نقوس المهدي
كاتب
(13)
نونية ابن القيم:
لابن قيم الجوزية، وهو من اشهر علماء السلف، قصيدة في خمسة آلاف وثمانمئة بيت وأربعة أبيات، تعرف بالنونية (الكافيَة الشافية في الانتصار للفرقة الناجية)، وهي في عقائد الفرق الإسلامية ، وقد ذكرتها الموسوعة الشعرية بتمامها، ومطلعها:
حُكمُ المَحَبَّةِ ثَابتُ الأركَانِ .. مَا للصُّدُودِ بِفَسخِ ذَاكَ يَدَانِ
وهناك شروح للقصيدة متوفرة على الشبكة، منها: (شرح القصيدة النونية) شرحها وحققها د. محمد خليل هراس، نشر دار الكتب العلمية ببيروت. وفي القصيدة أبيات كثيرة العدد في وصف الحور العين بالغ فيها ابن القيم غفر الله تعالى له بالوصف المكشوف؛ ترغيبا للمسلمين في العمل الصالح، كي يفوزوا بهن في الجنة. وقد اخترت منها، باختصار، الأبيات التالية؛ مصححا بعض أخطاء الطباعة في الموسوعة:
فاسمع صفات عرائس الجنات ثمْ .. مَ اختر لنفسك يا أخا العرفانِ
حمر الخدود ثغورهن لآلئ .. سود العيون فواتر الأجفان
لله لاثمُ ذلك الثغر الذي .. في لثمه إدراك كل أمان
لما جرى ماء النعيم بغصنها .. حمل الثمار كثيرة الألوان
فالورد والتفاح والرمان في .. غصن تعالى غارس البستان
والقد منها كالقضيب اللدْنِ في .. حسن القَوام كأوسط القضبان(1)
لا الظهر يلحقها وليس ثَديُّها .. بلواحق للبطن أو بِدَوانِ
لكنهن كواعبٌ ونواهدٌ .. فثديُّهن كألطف الرمان
والمعصمان فان تشأ شبههما .. بسبيكتين عليهما كفّان
والصدر متسع على بطن لها .. حفت به خصران ذا أثمان(2)
وعليه أحسن سرّة هي مجمع ال .. خصرين قد غارت من الأعكان(3)
حُقٌّ من العاج استدار وحوله .. حباتُ مسكٍ جل ذو الاتقان
وإذا انحدرتَ رأيتَ أمراً هائلاً .. ما للصفات عليه من سلطان
لا الحيضُ يغشاهُ ولا بولٌ ولا .. شيءٌ من الآفات في النسوان
فخذان قد حفّا به حرساً له .. فجَنابهُ في عزةٍ وصيان
قاما بخدمته هو السلطان بي .. نهما وحقٌ طاعة السلطان
وجِماعها فهو الشفاءُ لصبّها .. فالصبُّ منه ليس بالضجران
وإذا يجامعها تعود كما أتت .. بِكراً بغير دمٍ ولا نقصان
فهو الشهيّ وعضوه لا ينثني .. جاء الحديث بذا بلا نكران
ولقد رأينا أن شُغلَهمُ الذي .. قد جاء في يسن دون بيان(4)
يا رب غُفراً قد طغت أقلامنا .. يا رب معذرةً من الطغيان(5)
أقدامها من فضة قد ركّبت .. من فوقها ساقان ملتفّان
والساق مثل العاج ملموم يُرى .. مخّ العظام وراءه بعيان
وهي التي عند الجماع تزيد في .. حركاتها للعين والأذنان(6)
أقول أنا ياسين: رحم الله العالم الكبير ابن القيم، الذي رغّبَ شباب المسلمين بالعمل الصالح؛ طمعا بالفوز بالحور العين، اللائي ذكر الله تعالى وصفهن في القرآن الكريم بأحسن ما يكون الذكر، وأعفّ ما يكون الوصف. فهل كنا بحاجة إلى عشرات الأبيات من الكلام الموزون في وصف جمال الأجسام لنزداد للحور العين محبة وشوقا! على أية حال، فلكل عصر فكره وثقافته. وفي الجنة ما هو أجلّ قدراً، وأعظم شأناً من جمال الحور وغير الحور، ألا وهو رضى الله سبحانه عن اهل الجنة ومحبته إياهم.
