كريم مرزة الأسدي - عروة بن أذينة.. " إنَّ التي زعمتْ فؤادَكَ ملّها الحلقة الأولى "

فقيه المدينة عروة بن أذينه شيخ الإمام مالك بن أنس: غزله،عصره، حياته، شعره
مجنون ليلى وعمر بن أبي ربيعة استطراداً

1 - غزل... ولا أرق وأبدع وأجمل لفقيه المدينة عروة بن اذينة (ت 130 هـ / 748م)،...!!
يا عصرنا كيف عاشوا عصرهم ؟؟!!، لو تجرأ شاعر في أيامنا هذه وقالها بالرغم من عفّة فائلها، لحكم عليه بالزنا رجماً، بحجّة أنّه اعتراف ضمني و إقرار على النفس علني...!! إليك قصيدته الغزلية بادئاً، تمتع بها، والله كريم...!!

1 - إن التي زعمت فؤادك ملـّـها = خُلقت هواك كما خُلقت هوى لها
2 - فبك الذي زعمتْ بها وكلاكما = أبدى لصاحبه الصبابة كلّـها
3 - ويبيتُ بين جوانحي حبٌ لهـا = لو كان تحتُ فراشها لاقلـّـها
4 - ولعمرها لو كان حبّــك فوقها = يومـــاً وقد ضحيت إذاً لأظلّهـا
5 - وإِذا وَجَدْتَ لها وَساوِسَ سَلْوَة ٍ = شَفَعَ الضميرُ إلى الفؤادِ فَسَلَّها
6 - بَيْضاءُ باكَرها النعيـمُ فَصاغَها = بلباقَــــــة ٍ فأَدَقَّــــها وأَجَلَّها
7 - لمّـا عرضتُ -مسلماً- لي حاجةٌ ٌ = اخشى صعوبتها.. وارجو ذُلـّها
8 - منعت تحيتها فقلت لصـاحبي: = ماكان اكثرها لنا... وأقلّـها
9 - فدنا، وقال: لعـلها معذورةٌ = فـي بعض رقبتها... فقلت: لعلّـها

لا أريد جرجرة، ولا أصعد عرعرة، ببساطة القول، ولا قيل و لا قال، أحيلك بادئاً إلى الحصري القيرواني، و (زهر آدابه وثمر ألبابه):

وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟. فقال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.

وروى مصعب بن عبد الله الزبيري عن عروة بن عبيد الله بن عروة الزبيري قال: كان عروة بن أذينة نازلا في دار أبي بالعقيق، فسمعته ينشد لنفسه: الكامل:

إن التي زعمت فؤادك ملها = خلقت هواك كما خلقت هوى لها
الأبيات..........

قال: فأتاني أبو السائب المخزومي فقلت له بعد الترحيب به: ألك حاجة؟ فقال: نعم، أبيات لعروة بلغني أنك سمعته ينشدها، فأنشدته الأبيات، فلما بلغت قوله:

فدنا وقال لعلها معذورة.. البيت

طرب، وقال: هذا والله الدائم الصبابة، الصادق العهد، لا الذي يقول: الكامل:

إن كان أهلك يمنعونك رغبة = عني فأهلي بي أضن وأرغبُ

لقد عدا هذا الأعرابي طوره، وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحب هذه الأبيات لحسن الظن بها، وطلب العذر لها، قال: فعرضت عليه الطعام فقال: لا والله ما كنت لأخلط بهذه الأبيات طعاماً حتى الليل، وانصرف.

وكان أبو السائب غزير الأدب، كثير الطرب، وله فكاهات مذكورة، وأخبار مشهورة، وكان جده يكنى أبا السائب أيضاً، وكان خليطا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا ذكره قال: نعم الخليط! كان أبو السائب لا يشاري ولا يماري.

واسم أبي السائب عبد الله، وكان أشراف أهل المدينة يستظرفونه ويقدمونه لشرف منصبه، وحلاوة ظرفه.

وكان عروة بن أذينة - على زهده، وورعه، وكثرة علمه وفهمه - رقيق الغزل كثيره، وهو القائل: البسيط:

إذا وجدت أوار الحب في كبدي = أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره = فمن لنار على الأحشاء تتقد؟
وقد روي هذان البيتان لغيره.(1)

2 - عصر عروة بن أذينة عصر الغزل العربي بنوعيه العذري والإباحي:
كان عصره عصر الغزل العربي الخالد بنوعيه العذري والإباحي،وتكلمنا بشكل موسع في حلقات عديدة في السابق عن الغزل والتشبيب والنسيب، وعرّفناها وفرّقنا بينها ومثّلنا لها، والآن نتكلم عن عصر (عروتنا) وشعرائه الغزليين إيجازاً لنفقه كيف آتى هذا الزاهد الفقيه العابد بهذا...!!

