نقوس المهدي
كاتب
المقدمة
لقد كنت أشعر بالألم عندما أطالع ما يقوله كثير من الكتاب عن عرب الجاهلية , وأقارن بين ما أسمعه من أوصاف شائعة لهم تصمهم بالهمجية والتخلف والانحطاط , وما نجده فيما نقل لنا من شعرهم , ونثرهم , وأخبارهم , وقصصهم في الحرص على مكارم الأخلاق , وطلب المعالي والفضائل , والابتعاد عن النقائص والرذائل , ويظنّ الذين يصفون عرب الجاهلية بتلك النقائص أنّهم يعلون من شأن الإسلام , وهم يتجاهلون أنّ الله ما أختار بلاد العرب موطنا لدينه الخالد عبثا , وما أختار لسانهم ليكون لسان كتابه الخالد بلا مسوّغ , ويتجاهلون أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أثنى على أخلاقهم وأبدى إعجابه بها حيث يقول :" يا علي أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية ما أشرفها بها يتحاجزون في الحياة الدنيا " , ويؤكد هذا المعنى بقوله عليه السلام : "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " , فهو لم يأت لأمة همجية بلا أخلاق , وإنما جاء لأمة رأسمالها الأخلاق الشريفة , والسجايا الكريمة , فجاء لإكمالها , وتهذيبها , وتوجيه تلك الطاقات الإنسانية الهائلة إلى الوجهة الصحيحة التي تخدم الإنسانية جمعاء .
وتزداد الصورة قتامة وبشاعة عندما يتحدث أمثال أولئك الكتاب عن الحال المرأة الجاهلية فيصورنها مهضومة الحقوق , مسلوبة الإرادة , فاقدة للكيان , ويختزلونها بصورة المؤودة البغيضة , ويتجاهلون أنّها ما وئدت إلاّ لضعف في قومها فرأوا وأدها خير من سبيها وامتهانها أو لإصابتها بعاهة خلقية فرأوا وأدها رحمة لها من العذاب النفسي الذي تعانيه طوال حياتها , وتجاهلوا أنّ المرأة شقيقة الرجل جسدا , وقسيمته نفسا وطباعا , وأنّها كانت دائمة الحضور في ذهنه أمّا مبجلة موقّرة , وبنتا مرحومة مدللة , وأختا عزيزة محترمة , وخالة وعمة تقوم مقام الأم , وحبيبة يهيم بها , وزوجة يحبها , ويقدّرها , ويراها عونا له على قسوة الحياة , ولو لم تكن المرأة كذلك لما أنجبت أولئك العظماء من أمثال عمر بن الخطاب , وخالد بن الوليد والمثنى بن حارثة الشيباني , وغيرهم من الأبطال الذين عندما أتيحت لهم فرصة الحياة الحقيقية في ظلّ الإسلام أصبحوا من أبطال الإنسانية الأفذاذ , وكذلك يتجاهل أولئك الذين يصورن المرأة خاملة جاهلة مهمشة الرأي , مهشّمة الكيان _ أنّ المرأة ساهمت في صنع كثير من الأحداث فالبسوس هدمت عرش كليب وائل , وعفيرة الجديسية هدمت عرش عمليق ملك طسم وجديس , وإسلام حمزة بن عبد المطلب كان بسبب تحريض امرأة , ودور أخت عمر بن الخطاب في إسلامه .
وإدراكا مني لأهمية دور المرأة في صنع شخصية الرجل , وتأثيرها في حياته فقد رأيت أن أبحث في صورة الرجل في شعر المرأة الجاهلية ؛ لأنّ الشعر ديوان العرب الذي حفظ تاريخهم وأنسابهم , وخلد مآثرهم وفضائلهم , وحمل ثقافة الآباء للأبناء , فلا تعرف أنساب العرب , وتواريخها , وأيامها ,ووقائعها إلا من جملة أشعارها، فكان الشعر بحقّ ديوان العرب , وخزانة حكمتها ,ومستنبط آدابها ,ومستودع علومها ، والشعر هو ديوان تسجيل من لا تسجيل له، لجأت إليه الشعوب القديمة حين لم تعرف الكتابة، ليقوم مقام الكتابة في تخليد المآثر والأحداث وما يستجد لها من أمور عظام، بما فيه من أثر على القلب، ومن نغم يساعد على الحفظ، فقام الشعر عند العرب مقام الكتابة، قبل أن تتفشى الكتابة بينهم.
والشعر له المكانة السامية في نفوس العرب , وله تأثير شديد في حياتهم ، فكم من شريف وضعه الشعر ، وكم من خامل دنيء رفعه ، ومن إعظامهم لشأن الشعر قرنوه بالكهانة والسحر؛ لأن كلا منهما يغير الأشياء في مرأى الإنسان ومخيلته بأساليب تأثيرية نافذة، فتأثير الشعر في نفوسهم أشبه بتأثير السحر حتى قال ابن الرومي :
في زخرفِ القول ترجيحٌ لقائلهِ والحقُّ قد يعتريه بعضُ تغييرِ
تقول هذا مُجاجُ النحلِ تمدحُهُ وإن تعِبْ قلت ذا قَيْء الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما سحر البيان يُري الظلماء كالنور
ونظرا للأثر التربوي للشعر فما زال العظماء يوصون بتعلمه , ومن ذلك قول عمر بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنه: "تحفّظوا الأشعارَ , وطالِعوا الأخبار، فإنّ الشِّعرَ يدعو إلى مكارم الأخلاقِ , ويعلِّمُ محاسِنَ الأعمالِ، ويبعثُ على جميلِ الأفعالِ، ويفتُقُ الفِطْنةَ، ويشحَذُ القريحةُ، ويحدو على ابتناءِ المناقبِ , وادّخار المكارمِ، وينهى عن الأخلاقِ الدنيئةِ، ويزجُرُ عن مُواقَعَةِ الريَبِ، ويحضُّ على معاني الرُتَبِ" .
وبما أنّ المرأة دائمة الحضور في ذهن الرجل , وهو يعمل المستحيل لينال إعجابها , ويفوز بقلبها , وبما أنّ الشعر له تلك المكانة في نفوسهم , وذلك التأثير فإننا نصل حتما إلى أنّ الرجل سيكون حريصا على أن يبدو للمرأة بالصورة التي ترغبها , والتي ترسمها في شعرها , وبالمقابل سيكون حريصا على الابتعاد عن الصورة التي ترفضها المرأة وتبغضها .
وقد قمت بجمع شعر المرأة من مظانّه من المصادر المعتبرة , والمراجع التي لها عناية بشعر النساء من كتب القدامى والمعاصرين , وقمت بدراسته , فخرجت بمواصفات الرجل المرغوبة , وصفاته المحبوبة ,وجاء هذا لبحث المتواضع في فصلين وخاتمة : جعلت الفصل الأول تمهيدا لمكانة المرأة العربية , والنظرة الفلسفية لها , ودورها في الحياة , وناقشت الآراء المختلفة في هذا المجال , وتوصلت لبعض النتائج الهامّة ,أمّا الفصل الثاني فقسمته إلى مبحثين : المبحث الأول عن الصورة المحبوبة المرغوبة للرجل فجاء في أربعة مطالب ظهرت فيها صورة الزعيم السياسي , والقائد العسكري , والفارس المقاتل , وسائر صور المقاتلين , وصورة الزوج المحبوب , والسيد الجواد , والقبيلة المثالية , أمّا المبحث الثاني فكان عن الصورة المرفوضة غير المرغوبة ومادّة هذا الفصل من الشعر قليلة فأكملتها ببعض المقطوعات النثرية لتكتمل الصورة .
الفصل الأول : تمهيد مكانة المرأة في الجاهلية :
إنّ الحديث عن صورة الرجل في شعر المرأة الجاهلية هو في الواقع محاولة اكتشاف لعقلية المرأة , وتفكيرها , وما لديها من ثقافة تستخدمها في تربية أبنائها , وتشكيل شخصية الرجل , والتأثير في مسيرة المجتمع , وقد كنت أعجب عندما أدرس التاريخ العربي الجاهلي وآدابه من تلك العقليات الفذّة من زعماء القبائل العربية , وشعرائها , لا بل أفرداها العاديين من الجنسين , وأخبار وفودهم على الملوك , وأخبارهم في سلمهم وحربهم , وفرحهم , وترحهم , وأعجب أكثر من تلك العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة التي أجدها دائما حاضرة في ذهن الرجل في حلّه وترحاله , وفي ساعات راحته وتعبه , بل لا تغيب عن مخيلته وهو في ميدان الوغى , وتحت بوارق السيوف , وتلمّظ الرماح , وأصبحت لديّ قناعة بأنّ ذلك الجيل الذي التفّ حول محمد { صلى الله عليه وسلم } من أولئك العظماء الذين غيّروا وجه التاريخ ووجهته لم يكونوا تربية أمهات جاهلات خاملات كما يحاول البعض أن يصف المرأة في جاهليتها , حيث صوّرها أغلب الكتاب الإسلاميين بأنّها كانت موؤدة , محتقرة , ممتهنة , وتعد من سقط المتاع , ولا رأي لها ولا كيان , ولا أثر لها ولا تأثير .... , فكيف نوفّق بين هذه المقولة الشائعة على كلّ لسان عربي ومسلم , وبين ما كانت عليه المرأة من دور فاعل في أحداث ذلك المجتمع الذي ظلّ يعيد إنتاج نفسه حتى وقتنا الحاضر في كثير من بلدان العرب , فالتاريخ ينقل لنا كثيرا من الأخبار التي تدلّ على تأثير المرأة في صنع الأحداث , وصنع الشخصيات القيادية من الرجال التي لها أدوار فاعلة في مجتمعها ؟؟
إنّ بحث هذه المسألة بحث جادّ هو من ضرورات أيّ بحث في تاريخ العرب وحياتهم من جميع جوانبها السياسية , والثقافية , والتربوية ...... إلخ , وما لم يتمّ ذلك فإنّ أيّ بحث سيكون مجزوءا مبتورا فيه من الثغرات ما لن تخطئه أعين النبهاء , وستبقى النظرة العامّة في أوساط العامّة والمثقفين نظرة مغلوطة لدور المرأة وتأثيرها في حياة المجتمع وأحداثه ؛ لذلك فإنني رأيت أن أناقش هذه المسألة الشائكة في هذا الفصل تمهيدا للحديث عن صورة الرجل في شعر المرأة الذي يمثّل محاولة منها لتشكيل شخصية الرجل سواء أكان ابنا أم أبا أم زوجا بالصورة التي ترغبها , وما لهذا من أثر فعلي في صناعة شخصية الجل العربي , وأثر ذلك على مسيرة المجتمع العربي , فكان لابدّ من تقسيم هذا الفصل لعدّة مطالب لمعرفة واقع المرأة العربية في الجاهلية , والنظرة الفلسفية العربية لها , مقارنة مع واقعها العملي , فجاء البحث كالتالي :
....المطلب الأول عرض آراء بعض الكتاب العرب في مكانة المرأة العربية في الجاهلية :
لم يكن العرب في جاهليتهم أصحاب نظرة فلسفية مستقلة , إذ لم يسجل لنا التاريخ وجود مفكر أو فيلسوف صاحب نظرة فلسفية شاملة للوجود بما يمثله من مادّة صماء , وحياة , وإنسان كالذي نجده عند اليونان مثلا , فما عند العرب في هذا الجانب كان خليطا من أفكار وأيدلوجيات ذلك العصر وأديانه , إضافة لما لهم من ملاحظات متفرقة ثاقبة ربما كانت تمثّل نظرة شاملة نسبيا لو جمعت من مصادرها .
وتكاد تتفق كلمة غالبية الباحثين على أنّ العرب قبل الإسلام كانوا ينظرون للمرأة نظرة دونية , وذهب قلّة من الباحثين إلى أن المرأة في الجاهلية كانت تحظى بنظرة محترمة يقول الدكتور جواد علي مبينا نظرة العرب في الجاهلية للمرأة : (( وقد عرفت المرأة بالكيد بين الجاهليين. ونظروا إليها نظرتهم إلى للشيطان، وليست هذه النظرة العربية إلى المرأة هي نظرة خاصة بالجاهلين، بل هي نظرة عامة نجدها عند غيرهم أيضاً. بل هي وجهة نظر الرجل بالنسبة للمرأة في كل العالم في ذلك الوقت. وهي نظرة نجدها عند الحضر بدرجة خاصة، لما لمحيط الحضر من خصائص التجمع والتكتل، والتصاق البيوت بعضها ببعض، ولما لهم من حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد تتجرأ المرأة على دس انفها، والاتصال بالغرباء، فنشأ منَ ثمّ هذا الرأي بين أهل الحضر أكثر من الأعراب.................
ونظر الرجل إلى رأي المرأة على إن فيه وهناً وضعفاً وانه دون رأيه بكثير، وتصور إن مقاييس الحكم عندها، دون مقاييسه في الدقة والضبط، وهذا رأى العرب إن من الحمق الأخذ برأي المرأة, فكانوا إذا أرادوا ضرب المثل بضعف رأي وخطله قالوا عنه: "رأي النساء" و "رأي نساء" وقالوا: شاوروهن وخالفوهن، لما عرف عن المرأة من تأثر بأحكام العاطفة عندها. حتى ذهب البعض إلى عدم وجود رأي للمرأة، ولهذا قالوا: يقال الرجل "الفند" إذا خرف وخف عقله لهرم أو مرض، وقد يستعمل في غير الكبر وأصله في الكبر. ولا يقال "عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي أبداً فتفند في كبرها. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - (ج 1 / ص 244
) ويقول أبو الحسن علي الحسني الندوي ما نصّه : « وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف تؤكل حقوقها وتبتز أموالها وتحرم من إرثها وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه وتورث كما يورث المتاع أو الدابة .
ونقل السيوطي عن ابن عباس قوله: (( كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه فهو أحق بامرأته إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدى بصداقها أو تموت فيذهب بمالها « . ونقل الطبري في تفسيره عن السدّي قال : إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه فإذا مات وترك امرأته فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن يَنكحها بمهر صاحبه أو يُنكحها فيأخذ مهرها . وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها » . وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها يؤخذ مما تؤتى من مهر وتمسك ضراراً للاعتداء . وتلاقي من بعلها نشوزاً أو إعراضاً وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة . ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث . وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد . « وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد . ذكر الهيثم بن عدي - على ما حكاه عنه الميداني - أن الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة . فجاء الإسلام وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد . فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن . ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء . أو شيماء ( سوداء ) أو برشاء ( برصاء ) أو كسحاء ( عرجاء ) تشاؤماً منهم بهذه الصفات . ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق ، وخوف الفقر . .
» وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله فلا يئدها إلا وقد كبرت وصارت تعقل . وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات . وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق « .
هذا ويرى بعض الباحثين أن وضع المرأة لم يكن بالصورة السيئة التي يحاول الآخرون رسمها، فيقول :(( تمتعت المرأة على سبيل المثال بحرية اختيار زوجها ....َ ,وفي مجال العلاقات القبلية،كثيرا ما كانت النساء تشارك في حل النزاعات بين القبائل،أو إثارتها وتأجيجها،مثل البسوس بنت منقذ التميمية ، وشاركت المرأة الجاهلية في التجارة،فقد كانت خديجة بنت خويلد ،وقيلة الانمارية ،تبيع وتشتري بنفسها، وسجّلت لنا المصادر،نساء كثر تميزن برجاحة العقل،وحسن الرأي، مثل خالدة بنت هاشم بن عبد مناف وصَحر بنت لقمان بن عاد......... وكانت العرب تتحاكم عندها ( المرأة ) فيما ينوبها من المشاجرات في الانساب وغيرها ، وسُمّيت بعض القبائل بأسماء الأمهات مما يدلّ على المكانة الرفيعة للمرأة في ذلك الزمان ، مثل قبيلة مزينة وبجيلة وباهلة وكان المجتمع العربي في بعض مناطقه مجتمعا بدويا رعويا ،وفي مثل هذه المجتمعات، يكون للمرأة دور كبير في النشاط الاقتصادي وهذا يعني أنها بجهدها في البيت،أوخارجه كانت تفرض احترام المجتمع لها ،وهذا يحمل على القول : إنهم نظروا للمرأة نظرة احترام تليق بها وبدورها المشع في الحياة))،
وقد تطرف بعض الباحثين العلمانيين إلى حدّ القول بأنّ المرأة في الجاهلية كانت في حال أحسن من حالها في الإسلام ,فيقول ما نصّه : (( من ناحية عامة نجد لمحات في الشعر العربي الجاهلي لكثير من الأمثلة عن صدارة المرأة في الحياة الاجتماعية للعرب ,.... ويدلل على صدارة المرأة ومكانتها بالأمثلة التالية :
1-- خديجة بنت خويلد: تذكر جميع مصادر السيرة الإسلامية المكانة العالية التي تمتعت بها خديجة بنت خويلد في حياة "الجاهلية" القرشية. نجد أنها كانت تملك ثروة ورثتها عن أبيها وربما من أزواج سابقين كما أنها كانت نشطة بأمور التجارة وكانت بدرجة من "التحرر" جعلتها ترسل لمحمد { ص }من تقترح عليه زواجها منه .
2-- هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: يشير الدليل التاريخي أن هذه المرأة تمتعت بسطوة ونفوذ كبيرين. كانت تملك مالها الخاص وحق التصرف به بدليل توجيه عبدها وحشي لقتل حمزة ثم إعتاقه بعد أن وفى بوعده. وقصة دورها الكبير في التحريض لمعركة أحد يدل على أن المرأة في ذلك المجتمع لم تكن مهمشة كما حدث لها في ظل المجتمع الإسلامي. ولعل إجابتها لمحمد بعد فتح مكة قائلة له "أنبي وحقود" عندما ناداها بهند آكلة الكبود خير دليل على قوة شخصيتها وثقتها بنفسها. ومن الدلائل على شعور المرأة بالعزة والاستقلالية إجابتها لمحمد أثناء مبايعته لنساء قريش بعد فتح مكة عندما قال لهن ألا يزنين ، فأجابته هند "وهل تزني الحرة؟".
من هذه الأمثلة القصيرة نجد أن المرأة الجاهلية تمتعت بحق الملك والوراثة واختيار الزوج والتجارة والحكم ، والمشاركة بالنشاط الديني وترأسه، وأنه كان لها دور أساسي في حياة المجتمع ))
وبعد هذا الاستعراض لآراء بعض الباحثين في هذه المسألة نستطيع إرجاع سبب الاختلاف بينهم في هذه المسألة يعود إلى ما نقلته المصادر التاريخية من أخبار تكاد تكون متناقضة , وكذلك عدم التفريق بين النظرة الفلسفية للمرأة والنظرة العملية , وكذلك اختلاف مذاهب العرب وعاداتهم , فما كان العرب نسيجا اجتماعيا متشابها حد التطابق , ونظرا لأنّ هذه المسألة من المسائل الشائكة التي يكتنفها الغموض لدى كثير من الباحثين فإنني ؛ لتوضيحها , وكشف أسرارها , سأتناولها بشيء من التفصيل في المطالب التالية .
المطلب الثاني : تأثر العرب بالأفكار السائدة في العالم القديم
أنّ النظرة العربية للمرأة قد تأثرت بما كان سائدا من نظرة عامّة للمرأة عند الشعوب المجاورة للعرب ,من فرس ويونان , وهنود , ومسيحيين , ويهود , ورومان , فقد اتفقت كلمة هذه الأمم والشعوب على نظرة دونية للمرأة , واعتبارها في منزلة دون منزلة الرجل , وأنّها متهمة في عقلها , وفي طهارة نفسها , وأنّها من أسباب الشرور والويلات ...... إلخ , وإذا عدنا للقرآن الكريم فإننا نجده قد أكدّ هذه النظرة , فقد وصف العربي عندما يرزق بالأنثى في قوله تعالى : ((وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )) وقد بيّن أنّ هذه النظرة لم تكن عند العرب وحدهم , حيث قد بيّن النظرة اليهودية المشابهة في قوله تعالى : (( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( آل عمران36 يقول الزمخشري : فإن قلت : فلم قالت : إني وضعتها أنثى وما أرادت إلى هذا القول ؟ قلت : قالته تحسرا على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها . فتحزنت إلى ربها لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكرا ولذلك نذرته محررا للسدانة . ولتكلمها بذلك على وجه التحسر والتحزن قال الله تعالى : " والله أعلم بما وضعت " تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه . .....
ونظرا لاختلاط العرب بمختلف تلك الشعوب التي سبقت الإشارة إليها , واعتناق بعضهم للديانة اليهودية والمسيحية فقد تأثرت نظرتهم للمرأة بتلك الأفكار , علاوة على ما عندهم من مسوغات فرضتها عليهم طبيعة حياتهم القاسية , ومن ذلك ما أشار إليه الطبري في تفسيره من حججهم في عدم توريث النساء حيث قال في تفسير قوله تعالى : ((:{لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} (7النساء) نزلت في أم كحلة وابنة كحلة وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالت : يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث ! فقال عم ولدها : يا رسول الله لا تركب فرسا , ولا تحمل كلا , ولا تنكي عدوا يكسب عليها , ولا تكتسب ! فنزلت.)) ....
فمسوغ حرمانها أنّها لا تقاتل دفاعا عن الحوزة , ولا تكلف بالحقوق { الواجبات الاجتماعية , ولا تكلّف بالنفقة .
2__ المطلب الثالث تناقض العقلية العربية بين النظرية والتطبيق :
نلاحظ أن المرأة التي لا تعد من أهل الرأي أصلا , والتي قالوا عنها : (( شاوروهن وخالفوهن، ......وقالوا: يقال الرجل "الفند" إذا خرف وخف عقله لهرم أو مرض، وقد يستعمل في غير الكبر وأصله في الكبر. ولا يقال "عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي أبداً فتفند في كبرها. نجدها تنصب ملكة كما هو الحال في ملكة سبأ العاقلة الحازمة وقد جاء في القرآن الكريم : ((إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (23) سورة النمل , كما نجدها مثيرة حرب كالبسوس التي اشتعلت الحرب بسببها أربعين عاما بين بكر وتغلب , وتغنى بها الشعراء , وأحبوها , وهذا الأمر قد يشكل على من لا يعرف طبيعة العرب , فالعرب في طبعهم التناقض بين الفكر والسلوك وهم مهرة في { مفهوم لكل قاعدة استثناءات } فكل قاعدة عندهم لها من الاستثناءات ما يفرغها من مضمونها , وقد أكدّ القرآن الكريم هذه الطبيعة عندهم , وعابها عليهم في أكثر من موضع , ومن ذلك قوله تعالى : (((1) يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3) سورة الصف . {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (77) سورة النساء , قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال فلما فرض عليهم القتال شق عليهم ذلك وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتاب ه
إنّ تناقض العقلية تجاه المرأة حيّر كثيرا من الباحثين في هذا المجال , فاضطربت نظرتهم كما لا حظنا آنفا , ويعود ذلك لعجز أغلب الباحثين في الشأن الاجتماعي العربي عن فهم طبيعة المجتمع العربي القبلي الذي ظلّ يعيد إنتاج نفسه منذ أيام الجاهلية وحتى عصرنا الحاضر في معظم البلدان العربية , والسبب في هذا العجز هو عدم فهم الأسس الفكرية التي ينطلق منها هذا المجتمع ؛ لأنّ أغلب من كتب في شؤونهم الاجتماعية لم يكن منهم , وربما كان هذا هو السبب الذي دفع الدول الأوروبية الطامعة في استعمار العالم العربي لتكليف بعض علمائهم في القرن الثامن عشر والتاسع عشر لمرافقة القبائل العربية , والعيش في أوساطها بضعة أعوام , وكتابة الكتب المفصلة عن حياتهم وأحوالهم , ومن أمثلتهم بير كهارت صاحب كتاب رحلات في سوريا الجنوبية , ولويس موزيل الذي عاش بضعة أعوام مع قبيلة الرولة ....... وما ذلك إلاّ محاولات جادّة لفهم طبيعة المجتمع العربي ليتمكنوا من التعامل معه عند احتلاله .
إنّ المجتمع العربي القبلي الذي كان في الجاهلية والذي لا يزال في موجودا في معظم البلدان العربية وجوهره لا يزال يحمل خصائص المجتمع العربي القديم _ لا ينظر إلى المرأة من حيث جنسها , وإنّما ينظر إليها من حيث علاقتها بالرجل , فالمرأة التي يضّعف رأيها , ويغضّ من شأنها, ويأنف من الأخذ برأيها هي الزوجة , أمّا الأمّ , والأخت , والبنت , والعمة فلها اعتبارها , ويحترم رأيها , .......... نجد هذا في حياة القبائل العربية المعاصرة , وموروثها المنقول عبر الأجيال شفويا , كما نجد إشارات له في المصادر القديمة ومن الأمثلة على ذلك ما يلي :
• قول صخر بن الشريد أخي الخنساء مخاطبا زوجته عندما كان في مرض موته :
( وما كنتُ أخشى أن أكونَ جِنازةً ... عليكِ ومَن يغتُّر بالحَدَثَان )
( أهُمُّ بأمر الحَزْم لو أستطيعُهُ ... وقد حِيلَ بين العَيْرِ والنَّزَوان )
( لَعَمري لقد نَبَّهْتِ مَن كان نائماً ... وأسْمعتِ مَن كانت لهُ أُذُنان )
( ولَلْمَوْتُ خَيرٌ من حياةٍ كأنَّها ... مَحَلَّةُ يَعْسوبٍ برأس سِنانِ )
( وأيُّ امرىءٍ ساوَى بأمٍّ حليلةً ... فلا عاشَ إلاّ في شَقاً وهَوان )
• قصّة أوس بن حارثة الطائي مع بشر بن أبي حازم الذي هجاه وهجا أمه سعدى بنت الحصين فنذر حارثة أن ظفر به ليحرّقنه، فلما تمكّن منه وأوقد له ناراً ليحرّقه - - فبلغ ذلك سعدى بنت حصين الطائيّة، ، فخرجت إليه فقالت: ما تريد أن تصنع؟ فقال: أحرق هذا الذي شتمنا. فقالت: قبح الله قوماً يسوّدونك أو يقبسون من رأيك، والله لكأنّما أخذت به، أما تعلم منزلته في قومه، خلّ سبيله وأكرمه، فإنه لا يغسل عنك ما صنع غيره. , فعفا عنه ...
ولعلّ السبب في النظرة الدونية للمرأة بصفتها زوجة , ونظرة الاحترام لها بصفتها أمّ أو أخت أو بنت يعود لتأثير ذلك الصراع الأزلي بين الزوجة والحماة ( أمّ الزوج ) , فمن المعلوم أنّ العرب لم يعرفوا البيوت المستقلة إلاّ في وقت متأخر , لا بل لا تزال أغلب القبائل العربية تخضع لنظام الأسرة الممتدة المكونة من الأب والأمّ والأبناء وزوجات الأبناء , وتجد الصراع النسوي على أشدّه بين الزوجة , وقريبات الزوج من أمّ وأخت ..............إلخ , فالأمّ في سبيل الانتصار على زوجة الابن لا مانع لديها من تسفيه رأي المرأة , والتأكيد على أنّها ليست أهلا لأن تطاع أو تحترم .... وقد يتظاهر الولد بالقبول بهذا الرأي إرضاء لأمّه , إلا أنّ الشواهد على هذا الرأي من المصادر المدونة تكاد تكون نادرة ؛ لأنّ هذا الأمر يعدّ من الجانب السرّي في الحياة العربية , ومن شواهده النادرة ما جاء في ديوان الحماسة لإحدى الأمهات التي تشكو عقوق ابنها :
1 - ( قالَتْ لهُ عِرْسُهُ يَوْماً لِتُسْمِعَني ... مَهْلاً فإِنَّ لنَا في أُمِّنا أرَبَا )
2 - ( وَلوْ رَأتْنِيَ فِي نارٍ مُسَعَّرَة ... ثُمَّ اسْتَطاعَتْ لزَادَتْ فَوْقَها حَطَبا ) ,
وكذلك دور أمّ الزوجة في تعزيز الصراع بين الزوجة والزوج من أجل السيطرة , وانتزاع الدور القيادي , ومن شواهد ذلك ما ذكره الراغب الأصفهاني في محاضراته حيث يقول : (( زوجت امرأة ابنتها فقالت: يا بنية اقلعي زج رمح زوجك أولاً، فإن أقر فاقلعي سنانه، فإن أقر فاكسري العظام بسيفه، فإن أقر فاقطعي اللحم وضعيه على ترسه، فإن أقر فضعي الأكاف على ظهره فإنه حمار!
إنّ هذا الصراع الذي يبدو في نظر الرجل سخيفا , وليس له ما يسوغّه فإنّه ينعكس حتما على نظرته للمرأة , ويدعوه للاستخفاف بعقلها , وتترسخ لديه قناعة بأنّ المرأة تتصرف بدون عقل .
المطلب الرابع : الواقع الفعلي للمرأة العربية في العصر الجاهلي :
بغض النظر عن النظرة الفكرية للمرأة , ومن أنّها ليست من أهل الرأي , وغير مؤهلة لأن تكون من أهل الحلّ والعقد إلاّ أنها كانت مؤثرة في الحياة العربية , وتأثيرها يظهر أحيانا , ويتستر أحيانا , تقول المحامية فاطمة حمادي في مقالة ضافية تكاد تفي بالغرض في هذا المجال :
فتشير لدورها في الحياة الاقتصادية في المجال الزراعي قائلة : (( لقد مارست المرأة دورها في بناء المجتمع آنذاك على أكمل وجه ,ولعبت دورا بارزا في الحياة الاقتصادية فعملت جنبا إلى جنب مع الرجل بالزراعة في مناطق الجزيرة العربية التي تمتهن الزراعة , فكانت تقوم بجني المحاصيل وري الأرض بعد أن تجمع المياه في برك بها وكذلك كانت تقوم بتربية الماشية.((
وتبين دورها الهامّ في الجانب الصناعي , وهو الدور الذي لا تزال المرأة العربية في البوادي والريف العربي تلعبه فتقول : ((وفي مجال الصناعة كانت المرأة الجاهلية تشكل عنصرا فعالا في الجانب العملي الصناعي فهي التي تتحمل عبئ الصناعة المنزلية بمفردها وعلى عاتقها وحدها تقع صناعة المنزل ونسجه إذا كانت خيمة متنقلة أما إذا كان ثابتا فإنها تقوم بصنع لبناته وهي تعد أثاثه فتقوم لغزل قماشه وحشو فرشه وحياكة ملابس الأسرة بالإضافة إلى تخصصها بصناعة ما تحتاجه العائلة من طعام ومؤونة واوان منزلية )).