بين القلب والعين:
من المحاورات الشعرية الطريفة ما عقدها ناظموها بين القلب والعين يتهم كل منهما الآخر بأنه السبب في وقوع صاحبهما بالحب أو العشق..ففي كتاب (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) لابن القيم رحمه الله باب بعنوان: (مناظرة بين القلب والعين ولوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما) وقد شاركتهما الكبد الحوار. أنقل ما جاء فيها من شعر؛ تاركا ما ورد فيها من نثر، إلا الأقل، من أجل الاختصار:
على لسان القلب:
نظرُ العيون إلى العيون هو الذي ... جعل الهلاكَ إلى الفؤاد سبيلا
ما زالت اللحَظاتُ تغزو قلبه ... حتى تشحّطَ بينهن قتيلا
وقال:
تمتعتما يا مقلتيّ بنظرة ... وأوردتما قلبي أمَرَّ المواردِ
أعينيَّ كُفّا عن فؤادي فإنه ... من الظلم سعيُ اثنين في قتل واحدِ
قالت العين: ظلمتني أولا وآخرا وبؤت بإثمي باطنا وظاهرا، وما أنا إلا رسولك الداعي إليك، ورائدك الدال عليك:
وإذا بعثتَ برائدٍ نحو الذي ... تهوى وتعتِبهُ ظلمتَ الرائدا
شكوى الكبد:
فلما سمعت الكبد تحاورهما الكلام وتناولهما الخصام قالت: أنتما على هلاكي تساعدتما، وعلى قتلي تعاونتما، ولقد أنصف من حكى مناظرتكما، وعلى لساني متظلماً منكما :
يقول طرفي لقلبي هجتَ لي سقماً ... والعينُ تزعمُ أن القلبَ أنكاها
والجسمُ يشهد أن العينَ كاذبةٌ ... وهي التي هيّجت للقلب بلواها
لولا العيونُ وما يجنينَ من سَقَمٍ ... ما كنتُ مُطّرَحًا من بعض قتلاها
فقالت الكبد المظلومة اتئِدا ... قطّعتماني وما راقبتما اللهَ
وقال آخر:
يقول قلبي لطرفي أن بكى جزعاً ... تبكي وأنت الذي حمّلتني الوجعا
فقال طرفي له فيما يعاتبه ... بل أنت حمّلتني الآمالَ والطمعا
حتى إذا ما خلا كلٌ بصاحبه ... كلاهما بطويل السقم قد قنِعا
نادتهما كبدي لا تبعُدا فلقد ... قطّعتماني بما لاقيتما قِطَعا
وقال آخر
عاتبتُ قلبيَ لما ... رأيتُ جسمي نحيلا
فألزمَ القلبُ طرفي ... وقال كنتَ الرسولا
فقال طرفي لقلبي ... بل كنت أنت الدليلا
فقلت كُفّا جميعاً ... تركتماني قتيلا
الكبد تقضي بالذنب على الإثنين:
ثم قالت: أنا أتولى الحكم بينكما. أنتما في البلية شريكا عنان ( متقاربان متماثلان) كما أنكما في اللذة والمسرة فرسا رهان ( يتسابقان)، فالعين تلتذ والقلب يتمنى ويشتهي، ولهذا قال فيكما القائل:
ولما سلوتُ الحب بشّرَ ناظري ... لقلبي فقال القلب لي ولكَ الهنا
تخلصتَ من إحياء ليلكَ ساهراً ... وخلصتني من لوعة الهجر والضنا
كلانا مُهنّا بالبقاء فإن تعد ... فلا أنت يبقيك الغرام ولا أنا
وإن لم تدرككما عناية مقلب القلوب والأبصار وإلا فما لك من قُرّةٍ ولا للقلب من قرار. قال الشاعر:
فوالله ما أدري أنفسي ألومها ... على الحب أم عيني المَشومةَ أم قلبي (7)
فإن لمتُ قلبي قال لي: العينُ أبصرت ... وإن لمتُ عيني قالت: الذنبُ للقلب
فعيني وقلبي قد تقاسمتما دمي ... فيا رب كن عونا على العين والقلب
الخلاصة ان ابن القيم قضى على القلب والعين معا بالتسبب بالمحبة؛ مستندا إلى براهين شرعية.
(انتهى النقل من روضة المحبين)
ووجدت لخالد بن يزيد البغدادي الكاتب قطعة جميلة من أربعة أبيات في القلب والعين:
القَلبُ يَحسِدُ عَيني لَذَةَ النَظَرِ .. وَالعَينُ تَحسِدُ قَلبي لَذَّةَ الفِكَرِ
يَقولُ قَلبي لِعَيني كُلَّما نَظَرَت .. كَم تَنظُرينَ رَماكِ اللَهُ بِالسَهَرِ
العَينُ تورِثُهُ هَمّاً فَتَشغَلُهُ .. وَالقَلبُ بِالدَمعِ يَنهاها عَنِ النَظَرِ
هَذانِ خَصمانِ لا أَرضى بِحُكمِهِما .. فَاحكُم فَديَتُكَ بَينَ القَلبِ وَالبَصَرِ
والحوارات والمناظرات الشعرية اشتهرت أيضا بين شعراء العامية من الزجالين والحُداة، فهم يعقدونها ما بين السيف والقلم، مثلا، او بين السمراء والبيضاء..الخ. وهذه الزجليات أظنها منتشرة في الوطن العربي في القديم والحديث.
ومن الشعر العامي المُغنّى في التساؤل عمن هو السبب في الوقوع في الحب هل هو القلب ام هي العين، فطنت إلى أغنيّة جميلة كنا نسمعها من المذياع، وشاهدناها في السينما، وهي اليوم على قناة يوتيوب على الشبكة، ألا وهي أغنيّة سعاد محمد، غفر الله لنا ولها، وهي بعنوان: (القلبِ ولاّ العيِن)، وهذا نصها:
القلبِ وَلاّ العينْ .. مينِ السبب في الحبْ؟
في ناسْ تِقولِ العين.. وناسْ تقولِ القلبْ
القلبِ ولاّ العين...مين السبب...
مين يا تَرى كان السبب في الحبِّ مين؟
ولاّ الهوى وعدِ انكتبْ على الجِبين؟
والفرحه والإبتسامْ مِ القلبِ ولاّ العين؟
والحيره ساعةِ السلامْ مِ القلبِ ولاّ العين؟
مين السبب...
