نقوس المهدي
كاتب
أبو الصفاء مصطفى بن العجمي الحلبي
روض وريق أغصان المروة، ريان من ماء المكارم والفتوة، فارس الشهباء نبلا وأدبا، طبعه أخو ابنة العنب صفاء وطربا، أردان شبابه باللطف مذهبة، وكئوس آدابه المجلوة للقلوب محببة، إذا ابتسمت عقود ألفاظه كسد نظيم الجوهر، وخيل أنها لرقتها من خدود الغيد تعصر، أقبلت على شعره الفصاحة بوجه جميل، وقصر عن إدراك لطفه النسيم وهو عليل، مع صباحة محيا يهزأ بالروض الوسيم، إذا عطرت مجامر نفحاته أذيال النسيم، نفحت في برود الزهر نشرا، وعبثت بمباسم النور الضاحكة بشرا.
ثمل من سلافة الطل في الزه ... ر وناهيك طيبها من كاس
ولم تزل كئوس أدبه على الندامى مجلوة؛ حتى ورد موارد الموت فبدلت بالكدر صفوة.
وأي صفاء لا يكدره الدهر فقطفت زهرة شبابه، وقد سقتها دموع أحبابه.
فمن شعره، ما أنشدني له الطالوي، من قصيدة اخترت منها قوله:
(1/42)
ما اجتاز بارق ذاك الثغر مبتسما ... ولا النسيم بأخبار الحمى نسما
إذ وعاوده من وجده طرب ... حتى كأن به ما يشبه اللمما
مقيم لعبت أيدي الغرام به ... فغادرته كأنفاس الصبا سقما
تسيت منه على الأحشاء كف شج ... تضم صدرا خفوق القلب مضطرما
أبا خليلي لا زالت مجللة ... من البوارق تهمي في عراصكما
حتى تظل لها الأرجاء باسمة ... تبث من سرها ما كان مكتتما
أما ومبسمه الزاهي بمنتسق ... يزري مفلجه بالدر منتظما
ولفتة تذر الألباب شاردة ... أيدي سبا وترد الفكر منقسما
لا حلت عن حبه الأشهى إلى كبدي ... من الزلال وقد كادت ظما
ولا تبدلت إنسانا سواه ولو ... أضحى وجودي كصبري في الهوى عدما
ومنها:
لله ما أنت في الأفاق تنثره ... وهي اللآلئ ظنتها الورى كلما
ومنها:
من كل زاهية الألفاظ زاهرة ... لا ترتضي الشعر أن يعزى لها شمما
وله من قصيدة رثى بها العماد:
عظيم مصاب مقعد ومقيم ... له كمد بين الضلوع مقيم
وفادح خطب حارب الصبر والكرى ... فأصبح كل وهو عنه هزيم
وحكم أذل الفضل عند اعتزازه ... وأوهى عماد الدين وهو قويم
ألا إنما عين المعالي غضيضة ... وإن فؤاد المكرمات كليم
ومنها:
أقامت على قبر عاطر الثرى ... سحائب رضوان فليس تريم
إلى أن يعود القبر أنضر روضة ... بها النبت شتى يانع وهشيم
وكان له بجلق أصدقاء تسكر بشمول شمائلهم الراح، وتهتز طربا لذكرهم معاطف الأريحية والسماح، فتخفق على هامات مجدهم ألوية الحمد، وتضئ في سماء معاليهم كواكب المجد، من كل مصطبح بكاسات المسرة مغتبق، ولولا نداه كاد من نار الذكاء يحترق.
