نقوس المهدي
كاتب
ما يزال بعض أفراد الجماعة الشعبية يعتبرون الحمّام مسكناً للجنّ والعفاريت، بينما الغالبية تقصره على الجنّ وحسب، لذا فهم يستأذنون حين يطأون هذه المواضع فالجان لا يحلو له السكنى إلاّ في هذه المواضع، من أجل هذا لا بدّ من التحصّن عند الدخول، كما أنهم لا يصبّون الماء الساخن في بيت الخلاء قبلما يقولون "دستوركم يا أسيادي". وكم من حكايات عن الجن الذين مارسوا الأذى في أحد أبناء البيت لأنّ الأمّ قد صبّت ماء ساخناً على "جنٍّ صغير" فطاله الأذى ولا بدّ من الإنتقام، هكذا يكون تبرير أبناء الجماعة الشعبية لطاريء صحّي في أحد أبنائها، خاصة بعد دخوله الحمّام.
ويمنع المعتقد الشعبي الأبناء والبنات من الصراخ في الحمّام حتى لا يستغل الجان هذا و"يلبس" من يصرخ، كما يمثل الكلام في الحمّام محرماً يجب تجنبه، لأن الكلام في الحمّام يأتي بالفقر، ويستخدمون تعبيراً يؤكد ذلك "الكلام في الحمّام بيجيب الفقر"، كما يُمنع الصراخ أو الكلام بشكل أكبر ساعة صلاة الجمعة، حيث كلّ الشياطين والجن تتخذ من الحمّام مخبأ. وتقوم بعض الأمهات بتبخير البيت وضمنه الحمّام قبل آذان الجمعة لطرد الأرواح الشريرة والكائنات الغامضة، وتنبني هذه المعتقدات على تصور أن هناك ميثاقاً بين البشر والجان يحدد التعامل، ميثاق قائم على الخوف من المجهول. كما أن هناك معتقداً يتعلق بالإنجاب، فالعروس لا تستحم أولاً عند دخلتها، إنّما تترك هذه الفرصة لعريسها أولاً تيمّناً بذكوريته حتى تنجب ولداً، كما يتبرّك بعض الشعبيين بتنظيف حمّامات الأولياء، كما يعتبر بعض المريدين ممّن اختاروا التصوف الشعبي هذا العمل نوعاً من التقشّف والزهد في الطريق الى الوصول، كما يمارس بعض السحرة سحرهم الأسود بعمل بعض ”العَملات” ووضعها في مكان مخفيّ في الحمّام، واستخدام الفضلات في عملها، وذلك رغبة في تعظيم الإيذاء.
إنّ المتواتر من عناصر الأدب الشعبي قليل، بل نادر، ومعظمه يتعلق بشعر الغناء الشعبي الذي يغنّى في الأفراح، ومعظم هذا الغناء لا يتعلّق بالحمّام، إنما بوظيفة من وظائفه، فيحلو وصف جمال العروس بعد خروجه من الحمّام، بوصف الحمّام عنصراً في طقس العبور من مرحلة لأخرى، يتضح ذلك في الأغنية ـ الرُّقية التي تقوم بها الأمّ بعد استحمّام طفلها: "قلّعتك حرز لبّستك حرز.. حرز الحسن والحسين .. ما تنوبك عين"، كما يتابع النص الشعبي غناء شكل العروس، وهي الخطيبة، بعد "تسبيحها"، أي تحميمها لتستعد لعالم الزواج :
خطيبتك يا خي كلّ الحلا فيها
عم اسبّحها في حوش الجاموس
جلدها بيضوي ضيّ الفانوس
عم اسبّحها في حوش البقر
جلدها يلمع زيّ ضي القمر
ويستمر أبناء الجماعة الشعبية في غناء متصل بعد أن تقوم "البلانة" أو الماشطة، ومعها قرينات وأقارب العروس بتحميمها، أما العريس فيتولى المقرّبون من أصدقائه "تحميمه"، وتظل نساء البيت، خاصّة أمّه، تغنّي غناء يشبه "العدودة" في إيقاعها اللحني، لأنه "بالحمام" يكون قد استعدّ لطقوس عبور من حياة لحياة قد يتغير فيها، ولنرَ كيف تتغزل المغنّية الشعببة في العريس بعد خروجه من الحمّام :
طالع من الحمّام والجمامه
لا الوردتين الحمر زانو الجامه
طالع من الحمّام وانا شفته
وطاطيت على خدّ العريس وبسته
وربطت له ميتين على محرمته
وقلت له أنا يا عريس قشلانه
طالع من الحمّام وناديته
وطاطيت على خدّ العريس حبيته
وكبشت له من الدهب واديته
وقلت له أنا يا عريس قشلانه
وحين تخرج العروس من حمّامها "الطشت"، والطست وعاء لغسل الملابس أو الاستحمّام، تتجلى الأغنيات مشبّهة العروس بالمشمش الطريّ المبلول، وكذا بالخسّ الريان، وتبدأ التلميحات الجنسية تعلو لتضع العروس على سلّم الممارسة وتكسر خجلها من خلال جماليات صياغية بحاجة الى الوقوف أمام أساليبها الساحرة :
ريان ريان يا قليب الخَسّ رياني
وانا رأيتها في الطشت وسطاني
لابسه شلاكي جديده وطالعه تلالي
وطالع على فوق طوحت لي بالحلق والطوق
اصبر شويه يا عديم الذوق
تلتين ساعه وتحل سروالي
*
مسّيكي بالخير يا مشمش طري مبلول
تمشي تهزّي الفلك تسبي بنات الحور
وحياة من زيّن الرقبة وشرّعها
أنا خاطري في وصالك، مستحي ما اقول
كما يقوم شباب الريف المصري الى الآن بتحمية العريس بعد "الحلاقة" ومنح "النقوط" للحلاق، وتبدأ المناوشات والمناغشات بين زملاء العريس التي تصل أحيانا الى ضربه، وقرصه، وهم يرشونه بالماء في "الطشت" ويغنّون غناء مكشوفاً:
واكبر واكبر واكبر.. وعريسنا الله واكبر..