القلبِ والعينْ يا هوى إنتَ اللي آسِرهمْ سَوى
إنتَ الضنى إنت الدوا لِلّي بكى واللي انكوى
مين اللي نادى الغرام القلب ولاّ العين؟
ومين بدا بالكلام القلب ولا العين؟
مين السبب...
الحبِّ مابين حبيبينْ ما يْتِمْ إلا بقلبين
والعين تِناغي العين وتقولّها قلبِك فين؟
النظرة والتنهيدْ م القلبِ ولاّ العين؟
ودموع ونار بتقيدْ م القلب ولاّ العين؟
مين السبب...
منظومة جميلة أليست كذلك!
أما من كان كفيف البصر فقد وهبه الله تعالى قوة في السمع وإنارة في البصيرة كما هو معلوم. فهو ينفعل بما يسمع ويتبصر بما يتخيل. وقد اشتهر عن بشار الضرير قوله:
يا قومُ أذْني لبعض الحيّ عاشقةٌ.. والأذنُ تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم .. الأذنُ كالعين توُفي القلبَ ما كانا
وكفى بأبي العلاء المعري، أحسن الله مثواه، مثالا حسنا على من فقد بصره ثم صار من الأدباء النقاد الشعراء اللغويين الفلاسفة، والذي قل ان تجد له نظيرا بين من فقدوا البصر، ناهيك بالمبصرين.
وسألت مرة كفبف بصرٍ أعرفه، إن كان يشمئز من الحشرات كالصرصور، فأجاب: طبعا أقرف من الصراصير. قلت: كيف؟ قال: من ملمسها. فحاسة اللمس عند الكفيف لها دور هام في تعرفه على حال الأشياء. أما قدرة من كُف بصره على الحفظ فحدث عنها ولا حرج، حتى إنهم ضربوا المثل في قوة حافظته فقالوا: أحفظُ من العُميان!
وأعود إلى ذكر حاسة اللمس لدى العميان فأقول: إن لها شأناً وأي شأن! فلقد كانت هيلين كِلَر عمياء صمّاء بكماء ؛ إلا أنها غدت اديبة كاتبة حصّلت أعلى الدرجات في العلوم والفلسفة والآداب واللغات، وكانت ناشطة ما بعدها ناشطة في مجال العمل الإنساني الطيب، بعد أن كانت قد علمتها مربيتها بواسطة حاسة اللمس لغة الإشارات وهي طفلة . رحمها الله وطيب ثراها.
على ان العميان، وهم بعدُ أطفال، تقطّع حالهم نياط قلوب الرحماء مقارنة بالأطفال المبصرين . ومن اولئك الرحماء شاعر نظم قصيدة بعنوان: (أنّةُ طفل ضرير)، او ما يشبه هذا. وهي قصيدة عرفتها معظم أرجاء الوطن العربي منذ مطلع الثلاثينات من القرن العشرين او قبل ذلك، حيث إنها تقررت في مناهج التعليم في المدارس؛ غير ان شاعرها مجهول بالنسبة لي على الأقل رغم اني درست القصيدة في الابتدائية، وكنت أبكي حزناً على الضرير حينما أقرؤها، هذا، وكنت قد عرفت على موقع الوراق من الأستاذ زهير ظاظا أنه أضاف لها بضعة أبيات قبل أكثر من ثلاثين عاما وقد صارت تلك الإضافة على الشبكة متداولة كأنها من أصل القصيدة . وهناك احتمال أن تكون القصيدة للمرحوم الشاعر ( ولي الدين يَكَن). والأستاذ زهير لم يستبعد ذلك، حيث يراها قريبة من أسلوب الشاعر المذكور. وهذه هي القصيدة أنقلها لحضراتكم من على موقع الوراق:
يا أمُّ ما شكل السما = ء وما الضياء وما القمر
بجمالها تتحدثو = ن ولا أرى منها الاثر
هل هذه الدنيا ظلا = م في ظلام مستمر
يا أم مدي لي يدي = كِ عسى يزايلني الضجر
امشي اخاف تعثرا = وسط النهار او السحر
لا أهتدي في السير إن = طال الطريق وان قصُر
فالنور عندي كالظلا = م والاستطالة كالقِصرَ
امشي أحاذر أن يصا = دفني إذا أخطو خطر
والارض عندي يستوي = منها البسائط والحفر
عكازتي هي ناظري = هل في جماد من بصر
يجري الصغار ويلعبو = ن ويرتعون ولا ضرر
يتمتعون بما يرو = ن من الجمال المفتخر
وانا ضرير قاعد = في ركن بيتي مستقر
ويلاه هل اقضي الحيا = ة بغير عين او نظر
ماذا جنيت من الذنو = ب بها يعاكسني القدر
يا امُّ ضاق بي الفضا = ومن العمى قلبي انكسر
يا ام ضميني الي = ك فليس غيرك من يبر
يا ام لاتبكي على = ي رعاك من خلق البشر
الله يلطف بي ويص = رف ما نقاسي من كدر
وعودة إلى القلب والعين في الشعر الفصيح لأذكر قول الشاعر:
أعاتبُ عيني وهي أول من جنى .. وأزجرُ قلبي كي يحيدَ عن الحبَّ
فإن قلتُ قلبي، قال: عيناكَ قد جنت .. وإن قلتُ يا عيني، تُحيلُ على القلب
وقد حِرتُ بين اثنين كلٌ بجهدهِ .. يسوق بليّاتِ الغرام إلى لُبّي
ومالي أطلت الكلام في الحب والغرام وورطتنا مع العيون والقلوب لا تجد لها حلا! أرى أن نروح إلى ما ينبثق عن الحب والغرام في العادة من زواج ومودة ووئام، وما ينتج عنه بإذن الله من بنين وبنات هم زينة الدنيا وبهجتها، وحرارة الأشواق ولوعتها..
