبيلة
بين موتاي وأشكال أساطير الطفولة.

أنا منكم.. جرحكم جرحي
وقوسي قوسكم.
وثنيٌ مجَّد الأرضَ وصوفيٌّ ضريرٌ
مجَّد الرؤيا ونيران الإلهْ.

فافتحوا
حرَّاس سنّار،
افتحوا بابَ الدَّم الأوّلِ
كي تستقبل اللغةَ الأولى دماهْ
حيث بلّور الحضورْ
لهبٌ أزرق
في عينِ
المياهْ
حيث آلاف الطيورْ
نبعتْ من جسدِ النّارِ
وغنّتْ
في سماوات الجباهْ.

فافتحوا، حرّاسَ سنّار،
افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
افتحوا الليلة أبواب المدينة
افتحوا...

"إنّنا نفتح يا طارق أبواب المدينة
إن تكن منّا عرفناك، عرفنا
وجهنا فيك: فأهلاً بالرجوعْ
للربوعْ.
وإذا كنتَ غريباً بيننا
إنّنا نسعد بالضِّيف، نفدِّيهِ
بأرواحٍ، وأبناءٍ، مالْ
فتعالْ.
قد فتحنا لك يا طارق أبواب المدينة
قد فتحنا لك يا طارق...
قد فتحنا..."

ودخلتُ
حافياً منكفئاً
عارياً، مستخفياً في جبة مهترئة
وعبرتُ
في الظلامْ
وانزويت
في دياجير الكلام

ونمتُ
مثلما ينامُ في الحصى المبلول طفل الماءْ
والطّير في أعشاشهِ
والسمك الصغير في أَنهارِهِ
وفي غصونها الثِّمارُ
والنجوم في مشيمةِ
السماءْ.


النشيد الثالث
الليل

وفتحت ذراعها
مدينتي
وحضنها الرغيدْ

- أيّة أنهارٍ عظيماتٍ
وغاباتٍ
من البروق والرعودْ –

تنحلّ أعضائي
بخاراً أحمر
يذوب في دمائها
تعوم روحي
طائراً أبيض
فوق مائها
ويطبق الليل الذي
يفتحُ
في الجمجمة البيضاءْ
خرافةً تعودُ،
وهلةً ووهلةً،
إلى نطفتها الأشِياءْ
فيها، وينضج اللهيبُ
في عظام شمسها
الفائرة الزرقاءْ
ويعبر السمندلُ الأحلامَ
في قميصه
المصنوع من شرارْ.
في الليل حيث تنضج الخمرةُ
قبل أن تموج في الكرومِ
قبل أن تختم في آنية الفخّارْ
في الليل حيث الثمر الأحمر
والبرعم والزهرة في وحدتها الأولى
من قبل أن تعرف ما الأشجارْ
في الليل تطفو الصور الأولى
وتنمو في مياه الصَّمتِ
حيث يرجع النشيدْ
لشكلِهِ القديمِ
قبلَ أن يسمِّي أو يسمَّى،
في تجلّي الذات، قبل أن يكون غيرَ ما يكونُ
قبل أن تجوِّفَ الحروفُ
شكلَهُ الجديدْ.


النشيد الرابع
الحلم

رائحة البحر التي تحملها الرياحْ
في آخر الليل، طيورٌ أفرختْ
في الشفق البنفسجيِّ بين آخر النجوم والصباحْ
أنصتْ هنيهةً !
تسمع في الحلم حفيف الرِّيش حين يضرب الجناحْ
عبر سماوات الغيابْ
هل دعوة إلى السفر؟
أم عودة إلى الشجر؟
أم صوت بشرى غامض يزحف مثل العنكب الصغير فوق خشبات البابْ
يبعثه من آخر الضمير مرَّة عواء آخر الذئابْ
في طرف الصحراءِ، مرَّةً رنين معدنٍ في الصمَّتِ،
أو خشخشة الشوك الذي يلتفّ حول جسد القمرْ
ومرَّة تبعثه صلصلة الأجراس
حين ترقص الأسماك في دوائر النجوم في النَّهر.
أم صوت باب حلمٍ يفتحه
في آخر الليل وقبل الصبحْ
المَلَك الساهر في مملكة البراءة
وحمأ البداءة
تحت سماء الجرحْ
يَمُدُّ لي يديه
يقودني عبر رؤى عينيه
عبر مرايا ليلك الحميمة
للذهب الكامن في صخورك القديمة
فأحتمي – كالنطفة الأولى –
بالصور الأولى التي تضيءُ
في الذّاكرة الأولى
وفي سكون ذهنك النقيِّ
تمثالاً من العاجِ،
وزهرة
وثعباناً مقدساً وأبراجاً
وأشكالاً من الرخامِ والبلور والفخّارْ.
حلمٌ ما أبصر أم وهم؟
أم حق يتجلّى في الرؤيا؟
في هاجرةِ الصَّحْراء أزيح قباب الرمل
عن نقشٍ أسودَ، عن مَلِكٍ
يلتفّ بأسماء الشفرةِ والشمسِ
والرمز الطّافر مثل الوعلِ
فوق نحاسِ الصَّحراءْ.