وتلفت النظر إلى أهمية تمتع المرأة بمهارة الصناعة المنزلية اللازمة لبيتها فتقول : ((وقد كان إتقان المرأة للصناعة شرطا أساسيا لا بد من توافره فيها حتى يتقدم الخاطب لخطبتها ويتجلى ذلك في نصائح "الحارث بن كعب المذحجي" لبنيه قبل وفاته:
"إياكم والورهاء فأنها أدوا الداء وتجنبوا الخرقاء فان ولدها إلى افن" فأما الورهاء فهي التي لا يتم لها عمل , والخرقاء فهي التي تدعي العمل ولا تحسنه ,) ) وتشير إلى أسماء بعض النسوة اللواتي اشتهرن بغير الصناعة المنزلية فتقول : (( ولم تقتصر مساهمة المرأة في الصناعة على ما تحتاجه أسرتها وإنما كان هناك نساء اشتهرن بما يبيعنه من مصنوعاتهن مثل "ردينة" التي اشتهرت بصناعة الرماح التي كانت تبدعها إلى جانب زوجها في متجره فعرفت بالرماح "الردينية." نسبة لها. ومثل "منشم" التي نالت العطور التي تركبها صيتا ذائعا واسع الأرجاء حتى إن الرجال المتحاربين كانوا يتعطرون بما تركبه من عطر قبل أن يخوضوا غمار القتال.
وبهذا المعنى ورد بيت لزهير بن أبي سلمى:
تداركتم عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فالمرأة كانت إذا في العصر الجاهلي سيدة الإنتاج الصناعي دون مغالاة بينما كان الرجل إما راعيا آو تاجرا أو مزارعا إلى جانبها((.
ثمّ تشير للدور التربوي للمرأة فتقول : ((وان الدور التربوي الذي كانت تؤديه لا يقل شانا عما تقوم به المربيات المثقفات في عصرنا الحالي. فقد كانت تعلم أطفالها ومنذ نعومة أظافرهم المعاني الرفيعة , وترنمهم بذوق الكلام , وفصاحة اللسان ,وتسعى لإبعادهم عن سماع كل دنية وبذيئة , وتتعهدهم بالرعاية والملاحظة جاهدة أن تنمي في نفوسهم المروءة العربية , وهي في الجاهلية الحلم والصبر والعفو عند المقدرة و والكرم وإقراء الضيف وإغاثة الملهوف ونصرة المستضعف والجار والمظلوم والوفاء ويرافق كل هذه الصفات الشجاعة في القول والصدق والشجاعة في العمل والقتال وهي إلى جانب عواطفها الإنسانية الرقيقة تبث في بنيها قيم القوم كالأخذ بالثأر مثلا وضرورة الاستبسال في الدفاع عن القبيلة وعن الأسرة وغسل العار((.
وتشير إلى دورها التجاري فتقول ))وكذلك لعبت المرأة دوراً لا باس به في التجارة وكانت تقوم به إما بنفسها في الأسواق الداخلية فكانت تبيع ما تنتجه أو ما تستورده من مدينة أخرى مثل "أسماء بنت مخرمة بن جندل" التي كانت تأتي بالعطر من اليمن ثم تبيعه في المدينة أو كانت تقوم به عن طريق توظيف مالها في التجارة الخارجية وذلك عن طريق استئجار من يشتري ويبيع لصالحها من الرجال ومثال ذلك السيدة "خديجة بنت خويلد" عندما تخيرت " محمد " صلى الله عليه وسلم ليكون أمينا على تجارتها ثم اتبعته بغلامها ميسرة.((
وكذلك دورها في الرعاية الصحيّة : (( ونشطت المرأة أيضا في مجال الطبابة سواء أكان ذلك بوصفها كاهنة تصف الدواء عن طريق الأعشاب أو السحر أو كانت خبيرة بتضميد الجراح ومعالجة الكسور ومداواة العين.((
وتشير إلى دورها السياسي باقتضاب جزل المعنى مليء بالدلالات فتقول : (( وكان لها دور قيادي في السياسة سواء أكانت تمارسه من خلف الستار عن طريق تأثيرها في زوجها أو ابنها أو أخيها أو أبيها.
وقد تجلى هذا الدور في إضرام نار الحرب من خلال ما تنشده من أشعار فها هي "بنت حكيم بن عمرو العبدي" تشجع رجال قبيلتها في المعركة وتحثهم على النصر قائلة:
فان لم تنالوا نيلكم بسيوفكم فكونوا نساء في الملاء المخلف.
فالفارس العربي كان يخشى أن تصفه المرأة بالجبن ولذا فانه إن ولى مدبرا أو لم يقم لثار أو اظهر تخاذلا فان كل اعتذاره يوجهه للمرأة وكذلك تجلى دورها في إحلال السلم بين القبائل المتناحرة منها هي " بهية ابنة أوس بن حارثة الطائي" تخاطب " الحارث بن عوف " ليلة عرسهما بعد أن اشتدت أوار الحرب بين عبس وذبيان مؤنبة إياه:
" والله لقد ذكرت في الشرف مالا أراه فيك" قال" وكيف" ؟ قالت:" أتفرغ للنساء والعرب يقتل بعضهم بعضا اخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم"
فمشى بالصلح مع صاحبه " الهرم بن سنان" واحتملا معاً ديات قتلاهم , وفي الحياة العسكرية كان الرجال يصطحبون معهم نساءهم في المعارك ليقمن بدور المشجع لهم والمداوي لجراحهم.
وكانت النسوة يشاركن أيضا في القتال عند الضرورة كما حدث أثناء حرب البسوس بين بكر وتغلب عندما خضن نساء بكر المعركة بعد أن تبين لسيدها الحارث بن عباد أن عدد المحاربين من رجالها قليل فأمر بتسليح المرآة إلى جانب الرجل في هذه الحرب فأبلت بلاء حسنا(( .
وتكتمل مستعرضة بقية المجالات : (( أما في مجال الأدب والشعر فكانت المرآة تنافس الرجل شعرا ونثرا وحكمة كما كان يحدث في سوق عكاظ.
وتذكر لنا الروايات أخبار مداولة "الخنساء" مع حسان بن ثابت" والتي كان " النابغة الذبياني حكما فيها" ومن أشهر شاعرات الجاهلية "عاتكة بنت عبد المطلب" "وهيفاء بنت صبح القضاعية" , وفي رحاب الفن برعت المرأة في الغناء والموسيقى وممن لمعت أسمائهن واشتهرن بغنائهن الحر "ماوية ابنة عفزر" وهي التي اختارت "حاتما الطائي" زوجا لها.
ويتضح لنا من هذا العرض السريع من بأن المرأة الجاهلية البرزة (المثقفة) قد لعبت دورا هاما في مختلف نواحي الحياة ومارست حقوقها كاملة باستثناء حقها في الميراث.
حتى أن بعض النساء كن يحتفظن لأنفسهن بحق اختيار الزوج وفي حق التطليق منه وخير مثال على ذلك "ماوية ابنة عفزر" التي اختارت حاتما الطائي زوجا لها وكذلك طلقت نفسها منه بإرادتها المنفردة.((
ويؤكد الدكتور جواد علي ما ذكرته المحامية فاطمة حمادي في كتابه القيّم المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ملقيا الضوء على جوانب هذه القضية الشائكة فيقول :
(( وقد عرفت المرأة بالكيد بين الجاهليين. ونظروا إليها نظرتهم إلى للشيطان، وليست هذه النظرة العربية إلى المرأة هي نظرة خاصة بالجاهلين، بل هي نظرة عامة نجدها عند غيرهم أيضاً. بل هي وجهة نظر الرجل بالنسبة للمرأة في كل العالم في ذلك الوقت. وهي نظرة نجدها عند الحضر بدرجة خاصة، لما لمحيط الحضر من خصائص التجمع والتكتل، والتصاق البيوت .. بعضها ببعض، ولما لهم من حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد تجر المرأة على دس انفها، والاتصال بالغرباء، فنشأ منَ ثمّ هذا الرأي بين أهل الحضر أكثر من الأعراب.)) ثمّ يلفت النظر لملاحظة رائعة ألا وهي انشغال العقلية العربية بالمفاضلة بين الكيد والدهاء بين الرجل والمرأة فيقول :
((وعرفت المرأة عندهم بالمكر والخديعة. إذْ كان في وسعها استدراج الرجل والمكر به. وهم يتمثلون بمكر "الزبّاء".. واستدراجها "جذيمة الأبرش" إليها، ثم فتكها به. على نحو ما ورد من قصص عنها في كتب أهل الأخبار. غير أنهم يروون في الوقت نفسه قصة "قصير" معها، وكيف تمكن من الأخذ بثأره ))
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - (ج 1 / ص 2439)
ثمّ يأتي بملاحظة أروع من سابقتها مبينا الاختلاف بين النظرية والتطبيق , أو القاعدة والاستثناء فيقول : (( وما قلته _{ ويقصد هنا شيطنة المرأة ومكرها ... إلخ }}_يمثل الفكرة العامة عن المرأة بين سواد الناس. غير إن هناك نسوة اشتهرن بالعقل والحكمة عند الجاهليين. وكنَّ مرجعاً للرجال في أخذ الرأي. حتى إن منهن من تولين أمر الحكومات، وقد سبق إن ذكرت فيما مضى إن قبائل بادية الشام كانت تحت حكم ملكات في أيام الآشوريين. ومنهن الملكات "شمس" و "زبيبة". كما أشرت إلى الملكة "الزبّاء". ولم يجد العرب قبل الميلاد ولا بعده غضاضة من تعين النساء ملكات عليهم. وقد كن يصاحبن الرجال إلى القتال لإثارة هممهم عند اشتداد المعارك ولمداواة الجرحى، وحمل الماء إلى العطشى من المقاتلين. وقد كانت "رفيدة" تداوي جرحى المسلمين في مسجد الرسول بيثرب. وكانت "زينب" طبيبة "بني أود" تعالج المرض )) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - (ج 1 / ص 2441)
ويكمل قائلا مفصّلا :
(( ولم نقرأ في كتب أهل الأخبار ما يفيد سيادة النساء على القبائل في الجاهلية القريبة من الإسلام. ولم نقرأ في المسند ما يفيد بوجود ملكات حكمن اليمن. بينما قرأنا في الكتابات الآشورية وجود ملكات عربيات حكمن قبائل. عربية، كانت تنزل البوادي من بادية الشام. ووقفنا أيضاً على حكم الملكة "الزباء". لتدمر وذلك بعد الميلاد. ولكننا نقرأ في أخبار أهل الأخبار أخبار كاهنات، كانت لهن مراكز خطيرة عند القبائل. وكذلك أخبار حاكمات. حكمن فيما بين الناس في الخصومات. وقد كان منهن من يقرأ ويكتب كما سترى فيما بعد.
ويبين أنّ المرأة تستمد كيانها من قوة أهلها , ومكانتهم الاجتماعية فيقول : ((وللمرأة الشريفة ذات السؤدد حظّ في المجتمع لا يدانيه حظ المرأة الحرة الفقيرة. فسؤددها حماية لها ودرع يصونها من الغض من منزلتها ومكانتها. وأسرتها قوة لها، تمنع زوجها من إذلالها أو إلحاق أي أذى بها، وهي نفسها فخورة على غيرها لأنها من الأسر الكريمة. والعادة بالطبع أن الأسر الكريمة لا تزوج بناتها إلا من أسر كريمة موازية لها في المنزلة والشرف. من ذلك قولهم: "استنكح العقائل، إذا نكح النجيبات".
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - (ج 1 / ص 2438)
المطلب الخامس : النتائج المستخلصة :
ونخلص مما سبق استعراضه في النظرة العربية للمرأة الجاهلية , وما كان لها من دور في المجتمع – إلى النتائج التالية :
• أنّ فكرة أنّ (( النساء شقائق الرجال )) = نظائرُهم وأمثالهم في الأخْلاق والطِّباع
هي فكرة أصيلة في العقل والوجدان العربي , وإنّ ما خالفها من نظرة إنّما هو بتأثير الحضارات , والفلسفات , والأديان المجاورة لبلاد العرب , وبرهان هذه النتيجة علاوة على ما ذكره محمود العزّامي في مقالته السابقة , وكذلك فاطمة حمّادي , فإننا إذا نظرنا إلى اللغة العربية التي تمثل وعاء الفكر العربي تدلّ على هذه الحقيقة بأوضح برهان , فقد انقسمت صفات الفضائل وأسمائها , وكذلك الرذائل بقسمة عادلة بين المذكر والمؤنث , واستقصاء ذلك بحاجة إلى أطروحة مستقلة , ومن الأمثلة : الأمانة مؤنث والصدق مذكر , والخيانة مؤنث والكذب مذكر , والبهجة والجمال , والبشاعة والقبح , والروعة والحسن , والفطنة والذكاء , والحماقة والغباء ..... فهذه القسمة المنصفة تدلّ على تأصّل فكرة أنّ (( المرأة شقيقة الرجل )) أي قسيمته في كلّ شيء , وتمثّل نصفه الذي لا يكتمل إلاّ بالنصف الثاني , فالعلاقة هي علاقة تكامل لا تناقض , وهذه الملاحظة التي نلاحظها في اللغة العربية تدلّ على تأصّل هذه الفكرة ,وأنّ كلّ ما خالفها هو طارئ وافد .
وإذا أدركنا هذا الجانب سهل علينا أن نفهم حضور المرأة في ذهن الرجل العربي في جميع أحواله , ووجودها الضخم في شعره , فهو يزج ذكرها في شعر المدح , والفخر , والشكوى وسائر أغراض الشعر علاوة على شعر الغزل , وكذلك يسهل علينا أن نفهم دورها في صنع الأحداث , وتحريك الرجل بأسلوب خفيّ أو مكشوف ؛ وما ذلك إلاّ أنّ مفاهيم أعماقه , أو عقله الباطن لا يرى فيها تلك الصورة البشعة التي يحاول أن يقنعه بها الآخرون .
• الدور التربوي للمرأة في صناعة الأجيال , فهذا الجيل من العمالقة الذين فجّر طاقتهم الإسلام , والذين لا يزالون مفخرة للإنسانية فيما كانوا يمثلونه من خلق وعلوّ همّة , وسعي للمعالي هم من نتاج تربية تلك المرأة التي حاول بعض الجهلة تصويرها جاهلة خاملة لا مكان لها ولا مكانة ,متجاهلين أمّا مثل هند بنت عتبة , ودورها في صناعة طموح معاوية , والتي يحدثنا التاريخ عنها في قصّة ذات دلالة عميقة حيث قال ابن كثير : ((رأى بعض متفرسى العرب معاوية وهو صبى صغير فقال إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه , فقالت هند ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه وقال الشافعى قال أبو هريرة رأيت هندا بمكة كأن وجهها فلقة قمر , ومعها صبى يلعب فمر رجل فنظر إليه فقال إني لأرى غلاما إن عاش ليسودن قومه فقالت هند إن لم يسد إلا قومه فأماته الله )) .
• دورها في ضبط المنظومة الأخلاقية التي تسود مجتمعها , وخشية الرجل من الوقوع فيا يعيب فيتعرض لانتقادها , وتهتز صورته في نفسها ؛ لذلك فإنّه يركب الأخطار , ويتعرض للمهالك في سبيل الدفاع عن الحوزة والحرم , ويضحي بالنفس والنفس والنفيس للقيام بالحقوق ( الواجبات الاجتماعية ) ......... يفعل ما يفعل وهو يشعر برقابتها , ويتوسل بذلك للفوز برضاها وقلبها , ألا ترى عبد قوم لا يتقن إلاّ الحلب والصرّ جعله الحبّ يتقن الكر والفر , إذ يحدثنا التاريخ إن شَدَّاداً العبسي قَالَ لاَبنه عنترة في يوم لقاء ورآه يتقاعَسُ عن الحرب وقد حَمِيتْ فقال : كر عَنْتَر فَقَالَ عنترة : لاَ يُحْسِنُ العبدُ الكَرَّ إلاَ الحلب والصَّرَّ ,وكانت أمه حَبَشية فكان أبوه كأنه يستخفّ به لذلك فلما قَالَ عنترة لاَ يحسن العبد الكر قَالَ له : كر وقد زوجتك عَبْلَة فكرّ وأبْلَى أحسن البلاء ..........
وهو القائل يذكر محبوبته في موقف يذهل المرؤ عن أمّه وأبيه :
وَلَقَد ذَكَرْتُكِ والرّمَاحُ نَواهِلٌ، ... مِنّي وبِيضُ الهندِ تَقْطُرُ من دَمي
فَوَدِدْتُ تَقبيلَ السّيُوفِ لأنّها ... لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ
جمهرة أشعار العرب - (ج 1 / ص 50)
وما أصدق من قال : {{ وراء كلّ عظيم امرأة }} , وما أروع ما كتبه ويل ديورانت حول تأثير المرأة السحري في صناعة شخصية الرجل وصقلها حيث يقول :
(( النساء لم يعلمن الرجال آداب السلوك والعادات فحسب، بل إنهن كذلك رفعن أو خفضن من درجاتهم في الحياة السياسية، بل حتى في الحياة العلمية....... وكان شعار "فتش عن المرأة" وسيلة النجاح، فإنك إذا عثرت على المرأة التي يحبها الرجل، كشفت عن المنفذ الذي تصل منه إلى الرجل الذي تريد )) .
قصة الحضارة - (ج 34 / ص 106)
• دورها في صناعة الأحداث وخاصّة الحروب أو الثورات , فما كانت البسوس إلاّ قائدة ثورة على ظلم واستبداد كليب , وما عفيرة بنت عباد إلاّ قائدة ثورة أنقذت قومها من ذل الدهر , ولا ننسى ما لهند بنت عتبة من دور في تأليب قريش ضد الدعوة الإسلامية , وما دورها في معركة أحد بسرّ, ودور الجمانة بنت قيس بن زهير العبسي بمنع حرب أهلية داخل قبيلتها ودور ابنة أوس بن حارثة الطائي في إنهاء حرب داحس والغبراء المهلكة .
إذن المرأة كان لها الدور الحاسم في تشكيل شخصية الرجل , وتوجيهها , ومصدر إلهامها , فكان من الأهمية بالمكان الأرفع أن نبحث عن صورة الرجل في شعر المرأة الجاهلية ؛ لنكتشف من خلاله ما كانت تسعى إليه النساء من أهداف تربوية سامية , وما كان لها من دور في هذا المجال التربوي الحيوي , وما كان لها من دور في صنع أحداث ذلك العصر ..... وهذا ما سأفصّل القول فيه في الفصول القادمة .
الفصل الثاني :
المبحث الأول صورة الرجل المحبوبة في شعر المرأة الجاهلية :
المطلب الأول : صورة زعيم القبيلة , والقائد العسكري .
الرئاسة القبلية المعبّر عنها بالعصر الحديث بالشيخة أو منصب شيخ القبيلة هي في أصلها رئاسة تتم بالرضا, والانقياد الطوعي , والقناعة بأهليّة الزعيم لهذا المنصب , وهي لا تكون إلاّ بتوفر صفات بالزعيم ليستحق الزعامة والتقديم , والطاعة والخضوع , والاحترام والتبجيل ؛ ولاكتشاف صورة الزعيم في شعر المرأة الجاهلية , والصفات التي تؤهله للرئاسة نستعرض النماذج التالية :
1. ((قالت أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب تبكي أباها :
ألا يا عين جودي واستهلي ... وبكي ذا الندى والمكرمات
ألا يا عين ويحك أسعفيني ... بدمع من دموع هاطلات
وبكّي خير من ركب المطايا ... أباك الخير تيار الفرات
طويل الباع شيبة ذا المعالي ... كريم الخيم محمود الهبات
وصولا للقرابة هبرزيا ... وغيثا في السنين الممحلات
وليثا حين تشتجر العوالي ... تروق له عيون الناظرات
عقيل بني كنانة والمرجى ... إذا ما الدهر أقبل بالهنات
ومفزعها إذا ما هاج هيج ... بداهية وخصم المعضلات
فبكيه ولا تسمي بحزن ... وبكي ما بقيت الباكيات))
ومن المعلوم أنّ عبد المطّلب كان أكبر رؤساء قريش إذ يقول ابن حبيب : ((صارت الرئاسة لعبد المطلب ,وفي كل قريش رؤساء غير أنهم كانوا يعرفون لعبد المطلب فضله وتقدمه وشرفه)) , فنجد ابنته في رثائها له تشير إلى مجموعة من الصفات : السخاء بتشبيهه بتيار الفرات الذي يمثّل الماء العذب الكثير , والماء رمز الحياة ووسيلتها , وكذلك تصفه بطول الباع كناية عن الكرم والسخاء , وهو كريم الخيم أي طبيعة النفس فيصدّر عنه ما يصدر من مكارم طبعا لا تكلّفا , وهباته كبيرة محمودة , سائغة مرئية لا يفسدها منّ ولا أذى , وإذا كان البعض يجود للغريب ويحرم القريب تجميلا للصورة الخارجية كما يفعل كثير من أهل الجود والسخاء – فإنّ هذا الممدوح وصولا للقرابة , قائما بحقوقها لا من ضعف وحاجة , فهو أسد هبرزي يحمي حماه , ويتّقى بأسه , إنّه غيث قومه في سنين الشدّة والمحل , وليثهم في المدافعة وساحات الوغى , عند اشتجار الرماح , وهو في النسب الأرفع , وإليه المفزع في الأمور العظيمة ,فهو صاحب رأيهم الذي يلجأون إليه عند مشكلات الأمور ومعضلاتها , ونلاحظ من هذه المقطوعة القصيرة سهلة الألفاظ , غزيرة المعاني أنّها جمعت الصفات المثالية للزعيم العربي والمتمثلة بالسخاء الفياض , والشجاعة الكاملة , وطيب المعدن وطهارة النفس , وجودة الرأي وكمال العقل .
2. وأمّا أميمة بنت عبد المطلب فتقول :
ألا هلك الراعي العشيرة ذو الفقد ... وساقي الحجيج والمحامي عن المجد
ومن يؤلف الضيف الغريب بيوته ... إذا ما سماء الناس تبخل بالرعد
كسبت وليدا خير ما يكسب الفتى ... فلم تنفكك تزداد يا شيبة الحمد
أبو الحارث الفياض خلا مكانه ... فلا تبعدن فكل حي إلى بعد
فإني لباك ما بقيت وموجع ... وكان له أهلا لما كان من وجدي
سقاك ولي الناس في القبر ممطرا ... فسوف أبكيه وإن كان في اللحد
فقد كان زينا للعشيرة كلها ... وكان حميدا حيث ما كان من حمد( )
فتبين أنّه راعي العشيرة الذي يرعى شؤونها , ويسقي حجيج العرب , والمحافظ على مجدها , وبيته مقصد الضيفان في سنين المحل والجفاف , وتبين أن نجابته ومظاهر سؤوده ظهرت مبكرة منذ شبابه , وكلما تقدم في السنّ ارتقى في المعالي حتى استحق أن يوصف بشيبة الحمد , وكان يلقب بشيبة الحمد , وهو الحاضر فلا يغيب عن مكرمة .
3. وقالت أروى بنت عبد المطلب تبكي أباها :
بكت عيني وحق لها البكاء ... على سمح سجيته الحياء
على سهل الخليقة أبطحي ... كريم الخيم نيته العلاء
على الفياض شيبة ذي المعالي ... أبيك الخير ليس له كفاء
طويل الباع أملس شيظمي ... أغر كأن غرته ضياء
أقب الكشح أروع ذي فضول ... له المجد المقدم والسناء
أبي الضيم أبلج هبرزي ... قديم المجد ليس له خفاء
ومعقل مالك وربيع فهر ... وفاصلها إذا التمس القضاء
وكان هو الفتى كرما وجودا ... وبأسا حين تنسكب الدماء
إذا هاب الكماة الموت حتى ... كأن قلوب أكثرهم هواء
مضى قدما بذي ربد خشيب ... عليه حين تبصره البهاء ( )
الصورة في شعر أروى قريبة من الصور النفسية السابقة إلاّ أنّها تضيف صفات جسدية فهو شيظمي أي بشوش الوجه , ضامر البطن , رائع المنظر , أمّا المؤهلات الخلقية فالجود والشجاعة والعقل المفضي لجودة الرأي .
4. دختنوس بنت لقيط بن زرارة فتقول في رثاء أبيها الذي قتل في إحدى المعارك , وكان سيد قومه ::
عثر الأغرّ بخير خن ... دف كهلها وشبابها
وأضرّها لعدوّها ... وأفكّها لرقابها
وقريعها ونجيبها ... في المطبقات ونابها
ورئيسها عند الملو ... ك وزين يوم خطابها
وأتّمها نسباً إذا ... رجعت إلى أنسابها
فرعى عموداً للعشي ... رة رافعاً لنصابها
ويعولها ويحوطها ... ويذبّ عن أحسابها
ويطا مواطن للعد ... وّ فكان لا يمشى بها
فعل المدلّ من الأسو ... د لحينها وتبابها
كالكوكب الدّرّيّ في ... سماء لا يخفى بها ( )
والصورة قريبة من الصور السابقة , فهو لسان قومه في خصومه , وخطيبهم في محفل , وممثلهم عند سلطان , وعائلهم وراعيهم الساهر على مصالحهم , والذي يفكّ أسيرهم , الضار لعدوهم , الجسور غير الهيوب , المشهور غير النكرة .
5. ((: قالت: جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان امرأة كليب بن ربيعة عندما قتله أخوها جسّاس :
أيْتَمَ المجدَ كليب وحدَه ... واستوى العالي معاً بالأسفل
من لحكْمِ الناس في حَيْرَتهم ... وَقِرى الأضياف يوم البزَّل
ولإصلاحٍ وإفسادٍ معاً ... في صدى الرمح وَرِيّ المنصل))
بقتله تساوى الناس كناية عن عدم من يستحق التقديم على الناس لفضل , وشغر منصب من يحتكم إليه في المشكلات , ويهرع إليه في المعضلات , ومقري الضيوف من سمان النوق وخيارها , المصلح ما ينبغي إصلاحه , المفسد ما يجب إفساده بسيفه وبطشه ..... ونلاحظ تكرر نفس الصفات , الرأي السديد , والسخاء , والحزم والشجاعة
6. وقالت أم قيس الضبية ترثي ابنها مبينة أنّ فصاحة اللسان , وقوة الجنان في محافل الخطب , والمنافرة والمخاصمة من الصور المحبوبة المحمودة , فمن أوتي لسانا لافظا, وجنانا ثابتا عندما ترمقه الأبصار في المحافل فإنّه يستحق التقديم والتكريم .
4 - ( مَنْ لِلْخُصومِ إذَا جَدَّ الضَّجاجُ بهِمْ ... بَعْدَ ابنِ سَعْدٍ ومَنْ لِلضُّمَّر الْقُودِ )
5 - ( وَمَشْهَدٍ قَدْ كَفَيْتَ الغَائبِينَ بِهِ ... في مَجْمَعٍ منْ نَواصِي النَّاسِ مَشْهُودِ )
6 - ( فرّجْتَهُ بِلِسانٍ غَيرِ مُلْتبسٍ ... عِندَ الْحِفَاظِ وَقلْبٍ غَيرِ مَزؤُدِ )
7. أمّا الفارعة المرية أخت مسعود بن شداد فترثيه بمرثية رائعة تجعلنا نوجه الكاميرا لالتقاط صورا رائعة ، منها :
• تنزيهه عن صورة البخيل الذي يدّخر الشحم ليستأثر بأكله لنفسه , ويجفو عياله عندما يكون الزاد شحيحا إذ لا يهمه إلا ملء بطنه , ويحلّ بعيدا عن نادي قومه لئلا يشاركهم فيما ينوب من الحقوق والتي نسميها في عصرنا بالواجبات الاجتماعية .
يا عينُ بَكي لمسعود بن شدَّادِ ... بكاءَ ذِي عَبَرات شَجْوُه بادِي
من لا يذابُ له شَحْمُ السَّديفِ ولا ... يَجْفُو العِيالَ إذا ما ضُنَّ بالزادِ
ولا يحل إذا ما حلَّ مُنتبِذاً ... يخشى الرزِيّة بين المالِ والنادِي
• ثمّ تصفه بأنّه خطيب لسن صاحب قول محكم , وداهية أريب ينقض المبرمات , ويجلو المبهمات , ويورد الأمور ويصدرها فيحبس الورد متى شاء كناية عن أن أمور قومه تصدر عن رأيه , يقتل زعيم الأعداء وطاغيتهم , وطليعة قومه وربيئتهم الذي يعلو الجبال العالية لاستطلاع تحركات الأعداء , ويمنعهم ببأسه أن يغلبوا , ويفك قيود الأسرى , ويحلّ بهم الأرض الخصيبة اللمرعة , ويفرّج الأمور العظيمة المفظعة , ويحمل الكلّ الضعيف وكنت عنه بالضالع التي أصيبت رجلها فهي لا تقوي على المشي فتحمل , ويحمل لوائهم في الحرب , ويشهد ناديهم كناية عن أنّه من أهل الحلّ والعقد , وليس من النكرات وسقط المتاع ممن إذا غاب غائبهم لا يفقد , وإذا حضر لم يعدد , إنّه السيّد الذي يصلح ما فسد , ويفرج ما انسدّ , جامع صفات الخير , يزين قرينه , وينكّل بعدوه :
قوال مُحْكَمة، نَقّاضُ مُبْرَمَةٍ ... فتّاحُ مُبْهَمَةٍ، حبَّاس أَوْرَادِ
قتَّالُ طاغية، وَثَّابُ مَرْقَبَةٍ ... مَنَّاعُ مَغْلَبَة، فكَاكُ أقيادِ
حَلالُ مُمرِعَة، فَرَّاج مُفْظِعة ... حمّالُ مُضْلِعَة ، طَلاَّعُ أنجاد
حَمَّالُ ألويةٍ، شهَّادُ أنْدية ... شدَّاد أَوهِيَة، فرَّاج أَسْدَادِ
جمَّاع كل خصال الخير قد علموا ... زَيْنُ القَرِين ونِكْل الظالمِ العادِي
( أبا زُرَارةَ لا تَبْعَدْ فكُلُّ فَتًى ... يوماً رَهينُ صَفيحاتٍ وأعوادِ
نعم الفتى، ويمينِ الله، قد علموا ... يَخْلُو به الحيُّ أو يَغْدو به الغَادِي
هو الفتى يحمدُ الجيرانُ مشهدَهُ ... عند الشتاءِ وقد هَمُّوا بإخماد
الطاعن الطعنةَ النّجلاَء يَتبَعُها ... مُثعَنْجِراً بعد ما تَغْلي بإزْبَاد
والسابئ الزُّقَّ للأضيافِ إن نزلُوا ... إلى ذَرَاهُ وغيثُ المُحْوَجِ الغَادِي)
• وهنا تبرز صورة الزعيم المقدّم صاحب البناء الرفيع , وشهاد أندية أهل الحلّ والعقد , والقائد الحربي صاحب الألويةٍ , قاتل الرؤوساء , والخطيب المصقَع صاحب القول المحكم , والداهية الأريب ناقض المبرمات , ومفرّج المبهمات , والجريء الجسور الذي يحلّ البلاد المخصبة غير خائف من الأعداء .
