منقول - ذكر سلامة القس وخبرها

كانت سلامة مولدة من مولدات المدينة وبها نشأت. وأخذت الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبي السمح وذويهم فمهرت. وإنما سميت سلامة القس لأن رجلاً يعرف بعبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي من قراء أهل مكة، وكان يلقب بالقس لعبادته، شغف بها وشهر، فغلب عليها لقبه. واشتراها يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان، وعاشت بعده، وكانت إحدى من اتهم به الوليد من جواري أبيه حين قال له قتلته: ننقم عليك أنك تطأ جواري أبيك. وقد ذكرنا ذلك في خبر مقتله.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: كانت حبابة وسلامة القس من قيان أهل المدينة، وكانتا حاذقتين ظريفتين ضاربتين وكانت سلامة أحسنهما غناءً، وحبابة أحسنهما وجهاً، وكانت سلامة تقول الشعر، وكانت حبابة تتعاطاه فلا تحسن. وأخبرني بذلك المدائني عن جرير.
وحدثني الزبيري قال حدثني من رأى سلامة قال: ما رأيت من قيان المدينة فتاةً ولا عجوزاً أحسن غناءً من سلامة. وعن جميلة أخذت الغناء.


حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني المدائني قال: كانت حبابة وسلامة قينتين بالمدينة، أما سلامة فكانت لسهيل بن عبد الرحمن، ولها يقول ابن قيس الرقيات:

لقد فتنت ريا وسلامة الـقـسـا




فلم تتركا للقس عقلاً ولا نفسـا
فتاتان أما منهما فـشـبـيهة ال
هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا

وغناه مالك بن أبي السمح. وفيها يقول ابن قيس الرقيات:

أختان إحداهما كالشمس طالـعةً
في يوم دجنٍ وأخرى تشبه القمرا
قال: وفتن القس بسلامة، وفيها يقول:
أهابك أن أقول بذلت نفسي
ولو أني أطيع القلب قالا
حياءً منك حتى سل جسمي
وشق علي كتماني وطالا

قال: والقس هو عبد الرحمن بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية، وكان منزله بمكة. وكان سبب افتتانه بها فيما حدثني خلاد الأرقط قال سمعت من شيوخنا أهل مكة يقولون: كان القس من أعبد أهل مكة، وكان يشبه بعطاء بن أبي رباح، وأنه سمع غناء سلامة القس على غير تعمد منه لذلك. فبلغ غناؤها منه كل مبلغ، فرآه مولاها فقال له: هل لك أن أخرجها إليك أو تدخل فتسمع، فأبى. فقال مولاها: أنا أقعدها في موضع تسمع غناءها ولا تراها فأبى، فلم يزل به حتى دخل فأسمعه غناءها فأعجبه. فقال له: هل لك في أن أخرجها إليك؟ فأبى. فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه، فتغنت فشغف بها وشغفت به، وعرف ذلك أهل مكة. فقالت له يوماً: أنا والله أحبك.

قال: وأنا والله أحبك. قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك. قال: وأنا والله أحب ذاك. قالت: فما يمنعك، فوالله إن الموضع لخالٍ. قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: "الأخلاء يؤمئذٍ بعضهم لبعض عدوٌّ إلا المتقين" وأنا أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك تؤول إلى عداوة. ثم قام وانصرف وعاد إلى ما كان عليه من النسك، وقال من فوره فيها:

إن التي طرقتك بـين ركـائبٍ
تمشي بمزهرها وأنت حـرام
لتصيد قلبـك أو جـزاء مـودةٍ
إن الرفيق له عـلـيك ذمـام
باتت تعللنا وتحـسـب أنـنـا
في ذاك أيقاظ ونـحـن نـيام
حتى إذا سطع الضياء لناظـرٍ
فإذا وذلـك بـينـنـا أحـلام
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها
فاعجب لما تـأتـى بـه الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلـم أنـمـا
سبل الضلالة والهدى أقـسـام

ومن قوله فيها:

ألم ترها لا يبعـد الـلـه دارهـا
إذا رجعت في صوتها كيف تصنع
تمد نظام الـقـول ثـم تـرده
إلى صلصلٍ في صوتها يترجع

وفيها يقول:

ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر
وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر
ألا ليت أني حين صارت بها النوى
جليسٌ لسلمى كلما عج مـزهـر

وقال في قصيدةٍ له:

سلام ويحك هل تحيين من ماتـا
أو ترجعين على المحزون ما فاتا

وقال أيضاً:

سلام هل لي منكم ناصر
أم هل لقلبي عنكم زاجر
قد سمع الناس بوجدي بكم
فمنهم اللائم والـعـاذر

في أشعار كثيرة يطول ذكرها.

وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني الجمحي قال: كانت سلامة وريا أختين، وكانتا من أجمل النساء وأحسنهن غناء. فاجتمع الأحوص وابن قيس الرقيات عندهما، فقال لهما ابن قيس الرقيات: إني أريد أن أمدحكما بأبيات وأصدق فيها ولا أكذب، فإن أنتما غنيتماني بذلك وإلا هجوتكما ولا أقربكما. قالتا: فما قلت؟ قال قلت:

لقد فتنت ريا وسلامة الـقـسـا
فلم تتركا للقس عقلاً ولا نفسـا
فتاتان أما منهما فـشـبـيهة ال
هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا
تكنان أبشاراً رقـاقـاً وأوجـهـاً
عتاقاً وأطرافاً مخضبة ملـسـا

فغنته سلامة واستحسنتاه. وقالتا للأحوص: ما قلت يا أخا الأنصار؟ قال قلت:

أسلام هـل لـمـتـيم تـنـويل
أم هل صرمت وغال ودك غول
لا تصرفي عنـي دلالـك إنـه
حسن لدي وإن بخلت جـمـيل
أزعمت أن صبابـتـي أكـذوبة
يوماً وأن زيارتـي تـعـلـيل

- الغناء لسلامة القس خفيف ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وحماد. وفيه لإبراهيم لحنان، أحدهما خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها عن إسحاق وعمرو، والآخر ثقيل أوله استهلال عن الهشامي- فغنت الأبيات. فقال ابن قيس الرقيات: يا سلامة أحسنت والله! وأظنك عاشقة لهذا الحلقي! فقال له الأحوص: ما الذي أخرجك إلى هذا؟ قال: حسن غنائها بشعرك، فلولا أن لك في قلبها محبة مفرطة ما جاءها هكذا حسناً على هذه البديهة. فقال له الأحوص: على قدر حسن شعري على شعرك هكذا حسن الغناء به، وما هذا منك إلا حسد، ونبين لك الآن ما حسدت عليه. فقالت سلامة: لولا أن الدخول بينكما يوجب بغضة لحكمت بينكما حكومة لا يردها أحد. قال الأحوص: فأنت من ذلك آمنة. قال أبن قيس الرقيات: كلا! قد أمنت أن تكون الحكومة عليك، فلذلك سبقت بالأمان لها. قال الأحوص: فرأيك يدلك على أن معرفتك بأن المحكوم عليه أنت؟ وتفرقا. فلما صار الأحوص إلى منزله جاءه ابن قيس الرقيات فقرع بابه، فأذن له وسلم عليه واعتذر.


ومما قاله الأحوص في سلامة القس وغني به:

أسلام إنك قد ملكت فأسجحي
قد يملك الحر الكريم فيسجح
مني على عانٍ أطلت عنـاءه
في الغل عندك والعناة تسرح
إني لأنصحكم وأعـلـم أنـه
سيان عندك من يغش وينصح
وإذا شكوت إلى سلامة حبها
قالت أجد منك ذا أم تمـزح

الشعر للأحوص. والغناء لابن مسجح في الأول والثاني ثقيل أول بالوسطى عن عمرو. ولدحمان في الأربعة الأبيات ثقيل أول بالبنصر فيه استهلال. وفيه خفيف ثقيل يقال: إنه لمالك؟ ويقال: إنه لسلامة القس.

أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه قال: قال أيوب بن عباية: كان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية، وكان فقيهاً عابداً من عباد مكة، يسمى القس لعبادته، وكانت سلامة بمكة لسهيل، وكان يدخل عليها الشعراء فينشدونها وتنشدهم وتغني من أحب الغناء؟ ففتن بها عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القس، فشاع ذاك وظهر، فسميت سلامة القس بذلك.

قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية قال: سألها عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القس أن تغنيه بشعر مدحها به ففعلت، وهو:

ما بال قلبك لا يزال يهيمـه
ذكر عواقب غيهن سـقـام
إن التي طرقتك بين ركائب
تمشي بمزهرها وأنت حرام
لتصيد قلبك أو جزاء مـودة
إن الرفيق له علـيك ذمـام
باتت تعللنا وتحسـب أنـنـا
في ذاك أيقاظ ونحـن نـيام
حتى إذا سطع الصباح لناظـر
فإذا وذلـك بـينـنـا أحـلام
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها
فأعجب لما تـأتـي بـه الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلـم إنـمـا
سبل الغواية والهدى أقـسـام

قال إسحاق وحدثني المدائني قال حدثني جرير قال: لما قدم يزيد بن عبد الملك مكة وأراد شراء سلامة القس وعرضت عليه، أمرها أن تغنيه، فكان أول صوت غنته:

إن التي طرقتك بين ركـائب
تمشي بمزهرها وأنت حرام
والبيض تمشي كالبدور والدمى
ونواغم يمشين فـي الأرقـام
لتصيد قلبك أو جـزاء مـودة
إن الرفيق له علـيك ذمـام

فاستحسنه يزيد فاشتراها. فكان أول صوت غنته لما اشتراها:

ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر
وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر
ألا ليت أني حين صار بها النـوى
جليس لسلمى حيث ما عج مزهر
وإني إذا ما الصوت زال بنفسهـا
يزال بنفسي قبلها حين تـقـبـر
إذا أخذت في الصوت كاد جليسها
يطير إليها قلبـه حـين ينـظـر
كأن حمـامـاً راعـبـياً مـؤدياً
إذا نطقت من صدرها يتغشمـر

فقال لها يزيد: يا حبيبتي، من قائل هذا الشعر؟ فقصت عليه القصة، فرق له وقال: أحسن وأحسنت!.
قال إسحاق وحدثني المدائني قال: لما اشترى يزيد بن عبد الملك سلامة، وكان الأحوص معجباً. بها وبحسن غنائها وبكثرة مجالستها؟ فلما أراد يزيد الرحلة، قال أبياتاً وبعث بها إلى سلامة. فلما جاءها الشعر غنت به يزيد وأخبرته الخبر، وهو:

عاود القلب من سلامة نصـب
فلعيني من جوى الحب غـرب
ولقد قلت أيها القلب ذو الـشـو
ق، الذي لا يحب حبـك حـب
إنه قد دنـا فـراق سـلـيمـى
وغدا مطلب عن الوصل صعب

غناه ابن محرز ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لابن مسجح خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. وفيه لابن عباد وعلويه رملان. وفيه لدحمان خفيف رمل. هذه الحكايات الثلاث عن الهشامي. وذكر حبش أن لسلامة القس فيه ثاني ثقيل بالوسطى.


قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية قال: كانت سلامة وريا لرجل واحد، وكانت حبابة لرجل، وكانت المقدمة منهن سلامة، حتى صارتا إلى يزيد بن عبد الملك، فكانت حبابة تنظر إلى سلامة بتلك العين الجليلة المتقدمة وتعرف فضلها عليها. فلما رأت أثرتها عند يزيد ومحبة يزيد لها استخفت بها. فقالت لها سلامة أي أخيه! نسيت لي فضلي عليك! ويلك! أين تأديب الغناء وأين حق التعليم! أنسيت قول جميلة يوماً وهي تطارحنا وهي تقول لك: خذي إحكام ما أطارحك من أختك سلامة، ولن تزالي بخير ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفاً!. قالت: صدقت خليلتي! والله لا عدت إلى شيء تكرهينه، فما عادت لها إلى مكروه. وماتت حبابة وعاشت سلامة بعدها دهراً.


أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب عن عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي الأكبر قال: لما قدم عثمان بن حيان المري المدينة والياً عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنك قد وليت على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح فطهرها من الغناء والزنا. فصاح في ذلك وأجل أهلها ثلاثاً يخرجون فيها من المدينة. وكان ابن أبي عتيق غائباً، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح. فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم فقال: لا أدخل منزلي حتى أدخل على سلامة القس. فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلي حتى جئتكم أسلم عليكم. قالوا: ما أغفلك عن أمرنا! وأخبروه الخبر. فقال: اصبروا علي الليلة. فقالوا: نخاف ألا يمكنك شيء وننكظ قال: إن خفتم شيئاً فاخرجوا في السحر. ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيان فأذن له، فسلم عليه، وذكر له غيبته وأنه جاءه ليقضي حقه، ثم جزاه خيراً على ما فعل من إخراج أهل الغناء والزنا، وقال: أرجو ألا تكون عملت عملاً هو خير لك من ذلك. قال عثمان: قد فعلت ذلك وأشار به علي أصحابك. فقال: قد أصبت، ولكن ما تقول- أمتع الله بك- في امرأة كانت هذه صناعتها وكانت تكره على ذلك ثم تركته وأقبلت على الصلاة والصيام والخير، وأتى رسولها إليك تقول: أتوجه إليك وأعوذ بك أن تخرجني من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده؟ قال: فإني أدعها لك ولكلامك. قال أبن أبي عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع من كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها ينبغي أن يترك تركتها؟ قال نعم. فجاءه بها وقال لها: اجعلي معك سبحة وتخشعي ففعلت.

فلما دخلت على عثمان حدثته، وإذا هي من أعلم الناس بالناس وأعجب بها، وحدثته عن آبائه وأمورهم ففكه لذلك. فقال لها أبن أبي عتيق: أقرئي للأمير فقرأت له؟ فقال لها احدي له ففعلت، فكثر تعجبه. فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها! فلم يزل ينزله شيئاً شيئاً حتى أمرها بالغناء. فقال لها أبن أبي عتيق: غني، فغنت:

سددن خصاص الخيم لما دخلنه
بكل لبان واضـح وجـبـين

فغنته؟ فقام عثمان من مجلسه فقعد بين يديها ثم قال: لا والله ما مثل هذه تخرج!. قال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، يقولون: أقر سلامة وأخرج غيرها. قال: فدعوهم جميعا؟ فتركوهم جميعاً.


أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عبد الله بن أبي فروة قال: قدمت رسل يزيد بن عبد الملك المدينة فاشتروا سلامة المغنية من آل رمانة بعشرين ألف دينار. فلما خرجت من ملك أهلها طلبوا إلى الرسل أن يتركوها عندهم أياماً ليجهزوها بما يشبهها من حلي وثياب وطيب وصبغ. فقالت لهم الرسل: هذا كله معنا لا حاجة بنا إلى شيء منه، وأمروها بالرحيل. فخرجت حتى نزلت سقاية سليمان بن عبد الملك وشيعها الخلق من أهل المدينة، فلما بلغوا السقاية قالت للرسل: قوم كانوا يغشونني ويسلمون علي، ولا بد لي من وداعهم والسلام عليهم، فأذن للناس عليها فانقضوا حتى ملئوا رحبة القصر ووراء ذلك، فوقفت بينهم ومعها العود، فغنتهم:

فارقوني وقد علـمـت يقـينـاً
ما لمن ذلـق مـيتة مـن إياب
إن أهل الحصاب قد تركـونـي
مولعاً موزعاً بأهل الحـصـاب
أهل بيت تتابعـوا لـلـمـنـايا
ما على الدهر بعدهم من عتاب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مـو
سى إلى النخل من صفي السباب
كم بذاك الحجون من حي صـدق
وكـهـول أعـفة وشـبــاب

قال عيسى: وكنت في الناس، فلم تزل تردد هذا الصوت حتى راحت، وانتحب الناس بالبكاء عند ركوبها، فما شئت أن أرى باكياً إلا رأيته.