فلما ارتحل إلى الشهباء غلبه الشجن، ونافسته الشجون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فكتب إليهم:
يقبل الأرض صب مغرم علقا ... بكم وذلك من تكوينه علقا
حلف الصبابة أما قلبه فشج ... من الفراق وأما جسمه فلقا
يشتاقكم كلما هبت يمانية ... ولا محالة أن يشتاق من عشقا
به من البين ما لو حل أيسره ... يوما بأركان رضوي هد أو طفقا
يا هل تعود أويقاف بكم لفتى ... دموعه خددت في خده طرقا
الله يعلم ما إن عن ذكركم ... إلا تناثر در الدمع واستبقا
ولا تغنت على غصن مطوقة ... ألا أهاجت لي الأشجان والأرقا
يا ليت شعري والأيام مطمعة ... والدهر في عكس ما يهوى الفتى خلقا
هل لي إلى عود أوقات بكم سلفت ... رجا فأظفر أحيانا بما افترقا
لله أيامنا والشمل مجتمع ... أيام لا فرقة أخشى ولا فرقا
وإذ بكم كان عيشي أخضرا نضرا ... وأسود الليل منكم أبيضا يققا
يا صاحبي فلا روعتما بنوى ... وعنكما ظل جفن الدهر منطبقا
إن جئتما الجامع الزاهي برونقه ... سقاه من غاديات السحب ما غدقا
ميممين له عوجا كذا كرما ... لنحو قبته الشماء وانطلقا
فبلغا لي سلاما من محبته ... لم تبق لي منذ حلت مهجتي رمقا
وخبراه بما ألقى بعيشكما ... من فرط لاعج أشواق أتت نسقا
إني إلى ذلك المغنى المشوق كما ... أشتاق صحبي إخوان الصفا خلقا
(1/43)
لا سيما الأروع المحمود سيدنا ... المسكت اللسن المطري إذا نطقا
طورا تراه بكأس الحمد مصطبحا ... وتارة من سلاف المجد مغتبقا
يا غائبين فما ودي بمنتقض ... منكم ولا حبل عهدي واهنا خلقا
تحدوه ريح الصبا وهنا لأرضكم ... يزري شذاها بريا مسكه عبقا
فأجابه أبو المعالي الطالوي، بقصيدة، أنشدنيها، وهي:
وافت فأرجت الأرجاء والأفقا ... أمنية من شذاها قطرنا عبقا
راح كأن الصبا باتت تعللها ... بالسحر بين رياض طلعها بسقا
أم نفحة من ربى دارين عاطرة ... أهدت لنا أرجا جنح الدجى عبقا
هيفاء تزهو بقد زانه هيف ... كخوط بان غضيض مثمر بسقا
ترنو إلى بطرف كله حور ... مهما انبرت بفؤاد هام أو عشقا
لو شاهد ابن عنين حسن طلعتها ... لا ذكرته زمانا يبعث الحرقا
أو انبرت لحبيب وهو ذو لسن ... أزرت به كذا سحبان إن نطقا
يا حسنها حين زارتنا محبرة ... قد نظم الدر في لباتها نسقا
أهدت تحية ود من أخي ثقة ... يزري شذاها بريا المسك إن عبقا
لا غرو أني مشوق في الأنام له ... فالحر يشتاق إخوان الصفا خلقا
أشتاق رؤيته الغراء ما طلعت ... شمس النهار وأبدى صبحه شفقا
وكلما سحرا هبت شآمية ... بسفح جلق أو برق الحمى برقا
أحبابنا والذي أرجوه مبتهلا ... بأن يمن على مضناكم بلقا
ما أن تذكرت معنى راق لي بكم ... إلا ورحت بدمعي جازعا شرقا
ولا شدت بغياض الغوطتين ضحى ... ورقاء تندب إلفا نازحا شفقا
إلا وغاض اصطباري أو وهي جلدي ... ففاض من مقلتي الدمع وانطلقا
إذ جانب العيش طلق رائق بهج ... والدهر قد غض عنا الجفن فانطبقا
تلهو بكل كحيل الطرف ساحره ... يزري بغزلان عسفان إذا رمقا
لا سيما إن غدا بالكأس مصطبحا ... أو راح من وله بالطاس مغتبقا
ليت الزمان الذي فينا الغداة قضى ... بشت ملمومنا والدهر ما خلقا
هل أويقاتنا اللاتي بكم سلفت ... تعود يوما فأحظى منكم بلقا
عليك مني سلام الله ما بقيت ... صبابة تبعت الأشجان والأرقا
تهديه ريح النعامي نحو أرضكم ... كمسك دارين يزكو كلما نشقا
روض وريق أغصان المروة، ريان من ماء المكارم والفتوة، فارس الشهباء نبلا وأدبا، طبعه أخو ابنة العنب صفاء وطربا، أردان شبابه باللطف مذهبة، وكئوس آدابه المجلوة للقلوب محببة، إذا ابتسمت عقود ألفاظه كسد نظيم الجوهر، وخيل أنها لرقتها من خدود الغيد تعصر، أقبلت على شعره الفصاحة بوجه جميل، وقصر عن إدراك لطفه النسيم وهو عليل، مع صباحة محيا يهزأ بالروض الوسيم، إذا عطرت مجامر نفحاته أذيال النسيم، نفحت في برود الزهر نشرا، وعبثت بمباسم النور الضاحكة بشرا.