يولد لنا المولود فنطير به فرحا، ونتحمل في سبيل تنشئته نشأة صالحة كل مشقة وعناء؛ مسرورين بما نلاقيه من كل ذلك.. ثم لما يكبر المواليد ويضربون في الأرض ابتغاء أرزاقهم نكون قد بلغنا من الكبر ما بلغنا، ولا يبقى لنا سوى الذكريات...
ولقد عبر الشاعر الفلسطيني الكبير، الأستاذ ابراهيم الشطي القلقيلي(8)، عن ذكرياته أبلغ تعبير حين نظم هذه القصيدة المؤثرة الحافلة بالحنين وبالموعظة والعبرة، وهي ذات إيقاع قصير قِصَر عمر الحياة الفانية، وكنت قد طالعتها اول مرة على صفحات مجلة العربي في سبعينيات القرن الماضي:
كبُرَ الصغار تفرقوا = ومضوْا على سَنَنِ الكبارْ
والدار بعدهمو غدت = كالليل ليس له نهارْ
وبدت كما لو أنها = كهفٌ يجلله الوقار
لا دميةً مطروحةً = في السّاح أو قرب الجدار
أو طوقَ شَعر مهملٍ = أو بعضَ قُرطٍ أو سِوار
كبر الصغار وغادروا الدْ = دارَ التي كانت قرار
تؤويهمو طول النها = رِ وفي المساء لهم دِثار
لَهْفي عليهم كيف هم؟ = شوقٌ يؤرقني ونار
تشوي ضلوعي كلما = ذُكروا وليس ليَ اصطبار
هم زينة الدنيا وروْ = نقها البهيّ والافتخار
بَسَماتهم زهرُ الريا = ض وهمسهم أحلى حوار
وصراخهم قيثارة = وشِجارهم نعمَ الشّجار
كبر الصغار ولم تعد = جيبي لأيديهم مزار
ولكم على كتفي بكوْا = وغفوْا على صدري مرار
بَعُدوا وصار بريدهم = لقيا وأخباراً تثار
كبر الصغار تغربوا = فهل الحياة لهم يسار؟
أم أن دربهمو عصيْ = يٌ شائكٌ جمُّ العِثار؟
كل يسيرُ بدربه = أتراه كان لهم خِيار؟
والشوق يلفح خافقي = همّاً وغمّاً وادّ كار
وحنينُ لقياهم يزي = دُ عواطفي لهباً أوار
أوّاهُ ما أقسى الحيا = ة إذا خلا منها الصّغار
وأتذكر هنا قوله تعالى في سورة الشورى: " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ . أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ."
حفظ الله أبناءنا وبناتنا من كل سوء ، وأبقى آباءهم لهم ذخرا وسندا ، إنه سميع مجيب . وليت كل الأبناء يحسون عواطف الآباء على حقيقتها ، وربما لا يحس الأعزب قيمة أبويه إلا لمّا يتزوج ويصير له أبناء وبنات ، وإذا لم يحس بعد كل هذا ، فلا بد أن يكون جلده أقل إحساسا من جلود التماسيح .
وإلى لقاء تال بعون الله..
ا جاء في شرح النونية حول هذا البيت: وأما قدها فكالغصن الرطيب في حسن القوام واعتداله ، فلم يشنه قصر ولا طول، وهذا القد الممشوق والقوام المعتدل قد قام على عجيزة بيضاء كالعاج ثقيلة ممتلئة كأنها كثيب من الرمل، فليس الظهر بلاحق لها، بل هي متميزة منفصلة عنه...
2 هكذا البيت في الموسوعة الشعرية غير أنه في الكتاب الذي ذكرته اول المقالة ورد هكذا:
والصدر متسع على بطن لها حفت به خصران ذات ثمان،
وشرحه الشارح بقوله: وأما الصدر فرحيب متسع فوق بطنها يحف به من الجانبين خصران دقيقان يشكلان حرف الثماني.
3 العُكَنُ والأَعْكان الأَطْواء في البَطْن من السِّمَن(لسان العرب مادة عكن). والناس اليوم أظنهم لا يحبون منظر الأعكان، بل إن النساء يجتهدن في إنقاص أوزانهن للتخلص منها.
4 يشير إلى الأية الكريمة من سورة يسن:" إن أصحابَ الجنة اليومَ في شُغُلٍ فاكهون" والأية التي تليها مباشرة: " هم وأزواجهم في ظلال على الأرائكِ متكئون".
5 قال شارح النونية المذكور آنفا: "ولقد استشعر المؤلف رحمه الله أن قلمه قد جرى به أشواطا بعيدة في التصريح بما لا يحسن التصريح به فاستغفر الله من جماح قلمه واعتذر إليه مما جاوز فيه حده.".
6 الأذنان حقها أن تجر بالياء (الأذنين) ؛ عطفا على العينِ، غير أن الضرورة الشعرية في القافية جعلتها مرفوعة بالألف كما يظهر.
7 المشومة: التي أصابها الشؤم.
