نقوس المهدي
كاتب
القسم الأول
هو أدنى من أن يكون أمراً كونياً.. كما أنّه ليس جواباً لكل معضلات الحياة.. ولكنه قد يكون أحياناً أمراً مفجعاً وكارثيّاً
في خضم عالم تسوده ثقافة الكراهية والعنف والموت ، ارتأيت أن أتناول بالترجمة موضوعة الحب التي تتشابك مع حيوات البشر في كل الأزمنة والجغرافيات، ويمكن لها وحدها – ربما - أن تكون ترياقا للقلوب المكلومة والموجوعة وما أكثرها في عالمنا البائس . سأقدم في هذه الحلقة والحلقات القادمة ترجمة للفصل الأول من كتاب ( الحبّ : مقدّمة قصيرة جداً :
(Love: A Very Short Introduction)
لمؤلّفه البروفسور ( رونالد دي سوسا Ronald de Sousa) ، والصادر عن جامعة أكسفورد عام 2015 ضمن سلسلة المقدّمات القصيرة جداً في شتى الموضوعات التي دأبت الجامعة على نشرها منذ عام 1995 .
تعريف بمؤلف الكتاب
رونالد دي سوسا Ronald de Sousa : ولِد في سويسرا عام 1940 ، ويعمل أستاذاً متميّزاً Emeritus في قسم الفلسفة بجامعة تورونتو الكندية التي انضمّ إلى هيئتها التدريسية منذ عام 1966 . تعرفُ عن البروفسور دي سوسا أعماله الذائعة الصيت في ميدان فلسفة العواطف الإنسانية إلى جانب فلسفة العقل والفلسفة البيولوجية بعامّة ، وقد انتُخِب زميلاً في الجمعية الملكية الكندية عام 2005 .
نال البروفسور دي سوسا تعليمه في كلّ من سويسرا و بريطانيا - إذ انه يحمل الجنسيّتيْن السويسريّة والبريطانية معاً - ، وكان حصل على شهادة البكالوريوس في الآداب من جامعة أكسفورد البريطانية عام 1962 ثم أعقبها بشهادة الدكتوراه من جامعة برينستون الأمريكية عام 1966 . يعدُّ البروفسور دي سوسا من المساهمين النشطاء في موسوعة ستانفورد الفلسفية Stanford Encyclopaedia of Philosophy وغالباً مايظهر اسمه فيها .
أدناه أهمّ الكتب التي ألّفها البروفسور دي سوسا :
* عقلانيّة العاطفة ، 1987 .
The Rationality of Emotion (1987)
* لماذا نفكّر ؟ التطوّر والذهن العقلانيّ ، 2007 .
Why think? Evolution and the Rational Mind (2007)
* الحقيقة العاطفية ، 2011 .
Emotional Truth (2011)
لطفية الدليمي
الحبّ هو الإدراك الحادّ لاستحالة التملّك.
أرنولد بيرنيس
الحبّ في حقيقة الأمر موضوعٌ عادي للغاية ، وهو أدنى من أن يكون أمراً كونياً ، كما أنّه ليس جواباً لكل معضلات الحياة ، ولكنه قد يكون أحياناً أمراً مفجعاً وكارثيّاً .