8. ونجد مثل هذه المعاني والصور عند الخنساء في رثائها لأخيها صخر بن الشريد ولكنّها بتفصيل أوفى اقتضانا أن نقف عند كلّ بيت للتعليق عليه باقتضاب شديد حيث تقول مبدية شديد الحسرة وعظيم اللوعة على فقده ,:
( قَذىً بعينِكَ أم بالعَين عُوَّارُ ... أم أقفرَتْ إذْ خلَتْ من أهلها الدارُ )
( تبكي لصخرٍ هي العَبْرَى وقد ثَكِلَتْ ... ودونَه من جَديد التّرْب أستارُ )
ثمّ تتعزى بالقضاء المكتوب والقدر المحتوم :
( لا بدَّ من مِيتةٍ في صَرْفها غِيَرٌ ... والدَّهرُ في صَرْفه حَوْلٌ وأطوارُ )
وتتجه إلى مخاطبة قومها مبينة أنّ صخرا كان نعم السيّد المعمم , والتعميم رديف التتويج إلاّ أن التتويج للملوك وأهل الحاضرة , فقد كان سريعا لنصرة الداعي في الفزع أو الكرب .
قَد كانَ فيكُم أَبو عَمروٍ يَسودُكُمُ نِعمَ المُعَمَّمُ لِلداعينَ نَصّارُ
وهو الجسور الجريء الذي يرد ماء في مكان خطر تحاماه الناس لشدّة خطره , ولا عار على من خاف من وصوله لأنّه مهلك , والعربي لا يأنف من الهرب عن الهلاك ولا يعدّه عارا .
( يا صخرُ وَرّادَ ماءٍ قد تناذَرَه ... أهلُ الموارد ما في وِرْده عارُ )
ثم هو المتين البنية , الجواد الوهاب , النمر الجسور :
صُلبُ النَحيزَةِ وَهّابٌ إِذا مَنَعوا وَفي الحُروبِ جَريءُ الصَدرِ مِهصارُ
( مَشْيَ السَّبَنْتَى إلى هيجاءَ مُعضِلةٍ ... له سلاحانِ أنيابٌ وأظفارُ )
وتؤكد أنّه هو الزعيم والسيّد , السخي المطعم اللحم في ليالي الشتاء حيث يعزّ الزاد , ويجف الزرع والضرع , وهو الجسور المقدام إن ركبوا لغارة , وهو مطعمهم إن جاعوا لحوم كرائم الإبل , وهو إمام يقتدى به , وعلم يسترشد به التائهون ............... إلخ :
( فإِنَّ صخراً لَوَالِينا وسيِّدُنا ... وإنّ صخراً إذا نَشتُو لنحَّار )
وَإِنَّ صَخراً لَمِقدامٌ إِذا رَكِبوا وَإِنَّ صَخراً إِذا جاعوا لَعَقّارُ
( وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهُداةُ به ... كأنّه عَلَمٌ في رأسه نارُ )
جَلدٌ جَميلُ المُحَيّا كامِلٌ وَرِعٌ وَلِلحُروبِ غَداةَ الرَوعِ مِسعارُ
حَمّالُ أَلوِيَةٍ هَبّاطُ أَودِيَةٍ شَهّادُ أَندِيَةٍ لِلجَيشِ جَرّارُ
نَحّارُ راغِيَةٍ مِلجاءُ طاغِيَةٍ فَكّاكُ عانِيَةٍ لِلعَظمِ جَبّارُ
ثمّ تصفه بالعفة فهو لا يمشي في ساحة جارته لريبه , وما تلك العفّة لهرم أو قبح صورة فهو مثل الرمح الرديني قدّا , وكأنّه أسوار من الذهب كناية عن جماله
( لم تَرْأَهُ جارةٌ يمشي بساحَتها ... لِريْبةٍ حِين يُخلِي بيتَه الجارُ )
مِثلَ الرُدَينِيِّ لَم تَنفَذ شَبيبَتُهُ كَأَنَّهُ تَحتَ طَيِّ البُردِ أُسوارُ
جَهمُ المُحَيّا تُضيءُ اللَيلَ صورَتُهُ آباؤُهُ مِن طِوالِ السَمكِ أَحرارُ
ثم هو الذي يجود بزاده , ويطع القوم مما يستجاد من الزاد , ولا يأكل مختبئا في قعر بيته :
وَمُطعِمُ القَومِ شَحماً عِندَ مَسغَبِهِم وَفي الجُدوبِ كَريمُ الجَدِّ ميسارُ
( ولا تراه وما في البيت يأكلُه ... لكنَّه بارزٌ بالصَّحن مِهمارُ )
وهو صاحب مجد تليد متوارث , من نسب رفيع , عظيم العطايا , يفعل الخير ويأمر به ,
مُوَرَّثُ المَجدِ مَيمونٌ نَقيبَتُهُ ضَخمُ الدَسيعَةِ في العَزّاءِ مِغوارُ
فَرعٌ لِفَرعٍ كَريمٍ غَيرِ مُؤتَشَبٍ جَلدُ المَريرَةِ عِندَ الجَمعِ فَخّارُ
طَلقُ اليَدَينِ لِفِعلِ الخَيرِ ذو فَجرٍ ضَخمُ الدَسيعَةِ بِالخَيراتِ أَمّارُ
وسيبكيه فقير مقتر , ورفقة في غزاة حاروا في ليلهم لا يهتدون لطريقهم , فهو أيضا دليلا في ليل الصحراء المظلم .
لَيَبكِهِ مُقتِرٌ أَفنى حَريبَتَهُ دَهرٌ وَحالَفَهُ بُؤسٌ وَإِقتارُ
وَرِفقَةٌ حارَ حاديهِم بِمُهلِكَةٍ كَأَنَّ ظُلمَتَها في الطِخيَةِ القارُ )
9. بسطام بن قيس سيد بني شيبان , قتل في إحدى المعارك فرثته أمّه بقصيدة منها
ليبك ابن ذي الجدّين بكر بن وائل ... فقد بان منها زينها وجمالها
إذا ما غدا فيهم غدوا وكأنّهم ... نجوم سماء بينهنّ هلالها
فلله عينا من رأى مثله فتىً ... إذا الخيل يوم الروع هبّ نزالها
عزيزٌ المكرّ لا يهدّ جناحه ... وليثٌ إذا الفتيان زلّت نعالها
وحمّال أثقالٍ وعائد محجر ... تحلّ إليه كلّ ذاك رحالها
سيبكيك عانٍ لم يجد من يفكّه ... ويبكيك فرسان الوغى ورجالها
وتبكيك أسرى طالما قد فككتهم ... وأرملةٌ ضاعت وضاع عيالها
مفرّج حومات الخطوب ومدرك ال ... حروب إذا صالت وعزّ صيالها
تغشى بها حيناً كذاك ففجّعت ... تميمٌ به أرماحها ونبالها
فقد ظفرت منّا تميمٌ بعثرةٍ ... وتلك لعمري عثرةٌ لا تقالها
أصيبت به شيبان والحيّ يشكر ... وطير يرى إرسالها وحبالها
نجد تشابه الصورة مع الصور السابقة فهو الحسيب النسيب , الفارس الشجاع , (وجمل المحامل ) , وفكاك الأسرى , وغيث الأرامل .
ونلاحظ تداخل صورة الزعيم السياسي مع صورة القائد العسكري , فأغلب زعماء القبائل آنذاك كانوا هم أصحاب حربهم , وقادتهم في الغزو وميادين القتال , إلاّ أن التاريخ يحدثنا بأنّ القوم كان لهم قادة حربيين غير القادة السياسيين فهذا مفروق بن عمرو سيد بني شيبان يقول لأبي بكر عندما جاءهم هو والنبي يعرضون الدعوة على القبائل : (( هذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا)) يقصد المثنى بن حارثة الشيباني , إلاّ أن بساطة حياتهم , وبعدها عن التقنين الجامد جعل هذين المنصبين متداخلين , فتداخلت صورهما في الشعر , فهذا عنترة الذي أشتهر ببطولاته القتالية يؤكد أنّه كان من أهل الحل والعقد , وأصحاب الرأي حيث قال لرجل عيّره بسواد أمه وإخوته : )) والله إن الناس ليترافدون بالطعمة ,فوالله ما حضرت مرفد الناس أنت ولا أبوك ولا جدك قط ,وإن الناس ليدعون في الفزع فما رأيتك في خيل قط , وإن اللبس يعني الاختلاط ليكون بيننا فما حضرت أنت ولا أحد من أهل بيتك لخطة فيصل قط.. وإني لأحتضر الوغى , وأوفى المغنم وأعف عن المسألة وأجود بما ملكت وأفصل الخطة الصمعاء ))
لذلك سنخصص المطلب الثاني من هذا الفصل لصورة المقاتلين , وأهل الحرب من قادة , وفرسان .
المطلب الثاني : صور أهل الحرب والمقاتلين .
عاشت قبائل العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام حالة من عدم الاستقرار لعدم وجود دولة قويّة تسيطر عليها , فكان الغزو بين القبائل من الأمور الطبيعية في ذلك العهد , وكان القتال ديدنهم ودأبهم , وحرفتهم الفضلى , يقاتلون للكسب , وللدفاع عن الأموال والحرم , والمياه والمراعي , فأمر طبيعي أن تبرز صورة المقاتل الشجاع في أشعارهم , وتكاد تطغى على سائر الصور , ويتفنن الشعراء في ذكر صفات الفرسان المحاربين , وأمراء الغزو , وغيرهم , وقد عرفت القبائل ثلاثة أصناف من أهل الحرب والقتال وهم :
1. القائد العسكري : الذي يقود القبيلة ويسمى صاحب اللواء ومن ذلك قول أبي بكر الصدّيق لبني شيبان : "فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء و منتهى الأحياء ؟" , وتسميّه القبائل العربية المتأخرة بالعقيد والاسم مشتّق من عقد اللواء , وهذا له مواصفات وصفات تؤهله لهذا الأمر .
2. الجندي: وهو الفارس المقاتل الشجاع , الماهر في فنون القتال , الذي يتّقى به إذ حمي الوطيس , وأشتدّ الوغى .
3. الصعلوك : الذي يكون غالبا من العدّائين من أمثال السليك بن سلكة , والشنفرى , وتأبط شرّا , فهذا الصنف صاحب غارات , ولكنّه يغزو في الغالب وحده وينتظر غفلة العدو فيسرق ماله من إبل وغير ذلك , ومن هذا الصنف رجال تزعموا قومهم في الغارات , أو تزعموا مجموعة من الصعاليك ومن أمثلتهم "عروة بن الورد العبسي الذي كان شاعرا من شعراء الجاهلية وفارسا من فرسانها ,وصعلوك من صعاليكها المعدودين المقدمين الأجواد وكان يلقب عروة الصعاليك لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم"
أمّا الجود والسخاء فلهما المكانة الأرفع , والموقع الأسمى في سلّم القيم العربية الجاهلية , وصورة الجواد السخي من الصور البارزة في شعرهم , ونثرهم , وفخرهم , ونظرا لحياة الجدب والفقر والجوع التي كانت تعاني منها القبائل في صحراء الجزيرة العربية , وما يحتاجه المسافرون عندما يقطعون مسافاتها الهائلة على قلة في الزاد , وعدم وجود الأسواق _ فقد كان إطعام الطعام , وقرى الضيفان من أهم الصفات المرغوبة المحبوبة في الرجل العربي .
إذن برزت في شعر المرأة الجاهلية صور أصناف المحاربين المشار إليها آنفا , وتداخلت مع صورة السخي الجواد , وكأن الشاعر العربي يقدم بدون قصد تسويغا لما كانوا عليه من غارات لسلب الأموال بأنّ ما عليهم من حقوق ( واجبات اجتماعية ) يدفعهم للغزو , والسلب والنهب , ومن ذلك قول عروة بن الورد :
" دَعِيني أُطَوِّفْ في الْبلاَدِ لَعَلَّني ... أُفِيدُ غِنًى فِيه لذِي الْحقّ مَحْمِلُ
أليْسَ عَظيماً أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ... وَليْسَ عَليْنا في الْحُقُوق مُعَوَّلُ"
ومن ذلك قول غالب عندما وفد على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعه ابنه الفرزدق فقال له : "من أنت ؟ قال غالب بن صعصعة . قال ذو الإبل الكثيرة ؟ قال نعم . قال فما فعلت بإبلك ؟ قال أذهبتها النوائب وزعزعتها الحقوق قال ذلك خير سبلها"
ولتوضيح هذه الصور نستعرض النماذج التالية :
1. قصيدة لشاعرة تدعى سلمى بنت حريث بن الحارث بن عروة النضرية ترثي أحد سادات قومها :
أصبحت نهباً لريب الدهر صابرة ... للذل أكثر تحناناً إلى زفر
إلى امرئ ماجد الآباء كان لنا ... حصناً حصيناً من اللأواء والغير
فالله أحمد إذ لاقى منيته ... أبو الهزيل كريم الخيم والخبر
كان العماد لنا في كل حادثة ... تأتي بها نائبات الدهر والقدر
وكان غيثاً لأيتام وأرملة ... وعصمة الناس في الإقتار واليسر
سمح الخلائق محمود له شيم ... يرجوا منافعها الهلاك من مضر
حمال ألوية تخشى بوادره ... يوم الهياج إذا صاروا إلى البتر
كم قد حبرت حريباً بعد عيلته ... وكم تركت حريباً طامح البصر
يمشي العرضنة مختالاً بما ملكت ... كفاه من منفس الأموال والغرر
صيرته عائلاً من بعد ثروته ... نصباً لاعدائه الباغية كالبعر
ومضلع يرهب الأبطال غرته ... كفيت فينا بلا من ولا كدر
نرى صورة سيّدا جوادا غيثا للأرامل والأيتام , وملجأ للناس في يسرهم وعسرهم , صاحب أخلاق سمحة , وطبائع محمودة في الجود والسخاء يرجو نفعها من أهلكهم الدهر من قبائل العرب المضرية , لما اعتادوه من كرمه وسخائه , ثمّ تبرز صورة القائد العسكري صاحب اللواء الذي تخشى صولته يوم القتال إذا لجأوا للسيوف الباترة , وهو صاحب غارات وغزوات ينفع بها أناس ويضر أناس , فكم من فقير معدم اغتنى من كسبه , وأصبح في بهجة وسعادة بعد عليته , وفاقته , وكم أفقرت من غني مختال بما يملك من نفائس الأموال حيث غزوته ونهبت ماله فجعلته شماتة لأعدائه .
2. تقول سُعدَى بنت الشَمَردَل الجهنية في رثاء أخيها أسعد الذي قتل في إحدى الغارات :
أمنَ الحوادِثِ والمَنونِ أروَّعُ ... وأبيتُ ليْلي كلَّهُ لا أهجَعُ
وأبيتُ مُخْليَةً أُبكّي أسعداً ... ولِمثْلِهِ تبْكي العيونُ وتهْمعُ
فلْتَبْكِ أَسْعَدَ فتْيةٌ بسَباسبٍ ... أقْوَوْا وأصبحَ زادهُمْ يتمرَّعُ
جادَ أبنُ مجْدعةَ الكميُّ بنفسِهِ ... ولقدْ يرَى أنَّ المَكَرَّ لأشْنَعُ
وَيْلُمِّهِ رجلاً يليذُ بظهرهِ ... إبلاً ونسَّألُ الفَيافي أرْوَعُ
يردُ المياهَ حضيرَةً ونفيضَةً ... ورْدَ القَطاةِ إذا أسْمَأَلَّ التُبَّعُ
وبهِ إلى أخرى الصحابِ تلفُّتٌ ... وبهِ إلى المكروبِ جرْيٌ زَعْزَعُ
ويكبِّرُ القِدْحَ العنودَ ويَعْتَلي ... بأُلَي الصحابِ إذا أصابَ الوعْوعُ
سبَّاقُ عاديَةٍ وهادي سُرْبَةٍ ... ومقاتلٌ بطلٌ ودَاعٍ مِسْقَعُ
ذهبَتْ بهِ بَهْزٌ فأصبحَ جدُّها ... يعْلو وأصْبحَ جدُّ قومِي يخْشَعُ
أجعَلْتَ أسْعَدَ للرماحِ دريَّةً ... هبِلَتْكَ أمُّكَ أيَّ جرْدٍ ترْقَعُ
يا مُطعمَ الركْبِ الجياعِ إذا همُ ... حثُّوا المطيَّ إلى العلَى وتسرَّعوا
وتجاهَدُوا سيْراً فبعْضُ مطِيِّهمْ ... حسْرى مخَلِّفةٌ وبعْضٌ ظُلَّعُ
جوّابُ أوديةٍ بغيرِ صحابةٍ ... كشَّافُ داريِّ الظلامِ مشيَّعُ
هذا على إثْرِ الَّذي هوّ قبْلهُ ... وهوَ المنايَا والسبيلُ المهْيَعُ
هذا اليقينُ فكيفَ أنسَى فقدَهُ ... إنْ رابَ دهرٌ أوْ نَبا بِيَ مضجعُ
إنْ تأتِهِ بعدَ الهُدوِّ لحاجةٍ ... تدعو يُجبْكَ لها نجيبٌ أرْوَعُ
متحلِّبُ الكفَّيْنِ أمْيثُ بارِعٌ ... أنقٌ طُوالُ الساعديْنِ سميْدَعُ
سمْحٌ إذا ما الشَوْلُ حارَدَ رسْلُها ... واسْتَرْوحَ المرَقَ النساءُ الجوَّعُ
منْ بعدَ أسعدَ إذْ فُجِعْتُ بيَوْمِهِ ... والموتُ ممَّا قد يريبُ و يفْجعُ
فوَددْتُ لوْ قُبِلَتْ بأسْعدَ فديةٌ ... ممَّا يضنُّ بهِ المُصابُ الموجَعُ
غادرتْهُ يومَ الرصافِ مجدَّلاً ... خبَرٌ لعمْرُكَ يومَ ذلكْ أشْنَعُ
وتبرز في هذه القصيدة عدّة صور :
صورة صاحب اللواء وقائد الغزاة , الذين سيفقدونه الفتيان من أصحاب الغارات الذين كان يقودهم , وهو الذي يوردهم موارد لا يدلها إلاّ القطا , وهذا كناية عن أنّه دليل ماهر في مجاهل الصحراء , وهذه مهارة لازمة للغزاة والمسافرين وإلاّ كان مصيرهم الهلاك , وهو الذي يجود لهم بزاده إن جاعوا في الغزو وكانوا في شدة عظيمة , وتكاد الشاعرة ترسم لنا صورة مشهد لا تخطئه العين في الحال التي وصلوا إليها من الجهد والتعب والجوع حيث تقول :
يا مُطعمَ الركْبِ الجياعِ إذا همُ ... حثُّوا المطيَّ إلى العلَى وتسرَّعوا
وتجاهَدُوا سيْراً فبعْضُ مطِيِّهمْ ... حسْرى مخَلِّفةٌ وبعْضٌ ظُلَّعُ
ثمّ تظهر صورة الفارس البطل , والمقاتل الشجاع الذي يحمي ساقة رفاقه عند الانسحاب ويتلفت خلفهم ليصد المهاجمين عنهم , ثمّ تظهر صورة الصعلوك المغامر الذي يجوب الأودية المخيفة في الظلام الدامس الرهيب وحده بدون صحب , وبعدها تبرز صورة الجواد الكريم الذي لا يبخل بشيء تتحلب كفّه جودا وعطاء , ويجود في ليالي الشدّة والعسر عندما تجوع النساء وتتمنى المرق قرما للحم فيطعمها لحم الجزر , وكأنّ ذلك منها بيان لفلسفة الغزو التي كانوا يمارسونها , فهم يغامرون بأرواحهم في سبيل الحصول على المال لإنفاقه في المكرمات .
3. قالت الدعجاء أخت المنتشر بن وهب الباهلي ترثيه عندما قتل في إحدى الغارات .
إن الذي جئت من تثليث تند به ... منه السماح ومنه النهي والغير
تنعى امرءاً لا تغب الحي جفنته ... إذا الكواكب أخطا نوءها المطر
وراحت الشول مغبراً مناكبها ... شعثاً تغير منها النيُّ والوبر
وألجأ الكلبَ موقوعَ الصقيع به ... وألجأ الحي من تنفاحها الحُجَر
عليه أول زاد القوم قد علموا ... ثم المطي إذا ما أرمولوا جزروا
قد تكظم البزل منه حين تبصره ... حتى تقطع في أعناقها الجرر
تصوّره سيّدا جواد , يقدم جفنته _والجفنة سفرة الطعام بلسان عصرنا _ لقومه يوميا في سنة القحط الشديد الذي تضّن فيه السماء بقطرها , تلك السنة الشديدة التي تجعل الإبل شعثا , مغبرة هزيلة , ذهب شحمها , وتساقط وبرها , وتصف شدّة ليل الشتاء البارد ذي الصقيع المهلك التي يبحث فيها الكلب عن مأوى من شدّة بردها , ويلجأ الناس لحضائر الإبل التي يعملونها من الشجر بحثا عن الدفء , ففي مثل هذه السنة الشديدة ذات الليالي الباردة فهو أول من يعمل الطعام لقومه ويطعمهم , وإذا أرملوا أي نفدت ميرتهم أو مواد التموين بلغة عصرنا واضطروا لنحر إبلهم , فإن كرائم الإبل البزل إذا شاهدته وجمت , ووقفت اجترارها , كما يقال غصّ فلان بريقه من الهول وشدّة الرعب ؛ وذلك لخوفها منه لما اعتادته منه من نحرها .
أخو رغائب يعطيها ويُسألها ... يأبى الظلام منه النوفل الزفر
لم تر أرضاً ولم تسمع بساكنها ... إلا بها من نوادي وقعه أثر
ثمّ تصفه بأنّه جواد يجود بالنفائس التي يرغب بها الناس , ويضنون بها فهو يعطيها , ولا يتحرج الناس من طلبها منه ثقة بجوده وسخائه بكل شيء , ولا يستطيع أن يظلمه أو يقهره النوفل الزفر أيّ السيّد الكثير الأنصار , وهو السباق لكلّ مكرمة فما من أرض إلا وله فيها أثر يغيظ عدوا , ويسرّ صديقا .
من ليس في خيره شر يكدره ... على الصديق ولا في صفوه كدر
أخو شروب ومكساب إذا عدموا ... وفي المخافة منه الجد والحذر
ثمّ تصفه بأنّه صاحب ندامى , وبه يأنس الصديق , ولا يجد منه صديقه ما ينفره منه , وهو صاحب شراب وطرب أي من أهل الكيف بتعبير المعاصرين , وصاحب كسب ينفق فيه على أصدقائه إذا قلّت نفقتهم , هذا دأبه في حالات الأمن أمّا عند وجود الخطر فهو الجادّ الحذر الذي لا يتمكن عدوه من غرته وغفلته .
مردي حروب ونور يستضاء به ... كما أضاء سواد الظلمة القمر
مهفهف أهضم الكشحين منخرق ... عنه القميص لسير الليل محتقر
طاوي المصير على العزاء منجرد ... بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر
ثمّ تصفه بأنّه صاحب حروب وغارات صبور على أهوالها , وقدوة لقومه يستضيوؤن برأيه وسلوكه كما يستضاء بالقمر في الظلام , وهو دقيق الخصر , " أهضم " : أي منضم الجنبين. ؛ وهذا مدح عند العرب، فإنها تمدح الهزال ,والضمر , وتذم السمن ؛ لأن السمنة تدلّ على أن صاحبها قعددة وليس صاحب غزو وأسفر , ثمّ تصف تخرق ملابسه إشارة إلى كثرة أسفاره وغاراته التي تحتاج للجلادة وتحمل الشدائد , إنّها تصوره غازيا في حال من الشدّة والجهد هزل جسمه , وتخرقت ملابسه , وهو مع هذا يحتقر سير الليل الذي يخشاه أناس ويرغب بنومه الكسالى , فهو يمضي ليله قائدا قومه , ساريا , متحملا شدّة الجوع والجهد في مفازة مهلكة لا ماء فيها ولا شجر ؛ وإنما يؤثر القادة المحترفون سير الليل فرارا من الحر , وتضليلا للعدو , والوصول للهدف صباحا , وقد قالوا في أمثالهم : عند الصباح يحمد القوم السرى .
لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه ... وكل أمر سوى الفحشاء يأتمر
لا يهتك الستر عن أنثى يطالعها ... ولا يشد إلى جاراته النظر
لا يغمز الساق من أين ولا نصب ولا يعض على شرسوفه الصفر
وهو صاحب عزم وحزم لا يواجهه أمر مستصعب إلا وقع فيه , وعاناه , وكابده ولا يتجنب إلاّ الأمور الفاحشة , ثمّ تشير إلى عفته , وصيانته لحرمة جاره , وهي صفة يتفاخر بها العرب ومن ذلك قول عنترة العبسي :
وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي جارَتي حتى يُواري جارتي مأْواها
وهو مع هذه الشدائد التي يعانيها , وهذا الجهد الذي يبذله فإنّه متفجر النشاط لا يكلّ ولا يملّ , ولا يسقط من الإعياء والتعب فيفرك ساقيه من شدّ عضلي , وما إلى ذلك , ثمّ هو صحيح الجسم لا يعاني من علة في بطنه وأحشائه تجعله دنفا سقيما .
قال المدائني وغيره لما أتى عبد الملك بن مروان على إنشاد هذه الكلمة - لا يغمز الساق - قال ما كان أحوجني إلى راع مثل هذا، وقوله لا يغمز يقول ليس به وصب فيحتاج للإعياء إن يغمزها، والإين الإعياء، والاقتفار اتباع الأثر في القفر، يقول هو دليل القوم وهاديهم.
لا يتأرى لما في القدر يرقبه ولا يزال أمام القوم يقتفر
تكفيه حزة فلذ إن ألم بها ... من الشواء ويكفي شربه الغمر
وإذا نزل صحبه الغزاة لإعداد طعامهم وهم على الحال التي وصفتها آنفا من الجوع والجهد فإنّه لا يجلس مراقبا للقدر ينتظر نضجه ليأكل , وإنما يذهب أمامهم مستكشفا , باحثا عن آثار الأعداء ؛ وذلك لأنّه ليس جشعا شرها محبا للأكل فهو تكفيه قطعة صغيرة من كبد إن نالها ويرويه الإناء الصغير .
ويروى: فلذة لحم.
لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... في كل فج وإن لم يغز ينتظر
لا تأمن البازل الكوماء عدوته ... ولا الأمون إذا ما اخروط السفر
الرجل صاحب حروب وغارات فلا يأمنه الناس على كل حال سواء كان غازياً أم لا، فإن كان غازياً يخافون أن يغير عليهم، وإن لم يكن غازياً فإنهم في قلق أيضاً، لأنهم يترقبون غزوه وينتظرونه, وكذلك لا تأمنه الإبل ؛ لأنّه اعتاد نحرها لضيفانه , ورفاقه , وإن كانت الإبل عندما تسمن تحمل سلاحها أي لا تسخو نفوس أهلها بنحرها - فإنّ إبله لا تأمن وإن كانت فاطر طويلة السنام أو فتية من النجائب التي يؤمن عثارها وضعفها , فإن طال سفر رفقته نحر لهم من الإبل من كانت بمثل تلك الصفات .
كأنه بعد صدق الناس أنفسهم ... باليأس تلمع من قدامه البشرُ
لا يعجل القوم ان تغلي مراجلهم ... ويدلج الليل حتى يفسح البصر
ثم تصفه بأنّه متفائل , خرَّاج وَلاّج، حًوَّل قُلّب، مُتصرِّفاً في أُموره فإن يأس قومه أو رفاقه وتيقنوا اليأس لمعت في رأسه الأفكار الخلاّقة التي توصلهم للهدف أو تخرجهم من المأزق , وهو مع حزمه العسكري وصرامته رفيق بقومه فلا يعجلهم عن إنضاج طعامهم إذا ما نزلوا للاستراحة والغداء , ثمّ يسري بهم ليله حتى يظهر النهار .
إنّها صورة القائد الحربي شاملة لأغلب الصفات التي تؤهله لقيادة المحاربين .