شاب كبير واكبر.. فرحه الليله واكبر..
بتاعه كبير واكبر.. قدّ الحمير واكبر.
وعلى الجانب الأخر، وفي بيت العروس تستمرّ الأغاني متتالية متنوعة بين الموال والأغنية الموقعة وفي الحالين لا تعدم سيرة الحمّام أو الاستحمّام على وجه الدقة:
الطشت قال لي الطشت قال لي
يا حلوه يا للي قومي استحمي
وسنلحظ أن وصف الشعبيين للصدر يتعلق بالحمّام، خاصة بلاطه، فوجه المشابهة هنا في النعومة والاستواء والنظافة:
مناخيرك بلحه من الشام
وخشيمك خاتم سليمان
ورقبتك كوز اللبان
وصدرك بلاط حمّام
ونهودك جمع الرمان
وكذلك يضربنا مطلع الموال واصفاً الصدر وصاحبته، ومتعجباً من تكوينه على هذه الشاكلة:
عجبي على بنت بيضا اسمها هانم
حاطّه على صدرها حمّام بسلالم
وحين ينتهي الوصف يبدأ الفعل حين يكون الاستحمّام مقدمة لطقوس العبور ونهاية للطهارة من الممارسة التي يسبقها اللعب بالماء والمناغاة:
السلك علق ولا إيه… انا عليا اركب عربيه.. وهو عليه يعسر فيا.. ولا إيه
أنا عليا أسخّن ميه… وهو عليه يرش عليه.. ولا إيه؟
فالأنثى عليها تسخين الماء وعلى الذكر أن يرشّ عليها. وما زال بعض الشعبيين يستخدمون الكوز في رشّ الماء، والاستحمّام بوصف الطهارة هي نهاية حلقات مسلسل الملاعبة.
وهناك بعض الأمثال التي تجعل من الحمّام عنصراً في تكوينها مثل "دخول الحمّام مش زي خروجه" والحمّام هنا كلمة شديدة الدلالة حيث يمثل مكان عبور، دخول الإنسان له يختلف عن الخروج منه، كما تنتشر بعض الحكايات المثليّة التي قد تبرر صياغة المثل منها: "اللي اختشوا ماتوا" حيث يروي البعض أن مضرب المثل جاء نتيجة أن بعض البنات كن يستحممن، واشتعلت النار في الحمّام، فمن لم تخرج منهن ماتت لأنها "اختشت" أن تخرج من الحمّام عارية.
كما تنتشر عدّة عبارات شعبية متواترة تتعلق بالحمّام والاستحمّام منها: "حمّام الهنا"، "حمّام العافية"، وتقال كنوع من الدعاء، حماية العيد كما تقال للتندر ممّن لا يستحمّ إلا كلّ مدة طويلة، وقد تقال لتأكيد أهمية الاستحمّام، كما يقال للخارج من الحمّام لتوه "حمّام الهنا أو العافية" وكذلك : "نعيماً"، أمّا كلمة "شفيتم" فتقال لمن كان يقضي حاجته، ويرد المستمع "عفيتم".