روبرت سي. سولومون
دُفِع بعض الناس دفعاً إلى الجنون بسبب الحب ، ومات البعض الآخر منهم في سبيله ، في حين تسبّب الحب في دفع آخرين إلى ارتكاب جريمة القتل ، ومن المؤكّد أن هذا لايحصل غالباً في الحياة اليومية الواقعية إذا ما أردنا النطق بالحقيقة الخالصة السائدة ولكنّه يحصل على الدوام مع الشخصيات التي نشهدُها في الأوبرات والمسرحيات ، وفي العادة فإن كلاً منّا يتوقع هذا الأمر عندما يشاهد أو يسمع شيئاً يختص بموضوعة الحبّ التي تبدو دوماً كمأساة طاغية ونبدو معها نحن وكأننا قد فهمناها على هذا النحو ، ويبدو من قبيل الأمور المؤكّدة أن شيئاً من هذا قد حصل لكلّ منّا : أنت نفسك ، عزيزي القارئ ، ربّما تكون قد دُفِعتَ لحافة الجنون يوماً مرّة أو مرّتين وشعرتَ حينها بطغيان الانفعال المصاحب لتجربة التشارك في الحب أو ربّما تكون شعرتَ بالكرب المرير المقترن بالإحساس الباطني غير المعلن للحب غير المتبادل ( أي الحب من طرف واحد كما يقال في السائد من كلامنا المتداول ، المترجمة ) . لطالما استمدّ الشعراء والموسيقيون والفنانون والفلاسفة إلهامهم من ذلك الشعور المنعش بالحب ولطالما حفّزهم ذلك الشعور عميقاً في إخراج أفضل مالديهم إلى العلن ( وربّما الأسوأ أحياناً ! ) ، وقد تنافس هؤلاء كثيراً في الإعلان عن كثافة الشعور بالحياة والتي يؤججها الحب ، ولكن على الرغم من كل هذا فإن أغلبنا عندما يحاول وصف الحب أو الحديث عنه فإنّه ( أي الحب ) سرعان ماينزلق في تفاهة تخلو من أية سمة من سمات الحياة المنعشة المفترضة .
مع أن تقلبات الحبّ وتلوّناته تبدو عصية على الإدراك فإنّ حشوداً من الشعراء والروائيين والفلاسفة وكتاب الأغنيات أشبعونا ثرثرة عن الحب ، وقد انضمّ إليهم في الآونة الأخيرة البيولوجيون ( علماء الأحياء ) وعلماء الدماغ الذين قطعوا على أنفسهم وعداً بجلاء كلّ خفايا الحب وطلاسمه . هل سينجح هؤلاء في إزاحة القناع عن أحجية الحب حقاً ؟ ربما سيتمكّن هؤلاء آخر الأمر من بلوغ المسعى الذي طال سعيُنا إليه في الحصول على حبة أو جرعة دواء يمكن لها تمتين رابطة الحب أو تحريرنا من ربقة سحره الطغياني ، ولكن على العموم فإنّ كون هذا الأمر ممكناً أو مرغوباً فيه هو من بين الأسئلة المثارة في ثنايا هذا الكتاب .
قلما انتهت حكايات الحب نهايات سعيدة ، بل أن الأعظم من بين تلك الحكايات غالباً ما انتهت بالموت في حين أن الحكايات الأكثر خفّة والتي تدعى الكوميديات ( الملاهي ) الرومانسية تنتهي في العادة بالزواج ، ولكن القناعة السائدة بشأن كون الزواج نهاية سعيدة تحمل هي في ذاتها وبين ثناياها تلميحاً إلى أنّ الزواج هو في خاتمة المطاف " نهايةٌ " بشكلٍ ما ، وأن كل نهايةٍ هي شكل من أشكال الموت - ولانعني بهذا موت المُحبّين أو حتى موت حبّهم بل موت حكاية الحب ذاتها ، ومن هنا غدت أغلب حكايات الحب باعثة على الحزن ، لذا غالباً مانتساءل : أيّ نفعٍ يرتجى من وراء كل هذا العناء ؟ . إن الحلاوة المُرّة المقترنة بالحب الذابل يبدو أنها هي ماتبعث على أعظم أشكال المتعة عمقاً ، ويمكن قول الأمر ذاته بكلمات الشاعر أندرو مارفل Andrew Marvell " إذا لم يكن في مقدورنا جعل الشمس ساكنة ، فلايزال في مقدورنا جعلها تمضي في فلكها !! " .