4. وهنا نجد جنوب أخت عمرو ذي الكلب تقدّم لنا صورة لأخيها بنثرها وشعرها , فقد يغزو قبيلة فهم فأصابوه نائما فقتلوه فمروا بأخته جنوب , وقالوا لها : " أنا طلبنا عمرو أخاك فقالت لئن طلبتموه لتجدنه منيعاً ولئن ضفتموه لتجدنه مريعاً , ولئن دعيتموه لتجدنه سريعاً , قالوا قد أخذناه , وقتلناه ,وهذا سلبه قالت لئن سلبتموه لا تجدون حجزته جافية , ولا ضالته كافئة , ولرب ثدى منكم قد افترشه , ونهب قد افترسه وضب قد احترشه ثم قالت:
سألتُ بعمرٍو أخي صَحْبَهُ ... فأفْظَعَنِي حين ردُّوا السؤَالا
فقالوا: أُتيحَ له نائماً ... أغرُّ السلاح عليه أجَالا
أُتيحَ له نَمِرَا أجْبُلٍ ... فنالا لعمرك عنه ونَالا
فأقسمُ يا عمرُو لو نبَّهَاكَ ... إذاً نبَّهَا منك داءً عُضَالا
إذاً نبَّها لَيْثَ عِرِّيسةٍ ... مُبيداً مُفتياً نُفُوساً ومالا
إذاً نبَّها غيرَ رِعيدةٍ ... ولا طائشاً دهشاً حين صَالا
وقد علمَتْ فَهْم عند اللقاء ... بأنهمُ لك كانوا نِفالا
كأنهمُ لم يحسّوا بهِ ... فيخلوا نساءهمْ والحِجَالا
ولم ينزلوا بمحولِ السنين ... به فيكونوا عليه عِيالا
وقد علم الضيفُ والمُرْملونَ ... إذا اغبَرَّ أُفقٌ وهبَّت شمالا
وخلَّتْ عَنَ أولادِها المرضعاتُ ... ولم تَرَ عينٌ لمزنٍ بلالا
بأنَّكَ كنتَ الربيع المغيثَ ... لمن يَعْتَفيك وكنت الثّمَالا
وخَرْقٍ تجاوزتَ مجهولَهُ ... بوَجْنَاء حَرْفٍ تشكي الكَلاَلا
فكنت النهارَ به شمسَه ... وكنتَ دجَى الليل فيه هلالا
وحيّ صبحت وحيّ أبحْتَ ... غداة اللقاء منايا عِجالا
وكم من قبيل وإن لم تكن ... أرَدْتَهُمُ منك باتوا وجالا
وأقسم يا عمرو لو نبها ... ك إذا نبها منك أمراً عضالا
وهي هنا ترسم لنا صورة مختلفة فالقتيل صعلوك صاحب غارات على القبائل , وأمّا القبيلة التي قتلته فعلاقته معها غريبة , فهو يغير عليها , ويسلب مالها , وعلى علاقة بنسائها , ثمّ هم يقصدونه في سنين الشدّة والقحط فيكونون عيالا عليه , يطعمهم وينفق عليهم , وهو الجواد السخي ويعلم الضيوف , وأهل حيّه من الفقراء المرملين أنّه في سنين المحل هو غيثهم كناية عن إطعامهم , ثم تبين شدته وقوة بأسه وأنّه لو لم يكن نائما لما استطاعوا قتله .
5. أمّا ريطة بنت عاصية فهي تقدّم لنا صورة الغازي الذي يركب الأهوال , ولا يمنعه البرد الشديد عن عزمه :
إن ابن عاصية البهزي مصرعه خلى عليك فجاجاً كان يحميها
المانع الأرض ذات العرض خشيته حتى تمنع من مرعى مجانيها
وليلة يصطلي بالفرث جازره حيرى جمادية قد بت تسريها
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة من القريس ولا تسري أفاعيها
كانت هذيل تمنى قتله سلماً فقد أجيبت فلا تعجب أمانيها
حلو ومر جميع الأمر مجتمع مأوى أرامل لم تتعص عفاريها
6. أمّا مَيَّةَ بِنتِ ضِرارٍ الضَّبِّيّةِ في رثاها لأخيها فإنّها ترسم لنا صورة عميد العشيرة وفارسها البطل الذي كان مقداما على الخيل في يوم معركة تجلل فيه أكفال الخيل الدماء , وأصبحت كالصيد النافر من هول القتال , وتخرج العواتق المخدرة كاشفة عن سيقانها .
لِتَجْرِ الحَوادِثُ بعدَ امْرئٍ بِوادي أَشائِين أَذْلالَها
كَريمٍ ثَناه وآلاؤه وكافي العَشيرةِ ما غالَها
تَراه على الخَيْلِ ذا قُدْمَةٍ إذا سَرْبَلَ الدَّمُ أَكْفالَها
وخِلْتَ وُعُولاً أَشارى بها وقد أَزْهَفَ الطَّعْنُ أَبْطالَها
ولم يَمْنَعِ الحَيُّ رَثَّ القُوى ولم تُخْفِ حَسْناء خَلْخالَها
.................
7. ليلى الأخيلية شاعرة مخضرمة إلاّ أنّها تمثّل العقلية الجاهلية أدق تمثيل , وما كانت حياة قومها إلاّ كما كانت أيام الجاهلية , وبقيت القيم هي القيم , فقد كان عشيقها توبة بن الحمير العقيلي , صاحب غارات كصخر بن الشريد أخي الخنساء , قال أبو الفرج الأصفهاني : "كانت ليلى تهوى توبة بن الحمير العقيلي أحد بني خفاجة ويهواها ,وكان صاحب غارات يتناول بها بني الحارث بن كعب وهمدان ومهرة فغزاهم مرة فأخفق فمر بجيران لبني عوف بن عقيل خثعم ومعه أخوه بن عبد الله وابن عم لديه يدعى قابضاً فأغار عليهم و أطرد إبلا وقتل رجلاً من بني عوف يدعى ثور بن سمعان فطلبته بنو عوف سراعاً وأدركوه وقد سقط بلاد قومه بني خفاجة فأمن في نفسه ونزل عن فرسه ونام فطلع رجل من بني عوف فرآه قابض فأيقظ توبة فلم يحفل بذاك وعاد لنومه حتى غشيه القوم وأحال قابض على فرسه فهرب وقاتل عبيد الله فضربه رجل على رجله فعرج وصاح توبة بفرسه الحفصاء فأقبلت إليه فأراد ركوبها فامتنعت فألجمها فولت ولحقه يزيد بن روبية بن سالم بن كعب بن عوف فعانقه وقال اقتلونا معاً فطعنه عبد الله بن روبية فاتقاه بجيده فقتله وأجلا القوم عنه قتيلاً وعن أخيه جريحاً " سقت هذا النصّ بطوله لأثبت أنّ القوم كانوا على ما هم عليه في جاهليتهم على الرغم من أنّ ذلك في صدر الإسلام , وهذا يدلّ على أنّ بعض القبائل التي لم تشغل بالفتح بقيت على ما هي عليه في جاهليتها , ومهما يكن من أمر فقد رثته ليلى الأخيلية بكثير من الشعر , وعددت مناقبه , وصفاته , ومن ذلك قولها عندما سألها عنه معاوية بن أبي سفيان فقالت :
"ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان , حديد اللسان ,شجا للأقران , كريم المخبر عفيف المئزر, جميل المنظر ,وهو يا أمير المؤمنين كما قلت له" : وتذكر قصيدة رائعة نحاول أن نستخلص منها صورة هذا الرجل
( بَعيدُ الثَّرَى لا يبلُغ القومُ قَعْرَه ... أَلَدُّ مُلِدٌّ يَغْلِبُ الحقَّ بَاطِلُه )
شخصية عميقة غير سطحية , لا يستطيع القوم أن يسبرو غوره , ويعرفوا نهايته , , ويغلب أهل الحق وإن كان على الباطل, كناية عن أنّه صاحب لسان بليغ , وحجج مفحمه.
( إذا حلّ رَكْبٌ في ذَرَاه وظِلّهِ ... لِيَمْنَعَهم مما تُخافُ نَوازِلُهْ )
( حماهم بنَصْلٍ السَّيْف من كلِّ فادحٍ ... يخافونه حتى تموتَ خَصَائلُه )
ويحمي من استجار به , ولاذ بذراه , واستظل بظلّه , والذرى والظلّ في لسان العرب كناية عن الحماية , وحصول الأمن , وهو يحمي المستجير بنصل سيفه من كلّ أمر فادح فظيع .
( مَعَاذَ إلهِي كان واللهِ سَيِّداً ... جَوَاداً على العِلاَّتِ جَمَّاً نَوَافِلُه )
( أغَرَّ خَفَاجِيّا يرى البُخْلَ سُبّةً ... تَحَلَّبُ كَفَّاهُ النَّدَى وأنَامِلُه )
( عفيفاً بعيدَ الهَمِّ صُلْباً قناتُه ... جميلاً مُحَيَّاهُ قليلاُ غوائلُه )
وكان سيدا جوادا لا تمنعه ظروفه من كثرة العطاء , صبيح الوجه , ذا نسب رفيع , يرى البخل عارا وعيبا , وتفيض كفاه وأنامله سخاء .
وكانَ إذا ما الضَّيْفُ أرْغى بَعِيرَهُ لَدَيْهِ أَتاهُ نَيْلُهُ وفَواضِلُهْ
( وقد علِم الجوعُ الذي بات سارياً ... على الضَّيْف والجيرانِ أنّك قاتلُه )
( وأنك رَحْبُ الباع يا تَوْبُ بالقِرَى ... إذا مالئيمُ القومِ ضاقت مَنَازِلُه )
( يَبِيتُ قريرَ العينِ مَنْ بات جارَه ... ويُضْحِي بخيرٍ ضيفُه ومُنَازِلُه )
وكان من أمره أنّه إذا أناخ الضيف بساحته جاءه بالقرى والعطية , ثمّ تعرض الجوع بصورة الوحش الكاسر الذي يسري ليلا لينهش ضيفه وجيرانه , وتجعل هذا الوحش يعلم بأنّ مصيره القتل ؛ لأنّ ضيف توبة وجيرانه شباع من جفانه المترعة , فجاره ينام آمنا قرير عين , وضيفه يضحي بخير , والتعبير بالإضحاء كناية عن أن الضيف وجد الخصب وإلاّ لبكّر في خروجه من بيته غلسا .
( أتتْه المَنَايَا حين تَمّ تَمَامُه ... وأقصر عنه كلُّ قِرْنٍ يُطَاوِلُهْ )
( وكان كليث الغابِ يحمِي عَرِينَه ... وترضَى به أشبالُه وحلائلُه )
( غَضُوبٌ حليمٌ حين يُطْلَبُ حِلْمُه ... وسُمُّ زُعافٌ لا تُصَابُ مَقَاتِلُه )
أدركته المنية وهو بكمال النضج , بعد أن أستوى عوده , وعجز أترابه وأقرانه عن مطاولته في المعالي , وكان كالأسد شجاعة , وهو سمح الخلائق مع الأهل , وغضوب إذا وجب الغضب , حليم حيث يلزم الحلم , وداء مهلك لمن نواه بشرّ , حذر لا تصاب مقاتله ولا تكشف نقاط ضعفه .
وتصفه في رائعة أخرى مليئة بالصور المحبوبة فتقول :
( كأنّ فَتَى الفِتْيانِ توبةَ لم يَسِرْ ... بنَجْدٍ ولم يَطْلُعْ مع المُتَغوِّرِ )
( ولم يَرِدِ الماء السَّدامَ إذا بَدَا ... سَنَا الصُّبْحِ في بادي الحواشِي مُنَوِّر )
صورة الغازي المغامر الذي يتهم في غاراته وينجد , الذي يرد المياه الآجنة قبيل الصبح
( ولم يَغْلِبِ الخَصْمَ الضِّجاجَ ويَمْلأ الجِفانَ ... سَدِيفاً يوم نَكْباء صَرْصَر )
صورة المجادل البليغ الذي يغلب الخصوم بحججه وبلاغته , والجواد الذي يطعم الجياع في ليل الشتاء القارس بجفان مترعة بشحم السنام .
( ولم يَعْلُ بالجُرْدِ الجيادِ يَقُودُها ... بسُرّةَ بين الأشْمَساتِ فَايْصُرِ )
( وصحراءَ مَوْماةٍ يَحارُ بها القَطَا ... قَطَعْتَ على هَوْلِ الجَنَان بمِنْسَرِ )
( يقودون قُبًّا كالسَّراحينِ لاَحَها ... سُرَاهُمْ وسَيْرُ الراكبِ المُتَهَجِّرِ )
صورة قائد الغزاة , ومقدم الفرسان , فهو يقود الجياد بين أشمسات وأبصر ( أسماء جبال في نجد ) , ويقطع صحراء ملساء مخيفة بقطعة من الجيش يقودون خيلا ضامرة كأنّها الذئاب.
8. عمْرَةُ الْخَثْعَمِيَّةُ ترثي ابنيها قائلة :
4 - ( لَقَدْ زَعمُوا أنَّى جَزِعْتُ عَلَيْهِما ... وهَلْ جَزَعٌ أنْ قُلتُ وَابِأَباهُما )
5 - ( هُمَا أخْوَا في الْحَرْبِ مَنْ لاَ أخَالَهُ ... إذَا خافَ يَوْماً نَبْوَةً فَدَعاهُمَا )
1 - ( هُمَا يَلْبَسَانِ الْمَجْدَ أحْسَنَ لِبْسَةٍ ... شَحيحَانِ مَا اسطاعَا عَليْهِ كِلاَهُمَا )
2 - ( شِهَابَانِ مِنَّا أُوقِدَا ثُمَّ أُخْمِدَا ... وكَانَ سَنىً لِلْمُدْلِجِينَ سَناهُمَا )
3 - ( إذَا نزَلَ الأرْضَ الْمَخُوفَ بهَا الرَّدَى ... يُخَفِّضُ مِنْ جَأْشَيْهِما مُنْصُلاَهُما )
4 - ( إذا أُسْتَغْنَيا حُبَّ الْجَمِيعُ إلَيْهِما ... ولَمْ يَنْأَ مِنْ نَفْعِ الصَّديقِ غناهُمَا )
5 - ( إذَا افْتَقَرَ ألَمْ يجْثِما خَشْيةَ الرَّدَى ... ولَمْ يَخْشَ رُزأ مِنْهُما مَوْلَياهُما )
تتفجع عليهما , وتفديهما بأبيها , وتبين مسوّغ هذا التفجع , والجزع ,فهما مقاتلان من أهل الحرب , سريعان لنصرة الداعي , حريصان على المجد ومعالي الأمور , مغامران يقطعان المفازات المرعبة , والبلاد المخوفة , إذا أيسرا , وملكا مالا اقتربا من قومهما , ونفعوهما , وكان صديقهما شريكا في غناهما , وإن افتقرا لم ييأسا , ويظلا أحلاس بيتيهما خوفا من الهلاك الذي تسببه الغارات والغزو الذي به يحصل الغنى واليسار , ولم يكونا عالة على الأقارب والموالي .
المطلب الثالث صورة الزوج .
صورة الزوج في شعر المرأة الجاهلية لا تختلف عن صورة أيّ رجل آخر ترتبط به المرأة بعلاقة حميدة كالأب والأخ والابن والقريب وسيّد القبيلة , وتتجلى هذه الصورة في شعر الرثاء غالبا , وهي صورة معنوية تركّز على الصفات الخلقية التي تؤهل صاحبها لأنّ يكون معدودا في أوساط قومه أو عضوا فاعلا في مجتمعه في تعبير المعاصرين , وإذا كان الرجل قد صوّر المرأة في شعره تصويرا حسيّا , وركّز على صورتها الجسدية , وجسدها في شعره كأننا ننظر إليها _ فإننا لا نجد ذلك في شعر المرأة إلاّ نادرا إذا استثنينا عمرة بنت الحمارس ذات الشعر الماجن المجسد , وفي إشارات سريعة لا تظهر صورة جسدية محددة المعالم , وغزلها على ندرته غزل وجداني يصف المشاعر , ولا يصف المحبوب .
وقبل البدء باستعراض بعض النماذج لصورة الزوج في شعر المرأة الجاهلية نودّ أن نستعرض بعض صور الزوج في نثرها ؛ لعلنا نظفر بصورة واضحة المعالم للزوج المحبوب , من خلالها حديثها عن الصورة المحبوبة والمرفوضة للزوج , وإليكم النماذج التالية :
• " تزوج رجل امرأة فولدت له بنين ثم تباغضا فسألته الطلاق فقال لا حتى تثني علي فقالت لا أثني عليك فانه خير لك فأبى فقالت فهو غدك إذا اجتمع القوم فلما اجتمعوا قالت أعلمك إذا أكلت احتففت , وإذا شربت اشتففت , وإذا اشتملت التففت , وأعلمك تشبع ليلة تضاف ,وتنام ليلة تخاف ,واعلم عينك نؤمة, وعصاك خشبة , ومشيك لبجه. " فهو شره , أناني , لا يهتم بأمر أضيافه , وليس بالحازم الحذر , وسلاحه يدلّ على ضعفه , ومما لا شكّ فيه أنّها صورة للجانب الخلقي , ويقابل هذه الصورة صورة تحبّها المرأة في الرجل إذ قالت امرأة عروة بن الورد العبسي بعد أن طلقها في النادي أما أنك والله الضحوك مقبلاً ,السكوت مدبراً , خفيف على ظهر الفرس , ثقيل على متن العدو , رفيع العماد كثير الرماد , ترضى الأهل والأجانب ". صورة رائعة يدخل بيته ضاحكا مستبشرا , ويغادره صامتا كناية عن أنّه ليس لحوحا كثير المطالب من صنف إذا أراد مغادرة البيت بدأ بإصدار تعليماته وأوامره وتوصياته ثم هو خفيف الجسم قليل اللحم , وهي صفة محمودة في الرجل , ولها دلالتها فقد قالت امرأة لأمريء القيس عندما سألها لما تكرهه النساء , فقالت : إنك ثقيل الصدر , وفيه الصفات المرغوبة اجتماعيا من نكاية بعدوّه , وارتفاع البيت كناية عن الشرف والسؤود , وكثرة الرماد كناية عن السخاء وإطعام الطعام .
• ونسوق نموذجا آخر من كلام امرأتين كانتا من آيات ذلك العصر رأيا , وفصاحة وبلاغة , وهما هند وجمعة بنتا الخسّ بن حابس بن قُريط الإيادي , وهند هي التي وصفها الجاحظ بقوله : "من أهل الدهاء والنكراء، واللَّسن واللقن، والجواب العجيب، والكلام الصحيح، والأمثال السائرة، والمخارج العجيبة".
فقد قيل لجمعة "أي الرجال أحب إليك يا جمعة ؟ قالت أحب الحر النجيب , السهل القريب السمح الحسيب, الفطن الأريب , المصقع الخطيب , الشجاع المهيب " أمّا هند فقالت :" أحب الرحب الذراع ,الطويل الباع ,السخي النفاع , المنيع الدفاع , والدهمثي المطاع , البطل الشجاع الذي يحل باليفاع ,ويهين في الحمد المتاع " , فنلمح في هذا النصّ الصفات النفسية الخلقية من فصاحة لسان , وقوّة جنان , وأخلاق عالية , ونستنتج الصورة الجسدية منها فالبطولة غالبا ما تحتاج إلى كمال الجسم فغالبا ما يوصف البطل الشجاع بأنّه طويل النجاد كناية عن طوله , وأنّه أعطي بسطة في الجسم , ولعلّ الصورة الجسدية تتضح من صفة الرجل غير المرغوب حيث قالت :جمعة : "أبغض السآلة اللئيم , البغيض الزنيم ,الأشوه الدميم ,الظاهر العصوم ,الضعيف الحيزوم .... فقالت هند :أبغض الضعيف النخاع ,القصير الباع, الأحمق المضياع ,الذي لا يكرم ولا يطاع " , فنلاحظ صورة القصير القبيح المنظر , الضعيف الجسم علاوة على صفاته الخلقية المشينة .
• ذو الإصبع العدواني من حكماء العرب وحكامها الذين يحتكمون إليهم , ولبناته قصّة في هذا الشأن نقلتها لنا المصادر التاريخية ,تلقي الضوء على هذا الجانب فهي من أكثر الأخبار صراحة في هذا المجال "فقد خَلَوْنَ يتحدثْنَ فقالت : قائلة منهن : لِتَقُلْ كلُّ واحدةٍ منا ما في نفسها ولنصدق جميعا فقالت كُبْرَاهُن :
ألا لَيْتَ زوجي من أناسٍ ذَوِي غِنىً ... حديثُ شبابٍ طَيِّبُ النَّشْرِ والذِّكْرِ
لَصُوق بأكْبَادِ النساء كأنه ... خَليِفَةُ جان لا يقيم على هَجْرِ
وقالت الثانية :
ألا ليته يُعْطى الجمال بَديهَةً ... له جَفْنة تَشْقَي بها النِّيبُ وَاُلجزْرُ
له حكمات الدهر من غير كبْرَةٍ ... تَشِينُ فلا وَانٍ ولا ضَرِعٌ غَمْرُ
فقلن لها : أنت تريدين سيدا وقالت الثالثة :
ألا هَلْ تراها مَرّةً وحليلُهاَ ... أشَمّ كنصْلِ السيفِ عَيْنِ الُمهَّند
عليمٌ بأدْوَاءِ النِّساء ورَهْطُهُ ... إذا ما انتْمَىَ مِنْ أهْل بيتي ومَحْتِدِى "
فالأولى تفضله شابا طيب رائحة الجسد , وطيب الذكر بين الناس , صاحب لهو وطرب , لا يهجر فراش زوجته , أمّا الثانية فتريده جميلا , كريما , حكيما , كهلا بعيدا عن ضعف الشيوخ , وطيش الشباب , الثالثة تتمنى ابن عمّ لها , جميلا , يرضي المرأة لعلمه بحاجاتها الأنثوية .
• ولدينا هذه المقطوعة التي نسبها صاحب الأغاني لابنة الخسّ في رجل عشقته, ونسبها القرشي في حماسته لامرأة من بني سعد بن بكر:
أشم كغصن البان جعد مرجل ... شغفت به لو كان شيئاً مدانيا
ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه ... سلافاً ولا عذباً من الماء صافيا
وأقسم لو خيرت بين فراقه ... وبين أبي لاخترت أن لا أبا ليا
فإن لم أوسد ساعدي بعد هجعة ... غلاماً هلالياً فشلت بنانيا
فهي تصفه بجمال القد , وجمال الشعر , وطيب النكهة , وعذوبة الرضاب .
• ونجد مقطوعة أخرى تحمل بعض الصفات الحسية ( الجسدية ) المرغوبة في الرجل فقد " مرت أعرابية بنادي قومٍ من بني عامر وفيهم غلام حديث السن ظريف فنكس القوم رؤوسهم ,وجعل الغلام يرمقها فدنت منهم فمازحتهم وأقبلت على الغلام فقالت:
شهدت وبيت الله أنك طيب الثنايا ... وأن الخصر منك لطيف
وأنك مشبوح الذراعين خلجم ... وإنك إذا تخلو بهن عنيف
وإنك نعم الكمع في كل حالة ... وانك في رمق النساء عفيف
نمتك إلى العليا عرانين عامر ... وأعمامك الغر الكرام ثقيف
أناسٌ إذا ما الكلب أنكر أهله ... فعندهم حصنٌ أشم منيف
لمن جاءهم يخشى الزمان وريبه ... رحيق وزاد لا يصان وريف
فبيت بني غيلان في رأس يافع ... وبيت ثقيف فوق ذاك منيف "
فهي تصف طيب مبسمه وأسنانه , وأنّه لطيف الخصر , بعيد ما بين المنكبين , طويل جسيم ,مكتمل الرجولة , ظاهر الفحولة , ونعم الضجيع , ثمّ تعرج على صفاته الخلقية فهو ذو حسب ونسب , ومن قوم كرام ذوي يسار وسخاء ومنعة وطيبة نفوس .
وما سقنا هنا من مقطوعات هو الذي يحمل أصرح الصور أمّا سائر النماذج فهي صور لا تختلف عن صورة الأب أو الأخ فتعدد المناقب الأخلاقية للممدوح أو المرثي , واخترنا منها النماذج التالية :
• ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة الخير بن القشير ترثي زوجها هشام بن المغيرة فتقول :
إنك لو وألت إلى هشام ... أمنت وكنت في حرم مقيم
كريم الخيم خفاف حشاه ... ثمال لليتيمة واليتيم
ربيع الناس أروع هبرزي ... أبي الضيم ليس بذي وصوم
أصيل الرأي ليس بحيدري ... ولا نكد العطاء ولا ذميم
ولا خذالة إن كان كون ... دميم في الأمور ولا مليم
ولا متنزع بالسوء فيهم ... ولا قذع المقال ولا غشوم
فأصبح ثاوياً بقرار رمس ... كذاك الدهر يفجع بالكريم
فهي تقدم صورة لا تختلف عن الصورة المرغوبة في الأب والأخ إلى غير ذلك , فتتحدث عن مناقبه الأخلاقية ,ولا تشير للصورة الجسدية إلاّ بلمحة خاطفة حيث تصفه بخفّة الحشا , وتشبيهه بالدينار الفارسي المسمى بالهبرزي كناية عن جماله ووسامته , وهي صفة لا تختص بالزوج فقد رأينا هذه الصفة في شعر أم حكيم البيضاء في رثاء والدها , أمّا الصورة الخلقية التي نجدها في هذه الأبيات فنجد أنّه يحمي من استجار به , والمستجير به كالعائذ بالحرم مبالغة في أمنه , وهو طيب المعدن , كريم الشيم , وثمالا للأرملة واليتيم كناية عن الإطعام , وتشبهه بالربيع كناية عن نفعه للناس , وهو صاحب رأي صائب , وعطاؤه مرئيا لا يفسده عبوس أو قلّة أو منّة , ولا يخذل داعيه إن ألم خطب , وليس ممن اعتاد المشامتة والملاومة عندما تقع المصائب , وليس بصاحب لسان بذيء , ولا ظالم غشوم .
• الخنساء في رثاء زوجها مرداس :
لقد خار مرداسا على الناس قاتله ولو عادته كناته وحلائله
وقلن ألا هل من شفاء يناله وقد منع الشفاء من هو نائله
وفضل مرداساً على الناس حلمه ... وان كل هم همه فهو فاعله
وواد مخوف يكره الناس هبطه ... هبطت وماء منهل انك ناهله
وسبي كأمثال الظباء تركته ... خلال البيوت مستكيناً عواطله
فعدت عليهم بعد بؤسى بأنعم ... فكلهم تعنى به وتواصله
متى ما يوازي ما جداً يعتدل به ... كما عدل الميزان بالكف حامله
تصوّره محبوبا عند نسائه , حليما , حازما , ذا عزم , وجرأة , غزّاء , راعيا لشؤون قومه , ماجدا يرجح بالكرام عند الموازنة .
• قالت فاطمة بنت الأحْجم الخُزاعيّة ترثي زوجها
6 - ( يا عَينِ بَكِّي عِنْدَ كلّ صَباحِ ... جودِى بأرْبَعةٍ عَلى الجَرَّاحِ )
1 - ( قدْ كُنتَ لِي جَبَلاً ألُوذُ بِظلِّهِ ... فَتَركْتَني أضْحَى بِأجْرَدَ ضاحِ )
2 - ( قدْ كُنتُ ذَاتَ حَمِيةٍ ما عِشْتَ لِي ... أمْشي الْبَرازَ وكُنْتَ أنتَ جَناحِي )
3 - ( فالْيَوْمَ أخْضَعُ لِلذَّلِيلَ وَأتَّقي ... مِنهُ وأدْفَعُ ظالِمي بِالرَّاحِ )
4 - ( وأغُضُّ مِنْ بَصَري وَأعْلَمُ أنَّه ... قد بانَ حَدُّ فَوارِسِي وَرِماحِي )
5 - ( وَإذا دَعَتْ قُمْريَّةٌ شَجَناً لَهَا ... يوْماً عَلى فَنَنِ دَعَوْتُ صَباحِي )
والجميل في هذه الصورة _إن صح أنّها في رثاء زوج _ أنّها تضفي على الزوج صورة الأب الذي تعيش عزيزة في كنفه , وفقده جعلها مستسلمة ذليلة , ولا غرابة في ذلك فقد "تذاكر نسوة الأزواج , فقالت إحداهن الزوج عزٌ في الشدائد , وفي الرخاء مساعد , إن رضيت عطف , وإن سخطت تعطف".
وقالت زَهْراء الكِلابِيَّة ترثي زوجها راسمة صورة كسابقتها :
تَأَوَّهْتُ مِن ذِكْرَى ابْنِ عَمِّي، ودُونَه ... نقاً هائِلٌ جَعْدُ الثَّرَى وصَفِيحُ
وكنتُ أنامُ اللَّيلَ مِن ثِقَتِي بهِ ... وأَعْلَمُ أَنْ لا ضَيْمَ وهُوَ صَحِيحُ
فأَصْبَحْتُ سالَمْتُ العَدُوَّ ولَمْ أجِدْ ... مِن السِّلْمِ بُدّاً والفُؤادُ جَرِيحُ
وأود أن أختم هذا المطلب بصورة الأسرة المثالية السعيدة كما وردت في قصة أم زرع التي نقلتها لنا كتب الحديث النبوي , حيث تقول أمّ زرع واصفة زوجها وأسرتها : " أبو زرع فما أبو زرع أناس من حلي أذني , وملأ من شحم عضدي , وبجحني فبجحت إلي نفسي , وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق , فعنده أقول فلا أقبح , وأرقد فأتصبح وأشرب فأتقنح . أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح وبيتها فساح . ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع مضجعه كمسل شطبة , ويشبعه ذراع الجفرة . بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ جارتها . جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثها تبثيثا ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا"
تصف زوجها بأنّه أثقل أذنيها بالحلي , وغذاها غذاء أسمنها , وسرّها وعظّمها , فاستعادت ثقتها في نفسها , وأصبحت معتزة بشخصيتها , وتبين أنّها كانت من أسرة فقيرة متواضعة يعتاشون من قطيع صغير من الغنم , ويعانون من الفقر والمشقّة , ويعيشون بشقّ من الأرض أي طرف خفي كناية عن أنّ أهلها ليسوا من سراة الناس وساداتهم , فنقلها لحياة ارستقراطية جديدة , فهو سيد غني يملك الإبل , والخيل , والبقر , والزرع , وأصبحت عنده عزيزة كريمة يسمع لقولي , وعندي من الخدم ما يكفيني مؤنة الاستيقاظ المبكّر , وليس لدي ما ينغص عليّ صبوحي من الشراب فأشربه على مهل حتى أرتوي , ثمّ تصف أمّ زوجها فهي سيدة جليلة ذات بيت واسع , وخزائن كبيرة مليئة بالأمتعة والنفائس , أمّا ابن زوجها فهو الشاب الظريف النشيط , وأمّا ابنته فهي مهذبة مطيعة جميلة , وجاريتهم التي تخدمهم فهي مدبرة منزل محترفة , حافظة لأسرارهم .
.../...
http://hadarat.ahram.org.eg/GetImag...hoto_b9ee44c3-9d59-453d-b6aa-02a0cee55f9c.jpg
.