كان الاستحمّام ترفاً عظيماً نعمَ به المصريون على حد تعبير "إدوارد وليم لين"، فقد كان في مصر مابين ستين وسبعين حمّاما دخلها الجمهور مقابل مبلغ صغير، بعضها مخصّص للرجال وبعضها للنساء، وكانت هذه الحمّامات مصدر ثروة فولكلورية فيما يتعلق بالزيّ والأدوات المستخدمة والأغاني، بل كانت أماكن لتناقل الشعر والحكايات، تستمع إليها وأنت في "المغطس" أو وأنت تستمتع بطقطقة عظامك حين تستسلم "للمكبساتي"، أو حين تحفظ النساء الحكايا، وهن يستمتعن برقص الغوازي أو يشاركنهن الرقص واكتشاف تعاريج أجسادهن بعيداً عن تسلط الذكور.
.
ويمنع المعتقد الشعبي الأبناء والبنات من الصراخ في الحمّام حتى لا يستغل الجان هذا و"يلبس" من يصرخ، كما يمثل الكلام في الحمّام محرماً يجب تجنبه، لأن الكلام في الحمّام يأتي بالفقر، ويستخدمون تعبيراً يؤكد ذلك "الكلام في الحمّام بيجيب الفقر"، كما يُمنع الصراخ أو الكلام بشكل أكبر ساعة صلاة الجمعة، حيث كلّ الشياطين والجن تتخذ من الحمّام مخبأ. وتقوم بعض الأمهات بتبخير البيت وضمنه الحمّام قبل آذان الجمعة لطرد الأرواح الشريرة والكائنات الغامضة، وتنبني هذه المعتقدات على تصور أن هناك ميثاقاً بين البشر والجان يحدد التعامل، ميثاق قائم على الخوف من المجهول. كما أن هناك معتقداً يتعلق بالإنجاب، فالعروس لا تستحم أولاً عند دخلتها، إنّما تترك هذه الفرصة لعريسها أولاً تيمّناً بذكوريته حتى تنجب ولداً، كما يتبرّك بعض الشعبيين بتنظيف حمّامات الأولياء، كما يعتبر بعض المريدين ممّن اختاروا التصوف الشعبي هذا العمل نوعاً من التقشّف والزهد في الطريق الى الوصول، كما يمارس بعض السحرة سحرهم الأسود بعمل بعض ”العَملات” ووضعها في مكان مخفيّ في الحمّام، واستخدام الفضلات في عملها، وذلك رغبة في تعظيم الإيذاء.
إنّ المتواتر من عناصر الأدب الشعبي قليل، بل نادر، ومعظمه يتعلق بشعر الغناء الشعبي الذي يغنّى في الأفراح، ومعظم هذا الغناء لا يتعلّق بالحمّام، إنما بوظيفة من وظائفه، فيحلو وصف جمال العروس بعد خروجه من الحمّام، بوصف الحمّام عنصراً في طقس العبور من مرحلة لأخرى، يتضح ذلك في الأغنية ـ الرُّقية التي تقوم بها الأمّ بعد استحمّام طفلها: "قلّعتك حرز لبّستك حرز.. حرز الحسن والحسين .. ما تنوبك عين"، كما يتابع النص الشعبي غناء شكل العروس، وهي الخطيبة، بعد "تسبيحها"، أي تحميمها لتستعد لعالم الزواج :
خطيبتك يا خي كلّ الحلا فيها
عم اسبّحها في حوش الجاموس
جلدها بيضوي ضيّ الفانوس
عم اسبّحها في حوش البقر
جلدها يلمع زيّ ضي القمر
ويستمر أبناء الجماعة الشعبية في غناء متصل بعد أن تقوم "البلانة" أو الماشطة، ومعها قرينات وأقارب العروس بتحميمها، أما العريس فيتولى المقرّبون من أصدقائه "تحميمه"، وتظل نساء البيت، خاصّة أمّه، تغنّي غناء يشبه "العدودة" في إيقاعها اللحني، لأنه "بالحمام" يكون قد استعدّ لطقوس عبور من حياة لحياة قد يتغير فيها، ولنرَ كيف تتغزل المغنّية الشعببة في العريس بعد خروجه من الحمّام :
طالع من الحمّام والجمامه
لا الوردتين الحمر زانو الجامه
طالع من الحمّام وانا شفته
وطاطيت على خدّ العريس وبسته
وربطت له ميتين على محرمته
وقلت له أنا يا عريس قشلانه
طالع من الحمّام وناديته
وطاطيت على خدّ العريس حبيته
وكبشت له من الدهب واديته
وقلت له أنا يا عريس قشلانه
وحين تخرج العروس من حمّامها "الطشت"، والطست وعاء لغسل الملابس أو الاستحمّام، تتجلى الأغنيات مشبّهة العروس بالمشمش الطريّ المبلول، وكذا بالخسّ الريان، وتبدأ التلميحات الجنسية تعلو لتضع العروس على سلّم الممارسة وتكسر خجلها من خلال جماليات صياغية بحاجة الى الوقوف أمام أساليبها الساحرة :
ريان ريان يا قليب الخَسّ رياني
وانا رأيتها في الطشت وسطاني
لابسه شلاكي جديده وطالعه تلالي
وطالع على فوق طوحت لي بالحلق والطوق
اصبر شويه يا عديم الذوق
تلتين ساعه وتحل سروالي
*
مسّيكي بالخير يا مشمش طري مبلول
تمشي تهزّي الفلك تسبي بنات الحور
وحياة من زيّن الرقبة وشرّعها
أنا خاطري في وصالك، مستحي ما اقول
كما يقوم شباب الريف المصري الى الآن بتحمية العريس بعد "الحلاقة" ومنح "النقوط" للحلاق، وتبدأ المناوشات والمناغشات بين زملاء العريس التي تصل أحيانا الى ضربه، وقرصه، وهم يرشونه بالماء في "الطشت" ويغنّون غناء مكشوفاً:
واكبر واكبر واكبر.. وعريسنا الله واكبر..