دنيا الوطن
نونية ابن القيم:
لابن قيم الجوزية، وهو من اشهر علماء السلف، قصيدة في خمسة آلاف وثمانمئة بيت وأربعة أبيات، تعرف بالنونية (الكافيَة الشافية في الانتصار للفرقة الناجية)، وهي في عقائد الفرق الإسلامية ، وقد ذكرتها الموسوعة الشعرية بتمامها، ومطلعها:
حُكمُ المَحَبَّةِ ثَابتُ الأركَانِ .. مَا للصُّدُودِ بِفَسخِ ذَاكَ يَدَانِ
وهناك شروح للقصيدة متوفرة على الشبكة، منها: (شرح القصيدة النونية) شرحها وحققها د. محمد خليل هراس، نشر دار الكتب العلمية ببيروت. وفي القصيدة أبيات كثيرة العدد في وصف الحور العين بالغ فيها ابن القيم غفر الله تعالى له بالوصف المكشوف؛ ترغيبا للمسلمين في العمل الصالح، كي يفوزوا بهن في الجنة. وقد اخترت منها، باختصار، الأبيات التالية؛ مصححا بعض أخطاء الطباعة في الموسوعة:
فاسمع صفات عرائس الجنات ثمْ .. مَ اختر لنفسك يا أخا العرفانِ
حمر الخدود ثغورهن لآلئ .. سود العيون فواتر الأجفان
لله لاثمُ ذلك الثغر الذي .. في لثمه إدراك كل أمان
لما جرى ماء النعيم بغصنها .. حمل الثمار كثيرة الألوان
فالورد والتفاح والرمان في .. غصن تعالى غارس البستان
والقد منها كالقضيب اللدْنِ في .. حسن القَوام كأوسط القضبان(1)
لا الظهر يلحقها وليس ثَديُّها .. بلواحق للبطن أو بِدَوانِ
لكنهن كواعبٌ ونواهدٌ .. فثديُّهن كألطف الرمان
والمعصمان فان تشأ شبههما .. بسبيكتين عليهما كفّان
والصدر متسع على بطن لها .. حفت به خصران ذا أثمان(2)
وعليه أحسن سرّة هي مجمع ال .. خصرين قد غارت من الأعكان(3)
حُقٌّ من العاج استدار وحوله .. حباتُ مسكٍ جل ذو الاتقان
وإذا انحدرتَ رأيتَ أمراً هائلاً .. ما للصفات عليه من سلطان
لا الحيضُ يغشاهُ ولا بولٌ ولا .. شيءٌ من الآفات في النسوان
فخذان قد حفّا به حرساً له .. فجَنابهُ في عزةٍ وصيان
قاما بخدمته هو السلطان بي .. نهما وحقٌ طاعة السلطان
وجِماعها فهو الشفاءُ لصبّها .. فالصبُّ منه ليس بالضجران
وإذا يجامعها تعود كما أتت .. بِكراً بغير دمٍ ولا نقصان
فهو الشهيّ وعضوه لا ينثني .. جاء الحديث بذا بلا نكران
ولقد رأينا أن شُغلَهمُ الذي .. قد جاء في يسن دون بيان(4)
يا رب غُفراً قد طغت أقلامنا .. يا رب معذرةً من الطغيان(5)
أقدامها من فضة قد ركّبت .. من فوقها ساقان ملتفّان
والساق مثل العاج ملموم يُرى .. مخّ العظام وراءه بعيان
وهي التي عند الجماع تزيد في .. حركاتها للعين والأذنان(6)
أقول أنا ياسين: رحم الله العالم الكبير ابن القيم، الذي رغّبَ شباب المسلمين بالعمل الصالح؛ طمعا بالفوز بالحور العين، اللائي ذكر الله تعالى وصفهن في القرآن الكريم بأحسن ما يكون الذكر، وأعفّ ما يكون الوصف. فهل كنا بحاجة إلى عشرات الأبيات من الكلام الموزون في وصف جمال الأجسام لنزداد للحور العين محبة وشوقا! على أية حال، فلكل عصر فكره وثقافته. وفي الجنة ما هو أجلّ قدراً، وأعظم شأناً من جمال الحور وغير الحور، ألا وهو رضى الله سبحانه عن اهل الجنة ومحبته إياهم.