لكن ماهو هذا الشيء الذي يدعى " الحبّ " كما تقول كلمات الأغنية الشهيرة ؟ لن أنغمس في هذا الموضع بفرز قائمة لكل المرادفات الممكنة لمفردة " الحب " ، وبوسع أي قاموس للمفردات أن يفرد على الفور مايقارب أربع دزيناتٍ من المفردات المرادفة لكلمة الحب وسيكون بين بعض تلك المفردات فارق بسيط لايكاد يلاحظ في حين ستكون لبعض تلك المفردات معانٍ متباعدة عن بعضها الآخر : الولَع Fondness مثلاً هو غير الحب الأعمى Idolatry ، و الميْلُ نحو شيء ما Liking هو غير الشهوة Lust ، والتحيز والمحاباة قد تنتج - أو قد لاتنتج - عن الشغف والتعلق المفرط ، والجذل المقترن بحالة الحب يكون في العادة أكبر بكثير من محض موضع رخو باعث على النشوة في حياة المرء . تُستخدَمُ مفردات إغريقية أشدّ غموضاً في التفريق بين الأنواع المختلفة من الحب ، وثمة ثلاثٌ من بين تلك المفردات لاتنطوي على أية رغبة جنسية ( أو نزوع شهواني ) : فيليا Philia التي تحرّض على الصداقة الوثقى ، (ستورغ Storge تلفظُ ستورغاي ) التي تشير إلى الاهتمام المفرط بكل شؤون المحبوب تماماً مثل ذلك النوع من الشعور الذي نختزنه تجاه أصدقائنا المقرّبين أو أفراد عائلتنا ، ولكن ستورغاي ليست خلوة بالكامل من أي ميل جنسيّ على العكس من مفردة أغابي Agape التي تُختزلُ أحياناً إلى مفردة البرّ والإحسان Charity التي يمكن اعتبارها نوعاً من ستورغاي كونية شاملة غير مميّزة بين الأفراد وخالية من أية نوازع جنسية ( غالباً ماتشير مفردة أغابي Agape في السياقات العامة إلى الحبّ المسيحي وبخاصة في المواضع التي يكون مطلوباً فيها التمييز بين الحب العاطفي الإيروتيكي والحب الإنسانيّ الشامل المجرّد من أية نوازع جنسية ، وفي الغالب تستخدَم هنا مفردة " المحبة " بدلاً من " الحبّ " ، المترجمة )
إن الفضائل التي تحوزها أغابي موصوفة في واحدة من رسائل بولس الرسول إلى الكورنثيين ( هُمْ أهل مدينة كورنثوس التي تقع وسط جنوب اليونان ، المترجمة ) والتي نقرأ فيها العبارات التالية : " المحبة تتأنى ، المحبة تترفّق ، المحبة لاتحسد ، ولاتتباهى . هي لاتتفاخر ولاتسيء لكرامات الآخرين ، وهي لاتطلب شيئاً لنفسها ولاتحتفظ بسجلً لأخطاء الآخرين ،،،،،، هي دوماً تحمي الآخرين وتثق فيهم ، وتأمل بالأفضل وتحفظ العهود ...................... " - هذه بالضبط هي الصفات التي يأمل أيٌّ منا في أن تسود أية علاقة إنسانية مرغوبة ، ولكن في الوقت ذاته فإن هذه المواصفات هي التي تجعل الحب الذي على طراز أغابي مفتقداً لسمتيْن اثنتيْن من السمات التي ينبغي أن يحوزها الحبّ كما هو شائع في المفاهيم العامة :
أولاً ، إن الحب يقوم على أساس عزل شخص واحد والاستفراد به ( أو بضعة شخوص على أكثر تقدير ) واعتبار ذلك الشخص ( أو تلك المجموعة ) مميزين وذوي حظوة لايمكن معها إحلال بدائل لهم ، ونعرف جميعاً أن هؤلاء الذين نحبّهم يلعبون في حياتنا دوراً لايمكن للإنسانية جمعاء الإيفاء به أو النهوض بأعبائه ، ومع هذا فإنّ الحب من طراز أغابي يطلب إلينا أن نحبّ الجميع من غير أية استثناءات محدّدة لأي أحد !! .