أسمع صوت امرأةٍ
تفتحُ باب الجبل الصَّامت، تأتي
بقناديل العاج إلى درجات الهيكل والمذبحْ
ثم تنامُ – ينامُ الحرَّاسْ –
لتولد بين الحرحر والأجراسْ
شفةً خمراً، قيثاراً،
جسداً ينضج بين ذراعَيْ شيخٍ
يعرف خمرَ اللهِ وخمر النّاسْ.
لغةٌ فوق شفاهٍ من ذهبٍ
أم نورٌ في شجر الحُلمِ المزهرْ
عند حدود الذَاكرةِ الكبرى
الذّاكرة الأولى؟
أم صوتي
يتكوَّر طفلاً كي يولد
في عتباتِ اللغةِ الزرقاءْ؟

وتجيءُ أشباح مقنّعةٌ لترقص حرَّةً، زمناً،
على جسدي الذي يمتد أحراشاً، سهوباً: تمرح الأفيالُ،
تسترخي التماسيح، الطيور تهبُّ مثل غمامةٍ، والنحل مروحة
ويغنِّي وهو يعسل في تجاويف الجبالِ، وتستدير مدينة زرقاء
في جسدي، ويبدأ صوتُها، صوتْي، يجسِّد صوت موتايَ الطليقْ
حلمٌ؟ رؤى وهميّةٌ؟ حقٌّ؟
أنا ماذا أكون بغير هذا الصوت، هذا الرمز،
يخلقني وأخلقه على وجه المدينة تحت شمس الليل والحبِّ العميقْ
وحينما يجنح آخر النجوم للأفولْ
ويرجع الموتى إلى المخابئ القديمة
كيما ينامون وراء حائط النّهارْ
أنام في انتظار
آلهة الشمس وقد أترع قلبي الحبُّ والقبولْ.


النشيد الخامس
الصبح

مرحى! تطلُّ الشمسُ هذا الصبحَ من أفق القبولْ
لغةً على جسد المياهِ،
ووهجَ مصباحٍ من البلّورِ في ليل الجذورِ،
وبعضَ إيماءٍ ورمزٍ مستحيلْ.

اليومَ يا سنّار أقْبَلُ فيكِ أيّامي بما فيها من العشب الطفيليِّ
الذي يهتزُّ تحتَ غصونِ أشجارِ البريقِ.
اليومَ أقْبَلُ فيكِ أيّامي بما فيها من الرّعب المخمَّر في شراييني.
وما فيها من الفرح العميقِ.
اليومَ أقْبَلُ فيكِ كلَّ الوحلِ واللّهب المقدَّس في دمائكِ، في دمائي.
أحنو على الرَّملَ اليبيسِ كما حنوتُ على مواسمكِ الغنيّة بالتدفق والنماءِ.
وأقولُ: يا شمسَ القبولِ توهّجي في القلبِ
صفِّيني، وصفِّي من غبارٍ داكنٍ
لغتي، غنائي.

سنَّارُ
تسفر في
نقاءِ الصحو، جرحاً
أزرق، جبلاً، إلهاً، طائراً
فهداً، حصاناً، أبيض، رمحاً
كتابْ
رجعت طيور البحر فَجْرَاً من مسافات الغيابْ.
البحر يحلم وحده أحلامه الخضراء في فوضى العبابْ.
البحرُ؟ إنّ البحر فينا خضرة،
حلم، هيولى،
شجراً أرى، وأرى القوارب فوق ماء النّهرِ
والزرّاع في الوادي، وأعراساً تقامُ، ومأتماً في الحيِّ،
والأطفال في الساحات، والأرواح في ظلَّ الشجيرةِ
في الظهيرةِ حين يبتدئ الحديث برنّة اللغة القديمةْ.
الشمس تسبح في نقاء حضورها، وعلى غصونِ القلب عائلةُ الطيّورِ،
ولمعة سحرية في الريحِ، والأشياء تبحر في قداستها الحميمةْ.
وتموج في دعةٍ، فلا شيء نشاز، كلُّ شيءٍ مقطعٌ، وإشارةٌ
تمتد من وترٍ إلى وترٍ، على قيثارة الأرض العظيمةْ.

(1963)
 
أعلى