بين القلب والعين:
من المحاورات الشعرية الطريفة ما عقدها ناظموها بين القلب والعين يتهم كل منهما الآخر بأنه السبب في وقوع صاحبهما بالحب أو العشق..ففي كتاب (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) لابن القيم رحمه الله باب بعنوان: (مناظرة بين القلب والعين ولوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما) وقد شاركتهما الكبد الحوار. أنقل ما جاء فيها من شعر؛ تاركا ما ورد فيها من نثر، إلا الأقل، من أجل الاختصار:
على لسان القلب:
نظرُ العيون إلى العيون هو الذي ... جعل الهلاكَ إلى الفؤاد سبيلا
ما زالت اللحَظاتُ تغزو قلبه ... حتى تشحّطَ بينهن قتيلا
وقال:
تمتعتما يا مقلتيّ بنظرة ... وأوردتما قلبي أمَرَّ المواردِ
أعينيَّ كُفّا عن فؤادي فإنه ... من الظلم سعيُ اثنين في قتل واحدِ
قالت العين: ظلمتني أولا وآخرا وبؤت بإثمي باطنا وظاهرا، وما أنا إلا رسولك الداعي إليك، ورائدك الدال عليك:
وإذا بعثتَ برائدٍ نحو الذي ... تهوى وتعتِبهُ ظلمتَ الرائدا
شكوى الكبد:
فلما سمعت الكبد تحاورهما الكلام وتناولهما الخصام قالت: أنتما على هلاكي تساعدتما، وعلى قتلي تعاونتما، ولقد أنصف من حكى مناظرتكما، وعلى لساني متظلماً منكما :
يقول طرفي لقلبي هجتَ لي سقماً ... والعينُ تزعمُ أن القلبَ أنكاها
والجسمُ يشهد أن العينَ كاذبةٌ ... وهي التي هيّجت للقلب بلواها
لولا العيونُ وما يجنينَ من سَقَمٍ ... ما كنتُ مُطّرَحًا من بعض قتلاها
فقالت الكبد المظلومة اتئِدا ... قطّعتماني وما راقبتما اللهَ
وقال آخر:
يقول قلبي لطرفي أن بكى جزعاً ... تبكي وأنت الذي حمّلتني الوجعا
فقال طرفي له فيما يعاتبه ... بل أنت حمّلتني الآمالَ والطمعا
حتى إذا ما خلا كلٌ بصاحبه ... كلاهما بطويل السقم قد قنِعا
نادتهما كبدي لا تبعُدا فلقد ... قطّعتماني بما لاقيتما قِطَعا
وقال آخر
عاتبتُ قلبيَ لما ... رأيتُ جسمي نحيلا
فألزمَ القلبُ طرفي ... وقال كنتَ الرسولا
فقال طرفي لقلبي ... بل كنت أنت الدليلا
فقلت كُفّا جميعاً ... تركتماني قتيلا
الكبد تقضي بالذنب على الإثنين:
ثم قالت: أنا أتولى الحكم بينكما. أنتما في البلية شريكا عنان ( متقاربان متماثلان) كما أنكما في اللذة والمسرة فرسا رهان ( يتسابقان)، فالعين تلتذ والقلب يتمنى ويشتهي، ولهذا قال فيكما القائل:
ولما سلوتُ الحب بشّرَ ناظري ... لقلبي فقال القلب لي ولكَ الهنا
تخلصتَ من إحياء ليلكَ ساهراً ... وخلصتني من لوعة الهجر والضنا
كلانا مُهنّا بالبقاء فإن تعد ... فلا أنت يبقيك الغرام ولا أنا
وإن لم تدرككما عناية مقلب القلوب والأبصار وإلا فما لك من قُرّةٍ ولا للقلب من قرار. قال الشاعر:
فوالله ما أدري أنفسي ألومها ... على الحب أم عيني المَشومةَ أم قلبي (7)
فإن لمتُ قلبي قال لي: العينُ أبصرت ... وإن لمتُ عيني قالت: الذنبُ للقلب
فعيني وقلبي قد تقاسمتما دمي ... فيا رب كن عونا على العين والقلب
الخلاصة ان ابن القيم قضى على القلب والعين معا بالتسبب بالمحبة؛ مستندا إلى براهين شرعية.
(انتهى النقل من روضة المحبين)
ووجدت لخالد بن يزيد البغدادي الكاتب قطعة جميلة من أربعة أبيات في القلب والعين:
القَلبُ يَحسِدُ عَيني لَذَةَ النَظَرِ .. وَالعَينُ تَحسِدُ قَلبي لَذَّةَ الفِكَرِ
يَقولُ قَلبي لِعَيني كُلَّما نَظَرَت .. كَم تَنظُرينَ رَماكِ اللَهُ بِالسَهَرِ
العَينُ تورِثُهُ هَمّاً فَتَشغَلُهُ .. وَالقَلبُ بِالدَمعِ يَنهاها عَنِ النَظَرِ
هَذانِ خَصمانِ لا أَرضى بِحُكمِهِما .. فَاحكُم فَديَتُكَ بَينَ القَلبِ وَالبَصَرِ
والحوارات والمناظرات الشعرية اشتهرت أيضا بين شعراء العامية من الزجالين والحُداة، فهم يعقدونها ما بين السيف والقلم، مثلا، او بين السمراء والبيضاء..الخ. وهذه الزجليات أظنها منتشرة في الوطن العربي في القديم والحديث.
ومن الشعر العامي المُغنّى في التساؤل عمن هو السبب في الوقوع في الحب هل هو القلب ام هي العين، فطنت إلى أغنيّة جميلة كنا نسمعها من المذياع، وشاهدناها في السينما، وهي اليوم على قناة يوتيوب على الشبكة، ألا وهي أغنيّة سعاد محمد، غفر الله لنا ولها، وهي بعنوان: (القلبِ ولاّ العيِن)، وهذا نصها:
القلبِ وَلاّ العينْ .. مينِ السبب في الحبْ؟
في ناسْ تِقولِ العين.. وناسْ تقولِ القلبْ
القلبِ ولاّ العين...مين السبب...
مين يا تَرى كان السبب في الحبِّ مين؟
ولاّ الهوى وعدِ انكتبْ على الجِبين؟
والفرحه والإبتسامْ مِ القلبِ ولاّ العين؟
والحيره ساعةِ السلامْ مِ القلبِ ولاّ العين؟
مين السبب...