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: وجه يزيد بن عبد الملك إلى الأحوص في القدوم عليه، وكان الغريض معه، فقال له: اخرج معي حتى آخذ لك جائزة أمير المؤمنين وتغنيه، فإني لا أحمل إليه شيئاً هو أحب إليه منك، فخرجا. فلما قدم الأحوص على يزيد جلس له ودعا به. فأنشده مدائح فأستحسنها، وخرج من عنده، فبعثت إليه سلامة جارية يزيد بلطفٍ. فأرسل إليها: إن الغريض عندي فدمت به هدية إليك. فلما جاءها الجواب اشتاقت إلى الغريض وإلى الاستماع منه. فلما دعاها أمير المؤمنين تمارضت وبعثت إلى الأحوص: إذا دعاك أمير المؤمنين فاحتل له في أن تذكر له الغريض. فلما دعا يزيد الأحوص قال له يزيد: ويحك يا أحوص! هل لسمعت شيئاً في طريقك تطرفنا به؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، مررت في بعض الطريق فسمعت صوتاً أعجبني حسنه وجودة شعره، فوقفت حتى أستقصيت خبره، فإذا هو الغريض، وإذا هو يغنى بأحسن صوت وأشجاه:

ألا هاج التذكر لي سقـامـاً
ونكس الداء والوجع الغراما
سلامة إنها هـمـي ودائي
وشر الداء ما بطن العظاما.
فقلت له ودمع العين يجري
على الخدين أربعة سجامـا
عليك لها السلام فمن نصب
يبيت الليل يهذي مستهامـا

قال يزيد: ويلك يا أحوص! أنا ذاك في هوى خليلتي؟ وما كنت أحسب مثل هذا يتفق، وإن ذاك لما يزيد لها في قلبي. فلما صنعت يا أحوص حين سمعت ذاك قال: سمعت ما لم أسمع يا أمير المؤمنين أحسن منه، فما صبرت حتى أخرجت الغريض معي وأخفيت أمره، وعلمت أن أمير المؤمنين يسألني عما رأيت في طريقي. فقال له يزيد: ائتني بالغريض ليلاً وأخف أمره. فرجع الأحوص إلى منزله وبعث إلى سلامة بالخبر. فقالت للرسول: قل له جزيت خيراً، قد انتهى إلي كل ما قلت، وقد تلطفت وأحسنت. فلما وارى الليل أهله بعث إلى الأحوص أن عجل المجيء إلي مع ضيفك. فجاء الأحوص مع الغريض فدخلا عليه. فقال غنني الصوت الذي أخبرني الأحوص أنه سمعه منك- وكان الأحوص قد أخبر الغريض الخبر، وإنما ذلك شعر قاله الأحوص يريد يحركه به على سلامة يحتال للغريض في الدخول عليه- فقال: غنني الصوت الذي أخبرني الأحوص. فلما غناه الغريض دمعت عين يزيد ثم قال: ويحك!. هل يمكن أن تصير إلى مجلسي؟ قيل له: هي صالحة. فأرسل إليها فأقبلت. فقيل ليزيد: قد جاءت، فضرب لها حجاب فجلست، وأعاد عليه الغريض الصوت، فقالت: أحسن والله يا أمير المؤمنين، فاسمعه مني، فأخذت العود فضربته وغنت الصوت، فكاد يزيد أن يطير فرحاً وسروراً، وقال: يا أحوص، إنك لمبارك! يا غريض غنني في ليلتي هذا الصوت، فلم يزل يغنيه حتى قام يزيد وأمر لهما بمال، وقال: لا يصبح الغريض في شيء من دمشق. فأرتحل الغريض من ليلته، وأقام الأحوص بعده أياماً ثم لحق به؟ وبعثت سلامة إليهما بكسوة ولطف كثير.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني رجل من أهلي من بني نوفل قال: قدمت في جماعةٍ من قريش على يزيد بن عبد الملك، فألفيناه في علته التي مات فيها بعد وفاة حبابة، فنزلنا منزلاً لاصقاً بقصر يزيد، فكنا إذا أصبحنا بعثنا بمولى لنا يأتينا بخبره، وربما أتينا الباب فسألنا، فكان يثقل في كل يوم. فإنا لفي منزلنا ليلة إذ سمعنا همساً من بكاء ثم يزيد ذلك، ثم سمعنا صوت سلامة القس وهي رافعة صوتها تنوح وقول:

لا تلمنا إن خشعـنـا
أو هممنا بخشـوع
قد لعمري بت ليلـي
كأخي الداء الوجيع
كلما أبصرت ربعـاً
خالياً فاضت دموعي
قد خلا من سيد كـا

ن لنا غير مضـيع

ثم صاحت وا أمير المؤمنين! فعلمنا وفاته، فأصبحنا فغدونا في جنازته.

أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه قال: قال يزيد بن عبد الملك ما يمر عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتى أشتري سلامة جارية مصعب بن سهيل الزهري وحبابة جارية آل لاحق المكية؟ فأرسل فاشتريتا له. فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قال الشاعر:

فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عيناً بالإياب المسافـر

فلما توفي يزيد رثته سلامة فقالت وهي تنوح عليه هذا الشعر:

لا تلمنا إن خشعنا
أو هممنا بخشوع
إذ فقدنـا سـيداً كـا
ن لنا غير مضـيع

وهو كالليث إذا مـا
عد أصحاب الدروع
يقنص الأبطال ضرباً
في مضي ورجوع

أخبرنا الحسين بن يحيى قال حدثنا الزبير والمدائني أن سلامة كانت لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف، فاشتراها يزيد بن عبد الملك، وكانت مغنية حاذقة جميلة ظريفة تقول الشعر، فما رأيت خصالاً أربعاً اجتمعن في امرأة مثلها: حسن وجهها وحسن غنائها وحسن شعرها. قال: والشعر الذي كانت تغني به:

لا تلمنا إن خشعنـا
أو هممنا بخشـوع
للذي حل بنـا الـيو
م من الأمر الفظيع

وذكر باقي الأبيات مثل ما ذكره غيره.
قال إسحاق وحدثني الجمحي قال حدثنا من رأى سلامة تندب يزيد بن عبد الملك بمرثية رثته بها، فما سمع السامعون بشيء أحسن من ذلك ولا أشجى، ولقد أبكت العيون وأحرقت القلوب وأفتنت الأسماع، وهي:

يا صاحب القبر الغريب
بالشأم في طرف الكثيب
بالشـأم بـين صـفـائح
صم ترصف بالجبـوب
لما سمـعـت أنـينـه
وبكاءه عند المـغـيب
أقبلت أطـلـب طـبـه
والداء يعضل بالطبـيب

الشعر لرجل من العرب كان خرج بابن له من الحجاز إلى الشأم بسبب امرأة هويها وخاف أن يفسد بحبها، فلما فقدها مرض بالشأم وضني فمات ودفن بها. كذا ذكر ابن الكلبي، وخبره يكتب عقب أخبار سلامة القس. والغناء لسلامة ثقيل أول بالوسطى عن حبش. وفيه لحكم رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لحن لابن غزوان الدمشقي من كتاب ابن خرداذبه غير مجنس.


أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني الجمحي قال: حدثني من حضر الوليد بن يزيد وهو يسأل سلامة أن تغنيه شعرها في يزيد وهي تتنغص من ذلك وتدمع عيناها، فأقسم عليها فغنته،؟ فما سمعت شيئاً أحسن من ذلك. فقال لها الوليد: رحم الله أبي وأطال عمري وأمتعني بحسن غنائك يا سلامة!. بم كان أبي يقدم عليك حبابة؟ قالت: لا أدري والله!. قال لها، لكنني والله أدري! ذلك بما قسم الله لها. قالت: يا سيدي أجل.

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني عبد الله بن عبد الملك الهدادي عن بعض رجاله عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: سمعت نائحة مدنية تنوح بهذا الشعر:

قد لعمري بت لـيلـي
كأخي الداء الوجـيع
ونجي الـهـم مـنـي
بات أدنى من ضلوعي
كلما أبصرت ربـعـاً
دارساً فاضت دموعي
مقفراً مـن سـيد كـا
ن لنا غير مـضـيع