ثمل من سلافة الطل في الزه ... ر وناهيك طيبها من كاس
ولم تزل كئوس أدبه على الندامى مجلوة؛ حتى ورد موارد الموت فبدلت بالكدر صفوة.
وأي صفاء لا يكدره الدهر فقطفت زهرة شبابه، وقد سقتها دموع أحبابه.
فمن شعره، ما أنشدني له الطالوي، من قصيدة اخترت منها قوله:
(1/42)
ما اجتاز بارق ذاك الثغر مبتسما ... ولا النسيم بأخبار الحمى نسما
إذ وعاوده من وجده طرب ... حتى كأن به ما يشبه اللمما
مقيم لعبت أيدي الغرام به ... فغادرته كأنفاس الصبا سقما
تسيت منه على الأحشاء كف شج ... تضم صدرا خفوق القلب مضطرما
أبا خليلي لا زالت مجللة ... من البوارق تهمي في عراصكما
حتى تظل لها الأرجاء باسمة ... تبث من سرها ما كان مكتتما
أما ومبسمه الزاهي بمنتسق ... يزري مفلجه بالدر منتظما
ولفتة تذر الألباب شاردة ... أيدي سبا وترد الفكر منقسما
لا حلت عن حبه الأشهى إلى كبدي ... من الزلال وقد كادت ظما
ولا تبدلت إنسانا سواه ولو ... أضحى وجودي كصبري في الهوى عدما
ومنها:
لله ما أنت في الأفاق تنثره ... وهي اللآلئ ظنتها الورى كلما
ومنها:
من كل زاهية الألفاظ زاهرة ... لا ترتضي الشعر أن يعزى لها شمما
وله من قصيدة رثى بها العماد:
عظيم مصاب مقعد ومقيم ... له كمد بين الضلوع مقيم
وفادح خطب حارب الصبر والكرى ... فأصبح كل وهو عنه هزيم
وحكم أذل الفضل عند اعتزازه ... وأوهى عماد الدين وهو قويم
ألا إنما عين المعالي غضيضة ... وإن فؤاد المكرمات كليم
ومنها:
أقامت على قبر عاطر الثرى ... سحائب رضوان فليس تريم
إلى أن يعود القبر أنضر روضة ... بها النبت شتى يانع وهشيم
وكان له بجلق أصدقاء تسكر بشمول شمائلهم الراح، وتهتز طربا لذكرهم معاطف الأريحية والسماح، فتخفق على هامات مجدهم ألوية الحمد، وتضئ في سماء معاليهم كواكب المجد، من كل مصطبح بكاسات المسرة مغتبق، ولولا نداه كاد من نار الذكاء يحترق.