القلبِ والعينْ يا هوى إنتَ اللي آسِرهمْ سَوى
إنتَ الضنى إنت الدوا لِلّي بكى واللي انكوى
مين اللي نادى الغرام القلب ولاّ العين؟
ومين بدا بالكلام القلب ولا العين؟
مين السبب...
الحبِّ مابين حبيبينْ ما يْتِمْ إلا بقلبين
والعين تِناغي العين وتقولّها قلبِك فين؟
النظرة والتنهيدْ م القلبِ ولاّ العين؟
ودموع ونار بتقيدْ م القلب ولاّ العين؟
مين السبب...
منظومة جميلة أليست كذلك!
أما من كان كفيف البصر فقد وهبه الله تعالى قوة في السمع وإنارة في البصيرة كما هو معلوم. فهو ينفعل بما يسمع ويتبصر بما يتخيل. وقد اشتهر عن بشار الضرير قوله:
يا قومُ أذْني لبعض الحيّ عاشقةٌ.. والأذنُ تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم .. الأذنُ كالعين توُفي القلبَ ما كانا
وكفى بأبي العلاء المعري، أحسن الله مثواه، مثالا حسنا على من فقد بصره ثم صار من الأدباء النقاد الشعراء اللغويين الفلاسفة، والذي قل ان تجد له نظيرا بين من فقدوا البصر، ناهيك بالمبصرين.
وسألت مرة كفبف بصرٍ أعرفه، إن كان يشمئز من الحشرات كالصرصور، فأجاب: طبعا أقرف من الصراصير. قلت: كيف؟ قال: من ملمسها. فحاسة اللمس عند الكفيف لها دور هام في تعرفه على حال الأشياء. أما قدرة من كُف بصره على الحفظ فحدث عنها ولا حرج، حتى إنهم ضربوا المثل في قوة حافظته فقالوا: أحفظُ من العُميان!
وأعود إلى ذكر حاسة اللمس لدى العميان فأقول: إن لها شأناً وأي شأن! فلقد كانت هيلين كِلَر عمياء صمّاء بكماء ؛ إلا أنها غدت اديبة كاتبة حصّلت أعلى الدرجات في العلوم والفلسفة والآداب واللغات، وكانت ناشطة ما بعدها ناشطة في مجال العمل الإنساني الطيب، بعد أن كانت قد علمتها مربيتها بواسطة حاسة اللمس لغة الإشارات وهي طفلة . رحمها الله وطيب ثراها.
على ان العميان، وهم بعدُ أطفال، تقطّع حالهم نياط قلوب الرحماء مقارنة بالأطفال المبصرين . ومن اولئك الرحماء شاعر نظم قصيدة بعنوان: (أنّةُ طفل ضرير)، او ما يشبه هذا. وهي قصيدة عرفتها معظم أرجاء الوطن العربي منذ مطلع الثلاثينات من القرن العشرين او قبل ذلك، حيث إنها تقررت في مناهج التعليم في المدارس؛ غير ان شاعرها مجهول بالنسبة لي على الأقل رغم اني درست القصيدة في الابتدائية، وكنت أبكي حزناً على الضرير حينما أقرؤها، هذا، وكنت قد عرفت على موقع الوراق من الأستاذ زهير ظاظا أنه أضاف لها بضعة أبيات قبل أكثر من ثلاثين عاما وقد صارت تلك الإضافة على الشبكة متداولة كأنها من أصل القصيدة . وهناك احتمال أن تكون القصيدة للمرحوم الشاعر ( ولي الدين يَكَن). والأستاذ زهير لم يستبعد ذلك، حيث يراها قريبة من أسلوب الشاعر المذكور. وهذه هي القصيدة أنقلها لحضراتكم من على موقع الوراق:
يا أمُّ ما شكل السما = ء وما الضياء وما القمر
بجمالها تتحدثو = ن ولا أرى منها الاثر
هل هذه الدنيا ظلا = م في ظلام مستمر
يا أم مدي لي يدي = كِ عسى يزايلني الضجر
امشي اخاف تعثرا = وسط النهار او السحر
لا أهتدي في السير إن = طال الطريق وان قصُر
فالنور عندي كالظلا = م والاستطالة كالقِصرَ
امشي أحاذر أن يصا = دفني إذا أخطو خطر
والارض عندي يستوي = منها البسائط والحفر
عكازتي هي ناظري = هل في جماد من بصر
يجري الصغار ويلعبو = ن ويرتعون ولا ضرر
يتمتعون بما يرو = ن من الجمال المفتخر
وانا ضرير قاعد = في ركن بيتي مستقر
ويلاه هل اقضي الحيا = ة بغير عين او نظر
ماذا جنيت من الذنو = ب بها يعاكسني القدر
يا امُّ ضاق بي الفضا = ومن العمى قلبي انكسر
يا ام ضميني الي = ك فليس غيرك من يبر
يا ام لاتبكي على = ي رعاك من خلق البشر
الله يلطف بي ويص = رف ما نقاسي من كدر
وعودة إلى القلب والعين في الشعر الفصيح لأذكر قول الشاعر:
أعاتبُ عيني وهي أول من جنى .. وأزجرُ قلبي كي يحيدَ عن الحبَّ
فإن قلتُ قلبي، قال: عيناكَ قد جنت .. وإن قلتُ يا عيني، تُحيلُ على القلب
وقد حِرتُ بين اثنين كلٌ بجهدهِ .. يسوق بليّاتِ الغرام إلى لُبّي
ومالي أطلت الكلام في الحب والغرام وورطتنا مع العيون والقلوب لا تجد لها حلا! أرى أن نروح إلى ما ينبثق عن الحب والغرام في العادة من زواج ومودة ووئام، وما ينتج عنه بإذن الله من بنين وبنات هم زينة الدنيا وبهجتها، وحرارة الأشواق ولوعتها..