ثانياً ، إن توجيهنا بأن نحبّ الجميع واحداً بعد الآخر يتضمّن التلميح إلى قدرة المرء على أن يحبّ بمحض إرادته ومتى أراد ذلك ، في حين أنّ الحب ( أو الانزلاق في الحب ) لايبدو أمراً نفعله بمحض إرادتنا وأنّى شئنا .
ثمة مفردة إغريقية رابعة تصف بدقة موضوعة هذا الكتاب - تلك هي إيروس Eros . تتناغم مفردة إيروس بصورة مثالية مع حالة الانجذاب الجنسي العارم ، ومن المؤكّد أن إيروس ( وليس أغابي أو ستورغاي أو حتى فيليا ) هو من ألهم تلك الأعمال العظيمة في الشعر والموسيقى وأعمال الفن - وحتى الجريمة - وعلى نحوٍ لم تفعله أية سمة إنسانية أخرى ، وسأستعير مصطلح ( الهيام أو فرط العشق limerence ) الذي صاغته عالمة النفس الأمريكية دوروثي تينوف Dorothy Tennov للتعبير عن إيروس في أكثر أشكاله تطرفاً وسطوة ، وبعثاً للقلق ، وتخليقاً للرومانسية الشغوفة ، وعلى الرغم من أنّ ذلك المصطلح يبدو غير متداولٍ إلى حد بعيد في اللغة اليومية العادية فإن ثمة العديد من الأسباب المعقولة التي تدعو لخلع صفة خاصة مميزة وغير متداولة على تلك العاطفة ( أي الحبّ ) التي وصفها برناردشو بأنها " العاطفة الأشدّ عنفاً ، والأكثر جنوناً ، والأعظم مخاتلة ، والأكثر إيغالاً في الوقتية والزوال بين كل العواطف الأخرى " ، وبعيداً عن كون مفردة الهيام أو فرط العشق والهوى أبعد ماتكون عن تمثّل الحب الإيروتيكي بكامل تجلياته لكنها في أقلّ التقديرات تعبّر عن معظم مايمثّله ذلك الحب.
هو أدنى من أن يكون أمراً كونياً.. كما أنّه ليس جواباً لكل معضلات الحياة.. ولكنه قد يكون أحياناً أمراً مفجعاً وكارثيّاً
في خضم عالم تسوده ثقافة الكراهية والعنف والموت ، ارتأيت أن أتناول بالترجمة موضوعة الحب التي تتشابك مع حيوات البشر في كل الأزمنة والجغرافيات، ويمكن لها وحدها – ربما - أن تكون ترياقا للقلوب المكلومة والموجوعة وما أكثرها في عالمنا البائس . سأقدم في هذه الحلقة والحلقات القادمة ترجمة للفصل الأول من كتاب ( الحبّ : مقدّمة قصيرة جداً :
(Love: A Very Short Introduction)
لمؤلّفه البروفسور ( رونالد دي سوسا Ronald de Sousa) ، والصادر عن جامعة أكسفورد عام 2015 ضمن سلسلة المقدّمات القصيرة جداً في شتى الموضوعات التي دأبت الجامعة على نشرها منذ عام 1995 .
تعريف بمؤلف الكتاب
رونالد دي سوسا Ronald de Sousa : ولِد في سويسرا عام 1940 ، ويعمل أستاذاً متميّزاً Emeritus في قسم الفلسفة بجامعة تورونتو الكندية التي انضمّ إلى هيئتها التدريسية منذ عام 1966 . تعرفُ عن البروفسور دي سوسا أعماله الذائعة الصيت في ميدان فلسفة العواطف الإنسانية إلى جانب فلسفة العقل والفلسفة البيولوجية بعامّة ، وقد انتُخِب زميلاً في الجمعية الملكية الكندية عام 2005 .