لقد كنت أشعر بالألم عندما أطالع ما يقوله كثير من الكتاب عن عرب الجاهلية , وأقارن بين ما أسمعه من أوصاف شائعة لهم تصمهم بالهمجية والتخلف والانحطاط , وما نجده فيما نقل لنا من شعرهم , ونثرهم , وأخبارهم , وقصصهم في الحرص على مكارم الأخلاق , وطلب المعالي والفضائل , والابتعاد عن النقائص والرذائل , ويظنّ الذين يصفون عرب الجاهلية بتلك النقائص أنّهم يعلون من شأن الإسلام , وهم يتجاهلون أنّ الله ما أختار بلاد العرب موطنا لدينه الخالد عبثا , وما أختار لسانهم ليكون لسان كتابه الخالد بلا مسوّغ , ويتجاهلون أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أثنى على أخلاقهم وأبدى إعجابه بها حيث يقول :" يا علي أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية ما أشرفها بها يتحاجزون في الحياة الدنيا " , ويؤكد هذا المعنى بقوله عليه السلام : "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " , فهو لم يأت لأمة همجية بلا أخلاق , وإنما جاء لأمة رأسمالها الأخلاق الشريفة , والسجايا الكريمة , فجاء لإكمالها , وتهذيبها , وتوجيه تلك الطاقات الإنسانية الهائلة إلى الوجهة الصحيحة التي تخدم الإنسانية جمعاء .
وتزداد الصورة قتامة وبشاعة عندما يتحدث أمثال أولئك الكتاب عن الحال المرأة الجاهلية فيصورنها مهضومة الحقوق , مسلوبة الإرادة , فاقدة للكيان , ويختزلونها بصورة المؤودة البغيضة , ويتجاهلون أنّها ما وئدت إلاّ لضعف في قومها فرأوا وأدها خير من سبيها وامتهانها أو لإصابتها بعاهة خلقية فرأوا وأدها رحمة لها من العذاب النفسي الذي تعانيه طوال حياتها , وتجاهلوا أنّ المرأة شقيقة الرجل جسدا , وقسيمته نفسا وطباعا , وأنّها كانت دائمة الحضور في ذهنه أمّا مبجلة موقّرة , وبنتا مرحومة مدللة , وأختا عزيزة محترمة , وخالة وعمة تقوم مقام الأم , وحبيبة يهيم بها , وزوجة يحبها , ويقدّرها , ويراها عونا له على قسوة الحياة , ولو لم تكن المرأة كذلك لما أنجبت أولئك العظماء من أمثال عمر بن الخطاب , وخالد بن الوليد والمثنى بن حارثة الشيباني , وغيرهم من الأبطال الذين عندما أتيحت لهم فرصة الحياة الحقيقية في ظلّ الإسلام أصبحوا من أبطال الإنسانية الأفذاذ , وكذلك يتجاهل أولئك الذين يصورن المرأة خاملة جاهلة مهمشة الرأي , مهشّمة الكيان _ أنّ المرأة ساهمت في صنع كثير من الأحداث فالبسوس هدمت عرش كليب وائل , وعفيرة الجديسية هدمت عرش عمليق ملك طسم وجديس , وإسلام حمزة بن عبد المطلب كان بسبب تحريض امرأة , ودور أخت عمر بن الخطاب في إسلامه .
وإدراكا مني لأهمية دور المرأة في صنع شخصية الرجل , وتأثيرها في حياته فقد رأيت أن أبحث في صورة الرجل في شعر المرأة الجاهلية ؛ لأنّ الشعر ديوان العرب الذي حفظ تاريخهم وأنسابهم , وخلد مآثرهم وفضائلهم , وحمل ثقافة الآباء للأبناء , فلا تعرف أنساب العرب , وتواريخها , وأيامها ,ووقائعها إلا من جملة أشعارها، فكان الشعر بحقّ ديوان العرب , وخزانة حكمتها ,ومستنبط آدابها ,ومستودع علومها ، والشعر هو ديوان تسجيل من لا تسجيل له، لجأت إليه الشعوب القديمة حين لم تعرف الكتابة، ليقوم مقام الكتابة في تخليد المآثر والأحداث وما يستجد لها من أمور عظام، بما فيه من أثر على القلب، ومن نغم يساعد على الحفظ، فقام الشعر عند العرب مقام الكتابة، قبل أن تتفشى الكتابة بينهم.
والشعر له المكانة السامية في نفوس العرب , وله تأثير شديد في حياتهم ، فكم من شريف وضعه الشعر ، وكم من خامل دنيء رفعه ، ومن إعظامهم لشأن الشعر قرنوه بالكهانة والسحر؛ لأن كلا منهما يغير الأشياء في مرأى الإنسان ومخيلته بأساليب تأثيرية نافذة، فتأثير الشعر في نفوسهم أشبه بتأثير السحر حتى قال ابن الرومي :
في زخرفِ القول ترجيحٌ لقائلهِ والحقُّ قد يعتريه بعضُ تغييرِ
تقول هذا مُجاجُ النحلِ تمدحُهُ وإن تعِبْ قلت ذا قَيْء الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما سحر البيان يُري الظلماء كالنور
ونظرا للأثر التربوي للشعر فما زال العظماء يوصون بتعلمه , ومن ذلك قول عمر بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنه: "تحفّظوا الأشعارَ , وطالِعوا الأخبار، فإنّ الشِّعرَ يدعو إلى مكارم الأخلاقِ , ويعلِّمُ محاسِنَ الأعمالِ، ويبعثُ على جميلِ الأفعالِ، ويفتُقُ الفِطْنةَ، ويشحَذُ القريحةُ، ويحدو على ابتناءِ المناقبِ , وادّخار المكارمِ، وينهى عن الأخلاقِ الدنيئةِ، ويزجُرُ عن مُواقَعَةِ الريَبِ، ويحضُّ على معاني الرُتَبِ" .
وبما أنّ المرأة دائمة الحضور في ذهن الرجل , وهو يعمل المستحيل لينال إعجابها , ويفوز بقلبها , وبما أنّ الشعر له تلك المكانة في نفوسهم , وذلك التأثير فإننا نصل حتما إلى أنّ الرجل سيكون حريصا على أن يبدو للمرأة بالصورة التي ترغبها , والتي ترسمها في شعرها , وبالمقابل سيكون حريصا على الابتعاد عن الصورة التي ترفضها المرأة وتبغضها .
وقد قمت بجمع شعر المرأة من مظانّه من المصادر المعتبرة , والمراجع التي لها عناية بشعر النساء من كتب القدامى والمعاصرين , وقمت بدراسته , فخرجت بمواصفات الرجل المرغوبة , وصفاته المحبوبة ,وجاء هذا لبحث المتواضع في فصلين وخاتمة : جعلت الفصل الأول تمهيدا لمكانة المرأة العربية , والنظرة الفلسفية لها , ودورها في الحياة , وناقشت الآراء المختلفة في هذا المجال , وتوصلت لبعض النتائج الهامّة ,أمّا الفصل الثاني فقسمته إلى مبحثين : المبحث الأول عن الصورة المحبوبة المرغوبة للرجل فجاء في أربعة مطالب ظهرت فيها صورة الزعيم السياسي , والقائد العسكري , والفارس المقاتل , وسائر صور المقاتلين , وصورة الزوج المحبوب , والسيد الجواد , والقبيلة المثالية , أمّا المبحث الثاني فكان عن الصورة المرفوضة غير المرغوبة ومادّة هذا الفصل من الشعر قليلة فأكملتها ببعض المقطوعات النثرية لتكتمل الصورة .
الفصل الأول : تمهيد مكانة المرأة في الجاهلية :
إنّ الحديث عن صورة الرجل في شعر المرأة الجاهلية هو في الواقع محاولة اكتشاف لعقلية المرأة , وتفكيرها , وما لديها من ثقافة تستخدمها في تربية أبنائها , وتشكيل شخصية الرجل , والتأثير في مسيرة المجتمع , وقد كنت أعجب عندما أدرس التاريخ العربي الجاهلي وآدابه من تلك العقليات الفذّة من زعماء القبائل العربية , وشعرائها , لا بل أفرداها العاديين من الجنسين , وأخبار وفودهم على الملوك , وأخبارهم في سلمهم وحربهم , وفرحهم , وترحهم , وأعجب أكثر من تلك العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة التي أجدها دائما حاضرة في ذهن الرجل في حلّه وترحاله , وفي ساعات راحته وتعبه , بل لا تغيب عن مخيلته وهو في ميدان الوغى , وتحت بوارق السيوف , وتلمّظ الرماح , وأصبحت لديّ قناعة بأنّ ذلك الجيل الذي التفّ حول محمد { صلى الله عليه وسلم } من أولئك العظماء الذين غيّروا وجه التاريخ ووجهته لم يكونوا تربية أمهات جاهلات خاملات كما يحاول البعض أن يصف المرأة في جاهليتها , حيث صوّرها أغلب الكتاب الإسلاميين بأنّها كانت موؤدة , محتقرة , ممتهنة , وتعد من سقط المتاع , ولا رأي لها ولا كيان , ولا أثر لها ولا تأثير .... , فكيف نوفّق بين هذه المقولة الشائعة على كلّ لسان عربي ومسلم , وبين ما كانت عليه المرأة من دور فاعل في أحداث ذلك المجتمع الذي ظلّ يعيد إنتاج نفسه حتى وقتنا الحاضر في كثير من بلدان العرب , فالتاريخ ينقل لنا كثيرا من الأخبار التي تدلّ على تأثير المرأة في صنع الأحداث , وصنع الشخصيات القيادية من الرجال التي لها أدوار فاعلة في مجتمعها ؟؟
إنّ بحث هذه المسألة بحث جادّ هو من ضرورات أيّ بحث في تاريخ العرب وحياتهم من جميع جوانبها السياسية , والثقافية , والتربوية ...... إلخ , وما لم يتمّ ذلك فإنّ أيّ بحث سيكون مجزوءا مبتورا فيه من الثغرات ما لن تخطئه أعين النبهاء , وستبقى النظرة العامّة في أوساط العامّة والمثقفين نظرة مغلوطة لدور المرأة وتأثيرها في حياة المجتمع وأحداثه ؛ لذلك فإنني رأيت أن أناقش هذه المسألة الشائكة في هذا الفصل تمهيدا للحديث عن صورة الرجل في شعر المرأة الذي يمثّل محاولة منها لتشكيل شخصية الرجل سواء أكان ابنا أم أبا أم زوجا بالصورة التي ترغبها , وما لهذا من أثر فعلي في صناعة شخصية الجل العربي , وأثر ذلك على مسيرة المجتمع العربي , فكان لابدّ من تقسيم هذا الفصل لعدّة مطالب لمعرفة واقع المرأة العربية في الجاهلية , والنظرة الفلسفية العربية لها , مقارنة مع واقعها العملي , فجاء البحث كالتالي :
....المطلب الأول عرض آراء بعض الكتاب العرب في مكانة المرأة العربية في الجاهلية :
لم يكن العرب في جاهليتهم أصحاب نظرة فلسفية مستقلة , إذ لم يسجل لنا التاريخ وجود مفكر أو فيلسوف صاحب نظرة فلسفية شاملة للوجود بما يمثله من مادّة صماء , وحياة , وإنسان كالذي نجده عند اليونان مثلا , فما عند العرب في هذا الجانب كان خليطا من أفكار وأيدلوجيات ذلك العصر وأديانه , إضافة لما لهم من ملاحظات متفرقة ثاقبة ربما كانت تمثّل نظرة شاملة نسبيا لو جمعت من مصادرها .
وتكاد تتفق كلمة غالبية الباحثين على أنّ العرب قبل الإسلام كانوا ينظرون للمرأة نظرة دونية , وذهب قلّة من الباحثين إلى أن المرأة في الجاهلية كانت تحظى بنظرة محترمة يقول الدكتور جواد علي مبينا نظرة العرب في الجاهلية للمرأة : (( وقد عرفت المرأة بالكيد بين الجاهليين. ونظروا إليها نظرتهم إلى للشيطان، وليست هذه النظرة العربية إلى المرأة هي نظرة خاصة بالجاهلين، بل هي نظرة عامة نجدها عند غيرهم أيضاً. بل هي وجهة نظر الرجل بالنسبة للمرأة في كل العالم في ذلك الوقت. وهي نظرة نجدها عند الحضر بدرجة خاصة، لما لمحيط الحضر من خصائص التجمع والتكتل، والتصاق البيوت بعضها ببعض، ولما لهم من حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد تتجرأ المرأة على دس انفها، والاتصال بالغرباء، فنشأ منَ ثمّ هذا الرأي بين أهل الحضر أكثر من الأعراب.................
ونظر الرجل إلى رأي المرأة على إن فيه وهناً وضعفاً وانه دون رأيه بكثير، وتصور إن مقاييس الحكم عندها، دون مقاييسه في الدقة والضبط، وهذا رأى العرب إن من الحمق الأخذ برأي المرأة, فكانوا إذا أرادوا ضرب المثل بضعف رأي وخطله قالوا عنه: "رأي النساء" و "رأي نساء" وقالوا: شاوروهن وخالفوهن، لما عرف عن المرأة من تأثر بأحكام العاطفة عندها. حتى ذهب البعض إلى عدم وجود رأي للمرأة، ولهذا قالوا: يقال الرجل "الفند" إذا خرف وخف عقله لهرم أو مرض، وقد يستعمل في غير الكبر وأصله في الكبر. ولا يقال "عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي أبداً فتفند في كبرها. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - (ج 1 / ص 244
) ويقول أبو الحسن علي الحسني الندوي ما نصّه : « وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف تؤكل حقوقها وتبتز أموالها وتحرم من إرثها وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه وتورث كما يورث المتاع أو الدابة .
ونقل السيوطي عن ابن عباس قوله: (( كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه فهو أحق بامرأته إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدى بصداقها أو تموت فيذهب بمالها « . ونقل الطبري في تفسيره عن السدّي قال : إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه فإذا مات وترك امرأته فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن يَنكحها بمهر صاحبه أو يُنكحها فيأخذ مهرها . وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها » . وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها يؤخذ مما تؤتى من مهر وتمسك ضراراً للاعتداء . وتلاقي من بعلها نشوزاً أو إعراضاً وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة . ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث . وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد . « وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد . ذكر الهيثم بن عدي - على ما حكاه عنه الميداني - أن الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة . فجاء الإسلام وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد . فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن . ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء . أو شيماء ( سوداء ) أو برشاء ( برصاء ) أو كسحاء ( عرجاء ) تشاؤماً منهم بهذه الصفات . ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق ، وخوف الفقر . .
» وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله فلا يئدها إلا وقد كبرت وصارت تعقل . وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات . وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق « .
هذا ويرى بعض الباحثين أن وضع المرأة لم يكن بالصورة السيئة التي يحاول الآخرون رسمها، فيقول :(( تمتعت المرأة على سبيل المثال بحرية اختيار زوجها ....َ ,وفي مجال العلاقات القبلية،كثيرا ما كانت النساء تشارك في حل النزاعات بين القبائل،أو إثارتها وتأجيجها،مثل البسوس بنت منقذ التميمية ، وشاركت المرأة الجاهلية في التجارة،فقد كانت خديجة بنت خويلد ،وقيلة الانمارية ،تبيع وتشتري بنفسها، وسجّلت لنا المصادر،نساء كثر تميزن برجاحة العقل،وحسن الرأي، مثل خالدة بنت هاشم بن عبد مناف وصَحر بنت لقمان بن عاد......... وكانت العرب تتحاكم عندها ( المرأة ) فيما ينوبها من المشاجرات في الانساب وغيرها ، وسُمّيت بعض القبائل بأسماء الأمهات مما يدلّ على المكانة الرفيعة للمرأة في ذلك الزمان ، مثل قبيلة مزينة وبجيلة وباهلة وكان المجتمع العربي في بعض مناطقه مجتمعا بدويا رعويا ،وفي مثل هذه المجتمعات، يكون للمرأة دور كبير في النشاط الاقتصادي وهذا يعني أنها بجهدها في البيت،أوخارجه كانت تفرض احترام المجتمع لها ،وهذا يحمل على القول : إنهم نظروا للمرأة نظرة احترام تليق بها وبدورها المشع في الحياة))،
وقد تطرف بعض الباحثين العلمانيين إلى حدّ القول بأنّ المرأة في الجاهلية كانت في حال أحسن من حالها في الإسلام ,فيقول ما نصّه : (( من ناحية عامة نجد لمحات في الشعر العربي الجاهلي لكثير من الأمثلة عن صدارة المرأة في الحياة الاجتماعية للعرب ,.... ويدلل على صدارة المرأة ومكانتها بالأمثلة التالية :
1-- خديجة بنت خويلد: تذكر جميع مصادر السيرة الإسلامية المكانة العالية التي تمتعت بها خديجة بنت خويلد في حياة "الجاهلية" القرشية. نجد أنها كانت تملك ثروة ورثتها عن أبيها وربما من أزواج سابقين كما أنها كانت نشطة بأمور التجارة وكانت بدرجة من "التحرر" جعلتها ترسل لمحمد { ص }من تقترح عليه زواجها منه .
2-- هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: يشير الدليل التاريخي أن هذه المرأة تمتعت بسطوة ونفوذ كبيرين. كانت تملك مالها الخاص وحق التصرف به بدليل توجيه عبدها وحشي لقتل حمزة ثم إعتاقه بعد أن وفى بوعده. وقصة دورها الكبير في التحريض لمعركة أحد يدل على أن المرأة في ذلك المجتمع لم تكن مهمشة كما حدث لها في ظل المجتمع الإسلامي. ولعل إجابتها لمحمد بعد فتح مكة قائلة له "أنبي وحقود" عندما ناداها بهند آكلة الكبود خير دليل على قوة شخصيتها وثقتها بنفسها. ومن الدلائل على شعور المرأة بالعزة والاستقلالية إجابتها لمحمد أثناء مبايعته لنساء قريش بعد فتح مكة عندما قال لهن ألا يزنين ، فأجابته هند "وهل تزني الحرة؟".
من هذه الأمثلة القصيرة نجد أن المرأة الجاهلية تمتعت بحق الملك والوراثة واختيار الزوج والتجارة والحكم ، والمشاركة بالنشاط الديني وترأسه، وأنه كان لها دور أساسي في حياة المجتمع ))
وبعد هذا الاستعراض لآراء بعض الباحثين في هذه المسألة نستطيع إرجاع سبب الاختلاف بينهم في هذه المسألة يعود إلى ما نقلته المصادر التاريخية من أخبار تكاد تكون متناقضة , وكذلك عدم التفريق بين النظرة الفلسفية للمرأة والنظرة العملية , وكذلك اختلاف مذاهب العرب وعاداتهم , فما كان العرب نسيجا اجتماعيا متشابها حد التطابق , ونظرا لأنّ هذه المسألة من المسائل الشائكة التي يكتنفها الغموض لدى كثير من الباحثين فإنني ؛ لتوضيحها , وكشف أسرارها , سأتناولها بشيء من التفصيل في المطالب التالية .
المطلب الثاني : تأثر العرب بالأفكار السائدة في العالم القديم
أنّ النظرة العربية للمرأة قد تأثرت بما كان سائدا من نظرة عامّة للمرأة عند الشعوب المجاورة للعرب ,من فرس ويونان , وهنود , ومسيحيين , ويهود , ورومان , فقد اتفقت كلمة هذه الأمم والشعوب على نظرة دونية للمرأة , واعتبارها في منزلة دون منزلة الرجل , وأنّها متهمة في عقلها , وفي طهارة نفسها , وأنّها من أسباب الشرور والويلات ...... إلخ , وإذا عدنا للقرآن الكريم فإننا نجده قد أكدّ هذه النظرة , فقد وصف العربي عندما يرزق بالأنثى في قوله تعالى : ((وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )) وقد بيّن أنّ هذه النظرة لم تكن عند العرب وحدهم , حيث قد بيّن النظرة اليهودية المشابهة في قوله تعالى : (( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( آل عمران36 يقول الزمخشري : فإن قلت : فلم قالت : إني وضعتها أنثى وما أرادت إلى هذا القول ؟ قلت : قالته تحسرا على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها . فتحزنت إلى ربها لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكرا ولذلك نذرته محررا للسدانة . ولتكلمها بذلك على وجه التحسر والتحزن قال الله تعالى : " والله أعلم بما وضعت " تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه . .....
ونظرا لاختلاط العرب بمختلف تلك الشعوب التي سبقت الإشارة إليها , واعتناق بعضهم للديانة اليهودية والمسيحية فقد تأثرت نظرتهم للمرأة بتلك الأفكار , علاوة على ما عندهم من مسوغات فرضتها عليهم طبيعة حياتهم القاسية , ومن ذلك ما أشار إليه الطبري في تفسيره من حججهم في عدم توريث النساء حيث قال في تفسير قوله تعالى : ((:{لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} (7النساء) نزلت في أم كحلة وابنة كحلة وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالت : يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث ! فقال عم ولدها : يا رسول الله لا تركب فرسا , ولا تحمل كلا , ولا تنكي عدوا يكسب عليها , ولا تكتسب ! فنزلت.)) ....
فمسوغ حرمانها أنّها لا تقاتل دفاعا عن الحوزة , ولا تكلف بالحقوق { الواجبات الاجتماعية , ولا تكلّف بالنفقة .
2__ المطلب الثالث تناقض العقلية العربية بين النظرية والتطبيق :
نلاحظ أن المرأة التي لا تعد من أهل الرأي أصلا , والتي قالوا عنها : (( شاوروهن وخالفوهن، ......وقالوا: يقال الرجل "الفند" إذا خرف وخف عقله لهرم أو مرض، وقد يستعمل في غير الكبر وأصله في الكبر. ولا يقال "عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي أبداً فتفند في كبرها. نجدها تنصب ملكة كما هو الحال في ملكة سبأ العاقلة الحازمة وقد جاء في القرآن الكريم : ((إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (23) سورة النمل , كما نجدها مثيرة حرب كالبسوس التي اشتعلت الحرب بسببها أربعين عاما بين بكر وتغلب , وتغنى بها الشعراء , وأحبوها , وهذا الأمر قد يشكل على من لا يعرف طبيعة العرب , فالعرب في طبعهم التناقض بين الفكر والسلوك وهم مهرة في { مفهوم لكل قاعدة استثناءات } فكل قاعدة عندهم لها من الاستثناءات ما يفرغها من مضمونها , وقد أكدّ القرآن الكريم هذه الطبيعة عندهم , وعابها عليهم في أكثر من موضع , ومن ذلك قوله تعالى : (((1) يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3) سورة الصف . {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (77) سورة النساء , قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال فلما فرض عليهم القتال شق عليهم ذلك وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتاب ه
إنّ تناقض العقلية تجاه المرأة حيّر كثيرا من الباحثين في هذا المجال , فاضطربت نظرتهم كما لا حظنا آنفا , ويعود ذلك لعجز أغلب الباحثين في الشأن الاجتماعي العربي عن فهم طبيعة المجتمع العربي القبلي الذي ظلّ يعيد إنتاج نفسه منذ أيام الجاهلية وحتى عصرنا الحاضر في معظم البلدان العربية , والسبب في هذا العجز هو عدم فهم الأسس الفكرية التي ينطلق منها هذا المجتمع ؛ لأنّ أغلب من كتب في شؤونهم الاجتماعية لم يكن منهم , وربما كان هذا هو السبب الذي دفع الدول الأوروبية الطامعة في استعمار العالم العربي لتكليف بعض علمائهم في القرن الثامن عشر والتاسع عشر لمرافقة القبائل العربية , والعيش في أوساطها بضعة أعوام , وكتابة الكتب المفصلة عن حياتهم وأحوالهم , ومن أمثلتهم بير كهارت صاحب كتاب رحلات في سوريا الجنوبية , ولويس موزيل الذي عاش بضعة أعوام مع قبيلة الرولة ....... وما ذلك إلاّ محاولات جادّة لفهم طبيعة المجتمع العربي ليتمكنوا من التعامل معه عند احتلاله .
إنّ المجتمع العربي القبلي الذي كان في الجاهلية والذي لا يزال في موجودا في معظم البلدان العربية وجوهره لا يزال يحمل خصائص المجتمع العربي القديم _ لا ينظر إلى المرأة من حيث جنسها , وإنّما ينظر إليها من حيث علاقتها بالرجل , فالمرأة التي يضّعف رأيها , ويغضّ من شأنها, ويأنف من الأخذ برأيها هي الزوجة , أمّا الأمّ , والأخت , والبنت , والعمة فلها اعتبارها , ويحترم رأيها , .......... نجد هذا في حياة القبائل العربية المعاصرة , وموروثها المنقول عبر الأجيال شفويا , كما نجد إشارات له في المصادر القديمة ومن الأمثلة على ذلك ما يلي :
• قول صخر بن الشريد أخي الخنساء مخاطبا زوجته عندما كان في مرض موته :
( وما كنتُ أخشى أن أكونَ جِنازةً ... عليكِ ومَن يغتُّر بالحَدَثَان )
( أهُمُّ بأمر الحَزْم لو أستطيعُهُ ... وقد حِيلَ بين العَيْرِ والنَّزَوان )
( لَعَمري لقد نَبَّهْتِ مَن كان نائماً ... وأسْمعتِ مَن كانت لهُ أُذُنان )
( ولَلْمَوْتُ خَيرٌ من حياةٍ كأنَّها ... مَحَلَّةُ يَعْسوبٍ برأس سِنانِ )
( وأيُّ امرىءٍ ساوَى بأمٍّ حليلةً ... فلا عاشَ إلاّ في شَقاً وهَوان )
• قصّة أوس بن حارثة الطائي مع بشر بن أبي حازم الذي هجاه وهجا أمه سعدى بنت الحصين فنذر حارثة أن ظفر به ليحرّقنه، فلما تمكّن منه وأوقد له ناراً ليحرّقه - - فبلغ ذلك سعدى بنت حصين الطائيّة، ، فخرجت إليه فقالت: ما تريد أن تصنع؟ فقال: أحرق هذا الذي شتمنا. فقالت: قبح الله قوماً يسوّدونك أو يقبسون من رأيك، والله لكأنّما أخذت به، أما تعلم منزلته في قومه، خلّ سبيله وأكرمه، فإنه لا يغسل عنك ما صنع غيره. , فعفا عنه ...
ولعلّ السبب في النظرة الدونية للمرأة بصفتها زوجة , ونظرة الاحترام لها بصفتها أمّ أو أخت أو بنت يعود لتأثير ذلك الصراع الأزلي بين الزوجة والحماة ( أمّ الزوج ) , فمن المعلوم أنّ العرب لم يعرفوا البيوت المستقلة إلاّ في وقت متأخر , لا بل لا تزال أغلب القبائل العربية تخضع لنظام الأسرة الممتدة المكونة من الأب والأمّ والأبناء وزوجات الأبناء , وتجد الصراع النسوي على أشدّه بين الزوجة , وقريبات الزوج من أمّ وأخت ..............إلخ , فالأمّ في سبيل الانتصار على زوجة الابن لا مانع لديها من تسفيه رأي المرأة , والتأكيد على أنّها ليست أهلا لأن تطاع أو تحترم .... وقد يتظاهر الولد بالقبول بهذا الرأي إرضاء لأمّه , إلا أنّ الشواهد على هذا الرأي من المصادر المدونة تكاد تكون نادرة ؛ لأنّ هذا الأمر يعدّ من الجانب السرّي في الحياة العربية , ومن شواهده النادرة ما جاء في ديوان الحماسة لإحدى الأمهات التي تشكو عقوق ابنها :
1 - ( قالَتْ لهُ عِرْسُهُ يَوْماً لِتُسْمِعَني ... مَهْلاً فإِنَّ لنَا في أُمِّنا أرَبَا )
2 - ( وَلوْ رَأتْنِيَ فِي نارٍ مُسَعَّرَة ... ثُمَّ اسْتَطاعَتْ لزَادَتْ فَوْقَها حَطَبا ) ,
وكذلك دور أمّ الزوجة في تعزيز الصراع بين الزوجة والزوج من أجل السيطرة , وانتزاع الدور القيادي , ومن شواهد ذلك ما ذكره الراغب الأصفهاني في محاضراته حيث يقول : (( زوجت امرأة ابنتها فقالت: يا بنية اقلعي زج رمح زوجك أولاً، فإن أقر فاقلعي سنانه، فإن أقر فاكسري العظام بسيفه، فإن أقر فاقطعي اللحم وضعيه على ترسه، فإن أقر فضعي الأكاف على ظهره فإنه حمار!
إنّ هذا الصراع الذي يبدو في نظر الرجل سخيفا , وليس له ما يسوغّه فإنّه ينعكس حتما على نظرته للمرأة , ويدعوه للاستخفاف بعقلها , وتترسخ لديه قناعة بأنّ المرأة تتصرف بدون عقل .
المطلب الرابع : الواقع الفعلي للمرأة العربية في العصر الجاهلي :
بغض النظر عن النظرة الفكرية للمرأة , ومن أنّها ليست من أهل الرأي , وغير مؤهلة لأن تكون من أهل الحلّ والعقد إلاّ أنها كانت مؤثرة في الحياة العربية , وتأثيرها يظهر أحيانا , ويتستر أحيانا , تقول المحامية فاطمة حمادي في مقالة ضافية تكاد تفي بالغرض في هذا المجال :
فتشير لدورها في الحياة الاقتصادية في المجال الزراعي قائلة : (( لقد مارست المرأة دورها في بناء المجتمع آنذاك على أكمل وجه ,ولعبت دورا بارزا في الحياة الاقتصادية فعملت جنبا إلى جنب مع الرجل بالزراعة في مناطق الجزيرة العربية التي تمتهن الزراعة , فكانت تقوم بجني المحاصيل وري الأرض بعد أن تجمع المياه في برك بها وكذلك كانت تقوم بتربية الماشية.((
وتبين دورها الهامّ في الجانب الصناعي , وهو الدور الذي لا تزال المرأة العربية في البوادي والريف العربي تلعبه فتقول : ((وفي مجال الصناعة كانت المرأة الجاهلية تشكل عنصرا فعالا في الجانب العملي الصناعي فهي التي تتحمل عبئ الصناعة المنزلية بمفردها وعلى عاتقها وحدها تقع صناعة المنزل ونسجه إذا كانت خيمة متنقلة أما إذا كان ثابتا فإنها تقوم بصنع لبناته وهي تعد أثاثه فتقوم لغزل قماشه وحشو فرشه وحياكة ملابس الأسرة بالإضافة إلى تخصصها بصناعة ما تحتاجه العائلة من طعام ومؤونة واوان منزلية )).