فمَنْ عاصرهم من العذريين، ومعظمهم من البادية ونجدها، مجنون ليلى، جميل بثينة، كثير عزة، عروة بن حزام، قيس بن ذريح، ليلى الأخيلية، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة.وعبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي.

ومن الشعراء الإباحيين الحسيين الحضريين بحجازهم، عمر بن أبي ربيعة، وهو شاعر مكة، والأحوص عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم الأنصاري، شاعر المدينة، والعرجي عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي القرشي، أبو عمر، من مكة، وكان يسكن قرية العرج قرب الطائف

أ - الغزل العفيف (العذري )

الغزل العذري يُنسب إلى قوم بني عُذرة الذين سكنوا وادي القرى في شمال المدينة المنورة من العصر الجاهلي، وحددت ملامحه كغرض مستقل في بدايات العصر الأموي، وبهذا الغزل المباح..يقتصر الشاعر بشعره على محبوبته لا غير، قيس لليلاه، جميل لبثينته، كثير لعزّته، يتناولها من مطلع القصيدة حتى ختامها كوحدة موضوعية لغرض واحد يبث ُّ فيها خلجاته، وآلامه ولوعاته وأشواقه وصبره، صادقاً في عواطفه، عفيفاً في مشاعره، واضحاً في أفكاره، مبتعداً عن الوصف الحسي، وتقسيمات الجمال الأنثوي، ومع ذلك غالباً ما ينتكس الشاعر العذري، وتنتهي تجربته بالخيبة، فلا زواج، ولا هم يفرحون...! فالعادات والتقاليد البدوية تحرم هذه العلاقات، وتعتبرها مسّاً بشرف القبيلة وهيبتها!

• فهذا قيس بن الملوح أكثر العذريين شهرةً في تاريخنا الأدبي، والمشهور بمجنون ليلى (24 - 68 هـ / 645 - 688 م )، يذكر البغدادي في (خزانة أدبه )، روي أنه كان إذا اشتد شوقه إلى ليلى يمر على آثار المنازل التي كانت تسكنها فتارة يقبلها وتارة يبكي وينشد هذين البيتين

أمر على الديار، ديار ليلى = اقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي = ولكن حب من سكن الديارا

وهما بيتان من الوافر لا ثالث لهما، روي أنه كان إذا اشتد شوقه إلى ليلى يمر على آثار المنازل التي كانت تسكنها، فتارة يقبلها، وتارة يلصق بطنه بكثبان الرمل ويتقلب في حافاتها، وتارة يبكي وينشدهما.

و (المجنون): اسمه قيس بن معاذ، ويقال قيس بن الملوح، أحد بني جعدة ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وهو من أشعر الناس، على أنهم قد نسبوا إليه شعرا كثيرا رقيقا.

وقال الجاحظ: ما ترك الناس شعرا مجهولا لقائل فيه ذكر ليلى إلا نسبوه إلى المجنون، ولا فيه لبنى إلا نسبوه لقيس بن ذريح.

وفي الأغاني: اختلف في وجوده: فذهب قوم إلى أنه مستعار لا حقيقة له، وليس له في بني عامر أصل ولا نسب.

قال ابن قتيبة: وكان المجنون وليلى "صاحبته" يرعيان البهم وهما صبيان، فعلقها علاقة الصبي وقال: ( الطويل):

تعلقت ليلى وهي غر صغيـــرة = ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا = صغيران لم نكبر ولم تكبر البهم

ثم نشأ وكان يجلس معها، ويتحدث في ناس من قومه، وكان ظريفا جميلا رواية للشعر حلو الحديث، فكانت تعرض عنه وتقبل بالحديث على غيره، حتى شق ذلك عليه وعرفته فقالت: ( الوافر):

كلانا مظهر للناس بغضـا = وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون بما رأينا = وفي القلبين ثم هوى دفين (2)

ويروى أن والد قيس بعد أن قضى نسكه جمع أعمامه وأخواله فلاموه وقالوا: لا خير لك في ليلى ولا لها فيك، فأنشا يقول:

وقد لامني في حب ليلى اقارب = أبي وابن عمي وابن خالي وخاليا
أرى أهل ليلى لا يريدون بيعهــــا = بشي‏ء ولا أهلـي يريدونها ليا
ألا يا حمامات العراق أعننـــــي = على شجني وابكين مثل بكـــائيا
يقولون ليلى بالعراق مريضــــــة = فيا ليتنـي كنـــت الطبيب المداويا
فيا عجبا ممن يلوم علــى الهوى = تى دنفا أمسى من الصبر عاريا
فان تمنعوا ليلى وتحموا بلادهــــا = عليَّ فلن تحــــموا على القوافيا(3)

وقال ايضا:

ألا قاتل الله الهوى ما أشــــــدّه = وأسرعه للمرء وهو جليد
دعاني الهوى من نحوها فاجبته = فأصبح بي يستن حيث‏ يريد

هذا هو الغزل العذري العفيف، الذي يقتصر على حب مرأة واحدة، لا يفحش بوصف مفاتنها وأعضائها، ويتحسس لنيل الملذات الغريزية الأنانية منها، ويتركها ليذهب لغيرها، لا أطيل وأدخل معك إلى عالم الشعر الإباحي الماجن وبطله عمر بن أبي ربيعة...!!


ب - إباحية غزل عمر بن أبي ربيعة :

لعلك قرأت وتأملت وتفتحت...!! وهذا شعر عفيف عذري، فما بالك بالشعر الماجن الحضري الإباحي من عصر الأسلاف عصر صدر الإسلام والصحابة والتابعين الكرام، فهذا عمر بن أبي ربيعة ( 23 - 93 هـ / 644 - 711 م)، يلحُّ ويلح، وهند تمانع وتمانع...!!:
كلّما قلت متى ميعادنا***ضحكت هندٌ وقالت ‏بعد غدْ

قبل أن أواصل معك الحديث، لي عارض خفيف، إن كنت من قرّائي الحصيف، أنت تعرفني من كتاباتي، وأحياناً في شعري، مؤمناً بنظرية التأثر والتأثير الحديثة في النقد الأدبي، فتراني كثير التضمينات، والتناص، والاستشهاد، والاستطراد، ومشاركة الآخرين محللاً مركباً مذكراً...
مهما يكن من أمر، لي أمر، ولك أمر...!! سأنتقل بك إلى محطة جديدة من الأدب الرفيع حيث ابن حجة الحموي،و (خزانة أدبه وغاية أربه)، وبالتحديد لذكر ( المراجعة)، والاستشهاد بأبيات ابن أبي ربيعة الإباحية الخليعة، إذ يقول:

" المراجعة ليس نحتها كبير أمر ولو فوض إلي حكم في البديع ما نظمتها في أسلاك أنواعه وذكر ابن أبي الأصبع إنها من اختراعاته وعجبت من مثله كيف قربها إلى الذي استنبطه من الأنواع البديعة الغريبة كالتهكم والافتنان والتدبيج والهجاء في معرض المدح والاشتراك والألغاز والنزاهة ومنهم من سمى هذا النوع أعني المراجعة السؤال والجواب وهو أن يحكي المتكلم مراجعة في القول ومحاورة في الحديث بينه وبين غيره بأوجز عبارة وأرشق سبك وألطف معنى وأسهل لفظ إما في بيت واحد أو في أبيات كقول عمر بن أبي ربيعة:

بينما ينعتنني أبصرنني = مثل قيد الرمح يعدو بي الأغــرْ
قالت الكبرى ترى من ذا الفتى = قالت الوسطى لها هذا عمرْ
قالت الصغرى وقد تيمتها = قــــد عرفناه وهل يخفى القمر