نال البروفسور دي سوسا تعليمه في كلّ من سويسرا و بريطانيا - إذ انه يحمل الجنسيّتيْن السويسريّة والبريطانية معاً - ، وكان حصل على شهادة البكالوريوس في الآداب من جامعة أكسفورد البريطانية عام 1962 ثم أعقبها بشهادة الدكتوراه من جامعة برينستون الأمريكية عام 1966 . يعدُّ البروفسور دي سوسا من المساهمين النشطاء في موسوعة ستانفورد الفلسفية Stanford Encyclopaedia of Philosophy وغالباً مايظهر اسمه فيها .
أدناه أهمّ الكتب التي ألّفها البروفسور دي سوسا :
* عقلانيّة العاطفة ، 1987 .
The Rationality of Emotion (1987)
* لماذا نفكّر ؟ التطوّر والذهن العقلانيّ ، 2007 .
Why think? Evolution and the Rational Mind (2007)
* الحقيقة العاطفية ، 2011 .
Emotional Truth (2011)
لطفية الدليمي
الحبّ هو الإدراك الحادّ لاستحالة التملّك.
أرنولد بيرنيس
الحبّ في حقيقة الأمر موضوعٌ عادي للغاية ، وهو أدنى من أن يكون أمراً كونياً ، كما أنّه ليس جواباً لكل معضلات الحياة ، ولكنه قد يكون أحياناً أمراً مفجعاً وكارثيّاً .
روبرت سي. سولومون
دُفِع بعض الناس دفعاً إلى الجنون بسبب الحب ، ومات البعض الآخر منهم في سبيله ، في حين تسبّب الحب في دفع آخرين إلى ارتكاب جريمة القتل ، ومن المؤكّد أن هذا لايحصل غالباً في الحياة اليومية الواقعية إذا ما أردنا النطق بالحقيقة الخالصة السائدة ولكنّه يحصل على الدوام مع الشخصيات التي نشهدُها في الأوبرات والمسرحيات ، وفي العادة فإن كلاً منّا يتوقع هذا الأمر عندما يشاهد أو يسمع شيئاً يختص بموضوعة الحبّ التي تبدو دوماً كمأساة طاغية ونبدو معها نحن وكأننا قد فهمناها على هذا النحو ، ويبدو من قبيل الأمور المؤكّدة أن شيئاً من هذا قد حصل لكلّ منّا : أنت نفسك ، عزيزي القارئ ، ربّما تكون قد دُفِعتَ لحافة الجنون يوماً مرّة أو مرّتين وشعرتَ حينها بطغيان الانفعال المصاحب لتجربة التشارك في الحب أو ربّما تكون شعرتَ بالكرب المرير المقترن بالإحساس الباطني غير المعلن للحب غير المتبادل ( أي الحب من طرف واحد كما يقال في السائد من كلامنا المتداول ، المترجمة ) . لطالما استمدّ الشعراء والموسيقيون والفنانون والفلاسفة إلهامهم من ذلك الشعور المنعش بالحب ولطالما حفّزهم ذلك الشعور عميقاً في إخراج أفضل مالديهم إلى العلن ( وربّما الأسوأ أحياناً ! ) ، وقد تنافس هؤلاء كثيراً في الإعلان عن كثافة الشعور بالحياة والتي يؤججها الحب ، ولكن على الرغم من كل هذا فإن أغلبنا عندما يحاول وصف الحب أو الحديث عنه فإنّه ( أي الحب ) سرعان ماينزلق في تفاهة تخلو من أية سمة من سمات الحياة المنعشة المفترضة .
مع أن تقلبات الحبّ وتلوّناته تبدو عصية على الإدراك فإنّ حشوداً من الشعراء والروائيين والفلاسفة وكتاب الأغنيات أشبعونا ثرثرة عن الحب ، وقد انضمّ إليهم في الآونة الأخيرة البيولوجيون ( علماء الأحياء ) وعلماء الدماغ الذين قطعوا على أنفسهم وعداً بجلاء كلّ خفايا الحب وطلاسمه . هل سينجح هؤلاء في إزاحة القناع عن أحجية الحب حقاً ؟ ربما سيتمكّن هؤلاء آخر الأمر من بلوغ المسعى الذي طال سعيُنا إليه في الحصول على حبة أو جرعة دواء يمكن لها تمتين رابطة الحب أو تحريرنا من ربقة سحره الطغياني ، ولكن على العموم فإنّ كون هذا الأمر ممكناً أو مرغوباً فيه هو من بين الأسئلة المثارة في ثنايا هذا الكتاب .