وتلفت النظر إلى أهمية تمتع المرأة بمهارة الصناعة المنزلية اللازمة لبيتها فتقول : ((وقد كان إتقان المرأة للصناعة شرطا أساسيا لا بد من توافره فيها حتى يتقدم الخاطب لخطبتها ويتجلى ذلك في نصائح "الحارث بن كعب المذحجي" لبنيه قبل وفاته:
"إياكم والورهاء فأنها أدوا الداء وتجنبوا الخرقاء فان ولدها إلى افن" فأما الورهاء فهي التي لا يتم لها عمل , والخرقاء فهي التي تدعي العمل ولا تحسنه ,) ) وتشير إلى أسماء بعض النسوة اللواتي اشتهرن بغير الصناعة المنزلية فتقول : (( ولم تقتصر مساهمة المرأة في الصناعة على ما تحتاجه أسرتها وإنما كان هناك نساء اشتهرن بما يبيعنه من مصنوعاتهن مثل "ردينة" التي اشتهرت بصناعة الرماح التي كانت تبدعها إلى جانب زوجها في متجره فعرفت بالرماح "الردينية." نسبة لها. ومثل "منشم" التي نالت العطور التي تركبها صيتا ذائعا واسع الأرجاء حتى إن الرجال المتحاربين كانوا يتعطرون بما تركبه من عطر قبل أن يخوضوا غمار القتال.
وبهذا المعنى ورد بيت لزهير بن أبي سلمى:
تداركتم عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فالمرأة كانت إذا في العصر الجاهلي سيدة الإنتاج الصناعي دون مغالاة بينما كان الرجل إما راعيا آو تاجرا أو مزارعا إلى جانبها((.
ثمّ تشير للدور التربوي للمرأة فتقول : ((وان الدور التربوي الذي كانت تؤديه لا يقل شانا عما تقوم به المربيات المثقفات في عصرنا الحالي. فقد كانت تعلم أطفالها ومنذ نعومة أظافرهم المعاني الرفيعة , وترنمهم بذوق الكلام , وفصاحة اللسان ,وتسعى لإبعادهم عن سماع كل دنية وبذيئة , وتتعهدهم بالرعاية والملاحظة جاهدة أن تنمي في نفوسهم المروءة العربية , وهي في الجاهلية الحلم والصبر والعفو عند المقدرة و والكرم وإقراء الضيف وإغاثة الملهوف ونصرة المستضعف والجار والمظلوم والوفاء ويرافق كل هذه الصفات الشجاعة في القول والصدق والشجاعة في العمل والقتال وهي إلى جانب عواطفها الإنسانية الرقيقة تبث في بنيها قيم القوم كالأخذ بالثأر مثلا وضرورة الاستبسال في الدفاع عن القبيلة وعن الأسرة وغسل العار((.
وتشير إلى دورها التجاري فتقول ))وكذلك لعبت المرأة دوراً لا باس به في التجارة وكانت تقوم به إما بنفسها في الأسواق الداخلية فكانت تبيع ما تنتجه أو ما تستورده من مدينة أخرى مثل "أسماء بنت مخرمة بن جندل" التي كانت تأتي بالعطر من اليمن ثم تبيعه في المدينة أو كانت تقوم به عن طريق توظيف مالها في التجارة الخارجية وذلك عن طريق استئجار من يشتري ويبيع لصالحها من الرجال ومثال ذلك السيدة "خديجة بنت خويلد" عندما تخيرت " محمد " صلى الله عليه وسلم ليكون أمينا على تجارتها ثم اتبعته بغلامها ميسرة.((
وكذلك دورها في الرعاية الصحيّة : (( ونشطت المرأة أيضا في مجال الطبابة سواء أكان ذلك بوصفها كاهنة تصف الدواء عن طريق الأعشاب أو السحر أو كانت خبيرة بتضميد الجراح ومعالجة الكسور ومداواة العين.((
وتشير إلى دورها السياسي باقتضاب جزل المعنى مليء بالدلالات فتقول : (( وكان لها دور قيادي في السياسة سواء أكانت تمارسه من خلف الستار عن طريق تأثيرها في زوجها أو ابنها أو أخيها أو أبيها.
وقد تجلى هذا الدور في إضرام نار الحرب من خلال ما تنشده من أشعار فها هي "بنت حكيم بن عمرو العبدي" تشجع رجال قبيلتها في المعركة وتحثهم على النصر قائلة:
فان لم تنالوا نيلكم بسيوفكم فكونوا نساء في الملاء المخلف.
فالفارس العربي كان يخشى أن تصفه المرأة بالجبن ولذا فانه إن ولى مدبرا أو لم يقم لثار أو اظهر تخاذلا فان كل اعتذاره يوجهه للمرأة وكذلك تجلى دورها في إحلال السلم بين القبائل المتناحرة منها هي " بهية ابنة أوس بن حارثة الطائي" تخاطب " الحارث بن عوف " ليلة عرسهما بعد أن اشتدت أوار الحرب بين عبس وذبيان مؤنبة إياه:
" والله لقد ذكرت في الشرف مالا أراه فيك" قال" وكيف" ؟ قالت:" أتفرغ للنساء والعرب يقتل بعضهم بعضا اخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم"
فمشى بالصلح مع صاحبه " الهرم بن سنان" واحتملا معاً ديات قتلاهم , وفي الحياة العسكرية كان الرجال يصطحبون معهم نساءهم في المعارك ليقمن بدور المشجع لهم والمداوي لجراحهم.
وكانت النسوة يشاركن أيضا في القتال عند الضرورة كما حدث أثناء حرب البسوس بين بكر وتغلب عندما خضن نساء بكر المعركة بعد أن تبين لسيدها الحارث بن عباد أن عدد المحاربين من رجالها قليل فأمر بتسليح المرآة إلى جانب الرجل في هذه الحرب فأبلت بلاء حسنا(( .
وتكتمل مستعرضة بقية المجالات : (( أما في مجال الأدب والشعر فكانت المرآة تنافس الرجل شعرا ونثرا وحكمة كما كان يحدث في سوق عكاظ.
وتذكر لنا الروايات أخبار مداولة "الخنساء" مع حسان بن ثابت" والتي كان " النابغة الذبياني حكما فيها" ومن أشهر شاعرات الجاهلية "عاتكة بنت عبد المطلب" "وهيفاء بنت صبح القضاعية" , وفي رحاب الفن برعت المرأة في الغناء والموسيقى وممن لمعت أسمائهن واشتهرن بغنائهن الحر "ماوية ابنة عفزر" وهي التي اختارت "حاتما الطائي" زوجا لها.
ويتضح لنا من هذا العرض السريع من بأن المرأة الجاهلية البرزة (المثقفة) قد لعبت دورا هاما في مختلف نواحي الحياة ومارست حقوقها كاملة باستثناء حقها في الميراث.
حتى أن بعض النساء كن يحتفظن لأنفسهن بحق اختيار الزوج وفي حق التطليق منه وخير مثال على ذلك "ماوية ابنة عفزر" التي اختارت حاتما الطائي زوجا لها وكذلك طلقت نفسها منه بإرادتها المنفردة.((
ويؤكد الدكتور جواد علي ما ذكرته المحامية فاطمة حمادي في كتابه القيّم المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ملقيا الضوء على جوانب هذه القضية الشائكة فيقول :
(( وقد عرفت المرأة بالكيد بين الجاهليين. ونظروا إليها نظرتهم إلى للشيطان، وليست هذه النظرة العربية إلى المرأة هي نظرة خاصة بالجاهلين، بل هي نظرة عامة نجدها عند غيرهم أيضاً. بل هي وجهة نظر الرجل بالنسبة للمرأة في كل العالم في ذلك الوقت. وهي نظرة نجدها عند الحضر بدرجة خاصة، لما لمحيط الحضر من خصائص التجمع والتكتل، والتصاق البيوت .. بعضها ببعض، ولما لهم من حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد تجر المرأة على دس انفها، والاتصال بالغرباء، فنشأ منَ ثمّ هذا الرأي بين أهل الحضر أكثر من الأعراب.)) ثمّ يلفت النظر لملاحظة رائعة ألا وهي انشغال العقلية العربية بالمفاضلة بين الكيد والدهاء بين الرجل والمرأة فيقول :
((وعرفت المرأة عندهم بالمكر والخديعة. إذْ كان في وسعها استدراج الرجل والمكر به. وهم يتمثلون بمكر "الزبّاء".. واستدراجها "جذيمة الأبرش" إليها، ثم فتكها به. على نحو ما ورد من قصص عنها في كتب أهل الأخبار. غير أنهم يروون في الوقت نفسه قصة "قصير" معها، وكيف تمكن من الأخذ بثأره ))
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - (ج 1 / ص 2439)
ثمّ يأتي بملاحظة أروع من سابقتها مبينا الاختلاف بين النظرية والتطبيق , أو القاعدة والاستثناء فيقول : (( وما قلته _{ ويقصد هنا شيطنة المرأة ومكرها ... إلخ }}_يمثل الفكرة العامة عن المرأة بين سواد الناس. غير إن هناك نسوة اشتهرن بالعقل والحكمة عند الجاهليين. وكنَّ مرجعاً للرجال في أخذ الرأي. حتى إن منهن من تولين أمر الحكومات، وقد سبق إن ذكرت فيما مضى إن قبائل بادية الشام كانت تحت حكم ملكات في أيام الآشوريين. ومنهن الملكات "شمس" و "زبيبة". كما أشرت إلى الملكة "الزبّاء". ولم يجد العرب قبل الميلاد ولا بعده غضاضة من تعين النساء ملكات عليهم. وقد كن يصاحبن الرجال إلى القتال لإثارة هممهم عند اشتداد المعارك ولمداواة الجرحى، وحمل الماء إلى العطشى من المقاتلين. وقد كانت "رفيدة" تداوي جرحى المسلمين في مسجد الرسول بيثرب. وكانت "زينب" طبيبة "بني أود" تعالج المرض )) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - (ج 1 / ص 2441)
ويكمل قائلا مفصّلا :
(( ولم نقرأ في كتب أهل الأخبار ما يفيد سيادة النساء على القبائل في الجاهلية القريبة من الإسلام. ولم نقرأ في المسند ما يفيد بوجود ملكات حكمن اليمن. بينما قرأنا في الكتابات الآشورية وجود ملكات عربيات حكمن قبائل. عربية، كانت تنزل البوادي من بادية الشام. ووقفنا أيضاً على حكم الملكة "الزباء". لتدمر وذلك بعد الميلاد. ولكننا نقرأ في أخبار أهل الأخبار أخبار كاهنات، كانت لهن مراكز خطيرة عند القبائل. وكذلك أخبار حاكمات. حكمن فيما بين الناس في الخصومات. وقد كان منهن من يقرأ ويكتب كما سترى فيما بعد.
ويبين أنّ المرأة تستمد كيانها من قوة أهلها , ومكانتهم الاجتماعية فيقول : ((وللمرأة الشريفة ذات السؤدد حظّ في المجتمع لا يدانيه حظ المرأة الحرة الفقيرة. فسؤددها حماية لها ودرع يصونها من الغض من منزلتها ومكانتها. وأسرتها قوة لها، تمنع زوجها من إذلالها أو إلحاق أي أذى بها، وهي نفسها فخورة على غيرها لأنها من الأسر الكريمة. والعادة بالطبع أن الأسر الكريمة لا تزوج بناتها إلا من أسر كريمة موازية لها في المنزلة والشرف. من ذلك قولهم: "استنكح العقائل، إذا نكح النجيبات".
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - (ج 1 / ص 2438)
المطلب الخامس : النتائج المستخلصة :
ونخلص مما سبق استعراضه في النظرة العربية للمرأة الجاهلية , وما كان لها من دور في المجتمع – إلى النتائج التالية :
• أنّ فكرة أنّ (( النساء شقائق الرجال )) = نظائرُهم وأمثالهم في الأخْلاق والطِّباع
هي فكرة أصيلة في العقل والوجدان العربي , وإنّ ما خالفها من نظرة إنّما هو بتأثير الحضارات , والفلسفات , والأديان المجاورة لبلاد العرب , وبرهان هذه النتيجة علاوة على ما ذكره محمود العزّامي في مقالته السابقة , وكذلك فاطمة حمّادي , فإننا إذا نظرنا إلى اللغة العربية التي تمثل وعاء الفكر العربي تدلّ على هذه الحقيقة بأوضح برهان , فقد انقسمت صفات الفضائل وأسمائها , وكذلك الرذائل بقسمة عادلة بين المذكر والمؤنث , واستقصاء ذلك بحاجة إلى أطروحة مستقلة , ومن الأمثلة : الأمانة مؤنث والصدق مذكر , والخيانة مؤنث والكذب مذكر , والبهجة والجمال , والبشاعة والقبح , والروعة والحسن , والفطنة والذكاء , والحماقة والغباء ..... فهذه القسمة المنصفة تدلّ على تأصّل فكرة أنّ (( المرأة شقيقة الرجل )) أي قسيمته في كلّ شيء , وتمثّل نصفه الذي لا يكتمل إلاّ بالنصف الثاني , فالعلاقة هي علاقة تكامل لا تناقض , وهذه الملاحظة التي نلاحظها في اللغة العربية تدلّ على تأصّل هذه الفكرة ,وأنّ كلّ ما خالفها هو طارئ وافد .
وإذا أدركنا هذا الجانب سهل علينا أن نفهم حضور المرأة في ذهن الرجل العربي في جميع أحواله , ووجودها الضخم في شعره , فهو يزج ذكرها في شعر المدح , والفخر , والشكوى وسائر أغراض الشعر علاوة على شعر الغزل , وكذلك يسهل علينا أن نفهم دورها في صنع الأحداث , وتحريك الرجل بأسلوب خفيّ أو مكشوف ؛ وما ذلك إلاّ أنّ مفاهيم أعماقه , أو عقله الباطن لا يرى فيها تلك الصورة البشعة التي يحاول أن يقنعه بها الآخرون .
• الدور التربوي للمرأة في صناعة الأجيال , فهذا الجيل من العمالقة الذين فجّر طاقتهم الإسلام , والذين لا يزالون مفخرة للإنسانية فيما كانوا يمثلونه من خلق وعلوّ همّة , وسعي للمعالي هم من نتاج تربية تلك المرأة التي حاول بعض الجهلة تصويرها جاهلة خاملة لا مكان لها ولا مكانة ,متجاهلين أمّا مثل هند بنت عتبة , ودورها في صناعة طموح معاوية , والتي يحدثنا التاريخ عنها في قصّة ذات دلالة عميقة حيث قال ابن كثير : ((رأى بعض متفرسى العرب معاوية وهو صبى صغير فقال إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه , فقالت هند ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه وقال الشافعى قال أبو هريرة رأيت هندا بمكة كأن وجهها فلقة قمر , ومعها صبى يلعب فمر رجل فنظر إليه فقال إني لأرى غلاما إن عاش ليسودن قومه فقالت هند إن لم يسد إلا قومه فأماته الله )) .
• دورها في ضبط المنظومة الأخلاقية التي تسود مجتمعها , وخشية الرجل من الوقوع فيا يعيب فيتعرض لانتقادها , وتهتز صورته في نفسها ؛ لذلك فإنّه يركب الأخطار , ويتعرض للمهالك في سبيل الدفاع عن الحوزة والحرم , ويضحي بالنفس والنفس والنفيس للقيام بالحقوق ( الواجبات الاجتماعية ) ......... يفعل ما يفعل وهو يشعر برقابتها , ويتوسل بذلك للفوز برضاها وقلبها , ألا ترى عبد قوم لا يتقن إلاّ الحلب والصرّ جعله الحبّ يتقن الكر والفر , إذ يحدثنا التاريخ إن شَدَّاداً العبسي قَالَ لاَبنه عنترة في يوم لقاء ورآه يتقاعَسُ عن الحرب وقد حَمِيتْ فقال : كر عَنْتَر فَقَالَ عنترة : لاَ يُحْسِنُ العبدُ الكَرَّ إلاَ الحلب والصَّرَّ ,وكانت أمه حَبَشية فكان أبوه كأنه يستخفّ به لذلك فلما قَالَ عنترة لاَ يحسن العبد الكر قَالَ له : كر وقد زوجتك عَبْلَة فكرّ وأبْلَى أحسن البلاء ..........
وهو القائل يذكر محبوبته في موقف يذهل المرؤ عن أمّه وأبيه :
وَلَقَد ذَكَرْتُكِ والرّمَاحُ نَواهِلٌ، ... مِنّي وبِيضُ الهندِ تَقْطُرُ من دَمي
فَوَدِدْتُ تَقبيلَ السّيُوفِ لأنّها ... لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ
جمهرة أشعار العرب - (ج 1 / ص 50)
وما أصدق من قال : {{ وراء كلّ عظيم امرأة }} , وما أروع ما كتبه ويل ديورانت حول تأثير المرأة السحري في صناعة شخصية الرجل وصقلها حيث يقول :
(( النساء لم يعلمن الرجال آداب السلوك والعادات فحسب، بل إنهن كذلك رفعن أو خفضن من درجاتهم في الحياة السياسية، بل حتى في الحياة العلمية....... وكان شعار "فتش عن المرأة" وسيلة النجاح، فإنك إذا عثرت على المرأة التي يحبها الرجل، كشفت عن المنفذ الذي تصل منه إلى الرجل الذي تريد )) .
قصة الحضارة - (ج 34 / ص 106)
• دورها في صناعة الأحداث وخاصّة الحروب أو الثورات , فما كانت البسوس إلاّ قائدة ثورة على ظلم واستبداد كليب , وما عفيرة بنت عباد إلاّ قائدة ثورة أنقذت قومها من ذل الدهر , ولا ننسى ما لهند بنت عتبة من دور في تأليب قريش ضد الدعوة الإسلامية , وما دورها في معركة أحد بسرّ, ودور الجمانة بنت قيس بن زهير العبسي بمنع حرب أهلية داخل قبيلتها ودور ابنة أوس بن حارثة الطائي في إنهاء حرب داحس والغبراء المهلكة .
إذن المرأة كان لها الدور الحاسم في تشكيل شخصية الرجل , وتوجيهها , ومصدر إلهامها , فكان من الأهمية بالمكان الأرفع أن نبحث عن صورة الرجل في شعر المرأة الجاهلية ؛ لنكتشف من خلاله ما كانت تسعى إليه النساء من أهداف تربوية سامية , وما كان لها من دور في هذا المجال التربوي الحيوي , وما كان لها من دور في صنع أحداث ذلك العصر ..... وهذا ما سأفصّل القول فيه في الفصول القادمة .
الفصل الثاني :
المبحث الأول صورة الرجل المحبوبة في شعر المرأة الجاهلية :
المطلب الأول : صورة زعيم القبيلة , والقائد العسكري .
الرئاسة القبلية المعبّر عنها بالعصر الحديث بالشيخة أو منصب شيخ القبيلة هي في أصلها رئاسة تتم بالرضا, والانقياد الطوعي , والقناعة بأهليّة الزعيم لهذا المنصب , وهي لا تكون إلاّ بتوفر صفات بالزعيم ليستحق الزعامة والتقديم , والطاعة والخضوع , والاحترام والتبجيل ؛ ولاكتشاف صورة الزعيم في شعر المرأة الجاهلية , والصفات التي تؤهله للرئاسة نستعرض النماذج التالية :
1. ((قالت أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب تبكي أباها :
ألا يا عين جودي واستهلي ... وبكي ذا الندى والمكرمات
ألا يا عين ويحك أسعفيني ... بدمع من دموع هاطلات
وبكّي خير من ركب المطايا ... أباك الخير تيار الفرات
طويل الباع شيبة ذا المعالي ... كريم الخيم محمود الهبات
وصولا للقرابة هبرزيا ... وغيثا في السنين الممحلات
وليثا حين تشتجر العوالي ... تروق له عيون الناظرات
عقيل بني كنانة والمرجى ... إذا ما الدهر أقبل بالهنات
ومفزعها إذا ما هاج هيج ... بداهية وخصم المعضلات
فبكيه ولا تسمي بحزن ... وبكي ما بقيت الباكيات))
ومن المعلوم أنّ عبد المطّلب كان أكبر رؤساء قريش إذ يقول ابن حبيب : ((صارت الرئاسة لعبد المطلب ,وفي كل قريش رؤساء غير أنهم كانوا يعرفون لعبد المطلب فضله وتقدمه وشرفه)) , فنجد ابنته في رثائها له تشير إلى مجموعة من الصفات : السخاء بتشبيهه بتيار الفرات الذي يمثّل الماء العذب الكثير , والماء رمز الحياة ووسيلتها , وكذلك تصفه بطول الباع كناية عن الكرم والسخاء , وهو كريم الخيم أي طبيعة النفس فيصدّر عنه ما يصدر من مكارم طبعا لا تكلّفا , وهباته كبيرة محمودة , سائغة مرئية لا يفسدها منّ ولا أذى , وإذا كان البعض يجود للغريب ويحرم القريب تجميلا للصورة الخارجية كما يفعل كثير من أهل الجود والسخاء – فإنّ هذا الممدوح وصولا للقرابة , قائما بحقوقها لا من ضعف وحاجة , فهو أسد هبرزي يحمي حماه , ويتّقى بأسه , إنّه غيث قومه في سنين الشدّة والمحل , وليثهم في المدافعة وساحات الوغى , عند اشتجار الرماح , وهو في النسب الأرفع , وإليه المفزع في الأمور العظيمة ,فهو صاحب رأيهم الذي يلجأون إليه عند مشكلات الأمور ومعضلاتها , ونلاحظ من هذه المقطوعة القصيرة سهلة الألفاظ , غزيرة المعاني أنّها جمعت الصفات المثالية للزعيم العربي والمتمثلة بالسخاء الفياض , والشجاعة الكاملة , وطيب المعدن وطهارة النفس , وجودة الرأي وكمال العقل .
2. وأمّا أميمة بنت عبد المطلب فتقول :
ألا هلك الراعي العشيرة ذو الفقد ... وساقي الحجيج والمحامي عن المجد
ومن يؤلف الضيف الغريب بيوته ... إذا ما سماء الناس تبخل بالرعد
كسبت وليدا خير ما يكسب الفتى ... فلم تنفكك تزداد يا شيبة الحمد
أبو الحارث الفياض خلا مكانه ... فلا تبعدن فكل حي إلى بعد
فإني لباك ما بقيت وموجع ... وكان له أهلا لما كان من وجدي
سقاك ولي الناس في القبر ممطرا ... فسوف أبكيه وإن كان في اللحد
فقد كان زينا للعشيرة كلها ... وكان حميدا حيث ما كان من حمد( )
فتبين أنّه راعي العشيرة الذي يرعى شؤونها , ويسقي حجيج العرب , والمحافظ على مجدها , وبيته مقصد الضيفان في سنين المحل والجفاف , وتبين أن نجابته ومظاهر سؤوده ظهرت مبكرة منذ شبابه , وكلما تقدم في السنّ ارتقى في المعالي حتى استحق أن يوصف بشيبة الحمد , وكان يلقب بشيبة الحمد , وهو الحاضر فلا يغيب عن مكرمة .
3. وقالت أروى بنت عبد المطلب تبكي أباها :
بكت عيني وحق لها البكاء ... على سمح سجيته الحياء
على سهل الخليقة أبطحي ... كريم الخيم نيته العلاء
على الفياض شيبة ذي المعالي ... أبيك الخير ليس له كفاء
طويل الباع أملس شيظمي ... أغر كأن غرته ضياء
أقب الكشح أروع ذي فضول ... له المجد المقدم والسناء
أبي الضيم أبلج هبرزي ... قديم المجد ليس له خفاء
ومعقل مالك وربيع فهر ... وفاصلها إذا التمس القضاء
وكان هو الفتى كرما وجودا ... وبأسا حين تنسكب الدماء
إذا هاب الكماة الموت حتى ... كأن قلوب أكثرهم هواء
مضى قدما بذي ربد خشيب ... عليه حين تبصره البهاء ( )
الصورة في شعر أروى قريبة من الصور النفسية السابقة إلاّ أنّها تضيف صفات جسدية فهو شيظمي أي بشوش الوجه , ضامر البطن , رائع المنظر , أمّا المؤهلات الخلقية فالجود والشجاعة والعقل المفضي لجودة الرأي .
4. دختنوس بنت لقيط بن زرارة فتقول في رثاء أبيها الذي قتل في إحدى المعارك , وكان سيد قومه ::
عثر الأغرّ بخير خن ... دف كهلها وشبابها
وأضرّها لعدوّها ... وأفكّها لرقابها
وقريعها ونجيبها ... في المطبقات ونابها
ورئيسها عند الملو ... ك وزين يوم خطابها
وأتّمها نسباً إذا ... رجعت إلى أنسابها
فرعى عموداً للعشي ... رة رافعاً لنصابها
ويعولها ويحوطها ... ويذبّ عن أحسابها
ويطا مواطن للعد ... وّ فكان لا يمشى بها
فعل المدلّ من الأسو ... د لحينها وتبابها
كالكوكب الدّرّيّ في ... سماء لا يخفى بها ( )
والصورة قريبة من الصور السابقة , فهو لسان قومه في خصومه , وخطيبهم في محفل , وممثلهم عند سلطان , وعائلهم وراعيهم الساهر على مصالحهم , والذي يفكّ أسيرهم , الضار لعدوهم , الجسور غير الهيوب , المشهور غير النكرة .
5. ((: قالت: جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان امرأة كليب بن ربيعة عندما قتله أخوها جسّاس :
أيْتَمَ المجدَ كليب وحدَه ... واستوى العالي معاً بالأسفل
من لحكْمِ الناس في حَيْرَتهم ... وَقِرى الأضياف يوم البزَّل
ولإصلاحٍ وإفسادٍ معاً ... في صدى الرمح وَرِيّ المنصل))
بقتله تساوى الناس كناية عن عدم من يستحق التقديم على الناس لفضل , وشغر منصب من يحتكم إليه في المشكلات , ويهرع إليه في المعضلات , ومقري الضيوف من سمان النوق وخيارها , المصلح ما ينبغي إصلاحه , المفسد ما يجب إفساده بسيفه وبطشه ..... ونلاحظ تكرر نفس الصفات , الرأي السديد , والسخاء , والحزم والشجاعة
6. وقالت أم قيس الضبية ترثي ابنها مبينة أنّ فصاحة اللسان , وقوة الجنان في محافل الخطب , والمنافرة والمخاصمة من الصور المحبوبة المحمودة , فمن أوتي لسانا لافظا, وجنانا ثابتا عندما ترمقه الأبصار في المحافل فإنّه يستحق التقديم والتكريم .
4 - ( مَنْ لِلْخُصومِ إذَا جَدَّ الضَّجاجُ بهِمْ ... بَعْدَ ابنِ سَعْدٍ ومَنْ لِلضُّمَّر الْقُودِ )
5 - ( وَمَشْهَدٍ قَدْ كَفَيْتَ الغَائبِينَ بِهِ ... في مَجْمَعٍ منْ نَواصِي النَّاسِ مَشْهُودِ )
6 - ( فرّجْتَهُ بِلِسانٍ غَيرِ مُلْتبسٍ ... عِندَ الْحِفَاظِ وَقلْبٍ غَيرِ مَزؤُدِ )
7. أمّا الفارعة المرية أخت مسعود بن شداد فترثيه بمرثية رائعة تجعلنا نوجه الكاميرا لالتقاط صورا رائعة ، منها :
• تنزيهه عن صورة البخيل الذي يدّخر الشحم ليستأثر بأكله لنفسه , ويجفو عياله عندما يكون الزاد شحيحا إذ لا يهمه إلا ملء بطنه , ويحلّ بعيدا عن نادي قومه لئلا يشاركهم فيما ينوب من الحقوق والتي نسميها في عصرنا بالواجبات الاجتماعية .
يا عينُ بَكي لمسعود بن شدَّادِ ... بكاءَ ذِي عَبَرات شَجْوُه بادِي
من لا يذابُ له شَحْمُ السَّديفِ ولا ... يَجْفُو العِيالَ إذا ما ضُنَّ بالزادِ
ولا يحل إذا ما حلَّ مُنتبِذاً ... يخشى الرزِيّة بين المالِ والنادِي
• ثمّ تصفه بأنّه خطيب لسن صاحب قول محكم , وداهية أريب ينقض المبرمات , ويجلو المبهمات , ويورد الأمور ويصدرها فيحبس الورد متى شاء كناية عن أن أمور قومه تصدر عن رأيه , يقتل زعيم الأعداء وطاغيتهم , وطليعة قومه وربيئتهم الذي يعلو الجبال العالية لاستطلاع تحركات الأعداء , ويمنعهم ببأسه أن يغلبوا , ويفك قيود الأسرى , ويحلّ بهم الأرض الخصيبة اللمرعة , ويفرّج الأمور العظيمة المفظعة , ويحمل الكلّ الضعيف وكنت عنه بالضالع التي أصيبت رجلها فهي لا تقوي على المشي فتحمل , ويحمل لوائهم في الحرب , ويشهد ناديهم كناية عن أنّه من أهل الحلّ والعقد , وليس من النكرات وسقط المتاع ممن إذا غاب غائبهم لا يفقد , وإذا حضر لم يعدد , إنّه السيّد الذي يصلح ما فسد , ويفرج ما انسدّ , جامع صفات الخير , يزين قرينه , وينكّل بعدوه :
قوال مُحْكَمة، نَقّاضُ مُبْرَمَةٍ ... فتّاحُ مُبْهَمَةٍ، حبَّاس أَوْرَادِ
قتَّالُ طاغية، وَثَّابُ مَرْقَبَةٍ ... مَنَّاعُ مَغْلَبَة، فكَاكُ أقيادِ
حَلالُ مُمرِعَة، فَرَّاج مُفْظِعة ... حمّالُ مُضْلِعَة ، طَلاَّعُ أنجاد
حَمَّالُ ألويةٍ، شهَّادُ أنْدية ... شدَّاد أَوهِيَة، فرَّاج أَسْدَادِ
جمَّاع كل خصال الخير قد علموا ... زَيْنُ القَرِين ونِكْل الظالمِ العادِي
( أبا زُرَارةَ لا تَبْعَدْ فكُلُّ فَتًى ... يوماً رَهينُ صَفيحاتٍ وأعوادِ
نعم الفتى، ويمينِ الله، قد علموا ... يَخْلُو به الحيُّ أو يَغْدو به الغَادِي
هو الفتى يحمدُ الجيرانُ مشهدَهُ ... عند الشتاءِ وقد هَمُّوا بإخماد
الطاعن الطعنةَ النّجلاَء يَتبَعُها ... مُثعَنْجِراً بعد ما تَغْلي بإزْبَاد
والسابئ الزُّقَّ للأضيافِ إن نزلُوا ... إلى ذَرَاهُ وغيثُ المُحْوَجِ الغَادِي)
• وهنا تبرز صورة الزعيم المقدّم صاحب البناء الرفيع , وشهاد أندية أهل الحلّ والعقد , والقائد الحربي صاحب الألويةٍ , قاتل الرؤوساء , والخطيب المصقَع صاحب القول المحكم , والداهية الأريب ناقض المبرمات , ومفرّج المبهمات , والجريء الجسور الذي يحلّ البلاد المخصبة غير خائف من الأعداء .
