نزار عابدين - المرأة التي نُسِبت إلى من أحبَّت

عُرف ثلاثة من مشاهير العشاق الشعراء بأسماء محبوباتهم، ونعرف جميعنا جميل بثينة، وكُثَــيِّـــر عزَّة، ومَجنون ليلى. لكن امرأة عاشقة واحدة قلبت الموازين، ونسبت إلى من أحبت، واشتهرت في التاريخ بلقب «سلّامَة القـَـسّ»، فمن سلّامة هذه؟ ومن القـَسّ؟

كانت حبابة وسلّامة من قيان أهل المدينة، وكانتا حاذقتين ظريفتين ضاربتين، وكانت سلّامة أحسنهما غناءً، وتقول الشعر. وقال خبراء الغناء: ما رأينا من قيان المدينة فتاةً ولا عجوزاً أحسن غناءً من سلّامة، واشتراهما يزيد بن عبد الملك.

أما القسّ فهو عبد الرحمن بن أبي عمار، وقيل: كان عبد الرحمن من أعبد أهل مكة ولذلك لقب القسّ، فَمَّر ذات يوم ببيت سيِّد سلّامة سهيل بن عبد الرحمن وهي تغني، فوقف يسمع غناءها، فدعاه مولاها إلى أن يدخله إليها فيسمع منها ولا يراها، وتكرر هذا مرات. فهل كان القس يتعمد المرور ببيت سيدها؟ ثم أجلسها مولاها وراء ستار شـفاف، ثم أمرها فخرجت إليه، فـلما رآها عـلق حبها بقـلبه فهام بها وقال:

إنَّ الـتي طـرقـتـك بـيـن ركائـبٍ تـمـشي بمِزهَـرِهـا وأنـتَ حَــرامُ
بـاتـت تعَـلِّــلُــنـا وتحـسَـبُ أنَّــنـا في ذاك أيْـقــاظٌ ونـحـن نــيــــامُ

قد كنت أعذِلُ في السفاهةِ أهلَـها فـاعْـجَـبْ لـمــا تـأتي بـه الأيّــامُ فـالـيـوم أعْـذُرهُـمْ وأعـلـمُ أنّـمــا سـبُـلُ الـضلالـةِ والهُـدى أقـسـامُ

وقد أخذ المتنبي معنى البيتين الأخيرين وصاغه صياغة أجمل:
وعَـذَلـتُ أهـلَ العِـشــقِ حـتّى ذقــتُــهُ فعَجِبـتُ كيـفَ يَمـوتُ مَـن لا يَعـشَـقُ
وعَـذَرتُـهُــمْ وعَـرَفــتُ ذَنـبيَ أنَّـــنـي عَـيـَّرتُـهُـم فـلـقـيـتُ فـيــهِ ما لَــقـوا

ومن شعره فيها:

ألـمْ تـرهـا لا يُـبـعِــدُ الـلـــهُ دارَهــا إذا رجَّعـت في صوتِها كيف تصنعُ؟
تـمُـــدُّ نـظــــامَ الـقـــولِ ثــمَّ تــرُدُّه إلى صلْـصلٍ في صـوتِهـا يـتـرجَّعُ

وكان القسّ عبد الرحمن شاعراً رقيقاً، لا يتعارض هذا مع نسكه وعبادته، ومما قال في سلّامة أيضاً:

ألا قـلْ لهذا القـلـبِ: هـل أنت مُـبصـرُ؟ وهل أنت عـن سلّامة اليـومَ مُقـصِـرُ؟
ألا ليتَ أنّي حينَ صارت بهـا النّـوى جـلـيسٌ لـسَـلْـمى كلـمـا عَـجَّ مِـزهَــرُ

ومما يدل على أن أمرهما شاع بين الناس أن الشعراء تحدثوا عنه في أشعارهم، قال عبيد الـلـه بن قيس الرقيات:

لـقـد فـتـنـتْ رَيّــا وســلّامَــة الـقَــسّـا فـلمْ تـتـركا لِـلـقـسِّ عَـقْـلاً ولا نـفْـسا
فـتـاتـانِ أمّـا مِـنهــمـا فـشـــبِـيـهَـةُ الـ ـهلالِ وأخرى مِنهُـما تُـشـبهُ الشَـمسا

وخلا بها يوماً وقد خرج سيدها لبعض شأنه، فقالت له: أنا والله أحبك، وأحب أن أضع فمي على فمك، وتضمني وأضمك، قال: وأنا والله أحب ذلك، قالت: فما يمنعك والموضع خالٍ؟ قال: لأن الله عز وجل يقول في محكم آياته: «الأخِلَّاءُ يومَـئِـذٍ بَعْـضُـهُـمْ لـبَعْـضٍ عَـدُوٌّ إلا الـمُـتَّقِـيـنَ» وإني أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك تؤول إلى عداوة، ثم انصرف ينشد:

أهـابُـكِ أن أقـولَ بـذلْـتُ نـفـسي ولـو أنّي أطـيــــعُ الـقـلـبَ قــالا
حَـياءً منكِ حـتّى شَـفَّ جـسـمي وشَـــقَّ عَـليَّ كِـتـمــاني وطـالا

عاد القسّ إلى نسكه، أما سلامة فقد اشتراها يزيد بن عبد الملك ، ولا يهمنا الآن سوى أن الوليد بن يزيد تولَّــهَ بها وبحبابة، وكانتا أحد أسباب مقتله، لأنه وطئهما من بين مَنْ وطئ من جواري أبيه، وهذا حرام في الإسلام لقوله سبحانه وتعالى: «ولا تنْكِحُوا ما نَكحَ آباؤُكُمْ من النساءِ إلا ما قد سَلفَ إنه كان فاحِشةً ومَقْـتًا وَساءَ سَبِيلاً». وأما عبد الرحمن القس فقد عشق مرة أخرى، لكنه نال مبتغاه حلالاً هذه المرة، إذ علم عبد الـلـه بن جعفر بن أبي طالب - وكان من أجود الأجواد - بقصته، فاشترى الجارية التي هام بها القسّ وأهداها إليه.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...