شاب كبير واكبر.. فرحه الليله واكبر..
بتاعه كبير واكبر.. قدّ الحمير واكبر.
وعلى الجانب الأخر، وفي بيت العروس تستمرّ الأغاني متتالية متنوعة بين الموال والأغنية الموقعة وفي الحالين لا تعدم سيرة الحمّام أو الاستحمّام على وجه الدقة:
الطشت قال لي الطشت قال لي
يا حلوه يا للي قومي استحمي
وسنلحظ أن وصف الشعبيين للصدر يتعلق بالحمّام، خاصة بلاطه، فوجه المشابهة هنا في النعومة والاستواء والنظافة:
مناخيرك بلحه من الشام
وخشيمك خاتم سليمان
ورقبتك كوز اللبان
وصدرك بلاط حمّام
ونهودك جمع الرمان
وكذلك يضربنا مطلع الموال واصفاً الصدر وصاحبته، ومتعجباً من تكوينه على هذه الشاكلة:
عجبي على بنت بيضا اسمها هانم
حاطّه على صدرها حمّام بسلالم
وحين ينتهي الوصف يبدأ الفعل حين يكون الاستحمّام مقدمة لطقوس العبور ونهاية للطهارة من الممارسة التي يسبقها اللعب بالماء والمناغاة:
السلك علق ولا إيه… انا عليا اركب عربيه.. وهو عليه يعسر فيا.. ولا إيه
أنا عليا أسخّن ميه… وهو عليه يرش عليه.. ولا إيه؟
فالأنثى عليها تسخين الماء وعلى الذكر أن يرشّ عليها. وما زال بعض الشعبيين يستخدمون الكوز في رشّ الماء، والاستحمّام بوصف الطهارة هي نهاية حلقات مسلسل الملاعبة.
وهناك بعض الأمثال التي تجعل من الحمّام عنصراً في تكوينها مثل "دخول الحمّام مش زي خروجه" والحمّام هنا كلمة شديدة الدلالة حيث يمثل مكان عبور، دخول الإنسان له يختلف عن الخروج منه، كما تنتشر بعض الحكايات المثليّة التي قد تبرر صياغة المثل منها: "اللي اختشوا ماتوا" حيث يروي البعض أن مضرب المثل جاء نتيجة أن بعض البنات كن يستحممن، واشتعلت النار في الحمّام، فمن لم تخرج منهن ماتت لأنها "اختشت" أن تخرج من الحمّام عارية.
كما تنتشر عدّة عبارات شعبية متواترة تتعلق بالحمّام والاستحمّام منها: "حمّام الهنا"، "حمّام العافية"، وتقال كنوع من الدعاء، حماية العيد كما تقال للتندر ممّن لا يستحمّ إلا كلّ مدة طويلة، وقد تقال لتأكيد أهمية الاستحمّام، كما يقال للخارج من الحمّام لتوه "حمّام الهنا أو العافية" وكذلك : "نعيماً"، أمّا كلمة "شفيتم" فتقال لمن كان يقضي حاجته، ويرد المستمع "عفيتم".
كان الاستحمّام ترفاً عظيماً نعمَ به المصريون على حد تعبير "إدوارد وليم لين"، فقد كان في مصر مابين ستين وسبعين حمّاما دخلها الجمهور مقابل مبلغ صغير، بعضها مخصّص للرجال وبعضها للنساء، وكانت هذه الحمّامات مصدر ثروة فولكلورية فيما يتعلق بالزيّ والأدوات المستخدمة والأغاني، بل كانت أماكن لتناقل الشعر والحكايات، تستمع إليها وأنت في "المغطس" أو وأنت تستمتع بطقطقة عظامك حين تستسلم "للمكبساتي"، أو حين تحفظ النساء الحكايا، وهن يستمتعن برقص الغوازي أو يشاركنهن الرقص واكتشاف تعاريج أجسادهن بعيداً عن تسلط الذكور.
.
صورة مفقودة