8. ونجد مثل هذه المعاني والصور عند الخنساء في رثائها لأخيها صخر بن الشريد ولكنّها بتفصيل أوفى اقتضانا أن نقف عند كلّ بيت للتعليق عليه باقتضاب شديد حيث تقول مبدية شديد الحسرة وعظيم اللوعة على فقده ,:
( قَذىً بعينِكَ أم بالعَين عُوَّارُ ... أم أقفرَتْ إذْ خلَتْ من أهلها الدارُ )
( تبكي لصخرٍ هي العَبْرَى وقد ثَكِلَتْ ... ودونَه من جَديد التّرْب أستارُ )
ثمّ تتعزى بالقضاء المكتوب والقدر المحتوم :
( لا بدَّ من مِيتةٍ في صَرْفها غِيَرٌ ... والدَّهرُ في صَرْفه حَوْلٌ وأطوارُ )
وتتجه إلى مخاطبة قومها مبينة أنّ صخرا كان نعم السيّد المعمم , والتعميم رديف التتويج إلاّ أن التتويج للملوك وأهل الحاضرة , فقد كان سريعا لنصرة الداعي في الفزع أو الكرب .
قَد كانَ فيكُم أَبو عَمروٍ يَسودُكُمُ نِعمَ المُعَمَّمُ لِلداعينَ نَصّارُ
وهو الجسور الجريء الذي يرد ماء في مكان خطر تحاماه الناس لشدّة خطره , ولا عار على من خاف من وصوله لأنّه مهلك , والعربي لا يأنف من الهرب عن الهلاك ولا يعدّه عارا .
( يا صخرُ وَرّادَ ماءٍ قد تناذَرَه ... أهلُ الموارد ما في وِرْده عارُ )
ثم هو المتين البنية , الجواد الوهاب , النمر الجسور :
صُلبُ النَحيزَةِ وَهّابٌ إِذا مَنَعوا وَفي الحُروبِ جَريءُ الصَدرِ مِهصارُ
( مَشْيَ السَّبَنْتَى إلى هيجاءَ مُعضِلةٍ ... له سلاحانِ أنيابٌ وأظفارُ )
وتؤكد أنّه هو الزعيم والسيّد , السخي المطعم اللحم في ليالي الشتاء حيث يعزّ الزاد , ويجف الزرع والضرع , وهو الجسور المقدام إن ركبوا لغارة , وهو مطعمهم إن جاعوا لحوم كرائم الإبل , وهو إمام يقتدى به , وعلم يسترشد به التائهون ............... إلخ :
( فإِنَّ صخراً لَوَالِينا وسيِّدُنا ... وإنّ صخراً إذا نَشتُو لنحَّار )
وَإِنَّ صَخراً لَمِقدامٌ إِذا رَكِبوا وَإِنَّ صَخراً إِذا جاعوا لَعَقّارُ
( وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهُداةُ به ... كأنّه عَلَمٌ في رأسه نارُ )
جَلدٌ جَميلُ المُحَيّا كامِلٌ وَرِعٌ وَلِلحُروبِ غَداةَ الرَوعِ مِسعارُ
حَمّالُ أَلوِيَةٍ هَبّاطُ أَودِيَةٍ شَهّادُ أَندِيَةٍ لِلجَيشِ جَرّارُ
نَحّارُ راغِيَةٍ مِلجاءُ طاغِيَةٍ فَكّاكُ عانِيَةٍ لِلعَظمِ جَبّارُ
ثمّ تصفه بالعفة فهو لا يمشي في ساحة جارته لريبه , وما تلك العفّة لهرم أو قبح صورة فهو مثل الرمح الرديني قدّا , وكأنّه أسوار من الذهب كناية عن جماله
( لم تَرْأَهُ جارةٌ يمشي بساحَتها ... لِريْبةٍ حِين يُخلِي بيتَه الجارُ )
مِثلَ الرُدَينِيِّ لَم تَنفَذ شَبيبَتُهُ كَأَنَّهُ تَحتَ طَيِّ البُردِ أُسوارُ
جَهمُ المُحَيّا تُضيءُ اللَيلَ صورَتُهُ آباؤُهُ مِن طِوالِ السَمكِ أَحرارُ
ثم هو الذي يجود بزاده , ويطع القوم مما يستجاد من الزاد , ولا يأكل مختبئا في قعر بيته :
وَمُطعِمُ القَومِ شَحماً عِندَ مَسغَبِهِم وَفي الجُدوبِ كَريمُ الجَدِّ ميسارُ
( ولا تراه وما في البيت يأكلُه ... لكنَّه بارزٌ بالصَّحن مِهمارُ )
وهو صاحب مجد تليد متوارث , من نسب رفيع , عظيم العطايا , يفعل الخير ويأمر به ,
مُوَرَّثُ المَجدِ مَيمونٌ نَقيبَتُهُ ضَخمُ الدَسيعَةِ في العَزّاءِ مِغوارُ
فَرعٌ لِفَرعٍ كَريمٍ غَيرِ مُؤتَشَبٍ جَلدُ المَريرَةِ عِندَ الجَمعِ فَخّارُ
طَلقُ اليَدَينِ لِفِعلِ الخَيرِ ذو فَجرٍ ضَخمُ الدَسيعَةِ بِالخَيراتِ أَمّارُ
وسيبكيه فقير مقتر , ورفقة في غزاة حاروا في ليلهم لا يهتدون لطريقهم , فهو أيضا دليلا في ليل الصحراء المظلم .
لَيَبكِهِ مُقتِرٌ أَفنى حَريبَتَهُ دَهرٌ وَحالَفَهُ بُؤسٌ وَإِقتارُ
وَرِفقَةٌ حارَ حاديهِم بِمُهلِكَةٍ كَأَنَّ ظُلمَتَها في الطِخيَةِ القارُ )
9. بسطام بن قيس سيد بني شيبان , قتل في إحدى المعارك فرثته أمّه بقصيدة منها
ليبك ابن ذي الجدّين بكر بن وائل ... فقد بان منها زينها وجمالها
إذا ما غدا فيهم غدوا وكأنّهم ... نجوم سماء بينهنّ هلالها
فلله عينا من رأى مثله فتىً ... إذا الخيل يوم الروع هبّ نزالها
عزيزٌ المكرّ لا يهدّ جناحه ... وليثٌ إذا الفتيان زلّت نعالها
وحمّال أثقالٍ وعائد محجر ... تحلّ إليه كلّ ذاك رحالها
سيبكيك عانٍ لم يجد من يفكّه ... ويبكيك فرسان الوغى ورجالها
وتبكيك أسرى طالما قد فككتهم ... وأرملةٌ ضاعت وضاع عيالها
مفرّج حومات الخطوب ومدرك ال ... حروب إذا صالت وعزّ صيالها
تغشى بها حيناً كذاك ففجّعت ... تميمٌ به أرماحها ونبالها
فقد ظفرت منّا تميمٌ بعثرةٍ ... وتلك لعمري عثرةٌ لا تقالها
أصيبت به شيبان والحيّ يشكر ... وطير يرى إرسالها وحبالها
نجد تشابه الصورة مع الصور السابقة فهو الحسيب النسيب , الفارس الشجاع , (وجمل المحامل ) , وفكاك الأسرى , وغيث الأرامل .
ونلاحظ تداخل صورة الزعيم السياسي مع صورة القائد العسكري , فأغلب زعماء القبائل آنذاك كانوا هم أصحاب حربهم , وقادتهم في الغزو وميادين القتال , إلاّ أن التاريخ يحدثنا بأنّ القوم كان لهم قادة حربيين غير القادة السياسيين فهذا مفروق بن عمرو سيد بني شيبان يقول لأبي بكر عندما جاءهم هو والنبي يعرضون الدعوة على القبائل : (( هذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا)) يقصد المثنى بن حارثة الشيباني , إلاّ أن بساطة حياتهم , وبعدها عن التقنين الجامد جعل هذين المنصبين متداخلين , فتداخلت صورهما في الشعر , فهذا عنترة الذي أشتهر ببطولاته القتالية يؤكد أنّه كان من أهل الحل والعقد , وأصحاب الرأي حيث قال لرجل عيّره بسواد أمه وإخوته : )) والله إن الناس ليترافدون بالطعمة ,فوالله ما حضرت مرفد الناس أنت ولا أبوك ولا جدك قط ,وإن الناس ليدعون في الفزع فما رأيتك في خيل قط , وإن اللبس يعني الاختلاط ليكون بيننا فما حضرت أنت ولا أحد من أهل بيتك لخطة فيصل قط.. وإني لأحتضر الوغى , وأوفى المغنم وأعف عن المسألة وأجود بما ملكت وأفصل الخطة الصمعاء ))
لذلك سنخصص المطلب الثاني من هذا الفصل لصورة المقاتلين , وأهل الحرب من قادة , وفرسان .
المطلب الثاني : صور أهل الحرب والمقاتلين .
عاشت قبائل العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام حالة من عدم الاستقرار لعدم وجود دولة قويّة تسيطر عليها , فكان الغزو بين القبائل من الأمور الطبيعية في ذلك العهد , وكان القتال ديدنهم ودأبهم , وحرفتهم الفضلى , يقاتلون للكسب , وللدفاع عن الأموال والحرم , والمياه والمراعي , فأمر طبيعي أن تبرز صورة المقاتل الشجاع في أشعارهم , وتكاد تطغى على سائر الصور , ويتفنن الشعراء في ذكر صفات الفرسان المحاربين , وأمراء الغزو , وغيرهم , وقد عرفت القبائل ثلاثة أصناف من أهل الحرب والقتال وهم :
1. القائد العسكري : الذي يقود القبيلة ويسمى صاحب اللواء ومن ذلك قول أبي بكر الصدّيق لبني شيبان : "فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء و منتهى الأحياء ؟" , وتسميّه القبائل العربية المتأخرة بالعقيد والاسم مشتّق من عقد اللواء , وهذا له مواصفات وصفات تؤهله لهذا الأمر .
2. الجندي: وهو الفارس المقاتل الشجاع , الماهر في فنون القتال , الذي يتّقى به إذ حمي الوطيس , وأشتدّ الوغى .
3. الصعلوك : الذي يكون غالبا من العدّائين من أمثال السليك بن سلكة , والشنفرى , وتأبط شرّا , فهذا الصنف صاحب غارات , ولكنّه يغزو في الغالب وحده وينتظر غفلة العدو فيسرق ماله من إبل وغير ذلك , ومن هذا الصنف رجال تزعموا قومهم في الغارات , أو تزعموا مجموعة من الصعاليك ومن أمثلتهم "عروة بن الورد العبسي الذي كان شاعرا من شعراء الجاهلية وفارسا من فرسانها ,وصعلوك من صعاليكها المعدودين المقدمين الأجواد وكان يلقب عروة الصعاليك لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم"
أمّا الجود والسخاء فلهما المكانة الأرفع , والموقع الأسمى في سلّم القيم العربية الجاهلية , وصورة الجواد السخي من الصور البارزة في شعرهم , ونثرهم , وفخرهم , ونظرا لحياة الجدب والفقر والجوع التي كانت تعاني منها القبائل في صحراء الجزيرة العربية , وما يحتاجه المسافرون عندما يقطعون مسافاتها الهائلة على قلة في الزاد , وعدم وجود الأسواق _ فقد كان إطعام الطعام , وقرى الضيفان من أهم الصفات المرغوبة المحبوبة في الرجل العربي .
إذن برزت في شعر المرأة الجاهلية صور أصناف المحاربين المشار إليها آنفا , وتداخلت مع صورة السخي الجواد , وكأن الشاعر العربي يقدم بدون قصد تسويغا لما كانوا عليه من غارات لسلب الأموال بأنّ ما عليهم من حقوق ( واجبات اجتماعية ) يدفعهم للغزو , والسلب والنهب , ومن ذلك قول عروة بن الورد :
" دَعِيني أُطَوِّفْ في الْبلاَدِ لَعَلَّني ... أُفِيدُ غِنًى فِيه لذِي الْحقّ مَحْمِلُ
أليْسَ عَظيماً أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ... وَليْسَ عَليْنا في الْحُقُوق مُعَوَّلُ"
ومن ذلك قول غالب عندما وفد على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعه ابنه الفرزدق فقال له : "من أنت ؟ قال غالب بن صعصعة . قال ذو الإبل الكثيرة ؟ قال نعم . قال فما فعلت بإبلك ؟ قال أذهبتها النوائب وزعزعتها الحقوق قال ذلك خير سبلها"
ولتوضيح هذه الصور نستعرض النماذج التالية :
1. قصيدة لشاعرة تدعى سلمى بنت حريث بن الحارث بن عروة النضرية ترثي أحد سادات قومها :
أصبحت نهباً لريب الدهر صابرة ... للذل أكثر تحناناً إلى زفر
إلى امرئ ماجد الآباء كان لنا ... حصناً حصيناً من اللأواء والغير
فالله أحمد إذ لاقى منيته ... أبو الهزيل كريم الخيم والخبر
كان العماد لنا في كل حادثة ... تأتي بها نائبات الدهر والقدر
وكان غيثاً لأيتام وأرملة ... وعصمة الناس في الإقتار واليسر
سمح الخلائق محمود له شيم ... يرجوا منافعها الهلاك من مضر
حمال ألوية تخشى بوادره ... يوم الهياج إذا صاروا إلى البتر
كم قد حبرت حريباً بعد عيلته ... وكم تركت حريباً طامح البصر
يمشي العرضنة مختالاً بما ملكت ... كفاه من منفس الأموال والغرر
صيرته عائلاً من بعد ثروته ... نصباً لاعدائه الباغية كالبعر
ومضلع يرهب الأبطال غرته ... كفيت فينا بلا من ولا كدر
نرى صورة سيّدا جوادا غيثا للأرامل والأيتام , وملجأ للناس في يسرهم وعسرهم , صاحب أخلاق سمحة , وطبائع محمودة في الجود والسخاء يرجو نفعها من أهلكهم الدهر من قبائل العرب المضرية , لما اعتادوه من كرمه وسخائه , ثمّ تبرز صورة القائد العسكري صاحب اللواء الذي تخشى صولته يوم القتال إذا لجأوا للسيوف الباترة , وهو صاحب غارات وغزوات ينفع بها أناس ويضر أناس , فكم من فقير معدم اغتنى من كسبه , وأصبح في بهجة وسعادة بعد عليته , وفاقته , وكم أفقرت من غني مختال بما يملك من نفائس الأموال حيث غزوته ونهبت ماله فجعلته شماتة لأعدائه .
2. تقول سُعدَى بنت الشَمَردَل الجهنية في رثاء أخيها أسعد الذي قتل في إحدى الغارات :
أمنَ الحوادِثِ والمَنونِ أروَّعُ ... وأبيتُ ليْلي كلَّهُ لا أهجَعُ
وأبيتُ مُخْليَةً أُبكّي أسعداً ... ولِمثْلِهِ تبْكي العيونُ وتهْمعُ
فلْتَبْكِ أَسْعَدَ فتْيةٌ بسَباسبٍ ... أقْوَوْا وأصبحَ زادهُمْ يتمرَّعُ
جادَ أبنُ مجْدعةَ الكميُّ بنفسِهِ ... ولقدْ يرَى أنَّ المَكَرَّ لأشْنَعُ
وَيْلُمِّهِ رجلاً يليذُ بظهرهِ ... إبلاً ونسَّألُ الفَيافي أرْوَعُ
يردُ المياهَ حضيرَةً ونفيضَةً ... ورْدَ القَطاةِ إذا أسْمَأَلَّ التُبَّعُ
وبهِ إلى أخرى الصحابِ تلفُّتٌ ... وبهِ إلى المكروبِ جرْيٌ زَعْزَعُ
ويكبِّرُ القِدْحَ العنودَ ويَعْتَلي ... بأُلَي الصحابِ إذا أصابَ الوعْوعُ
سبَّاقُ عاديَةٍ وهادي سُرْبَةٍ ... ومقاتلٌ بطلٌ ودَاعٍ مِسْقَعُ
ذهبَتْ بهِ بَهْزٌ فأصبحَ جدُّها ... يعْلو وأصْبحَ جدُّ قومِي يخْشَعُ
أجعَلْتَ أسْعَدَ للرماحِ دريَّةً ... هبِلَتْكَ أمُّكَ أيَّ جرْدٍ ترْقَعُ
يا مُطعمَ الركْبِ الجياعِ إذا همُ ... حثُّوا المطيَّ إلى العلَى وتسرَّعوا
وتجاهَدُوا سيْراً فبعْضُ مطِيِّهمْ ... حسْرى مخَلِّفةٌ وبعْضٌ ظُلَّعُ
جوّابُ أوديةٍ بغيرِ صحابةٍ ... كشَّافُ داريِّ الظلامِ مشيَّعُ
هذا على إثْرِ الَّذي هوّ قبْلهُ ... وهوَ المنايَا والسبيلُ المهْيَعُ
هذا اليقينُ فكيفَ أنسَى فقدَهُ ... إنْ رابَ دهرٌ أوْ نَبا بِيَ مضجعُ
إنْ تأتِهِ بعدَ الهُدوِّ لحاجةٍ ... تدعو يُجبْكَ لها نجيبٌ أرْوَعُ
متحلِّبُ الكفَّيْنِ أمْيثُ بارِعٌ ... أنقٌ طُوالُ الساعديْنِ سميْدَعُ
سمْحٌ إذا ما الشَوْلُ حارَدَ رسْلُها ... واسْتَرْوحَ المرَقَ النساءُ الجوَّعُ
منْ بعدَ أسعدَ إذْ فُجِعْتُ بيَوْمِهِ ... والموتُ ممَّا قد يريبُ و يفْجعُ
فوَددْتُ لوْ قُبِلَتْ بأسْعدَ فديةٌ ... ممَّا يضنُّ بهِ المُصابُ الموجَعُ
غادرتْهُ يومَ الرصافِ مجدَّلاً ... خبَرٌ لعمْرُكَ يومَ ذلكْ أشْنَعُ
وتبرز في هذه القصيدة عدّة صور :
صورة صاحب اللواء وقائد الغزاة , الذين سيفقدونه الفتيان من أصحاب الغارات الذين كان يقودهم , وهو الذي يوردهم موارد لا يدلها إلاّ القطا , وهذا كناية عن أنّه دليل ماهر في مجاهل الصحراء , وهذه مهارة لازمة للغزاة والمسافرين وإلاّ كان مصيرهم الهلاك , وهو الذي يجود لهم بزاده إن جاعوا في الغزو وكانوا في شدة عظيمة , وتكاد الشاعرة ترسم لنا صورة مشهد لا تخطئه العين في الحال التي وصلوا إليها من الجهد والتعب والجوع حيث تقول :
يا مُطعمَ الركْبِ الجياعِ إذا همُ ... حثُّوا المطيَّ إلى العلَى وتسرَّعوا
وتجاهَدُوا سيْراً فبعْضُ مطِيِّهمْ ... حسْرى مخَلِّفةٌ وبعْضٌ ظُلَّعُ
ثمّ تظهر صورة الفارس البطل , والمقاتل الشجاع الذي يحمي ساقة رفاقه عند الانسحاب ويتلفت خلفهم ليصد المهاجمين عنهم , ثمّ تظهر صورة الصعلوك المغامر الذي يجوب الأودية المخيفة في الظلام الدامس الرهيب وحده بدون صحب , وبعدها تبرز صورة الجواد الكريم الذي لا يبخل بشيء تتحلب كفّه جودا وعطاء , ويجود في ليالي الشدّة والعسر عندما تجوع النساء وتتمنى المرق قرما للحم فيطعمها لحم الجزر , وكأنّ ذلك منها بيان لفلسفة الغزو التي كانوا يمارسونها , فهم يغامرون بأرواحهم في سبيل الحصول على المال لإنفاقه في المكرمات .
3. قالت الدعجاء أخت المنتشر بن وهب الباهلي ترثيه عندما قتل في إحدى الغارات .
إن الذي جئت من تثليث تند به ... منه السماح ومنه النهي والغير
تنعى امرءاً لا تغب الحي جفنته ... إذا الكواكب أخطا نوءها المطر
وراحت الشول مغبراً مناكبها ... شعثاً تغير منها النيُّ والوبر
وألجأ الكلبَ موقوعَ الصقيع به ... وألجأ الحي من تنفاحها الحُجَر
عليه أول زاد القوم قد علموا ... ثم المطي إذا ما أرمولوا جزروا
قد تكظم البزل منه حين تبصره ... حتى تقطع في أعناقها الجرر
تصوّره سيّدا جواد , يقدم جفنته _والجفنة سفرة الطعام بلسان عصرنا _ لقومه يوميا في سنة القحط الشديد الذي تضّن فيه السماء بقطرها , تلك السنة الشديدة التي تجعل الإبل شعثا , مغبرة هزيلة , ذهب شحمها , وتساقط وبرها , وتصف شدّة ليل الشتاء البارد ذي الصقيع المهلك التي يبحث فيها الكلب عن مأوى من شدّة بردها , ويلجأ الناس لحضائر الإبل التي يعملونها من الشجر بحثا عن الدفء , ففي مثل هذه السنة الشديدة ذات الليالي الباردة فهو أول من يعمل الطعام لقومه ويطعمهم , وإذا أرملوا أي نفدت ميرتهم أو مواد التموين بلغة عصرنا واضطروا لنحر إبلهم , فإن كرائم الإبل البزل إذا شاهدته وجمت , ووقفت اجترارها , كما يقال غصّ فلان بريقه من الهول وشدّة الرعب ؛ وذلك لخوفها منه لما اعتادته منه من نحرها .
أخو رغائب يعطيها ويُسألها ... يأبى الظلام منه النوفل الزفر
لم تر أرضاً ولم تسمع بساكنها ... إلا بها من نوادي وقعه أثر
ثمّ تصفه بأنّه جواد يجود بالنفائس التي يرغب بها الناس , ويضنون بها فهو يعطيها , ولا يتحرج الناس من طلبها منه ثقة بجوده وسخائه بكل شيء , ولا يستطيع أن يظلمه أو يقهره النوفل الزفر أيّ السيّد الكثير الأنصار , وهو السباق لكلّ مكرمة فما من أرض إلا وله فيها أثر يغيظ عدوا , ويسرّ صديقا .
من ليس في خيره شر يكدره ... على الصديق ولا في صفوه كدر
أخو شروب ومكساب إذا عدموا ... وفي المخافة منه الجد والحذر
ثمّ تصفه بأنّه صاحب ندامى , وبه يأنس الصديق , ولا يجد منه صديقه ما ينفره منه , وهو صاحب شراب وطرب أي من أهل الكيف بتعبير المعاصرين , وصاحب كسب ينفق فيه على أصدقائه إذا قلّت نفقتهم , هذا دأبه في حالات الأمن أمّا عند وجود الخطر فهو الجادّ الحذر الذي لا يتمكن عدوه من غرته وغفلته .
مردي حروب ونور يستضاء به ... كما أضاء سواد الظلمة القمر
مهفهف أهضم الكشحين منخرق ... عنه القميص لسير الليل محتقر
طاوي المصير على العزاء منجرد ... بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر
ثمّ تصفه بأنّه صاحب حروب وغارات صبور على أهوالها , وقدوة لقومه يستضيوؤن برأيه وسلوكه كما يستضاء بالقمر في الظلام , وهو دقيق الخصر , " أهضم " : أي منضم الجنبين. ؛ وهذا مدح عند العرب، فإنها تمدح الهزال ,والضمر , وتذم السمن ؛ لأن السمنة تدلّ على أن صاحبها قعددة وليس صاحب غزو وأسفر , ثمّ تصف تخرق ملابسه إشارة إلى كثرة أسفاره وغاراته التي تحتاج للجلادة وتحمل الشدائد , إنّها تصوره غازيا في حال من الشدّة والجهد هزل جسمه , وتخرقت ملابسه , وهو مع هذا يحتقر سير الليل الذي يخشاه أناس ويرغب بنومه الكسالى , فهو يمضي ليله قائدا قومه , ساريا , متحملا شدّة الجوع والجهد في مفازة مهلكة لا ماء فيها ولا شجر ؛ وإنما يؤثر القادة المحترفون سير الليل فرارا من الحر , وتضليلا للعدو , والوصول للهدف صباحا , وقد قالوا في أمثالهم : عند الصباح يحمد القوم السرى .
لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه ... وكل أمر سوى الفحشاء يأتمر
لا يهتك الستر عن أنثى يطالعها ... ولا يشد إلى جاراته النظر
لا يغمز الساق من أين ولا نصب ولا يعض على شرسوفه الصفر
وهو صاحب عزم وحزم لا يواجهه أمر مستصعب إلا وقع فيه , وعاناه , وكابده ولا يتجنب إلاّ الأمور الفاحشة , ثمّ تشير إلى عفته , وصيانته لحرمة جاره , وهي صفة يتفاخر بها العرب ومن ذلك قول عنترة العبسي :
وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي جارَتي حتى يُواري جارتي مأْواها
وهو مع هذه الشدائد التي يعانيها , وهذا الجهد الذي يبذله فإنّه متفجر النشاط لا يكلّ ولا يملّ , ولا يسقط من الإعياء والتعب فيفرك ساقيه من شدّ عضلي , وما إلى ذلك , ثمّ هو صحيح الجسم لا يعاني من علة في بطنه وأحشائه تجعله دنفا سقيما .
قال المدائني وغيره لما أتى عبد الملك بن مروان على إنشاد هذه الكلمة - لا يغمز الساق - قال ما كان أحوجني إلى راع مثل هذا، وقوله لا يغمز يقول ليس به وصب فيحتاج للإعياء إن يغمزها، والإين الإعياء، والاقتفار اتباع الأثر في القفر، يقول هو دليل القوم وهاديهم.
لا يتأرى لما في القدر يرقبه ولا يزال أمام القوم يقتفر
تكفيه حزة فلذ إن ألم بها ... من الشواء ويكفي شربه الغمر
وإذا نزل صحبه الغزاة لإعداد طعامهم وهم على الحال التي وصفتها آنفا من الجوع والجهد فإنّه لا يجلس مراقبا للقدر ينتظر نضجه ليأكل , وإنما يذهب أمامهم مستكشفا , باحثا عن آثار الأعداء ؛ وذلك لأنّه ليس جشعا شرها محبا للأكل فهو تكفيه قطعة صغيرة من كبد إن نالها ويرويه الإناء الصغير .
ويروى: فلذة لحم.
لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... في كل فج وإن لم يغز ينتظر
لا تأمن البازل الكوماء عدوته ... ولا الأمون إذا ما اخروط السفر
الرجل صاحب حروب وغارات فلا يأمنه الناس على كل حال سواء كان غازياً أم لا، فإن كان غازياً يخافون أن يغير عليهم، وإن لم يكن غازياً فإنهم في قلق أيضاً، لأنهم يترقبون غزوه وينتظرونه, وكذلك لا تأمنه الإبل ؛ لأنّه اعتاد نحرها لضيفانه , ورفاقه , وإن كانت الإبل عندما تسمن تحمل سلاحها أي لا تسخو نفوس أهلها بنحرها - فإنّ إبله لا تأمن وإن كانت فاطر طويلة السنام أو فتية من النجائب التي يؤمن عثارها وضعفها , فإن طال سفر رفقته نحر لهم من الإبل من كانت بمثل تلك الصفات .
كأنه بعد صدق الناس أنفسهم ... باليأس تلمع من قدامه البشرُ
لا يعجل القوم ان تغلي مراجلهم ... ويدلج الليل حتى يفسح البصر
ثم تصفه بأنّه متفائل , خرَّاج وَلاّج، حًوَّل قُلّب، مُتصرِّفاً في أُموره فإن يأس قومه أو رفاقه وتيقنوا اليأس لمعت في رأسه الأفكار الخلاّقة التي توصلهم للهدف أو تخرجهم من المأزق , وهو مع حزمه العسكري وصرامته رفيق بقومه فلا يعجلهم عن إنضاج طعامهم إذا ما نزلوا للاستراحة والغداء , ثمّ يسري بهم ليله حتى يظهر النهار .
إنّها صورة القائد الحربي شاملة لأغلب الصفات التي تؤهله لقيادة المحاربين .