فلما ارتحل إلى الشهباء غلبه الشجن، ونافسته الشجون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فكتب إليهم:
يقبل الأرض صب مغرم علقا ... بكم وذلك من تكوينه علقا
حلف الصبابة أما قلبه فشج ... من الفراق وأما جسمه فلقا
يشتاقكم كلما هبت يمانية ... ولا محالة أن يشتاق من عشقا
به من البين ما لو حل أيسره ... يوما بأركان رضوي هد أو طفقا
يا هل تعود أويقاف بكم لفتى ... دموعه خددت في خده طرقا
الله يعلم ما إن عن ذكركم ... إلا تناثر در الدمع واستبقا
ولا تغنت على غصن مطوقة ... ألا أهاجت لي الأشجان والأرقا
يا ليت شعري والأيام مطمعة ... والدهر في عكس ما يهوى الفتى خلقا
هل لي إلى عود أوقات بكم سلفت ... رجا فأظفر أحيانا بما افترقا
لله أيامنا والشمل مجتمع ... أيام لا فرقة أخشى ولا فرقا
وإذ بكم كان عيشي أخضرا نضرا ... وأسود الليل منكم أبيضا يققا
يا صاحبي فلا روعتما بنوى ... وعنكما ظل جفن الدهر منطبقا
إن جئتما الجامع الزاهي برونقه ... سقاه من غاديات السحب ما غدقا
ميممين له عوجا كذا كرما ... لنحو قبته الشماء وانطلقا
فبلغا لي سلاما من محبته ... لم تبق لي منذ حلت مهجتي رمقا
وخبراه بما ألقى بعيشكما ... من فرط لاعج أشواق أتت نسقا
إني إلى ذلك المغنى المشوق كما ... أشتاق صحبي إخوان الصفا خلقا
(1/43)
لا سيما الأروع المحمود سيدنا ... المسكت اللسن المطري إذا نطقا
طورا تراه بكأس الحمد مصطبحا ... وتارة من سلاف المجد مغتبقا
يا غائبين فما ودي بمنتقض ... منكم ولا حبل عهدي واهنا خلقا
تحدوه ريح الصبا وهنا لأرضكم ... يزري شذاها بريا مسكه عبقا
فأجابه أبو المعالي الطالوي، بقصيدة، أنشدنيها، وهي:
وافت فأرجت الأرجاء والأفقا ... أمنية من شذاها قطرنا عبقا
راح كأن الصبا باتت تعللها ... بالسحر بين رياض طلعها بسقا
أم نفحة من ربى دارين عاطرة ... أهدت لنا أرجا جنح الدجى عبقا
هيفاء تزهو بقد زانه هيف ... كخوط بان غضيض مثمر بسقا
ترنو إلى بطرف كله حور ... مهما انبرت بفؤاد هام أو عشقا
لو شاهد ابن عنين حسن طلعتها ... لا ذكرته زمانا يبعث الحرقا
أو انبرت لحبيب وهو ذو لسن ... أزرت به كذا سحبان إن نطقا
يا حسنها حين زارتنا محبرة ... قد نظم الدر في لباتها نسقا
أهدت تحية ود من أخي ثقة ... يزري شذاها بريا المسك إن عبقا
لا غرو أني مشوق في الأنام له ... فالحر يشتاق إخوان الصفا خلقا
أشتاق رؤيته الغراء ما طلعت ... شمس النهار وأبدى صبحه شفقا
وكلما سحرا هبت شآمية ... بسفح جلق أو برق الحمى برقا
أحبابنا والذي أرجوه مبتهلا ... بأن يمن على مضناكم بلقا
ما أن تذكرت معنى راق لي بكم ... إلا ورحت بدمعي جازعا شرقا
ولا شدت بغياض الغوطتين ضحى ... ورقاء تندب إلفا نازحا شفقا
إلا وغاض اصطباري أو وهي جلدي ... ففاض من مقلتي الدمع وانطلقا
إذ جانب العيش طلق رائق بهج ... والدهر قد غض عنا الجفن فانطبقا
تلهو بكل كحيل الطرف ساحره ... يزري بغزلان عسفان إذا رمقا
لا سيما إن غدا بالكأس مصطبحا ... أو راح من وله بالطاس مغتبقا
ليت الزمان الذي فينا الغداة قضى ... بشت ملمومنا والدهر ما خلقا
هل أويقاتنا اللاتي بكم سلفت ... تعود يوما فأحظى منكم بلقا
عليك مني سلام الله ما بقيت ... صبابة تبعت الأشجان والأرقا
تهديه ريح النعامي نحو أرضكم ... كمسك دارين يزكو كلما نشقا
صورة مفقودة