قلما انتهت حكايات الحب نهايات سعيدة ، بل أن الأعظم من بين تلك الحكايات غالباً ما انتهت بالموت في حين أن الحكايات الأكثر خفّة والتي تدعى الكوميديات ( الملاهي ) الرومانسية تنتهي في العادة بالزواج ، ولكن القناعة السائدة بشأن كون الزواج نهاية سعيدة تحمل هي في ذاتها وبين ثناياها تلميحاً إلى أنّ الزواج هو في خاتمة المطاف " نهايةٌ " بشكلٍ ما ، وأن كل نهايةٍ هي شكل من أشكال الموت - ولانعني بهذا موت المُحبّين أو حتى موت حبّهم بل موت حكاية الحب ذاتها ، ومن هنا غدت أغلب حكايات الحب باعثة على الحزن ، لذا غالباً مانتساءل : أيّ نفعٍ يرتجى من وراء كل هذا العناء ؟ . إن الحلاوة المُرّة المقترنة بالحب الذابل يبدو أنها هي ماتبعث على أعظم أشكال المتعة عمقاً ، ويمكن قول الأمر ذاته بكلمات الشاعر أندرو مارفل Andrew Marvell " إذا لم يكن في مقدورنا جعل الشمس ساكنة ، فلايزال في مقدورنا جعلها تمضي في فلكها !! " .
لكن ماهو هذا الشيء الذي يدعى " الحبّ " كما تقول كلمات الأغنية الشهيرة ؟ لن أنغمس في هذا الموضع بفرز قائمة لكل المرادفات الممكنة لمفردة " الحب " ، وبوسع أي قاموس للمفردات أن يفرد على الفور مايقارب أربع دزيناتٍ من المفردات المرادفة لكلمة الحب وسيكون بين بعض تلك المفردات فارق بسيط لايكاد يلاحظ في حين ستكون لبعض تلك المفردات معانٍ متباعدة عن بعضها الآخر : الولَع Fondness مثلاً هو غير الحب الأعمى Idolatry ، و الميْلُ نحو شيء ما Liking هو غير الشهوة Lust ، والتحيز والمحاباة قد تنتج - أو قد لاتنتج - عن الشغف والتعلق المفرط ، والجذل المقترن بحالة الحب يكون في العادة أكبر بكثير من محض موضع رخو باعث على النشوة في حياة المرء . تُستخدَمُ مفردات إغريقية أشدّ غموضاً في التفريق بين الأنواع المختلفة من الحب ، وثمة ثلاثٌ من بين تلك المفردات لاتنطوي على أية رغبة جنسية ( أو نزوع شهواني ) : فيليا Philia التي تحرّض على الصداقة الوثقى ، (ستورغ Storge تلفظُ ستورغاي ) التي تشير إلى الاهتمام المفرط بكل شؤون المحبوب تماماً مثل ذلك النوع من الشعور الذي نختزنه تجاه أصدقائنا المقرّبين أو أفراد عائلتنا ، ولكن ستورغاي ليست خلوة بالكامل من أي ميل جنسيّ على العكس من مفردة أغابي Agape التي تُختزلُ أحياناً إلى مفردة البرّ والإحسان Charity التي يمكن اعتبارها نوعاً من ستورغاي كونية شاملة غير مميّزة بين الأفراد وخالية من أية نوازع جنسية ( غالباً ماتشير مفردة أغابي Agape في السياقات العامة إلى الحبّ المسيحي وبخاصة في المواضع التي يكون مطلوباً فيها التمييز بين الحب العاطفي الإيروتيكي والحب الإنسانيّ الشامل المجرّد من أية نوازع جنسية ، وفي الغالب تستخدَم هنا مفردة " المحبة " بدلاً من " الحبّ " ، المترجمة )