قال ابن أبي الأصبع لما أورد هذه الأبيات واستشهد بها على هذا النوع في كتابه المسمى بتحرير التحبير إن هذا الشاعر عالم بمعرفة وضع الكلام في مواضعه وما ذاك إلا أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت مرفوعة وأما بلاغته في الأبيات فإنه جعل التي عرفته وعرفت به وشبهته تشبيها يدل على شغفها به هي الصغرى ليظهر بدليل الالتزام أنه فتي السن إذ الفتية من النساء لا تميل إلى الا الفتى من الرجال غالبا وختم قوله بما أخرجه مخرج المثل السائر موزونا ولا يقال إنما مالت الصغرى إليه دون أختيها لضعف عقلها وقلة تجريبها فإني أقول إنه تخلص من هذا المدخل بكونه أخبر أن الكبرى التي هي أعقلهن ما كانت رأته قبل ذلك وإنما كانت تهواه على السماع فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف لها أظهرت من وجدها به على مقدار عقلها ما أظهرت من سؤالها عنه ولم تتجاوز ذلك وقنعت بالسؤال عنه وقد علمته بلذة السؤال وبسماع اسمه وأظهرت تجاهل العارف الذي موجبه شدة الوله والعقل يمنعها من التصريح وأما الوسطى فسارعت إلى تعريفه باسمه العلم فكانت دون الكبرى في الثبات وأما الصغرى فمنزلتها في الثبات دون الأختين لأنها أظهرت في معرفة وصفه ما دل على شدة شغفها به فكل ذلك وإن لم يكن كذلك فألفاظ الشاعر تدل عليه. " (4)

عمر شاعر إباحي حسي ماجن، ما كان يعشق امرأة بعينها، بل كل النساء، بمعنى آخر المرأة كنوع، جسدها، مفاتنها، سحرها، جمالها، وقد ذكر أكثر من أربعين امرأة بشعره، الله يعلم بسرّه، وخفايا حياته، رحمه الله، وإن قال:

إني امرؤ مولعٌ بالحسنِ أتبعه = لا حظّ لي فيه إلا لذة ُ النظرِ

الرجل إباحي، ووصفه (عمري)، رهيب في إجادته لوصف جسد المرأة وأعضائها قامتها، وبشرة جسمها، وكيفية مشيتها، ويبرز ذاته بأنانية مفرطة، كأنه هو المعشوق الفتان، لا العاشق الولهان، ويحاور عشيقاته بأسلوب لا حياء فيه، ولا حشمة، وقصائده الغزلية لها غرض موضوعي واحد، هو الغزل الفاحش لا غير...!! تعجبني هذه القصيدة، إليك إياها:

قف بالطواف ترى الغزال المحرما = حـج الحجيـج فعـاد يقصـد زمزمـا
عـنـد الـطـواف رأيـتـهـا متلـثـمـا = للـركـن والحـجـر المعـظـم يلـثـمـا
أقسمـت بالبيـت العتيـق لتخـبـري = ماالأسـم قالـت مــن سـلالـة آدمــا
الاســم سـلـمـى والـمـنـازل مـكــة = والـدار مـا بيـن الحجـول وغيلمـا
قلـت عدينـي مـوعـداً أحـظـى بــه = أقضي بــه ما قـد قضـاه المحرمـا
فتبسمـت خجـلاً و قالـت يــا فـتـى = أفســدت حجـك يـا مُحـل المُحـرمّـا
فتـحـرك الـركـن اليمـانـي خشـيـةً = وبكـا الحطـيـم وجاوبـتـه زمــزمـا
لـــو أن بـيــت الله كـلّــم عـاشـقــاً = مــن قـبـل هــذا كـــاد أن يتكـلـمـا

والحق شاعرنا الفقيه العابد عروة بن أذينة (توفي 130 هـ)، عاصر هذا العمر بن أبي ربيعة (توفي 93 هـ )، وتأثر بكل شعراء عصره من العذريين والإباحيين، لاجرم أن تأتي أبيات غزله بهذه الرّقّة والعذوبة والجمال، ولله في عصوره شؤون، وعصركم وما تكابدون، لعلكم تتذكرون، ونكتفي بهذا يا هذا - وأعني نفسي - لقد دخل الصباح، فأتوقف عن الكلام المباح، ونتكلم عن حياته وشعره في فرصةٍ تتاح...!!!

(1) زهر الآداب وثمر الألباب: الحصري القيرواني - 1 / 66 - 67 - الوراق - الموسوعة الشاملة.

(2) خزانة الأدب: عبد القادر البغدادي - 2 / 33 - 34 - الوراق - الموسوعة الشاملة.
وراجع أيضاً الأبيات: زهر الأكم في الأمثال و الحكم: الحسن اليوسي - 1 - 295 - الوراق - الموسوعة الشاملة.

(3) الأغاني: أبو فرج الأصفهاني - تحقيق سمير جابر - ج 2 ص 6....، ط 2 - دار الفكر - بيروت.

( 4 ) خزانة الأدب وغاية الأرب: تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري -ج 1 ض 218 - 219 - تحقيق عصام شعيتو - دار ومكتبة الهلال - 1987م - بيروت.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...