4. وهنا نجد جنوب أخت عمرو ذي الكلب تقدّم لنا صورة لأخيها بنثرها وشعرها , فقد يغزو قبيلة فهم فأصابوه نائما فقتلوه فمروا بأخته جنوب , وقالوا لها : " أنا طلبنا عمرو أخاك فقالت لئن طلبتموه لتجدنه منيعاً ولئن ضفتموه لتجدنه مريعاً , ولئن دعيتموه لتجدنه سريعاً , قالوا قد أخذناه , وقتلناه ,وهذا سلبه قالت لئن سلبتموه لا تجدون حجزته جافية , ولا ضالته كافئة , ولرب ثدى منكم قد افترشه , ونهب قد افترسه وضب قد احترشه ثم قالت:
سألتُ بعمرٍو أخي صَحْبَهُ ... فأفْظَعَنِي حين ردُّوا السؤَالا
فقالوا: أُتيحَ له نائماً ... أغرُّ السلاح عليه أجَالا
أُتيحَ له نَمِرَا أجْبُلٍ ... فنالا لعمرك عنه ونَالا
فأقسمُ يا عمرُو لو نبَّهَاكَ ... إذاً نبَّهَا منك داءً عُضَالا
إذاً نبَّها لَيْثَ عِرِّيسةٍ ... مُبيداً مُفتياً نُفُوساً ومالا
إذاً نبَّها غيرَ رِعيدةٍ ... ولا طائشاً دهشاً حين صَالا
وقد علمَتْ فَهْم عند اللقاء ... بأنهمُ لك كانوا نِفالا
كأنهمُ لم يحسّوا بهِ ... فيخلوا نساءهمْ والحِجَالا
ولم ينزلوا بمحولِ السنين ... به فيكونوا عليه عِيالا
وقد علم الضيفُ والمُرْملونَ ... إذا اغبَرَّ أُفقٌ وهبَّت شمالا
وخلَّتْ عَنَ أولادِها المرضعاتُ ... ولم تَرَ عينٌ لمزنٍ بلالا
بأنَّكَ كنتَ الربيع المغيثَ ... لمن يَعْتَفيك وكنت الثّمَالا
وخَرْقٍ تجاوزتَ مجهولَهُ ... بوَجْنَاء حَرْفٍ تشكي الكَلاَلا
فكنت النهارَ به شمسَه ... وكنتَ دجَى الليل فيه هلالا
وحيّ صبحت وحيّ أبحْتَ ... غداة اللقاء منايا عِجالا
وكم من قبيل وإن لم تكن ... أرَدْتَهُمُ منك باتوا وجالا
وأقسم يا عمرو لو نبها ... ك إذا نبها منك أمراً عضالا
وهي هنا ترسم لنا صورة مختلفة فالقتيل صعلوك صاحب غارات على القبائل , وأمّا القبيلة التي قتلته فعلاقته معها غريبة , فهو يغير عليها , ويسلب مالها , وعلى علاقة بنسائها , ثمّ هم يقصدونه في سنين الشدّة والقحط فيكونون عيالا عليه , يطعمهم وينفق عليهم , وهو الجواد السخي ويعلم الضيوف , وأهل حيّه من الفقراء المرملين أنّه في سنين المحل هو غيثهم كناية عن إطعامهم , ثم تبين شدته وقوة بأسه وأنّه لو لم يكن نائما لما استطاعوا قتله .
5. أمّا ريطة بنت عاصية فهي تقدّم لنا صورة الغازي الذي يركب الأهوال , ولا يمنعه البرد الشديد عن عزمه :
إن ابن عاصية البهزي مصرعه خلى عليك فجاجاً كان يحميها
المانع الأرض ذات العرض خشيته حتى تمنع من مرعى مجانيها
وليلة يصطلي بالفرث جازره حيرى جمادية قد بت تسريها
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة من القريس ولا تسري أفاعيها
كانت هذيل تمنى قتله سلماً فقد أجيبت فلا تعجب أمانيها
حلو ومر جميع الأمر مجتمع مأوى أرامل لم تتعص عفاريها
6. أمّا مَيَّةَ بِنتِ ضِرارٍ الضَّبِّيّةِ في رثاها لأخيها فإنّها ترسم لنا صورة عميد العشيرة وفارسها البطل الذي كان مقداما على الخيل في يوم معركة تجلل فيه أكفال الخيل الدماء , وأصبحت كالصيد النافر من هول القتال , وتخرج العواتق المخدرة كاشفة عن سيقانها .
لِتَجْرِ الحَوادِثُ بعدَ امْرئٍ بِوادي أَشائِين أَذْلالَها
كَريمٍ ثَناه وآلاؤه وكافي العَشيرةِ ما غالَها
تَراه على الخَيْلِ ذا قُدْمَةٍ إذا سَرْبَلَ الدَّمُ أَكْفالَها
وخِلْتَ وُعُولاً أَشارى بها وقد أَزْهَفَ الطَّعْنُ أَبْطالَها
ولم يَمْنَعِ الحَيُّ رَثَّ القُوى ولم تُخْفِ حَسْناء خَلْخالَها
.................
7. ليلى الأخيلية شاعرة مخضرمة إلاّ أنّها تمثّل العقلية الجاهلية أدق تمثيل , وما كانت حياة قومها إلاّ كما كانت أيام الجاهلية , وبقيت القيم هي القيم , فقد كان عشيقها توبة بن الحمير العقيلي , صاحب غارات كصخر بن الشريد أخي الخنساء , قال أبو الفرج الأصفهاني : "كانت ليلى تهوى توبة بن الحمير العقيلي أحد بني خفاجة ويهواها ,وكان صاحب غارات يتناول بها بني الحارث بن كعب وهمدان ومهرة فغزاهم مرة فأخفق فمر بجيران لبني عوف بن عقيل خثعم ومعه أخوه بن عبد الله وابن عم لديه يدعى قابضاً فأغار عليهم و أطرد إبلا وقتل رجلاً من بني عوف يدعى ثور بن سمعان فطلبته بنو عوف سراعاً وأدركوه وقد سقط بلاد قومه بني خفاجة فأمن في نفسه ونزل عن فرسه ونام فطلع رجل من بني عوف فرآه قابض فأيقظ توبة فلم يحفل بذاك وعاد لنومه حتى غشيه القوم وأحال قابض على فرسه فهرب وقاتل عبيد الله فضربه رجل على رجله فعرج وصاح توبة بفرسه الحفصاء فأقبلت إليه فأراد ركوبها فامتنعت فألجمها فولت ولحقه يزيد بن روبية بن سالم بن كعب بن عوف فعانقه وقال اقتلونا معاً فطعنه عبد الله بن روبية فاتقاه بجيده فقتله وأجلا القوم عنه قتيلاً وعن أخيه جريحاً " سقت هذا النصّ بطوله لأثبت أنّ القوم كانوا على ما هم عليه في جاهليتهم على الرغم من أنّ ذلك في صدر الإسلام , وهذا يدلّ على أنّ بعض القبائل التي لم تشغل بالفتح بقيت على ما هي عليه في جاهليتها , ومهما يكن من أمر فقد رثته ليلى الأخيلية بكثير من الشعر , وعددت مناقبه , وصفاته , ومن ذلك قولها عندما سألها عنه معاوية بن أبي سفيان فقالت :
"ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان , حديد اللسان ,شجا للأقران , كريم المخبر عفيف المئزر, جميل المنظر ,وهو يا أمير المؤمنين كما قلت له" : وتذكر قصيدة رائعة نحاول أن نستخلص منها صورة هذا الرجل
( بَعيدُ الثَّرَى لا يبلُغ القومُ قَعْرَه ... أَلَدُّ مُلِدٌّ يَغْلِبُ الحقَّ بَاطِلُه )
شخصية عميقة غير سطحية , لا يستطيع القوم أن يسبرو غوره , ويعرفوا نهايته , , ويغلب أهل الحق وإن كان على الباطل, كناية عن أنّه صاحب لسان بليغ , وحجج مفحمه.
( إذا حلّ رَكْبٌ في ذَرَاه وظِلّهِ ... لِيَمْنَعَهم مما تُخافُ نَوازِلُهْ )
( حماهم بنَصْلٍ السَّيْف من كلِّ فادحٍ ... يخافونه حتى تموتَ خَصَائلُه )
ويحمي من استجار به , ولاذ بذراه , واستظل بظلّه , والذرى والظلّ في لسان العرب كناية عن الحماية , وحصول الأمن , وهو يحمي المستجير بنصل سيفه من كلّ أمر فادح فظيع .
( مَعَاذَ إلهِي كان واللهِ سَيِّداً ... جَوَاداً على العِلاَّتِ جَمَّاً نَوَافِلُه )
( أغَرَّ خَفَاجِيّا يرى البُخْلَ سُبّةً ... تَحَلَّبُ كَفَّاهُ النَّدَى وأنَامِلُه )
( عفيفاً بعيدَ الهَمِّ صُلْباً قناتُه ... جميلاً مُحَيَّاهُ قليلاُ غوائلُه )
وكان سيدا جوادا لا تمنعه ظروفه من كثرة العطاء , صبيح الوجه , ذا نسب رفيع , يرى البخل عارا وعيبا , وتفيض كفاه وأنامله سخاء .
وكانَ إذا ما الضَّيْفُ أرْغى بَعِيرَهُ لَدَيْهِ أَتاهُ نَيْلُهُ وفَواضِلُهْ
( وقد علِم الجوعُ الذي بات سارياً ... على الضَّيْف والجيرانِ أنّك قاتلُه )
( وأنك رَحْبُ الباع يا تَوْبُ بالقِرَى ... إذا مالئيمُ القومِ ضاقت مَنَازِلُه )
( يَبِيتُ قريرَ العينِ مَنْ بات جارَه ... ويُضْحِي بخيرٍ ضيفُه ومُنَازِلُه )
وكان من أمره أنّه إذا أناخ الضيف بساحته جاءه بالقرى والعطية , ثمّ تعرض الجوع بصورة الوحش الكاسر الذي يسري ليلا لينهش ضيفه وجيرانه , وتجعل هذا الوحش يعلم بأنّ مصيره القتل ؛ لأنّ ضيف توبة وجيرانه شباع من جفانه المترعة , فجاره ينام آمنا قرير عين , وضيفه يضحي بخير , والتعبير بالإضحاء كناية عن أن الضيف وجد الخصب وإلاّ لبكّر في خروجه من بيته غلسا .
( أتتْه المَنَايَا حين تَمّ تَمَامُه ... وأقصر عنه كلُّ قِرْنٍ يُطَاوِلُهْ )
( وكان كليث الغابِ يحمِي عَرِينَه ... وترضَى به أشبالُه وحلائلُه )
( غَضُوبٌ حليمٌ حين يُطْلَبُ حِلْمُه ... وسُمُّ زُعافٌ لا تُصَابُ مَقَاتِلُه )
أدركته المنية وهو بكمال النضج , بعد أن أستوى عوده , وعجز أترابه وأقرانه عن مطاولته في المعالي , وكان كالأسد شجاعة , وهو سمح الخلائق مع الأهل , وغضوب إذا وجب الغضب , حليم حيث يلزم الحلم , وداء مهلك لمن نواه بشرّ , حذر لا تصاب مقاتله ولا تكشف نقاط ضعفه .
وتصفه في رائعة أخرى مليئة بالصور المحبوبة فتقول :
( كأنّ فَتَى الفِتْيانِ توبةَ لم يَسِرْ ... بنَجْدٍ ولم يَطْلُعْ مع المُتَغوِّرِ )
( ولم يَرِدِ الماء السَّدامَ إذا بَدَا ... سَنَا الصُّبْحِ في بادي الحواشِي مُنَوِّر )
صورة الغازي المغامر الذي يتهم في غاراته وينجد , الذي يرد المياه الآجنة قبيل الصبح
( ولم يَغْلِبِ الخَصْمَ الضِّجاجَ ويَمْلأ الجِفانَ ... سَدِيفاً يوم نَكْباء صَرْصَر )
صورة المجادل البليغ الذي يغلب الخصوم بحججه وبلاغته , والجواد الذي يطعم الجياع في ليل الشتاء القارس بجفان مترعة بشحم السنام .
( ولم يَعْلُ بالجُرْدِ الجيادِ يَقُودُها ... بسُرّةَ بين الأشْمَساتِ فَايْصُرِ )
( وصحراءَ مَوْماةٍ يَحارُ بها القَطَا ... قَطَعْتَ على هَوْلِ الجَنَان بمِنْسَرِ )
( يقودون قُبًّا كالسَّراحينِ لاَحَها ... سُرَاهُمْ وسَيْرُ الراكبِ المُتَهَجِّرِ )
صورة قائد الغزاة , ومقدم الفرسان , فهو يقود الجياد بين أشمسات وأبصر ( أسماء جبال في نجد ) , ويقطع صحراء ملساء مخيفة بقطعة من الجيش يقودون خيلا ضامرة كأنّها الذئاب.
8. عمْرَةُ الْخَثْعَمِيَّةُ ترثي ابنيها قائلة :
4 - ( لَقَدْ زَعمُوا أنَّى جَزِعْتُ عَلَيْهِما ... وهَلْ جَزَعٌ أنْ قُلتُ وَابِأَباهُما )
5 - ( هُمَا أخْوَا في الْحَرْبِ مَنْ لاَ أخَالَهُ ... إذَا خافَ يَوْماً نَبْوَةً فَدَعاهُمَا )
1 - ( هُمَا يَلْبَسَانِ الْمَجْدَ أحْسَنَ لِبْسَةٍ ... شَحيحَانِ مَا اسطاعَا عَليْهِ كِلاَهُمَا )
2 - ( شِهَابَانِ مِنَّا أُوقِدَا ثُمَّ أُخْمِدَا ... وكَانَ سَنىً لِلْمُدْلِجِينَ سَناهُمَا )
3 - ( إذَا نزَلَ الأرْضَ الْمَخُوفَ بهَا الرَّدَى ... يُخَفِّضُ مِنْ جَأْشَيْهِما مُنْصُلاَهُما )
4 - ( إذا أُسْتَغْنَيا حُبَّ الْجَمِيعُ إلَيْهِما ... ولَمْ يَنْأَ مِنْ نَفْعِ الصَّديقِ غناهُمَا )
5 - ( إذَا افْتَقَرَ ألَمْ يجْثِما خَشْيةَ الرَّدَى ... ولَمْ يَخْشَ رُزأ مِنْهُما مَوْلَياهُما )
تتفجع عليهما , وتفديهما بأبيها , وتبين مسوّغ هذا التفجع , والجزع ,فهما مقاتلان من أهل الحرب , سريعان لنصرة الداعي , حريصان على المجد ومعالي الأمور , مغامران يقطعان المفازات المرعبة , والبلاد المخوفة , إذا أيسرا , وملكا مالا اقتربا من قومهما , ونفعوهما , وكان صديقهما شريكا في غناهما , وإن افتقرا لم ييأسا , ويظلا أحلاس بيتيهما خوفا من الهلاك الذي تسببه الغارات والغزو الذي به يحصل الغنى واليسار , ولم يكونا عالة على الأقارب والموالي .
المطلب الثالث صورة الزوج .
صورة الزوج في شعر المرأة الجاهلية لا تختلف عن صورة أيّ رجل آخر ترتبط به المرأة بعلاقة حميدة كالأب والأخ والابن والقريب وسيّد القبيلة , وتتجلى هذه الصورة في شعر الرثاء غالبا , وهي صورة معنوية تركّز على الصفات الخلقية التي تؤهل صاحبها لأنّ يكون معدودا في أوساط قومه أو عضوا فاعلا في مجتمعه في تعبير المعاصرين , وإذا كان الرجل قد صوّر المرأة في شعره تصويرا حسيّا , وركّز على صورتها الجسدية , وجسدها في شعره كأننا ننظر إليها _ فإننا لا نجد ذلك في شعر المرأة إلاّ نادرا إذا استثنينا عمرة بنت الحمارس ذات الشعر الماجن المجسد , وفي إشارات سريعة لا تظهر صورة جسدية محددة المعالم , وغزلها على ندرته غزل وجداني يصف المشاعر , ولا يصف المحبوب .
وقبل البدء باستعراض بعض النماذج لصورة الزوج في شعر المرأة الجاهلية نودّ أن نستعرض بعض صور الزوج في نثرها ؛ لعلنا نظفر بصورة واضحة المعالم للزوج المحبوب , من خلالها حديثها عن الصورة المحبوبة والمرفوضة للزوج , وإليكم النماذج التالية :
• " تزوج رجل امرأة فولدت له بنين ثم تباغضا فسألته الطلاق فقال لا حتى تثني علي فقالت لا أثني عليك فانه خير لك فأبى فقالت فهو غدك إذا اجتمع القوم فلما اجتمعوا قالت أعلمك إذا أكلت احتففت , وإذا شربت اشتففت , وإذا اشتملت التففت , وأعلمك تشبع ليلة تضاف ,وتنام ليلة تخاف ,واعلم عينك نؤمة, وعصاك خشبة , ومشيك لبجه. " فهو شره , أناني , لا يهتم بأمر أضيافه , وليس بالحازم الحذر , وسلاحه يدلّ على ضعفه , ومما لا شكّ فيه أنّها صورة للجانب الخلقي , ويقابل هذه الصورة صورة تحبّها المرأة في الرجل إذ قالت امرأة عروة بن الورد العبسي بعد أن طلقها في النادي أما أنك والله الضحوك مقبلاً ,السكوت مدبراً , خفيف على ظهر الفرس , ثقيل على متن العدو , رفيع العماد كثير الرماد , ترضى الأهل والأجانب ". صورة رائعة يدخل بيته ضاحكا مستبشرا , ويغادره صامتا كناية عن أنّه ليس لحوحا كثير المطالب من صنف إذا أراد مغادرة البيت بدأ بإصدار تعليماته وأوامره وتوصياته ثم هو خفيف الجسم قليل اللحم , وهي صفة محمودة في الرجل , ولها دلالتها فقد قالت امرأة لأمريء القيس عندما سألها لما تكرهه النساء , فقالت : إنك ثقيل الصدر , وفيه الصفات المرغوبة اجتماعيا من نكاية بعدوّه , وارتفاع البيت كناية عن الشرف والسؤود , وكثرة الرماد كناية عن السخاء وإطعام الطعام .
• ونسوق نموذجا آخر من كلام امرأتين كانتا من آيات ذلك العصر رأيا , وفصاحة وبلاغة , وهما هند وجمعة بنتا الخسّ بن حابس بن قُريط الإيادي , وهند هي التي وصفها الجاحظ بقوله : "من أهل الدهاء والنكراء، واللَّسن واللقن، والجواب العجيب، والكلام الصحيح، والأمثال السائرة، والمخارج العجيبة".
فقد قيل لجمعة "أي الرجال أحب إليك يا جمعة ؟ قالت أحب الحر النجيب , السهل القريب السمح الحسيب, الفطن الأريب , المصقع الخطيب , الشجاع المهيب " أمّا هند فقالت :" أحب الرحب الذراع ,الطويل الباع ,السخي النفاع , المنيع الدفاع , والدهمثي المطاع , البطل الشجاع الذي يحل باليفاع ,ويهين في الحمد المتاع " , فنلمح في هذا النصّ الصفات النفسية الخلقية من فصاحة لسان , وقوّة جنان , وأخلاق عالية , ونستنتج الصورة الجسدية منها فالبطولة غالبا ما تحتاج إلى كمال الجسم فغالبا ما يوصف البطل الشجاع بأنّه طويل النجاد كناية عن طوله , وأنّه أعطي بسطة في الجسم , ولعلّ الصورة الجسدية تتضح من صفة الرجل غير المرغوب حيث قالت :جمعة : "أبغض السآلة اللئيم , البغيض الزنيم ,الأشوه الدميم ,الظاهر العصوم ,الضعيف الحيزوم .... فقالت هند :أبغض الضعيف النخاع ,القصير الباع, الأحمق المضياع ,الذي لا يكرم ولا يطاع " , فنلاحظ صورة القصير القبيح المنظر , الضعيف الجسم علاوة على صفاته الخلقية المشينة .
• ذو الإصبع العدواني من حكماء العرب وحكامها الذين يحتكمون إليهم , ولبناته قصّة في هذا الشأن نقلتها لنا المصادر التاريخية ,تلقي الضوء على هذا الجانب فهي من أكثر الأخبار صراحة في هذا المجال "فقد خَلَوْنَ يتحدثْنَ فقالت : قائلة منهن : لِتَقُلْ كلُّ واحدةٍ منا ما في نفسها ولنصدق جميعا فقالت كُبْرَاهُن :
ألا لَيْتَ زوجي من أناسٍ ذَوِي غِنىً ... حديثُ شبابٍ طَيِّبُ النَّشْرِ والذِّكْرِ
لَصُوق بأكْبَادِ النساء كأنه ... خَليِفَةُ جان لا يقيم على هَجْرِ
وقالت الثانية :
ألا ليته يُعْطى الجمال بَديهَةً ... له جَفْنة تَشْقَي بها النِّيبُ وَاُلجزْرُ
له حكمات الدهر من غير كبْرَةٍ ... تَشِينُ فلا وَانٍ ولا ضَرِعٌ غَمْرُ
فقلن لها : أنت تريدين سيدا وقالت الثالثة :
ألا هَلْ تراها مَرّةً وحليلُهاَ ... أشَمّ كنصْلِ السيفِ عَيْنِ الُمهَّند
عليمٌ بأدْوَاءِ النِّساء ورَهْطُهُ ... إذا ما انتْمَىَ مِنْ أهْل بيتي ومَحْتِدِى "
فالأولى تفضله شابا طيب رائحة الجسد , وطيب الذكر بين الناس , صاحب لهو وطرب , لا يهجر فراش زوجته , أمّا الثانية فتريده جميلا , كريما , حكيما , كهلا بعيدا عن ضعف الشيوخ , وطيش الشباب , الثالثة تتمنى ابن عمّ لها , جميلا , يرضي المرأة لعلمه بحاجاتها الأنثوية .
• ولدينا هذه المقطوعة التي نسبها صاحب الأغاني لابنة الخسّ في رجل عشقته, ونسبها القرشي في حماسته لامرأة من بني سعد بن بكر:
أشم كغصن البان جعد مرجل ... شغفت به لو كان شيئاً مدانيا
ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه ... سلافاً ولا عذباً من الماء صافيا
وأقسم لو خيرت بين فراقه ... وبين أبي لاخترت أن لا أبا ليا
فإن لم أوسد ساعدي بعد هجعة ... غلاماً هلالياً فشلت بنانيا
فهي تصفه بجمال القد , وجمال الشعر , وطيب النكهة , وعذوبة الرضاب .
• ونجد مقطوعة أخرى تحمل بعض الصفات الحسية ( الجسدية ) المرغوبة في الرجل فقد " مرت أعرابية بنادي قومٍ من بني عامر وفيهم غلام حديث السن ظريف فنكس القوم رؤوسهم ,وجعل الغلام يرمقها فدنت منهم فمازحتهم وأقبلت على الغلام فقالت:
شهدت وبيت الله أنك طيب الثنايا ... وأن الخصر منك لطيف
وأنك مشبوح الذراعين خلجم ... وإنك إذا تخلو بهن عنيف
وإنك نعم الكمع في كل حالة ... وانك في رمق النساء عفيف
نمتك إلى العليا عرانين عامر ... وأعمامك الغر الكرام ثقيف
أناسٌ إذا ما الكلب أنكر أهله ... فعندهم حصنٌ أشم منيف
لمن جاءهم يخشى الزمان وريبه ... رحيق وزاد لا يصان وريف
فبيت بني غيلان في رأس يافع ... وبيت ثقيف فوق ذاك منيف "
فهي تصف طيب مبسمه وأسنانه , وأنّه لطيف الخصر , بعيد ما بين المنكبين , طويل جسيم ,مكتمل الرجولة , ظاهر الفحولة , ونعم الضجيع , ثمّ تعرج على صفاته الخلقية فهو ذو حسب ونسب , ومن قوم كرام ذوي يسار وسخاء ومنعة وطيبة نفوس .
وما سقنا هنا من مقطوعات هو الذي يحمل أصرح الصور أمّا سائر النماذج فهي صور لا تختلف عن صورة الأب أو الأخ فتعدد المناقب الأخلاقية للممدوح أو المرثي , واخترنا منها النماذج التالية :
• ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة الخير بن القشير ترثي زوجها هشام بن المغيرة فتقول :
إنك لو وألت إلى هشام ... أمنت وكنت في حرم مقيم
كريم الخيم خفاف حشاه ... ثمال لليتيمة واليتيم
ربيع الناس أروع هبرزي ... أبي الضيم ليس بذي وصوم
أصيل الرأي ليس بحيدري ... ولا نكد العطاء ولا ذميم
ولا خذالة إن كان كون ... دميم في الأمور ولا مليم
ولا متنزع بالسوء فيهم ... ولا قذع المقال ولا غشوم
فأصبح ثاوياً بقرار رمس ... كذاك الدهر يفجع بالكريم
فهي تقدم صورة لا تختلف عن الصورة المرغوبة في الأب والأخ إلى غير ذلك , فتتحدث عن مناقبه الأخلاقية ,ولا تشير للصورة الجسدية إلاّ بلمحة خاطفة حيث تصفه بخفّة الحشا , وتشبيهه بالدينار الفارسي المسمى بالهبرزي كناية عن جماله ووسامته , وهي صفة لا تختص بالزوج فقد رأينا هذه الصفة في شعر أم حكيم البيضاء في رثاء والدها , أمّا الصورة الخلقية التي نجدها في هذه الأبيات فنجد أنّه يحمي من استجار به , والمستجير به كالعائذ بالحرم مبالغة في أمنه , وهو طيب المعدن , كريم الشيم , وثمالا للأرملة واليتيم كناية عن الإطعام , وتشبهه بالربيع كناية عن نفعه للناس , وهو صاحب رأي صائب , وعطاؤه مرئيا لا يفسده عبوس أو قلّة أو منّة , ولا يخذل داعيه إن ألم خطب , وليس ممن اعتاد المشامتة والملاومة عندما تقع المصائب , وليس بصاحب لسان بذيء , ولا ظالم غشوم .
• الخنساء في رثاء زوجها مرداس :
لقد خار مرداسا على الناس قاتله ولو عادته كناته وحلائله
وقلن ألا هل من شفاء يناله وقد منع الشفاء من هو نائله
وفضل مرداساً على الناس حلمه ... وان كل هم همه فهو فاعله
وواد مخوف يكره الناس هبطه ... هبطت وماء منهل انك ناهله
وسبي كأمثال الظباء تركته ... خلال البيوت مستكيناً عواطله
فعدت عليهم بعد بؤسى بأنعم ... فكلهم تعنى به وتواصله
متى ما يوازي ما جداً يعتدل به ... كما عدل الميزان بالكف حامله
تصوّره محبوبا عند نسائه , حليما , حازما , ذا عزم , وجرأة , غزّاء , راعيا لشؤون قومه , ماجدا يرجح بالكرام عند الموازنة .
• قالت فاطمة بنت الأحْجم الخُزاعيّة ترثي زوجها
6 - ( يا عَينِ بَكِّي عِنْدَ كلّ صَباحِ ... جودِى بأرْبَعةٍ عَلى الجَرَّاحِ )
1 - ( قدْ كُنتَ لِي جَبَلاً ألُوذُ بِظلِّهِ ... فَتَركْتَني أضْحَى بِأجْرَدَ ضاحِ )
2 - ( قدْ كُنتُ ذَاتَ حَمِيةٍ ما عِشْتَ لِي ... أمْشي الْبَرازَ وكُنْتَ أنتَ جَناحِي )
3 - ( فالْيَوْمَ أخْضَعُ لِلذَّلِيلَ وَأتَّقي ... مِنهُ وأدْفَعُ ظالِمي بِالرَّاحِ )
4 - ( وأغُضُّ مِنْ بَصَري وَأعْلَمُ أنَّه ... قد بانَ حَدُّ فَوارِسِي وَرِماحِي )
5 - ( وَإذا دَعَتْ قُمْريَّةٌ شَجَناً لَهَا ... يوْماً عَلى فَنَنِ دَعَوْتُ صَباحِي )
والجميل في هذه الصورة _إن صح أنّها في رثاء زوج _ أنّها تضفي على الزوج صورة الأب الذي تعيش عزيزة في كنفه , وفقده جعلها مستسلمة ذليلة , ولا غرابة في ذلك فقد "تذاكر نسوة الأزواج , فقالت إحداهن الزوج عزٌ في الشدائد , وفي الرخاء مساعد , إن رضيت عطف , وإن سخطت تعطف".
وقالت زَهْراء الكِلابِيَّة ترثي زوجها راسمة صورة كسابقتها :
تَأَوَّهْتُ مِن ذِكْرَى ابْنِ عَمِّي، ودُونَه ... نقاً هائِلٌ جَعْدُ الثَّرَى وصَفِيحُ
وكنتُ أنامُ اللَّيلَ مِن ثِقَتِي بهِ ... وأَعْلَمُ أَنْ لا ضَيْمَ وهُوَ صَحِيحُ
فأَصْبَحْتُ سالَمْتُ العَدُوَّ ولَمْ أجِدْ ... مِن السِّلْمِ بُدّاً والفُؤادُ جَرِيحُ
وأود أن أختم هذا المطلب بصورة الأسرة المثالية السعيدة كما وردت في قصة أم زرع التي نقلتها لنا كتب الحديث النبوي , حيث تقول أمّ زرع واصفة زوجها وأسرتها : " أبو زرع فما أبو زرع أناس من حلي أذني , وملأ من شحم عضدي , وبجحني فبجحت إلي نفسي , وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق , فعنده أقول فلا أقبح , وأرقد فأتصبح وأشرب فأتقنح . أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح وبيتها فساح . ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع مضجعه كمسل شطبة , ويشبعه ذراع الجفرة . بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ جارتها . جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثها تبثيثا ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا"
تصف زوجها بأنّه أثقل أذنيها بالحلي , وغذاها غذاء أسمنها , وسرّها وعظّمها , فاستعادت ثقتها في نفسها , وأصبحت معتزة بشخصيتها , وتبين أنّها كانت من أسرة فقيرة متواضعة يعتاشون من قطيع صغير من الغنم , ويعانون من الفقر والمشقّة , ويعيشون بشقّ من الأرض أي طرف خفي كناية عن أنّ أهلها ليسوا من سراة الناس وساداتهم , فنقلها لحياة ارستقراطية جديدة , فهو سيد غني يملك الإبل , والخيل , والبقر , والزرع , وأصبحت عنده عزيزة كريمة يسمع لقولي , وعندي من الخدم ما يكفيني مؤنة الاستيقاظ المبكّر , وليس لدي ما ينغص عليّ صبوحي من الشراب فأشربه على مهل حتى أرتوي , ثمّ تصف أمّ زوجها فهي سيدة جليلة ذات بيت واسع , وخزائن كبيرة مليئة بالأمتعة والنفائس , أمّا ابن زوجها فهو الشاب الظريف النشيط , وأمّا ابنته فهي مهذبة مطيعة جميلة , وجاريتهم التي تخدمهم فهي مدبرة منزل محترفة , حافظة لأسرارهم .
.../...
http://hadarat.ahram.org.eg/GetImag...hoto_b9ee44c3-9d59-453d-b6aa-02a0cee55f9c.jpg
.