إن الفضائل التي تحوزها أغابي موصوفة في واحدة من رسائل بولس الرسول إلى الكورنثيين ( هُمْ أهل مدينة كورنثوس التي تقع وسط جنوب اليونان ، المترجمة ) والتي نقرأ فيها العبارات التالية : " المحبة تتأنى ، المحبة تترفّق ، المحبة لاتحسد ، ولاتتباهى . هي لاتتفاخر ولاتسيء لكرامات الآخرين ، وهي لاتطلب شيئاً لنفسها ولاتحتفظ بسجلً لأخطاء الآخرين ،،،،،، هي دوماً تحمي الآخرين وتثق فيهم ، وتأمل بالأفضل وتحفظ العهود ...................... " - هذه بالضبط هي الصفات التي يأمل أيٌّ منا في أن تسود أية علاقة إنسانية مرغوبة ، ولكن في الوقت ذاته فإن هذه المواصفات هي التي تجعل الحب الذي على طراز أغابي مفتقداً لسمتيْن اثنتيْن من السمات التي ينبغي أن يحوزها الحبّ كما هو شائع في المفاهيم العامة :
أولاً ، إن الحب يقوم على أساس عزل شخص واحد والاستفراد به ( أو بضعة شخوص على أكثر تقدير ) واعتبار ذلك الشخص ( أو تلك المجموعة ) مميزين وذوي حظوة لايمكن معها إحلال بدائل لهم ، ونعرف جميعاً أن هؤلاء الذين نحبّهم يلعبون في حياتنا دوراً لايمكن للإنسانية جمعاء الإيفاء به أو النهوض بأعبائه ، ومع هذا فإنّ الحب من طراز أغابي يطلب إلينا أن نحبّ الجميع من غير أية استثناءات محدّدة لأي أحد !! .
ثانياً ، إن توجيهنا بأن نحبّ الجميع واحداً بعد الآخر يتضمّن التلميح إلى قدرة المرء على أن يحبّ بمحض إرادته ومتى أراد ذلك ، في حين أنّ الحب ( أو الانزلاق في الحب ) لايبدو أمراً نفعله بمحض إرادتنا وأنّى شئنا .
ثمة مفردة إغريقية رابعة تصف بدقة موضوعة هذا الكتاب - تلك هي إيروس Eros . تتناغم مفردة إيروس بصورة مثالية مع حالة الانجذاب الجنسي العارم ، ومن المؤكّد أن إيروس ( وليس أغابي أو ستورغاي أو حتى فيليا ) هو من ألهم تلك الأعمال العظيمة في الشعر والموسيقى وأعمال الفن - وحتى الجريمة - وعلى نحوٍ لم تفعله أية سمة إنسانية أخرى ، وسأستعير مصطلح ( الهيام أو فرط العشق limerence ) الذي صاغته عالمة النفس الأمريكية دوروثي تينوف Dorothy Tennov للتعبير عن إيروس في أكثر أشكاله تطرفاً وسطوة ، وبعثاً للقلق ، وتخليقاً للرومانسية الشغوفة ، وعلى الرغم من أنّ ذلك المصطلح يبدو غير متداولٍ إلى حد بعيد في اللغة اليومية العادية فإن ثمة العديد من الأسباب المعقولة التي تدعو لخلع صفة خاصة مميزة وغير متداولة على تلك العاطفة ( أي الحبّ ) التي وصفها برناردشو بأنها " العاطفة الأشدّ عنفاً ، والأكثر جنوناً ، والأعظم مخاتلة ، والأكثر إيغالاً في الوقتية والزوال بين كل العواطف الأخرى " ، وبعيداً عن كون مفردة الهيام أو فرط العشق والهوى أبعد ماتكون عن تمثّل الحب الإيروتيكي بكامل تجلياته لكنها في أقلّ التقديرات تعبّر عن معظم مايمثّله ذلك الحب.