والشعر للأحوص. والنوح لمعبد، وكان صنعه لسلامة وناحت به سلامة على يزيد. فلما سمعته منها استحسنته واشتهيته ولهجت به، فكنت أترنم به كثيراً. فسمع ذلك مني أبي فقال: ما تصنع بهذا؟ قلت: شعر قاله الأحوص وصنعه معبد سلامة وناحت به سلامة على يزيد. ثم ضرب الدهر، فلما مات الرشيد إذا رسول أم جعفر قد وافاني فأمرني بالحضور. فسرت إليها، فبعثت إلي: إني قد جمعت بنات الخلفاء وبنات هاشم لننوح على الرشيد في ليلتنا هذه؟ فقل الساعة أبياتاً رقيقة واصنعهن صنعة حسنة حتى أنوح بهن. فأردت نفسي على أن أقول شيئاً فما حضرني وجعلت ترسل إلي تحثني، فذكرت هذا النوح فأريت أني أصنع شيئاً، ثم قلت: قد حضرني القول وقد صنعت فيه ما أمرت؟ فبعثت إلي بكنيزة وقالت: طارحها حتى تطارحنيه. فأخذت كنيزة العود ورددته عليها حتى أخذته، ثم دخلت فطارحته أم جعفر، فعبثت إلي بمائة ألف درهم ومائة ثوب.
نسبة ما في هذه الأخبار من الأصوات

لقد فتنت ريا وسلامة الـقـسـا
فلم تتركا للقس عقلاً ولا نفسـا
فتاتان أما منهما فـشـبـيهة ال
هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا

الشعر لعبد الله بن قيس الرقيات. والغناء لمالك خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لابن سريح ثقيل أول عن الهشامي. وزعم عمرو بن بانة أن خفيف الثقيل لحنين الحيري. وقيل: إن الثقيل الأول لدحمان.
ومنها الشعر الذي أوله:

أهابك أن أقول بذلت نفسي
أأثلة جر جيرتك الزيالا
وعاد ضمير ودكم خـبـالا
فإني مستقيلك أثـل لـبـي
ولب المرء أفضل ما استقالا
أهابك أن أقول بذلت نفسي
ولو أني أطيع القلب قالا
حياء منك حتى سل جسمي
وشق علي كتماني وطالا

الشعر للقس. والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر. وفيه لمعبد ثقيل أول بالوسطى، أوله:

أهابك أن أقول بذلت نفسي

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا بكار بن رباح قال: كان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية، وقد كانت أصابت جده منة من صفوان بن أمية، وكان ينزل مكة، وكان من عباد أهلها، فسمي القس من عبادته. فمر ذات يوم بسلامة وهي تغني فوقف فتسمع غناءها. فرآه مولاها فدعاه إلى أن يدخله إليها فيسمع منها، فأبى عليه. فقال له: فإني أقعدك في مكان تسمع منها ولا تراها. فقال: أما هذا فنعم. فأدخله داره وأجلسه حيث يسمع غناءها؟ ثم أمرها فخرجت إليه. فلما رآها علقت بقلبه فهام بها، واشتهر وشاع خبره بالمدينة. قال: وجعل يتردد إلى منزل مولاها مدة طويلة. ثم إن مولاها خرج يوماً لبعض شأنه وخلفه مقيماً عندها فقالت له: أنا والله أحبك! فقال لها: وأنا والله الذي لا إله إلا هو. قالت: وأنا والله اشتهي أن أعانقك وأقبلك! قال: وأنا والله. قالت: وأشتهي والله أن أضاجعك وأجعل بطني على بطنك وصدري على صدرك! قال: وأنا والله. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ فوالله إن المكان لخال!. قال: يمنعني منه قول الله عز وجل: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" فأكره أن تحول مودتي لك عداوة ، يوم القيامة. ثم خرج من عندها وهو يبكي؟ فما عاد إليها بعد ذلك.

وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن المدائني قال: لما ملك يزيد بن عبد الملك حبابة وسلامة القس تمثل:

فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عيناً بالإياب المسافـر

ثم قال: ما شاء بعد من أمر الدنيا فليفتني.

وإني ليرضيني قليل نوالـكـم
وإن كنت لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم
من الوصل إلا عدتم بجمـيل

الشعر للعباس بن الأحنف. والغناء لسليمان الفزاري. ولحنه المختار من الرمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف رمل أوله الثاني ثم الأول، ينسب إلى حكم الوادي وإلى سليمان أيضاً. وفيه لحن من الثقيل الأول! يقال: إنه لمخارق، ذكر حبش أن لحن مخارق ثاني ثقيل.
 
أعلى