يولد لنا المولود فنطير به فرحا، ونتحمل في سبيل تنشئته نشأة صالحة كل مشقة وعناء؛ مسرورين بما نلاقيه من كل ذلك.. ثم لما يكبر المواليد ويضربون في الأرض ابتغاء أرزاقهم نكون قد بلغنا من الكبر ما بلغنا، ولا يبقى لنا سوى الذكريات...
ولقد عبر الشاعر الفلسطيني الكبير، الأستاذ ابراهيم الشطي القلقيلي(8)، عن ذكرياته أبلغ تعبير حين نظم هذه القصيدة المؤثرة الحافلة بالحنين وبالموعظة والعبرة، وهي ذات إيقاع قصير قِصَر عمر الحياة الفانية، وكنت قد طالعتها اول مرة على صفحات مجلة العربي في سبعينيات القرن الماضي:
كبُرَ الصغار تفرقوا = ومضوْا على سَنَنِ الكبارْ
والدار بعدهمو غدت = كالليل ليس له نهارْ
وبدت كما لو أنها = كهفٌ يجلله الوقار
لا دميةً مطروحةً = في السّاح أو قرب الجدار
أو طوقَ شَعر مهملٍ = أو بعضَ قُرطٍ أو سِوار
كبر الصغار وغادروا الدْ = دارَ التي كانت قرار
تؤويهمو طول النها = رِ وفي المساء لهم دِثار
لَهْفي عليهم كيف هم؟ = شوقٌ يؤرقني ونار
تشوي ضلوعي كلما = ذُكروا وليس ليَ اصطبار
هم زينة الدنيا وروْ = نقها البهيّ والافتخار
بَسَماتهم زهرُ الريا = ض وهمسهم أحلى حوار
وصراخهم قيثارة = وشِجارهم نعمَ الشّجار
كبر الصغار ولم تعد = جيبي لأيديهم مزار
ولكم على كتفي بكوْا = وغفوْا على صدري مرار
بَعُدوا وصار بريدهم = لقيا وأخباراً تثار
كبر الصغار تغربوا = فهل الحياة لهم يسار؟
أم أن دربهمو عصيْ = يٌ شائكٌ جمُّ العِثار؟
كل يسيرُ بدربه = أتراه كان لهم خِيار؟
والشوق يلفح خافقي = همّاً وغمّاً وادّ كار
وحنينُ لقياهم يزي = دُ عواطفي لهباً أوار
أوّاهُ ما أقسى الحيا = ة إذا خلا منها الصّغار
وأتذكر هنا قوله تعالى في سورة الشورى: " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ . أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ."
حفظ الله أبناءنا وبناتنا من كل سوء ، وأبقى آباءهم لهم ذخرا وسندا ، إنه سميع مجيب . وليت كل الأبناء يحسون عواطف الآباء على حقيقتها ، وربما لا يحس الأعزب قيمة أبويه إلا لمّا يتزوج ويصير له أبناء وبنات ، وإذا لم يحس بعد كل هذا ، فلا بد أن يكون جلده أقل إحساسا من جلود التماسيح .
وإلى لقاء تال بعون الله..
ا جاء في شرح النونية حول هذا البيت: وأما قدها فكالغصن الرطيب في حسن القوام واعتداله ، فلم يشنه قصر ولا طول، وهذا القد الممشوق والقوام المعتدل قد قام على عجيزة بيضاء كالعاج ثقيلة ممتلئة كأنها كثيب من الرمل، فليس الظهر بلاحق لها، بل هي متميزة منفصلة عنه...
2 هكذا البيت في الموسوعة الشعرية غير أنه في الكتاب الذي ذكرته اول المقالة ورد هكذا:
والصدر متسع على بطن لها حفت به خصران ذات ثمان،
وشرحه الشارح بقوله: وأما الصدر فرحيب متسع فوق بطنها يحف به من الجانبين خصران دقيقان يشكلان حرف الثماني.
3 العُكَنُ والأَعْكان الأَطْواء في البَطْن من السِّمَن(لسان العرب مادة عكن). والناس اليوم أظنهم لا يحبون منظر الأعكان، بل إن النساء يجتهدن في إنقاص أوزانهن للتخلص منها.
4 يشير إلى الأية الكريمة من سورة يسن:" إن أصحابَ الجنة اليومَ في شُغُلٍ فاكهون" والأية التي تليها مباشرة: " هم وأزواجهم في ظلال على الأرائكِ متكئون".
5 قال شارح النونية المذكور آنفا: "ولقد استشعر المؤلف رحمه الله أن قلمه قد جرى به أشواطا بعيدة في التصريح بما لا يحسن التصريح به فاستغفر الله من جماح قلمه واعتذر إليه مما جاوز فيه حده.".
6 الأذنان حقها أن تجر بالياء (الأذنين) ؛ عطفا على العينِ، غير أن الضرورة الشعرية في القافية جعلتها مرفوعة بالألف كما يظهر.
7 المشومة: التي أصابها الشؤم.
دنيا الوطن