بن درهم - نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار

(ما قيل في وصف العشق في قول بعضهم، وذكر بعض من عشق مات)
قال بعضهم: هو طمع يتولد في قلب العاشق، وكلما قوي زاد الحرص على طلبه، واللجاج في محبته حتى يؤديه ذلك إلى الغم المغلق، وينشأ من ذلك فساد الفكر، ومعه يكون زوال العقل، ورجاء ما لا يكون، وتمني ما لا يتم حتى يؤديه إلى الجنون، فربما قتل نفسه، وربما مات غماً، ورما رأى محبوبته فمات من الفرح. وأعلم أن الهوى والعشق والحب، وإن كان موردها واحداً، فقد فرق بينهما عمرو بن بحر الجاحظ، فقال: كل عشق يسمى حباً، وليس كل حب يسمى عشقاً، لأن العشق اسم لما فضل من الاقتصاد في الحب، كما أن السف اسم جاوز الجود، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والهوى يتفرع عن الحب، والحب هو المتولد من أول نظرة، قال بعضهم في ذلك:
الحب أوله تهيم به ... نفس المحب فيلقى الموت كاللعب
يكون مبدؤه من نظرة عرضت ... وخطرة قدحت في القلب كاللهب
كالنار مبدؤها من قدحه فإذا ... تأججت أحرقت مستجمع الحطب
وقال الآخر:
الحب من سمعٍ ومن لحظةٍ ... وفيه إحلاء وإمرار
رأيت نار الحب بين الحشا ... تفعل مالا تفعل النار
إن لم تكلم في الهوى ألسن ... تكلمت باللحظ أبصار
والحب داء ماله حيلة ... وليس فيه للفتى عار
وقيل: إن الحب هو الميل الدائم بالقلب للحبيب، ومصاحبته على الدوام كما قيل:
ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاق قلبي وهم بين أضلعي
وقول آخر:
خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب


والحب: هو المحبة، وأحسن الأقوال فيه أنه مشتق من القلب وهي سويداه، كما قيل مثل ذلك في الشغف، والحب يسمى شغفاً إذا بلغ شغاف القلب، فأما كون الحب هو المتولد من أول نظرة، فلم يبعد من قال ذلك كما قيل:
كل الحوادث مبداها من نظرة ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في القلب صاحبها ... كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والمرء ما دام ذا طرف يقلبه ... في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقتله ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
وقد أجمعوا على أن العشق هو الداء العياء، وماله إلا وصل الحبيب دواء كما قال مهيار:
أشكيكم وإلى من أشتكي ... أنتم الداء فمن يشفي السقام
ومما ورد في العق، ورواه الهيثم بن عدي قال: أصبت صخرة مكتوب عليها العشق ملك غشوم، مسلط ظلوم دانت له القلوب، وانقادت له الألباب وخضعت له النفوس، فالعقل أسيره، والنظر رسوله، واللحظ لفظه يشهد بذلك ما قاله البحتري وذلك أن السيد المرتضى روى في الدرر عن يزيد المبرد، فقال لي البحتري: إني انصرفت يوماً من مجلس أبي العباس محمد بن يزيد المبرد، فقال لي البحتري: ما الذي افدت يومك هذا من أبي العباس؟ قلت: أملي علي أخباراً وأنشدني أبياتاً للحسين بن الضحاك، قال: أنشدني الأبيات فأنشدته:
كأني إذا فارقت شخصك ساعة ... لفقدك بين العالمين غريب
أغرك صفحي عن ذنوب كثيرة ... وعضي على أشياء منك تريب
وقد رمت أسباب السلو فخانني ... ضمير عليه من هواك رقيب
كأن لم يكن في الناس قلبي متيم ... ولم يكن في الدنيا سواك حبيب
إلى الله أشكو إن شكوت فلم يكن ... لشكواي من عطف الحبيب نصيب
فقال: هذا من أحسن الكلام يا بني، ثم أنشدني البحتري لنفسه:
حبيبي حبيب يكتم الناس أنهُ ... لنا حين تلقاه العيون حبيب
يباعدني في الملتقى وفؤاده ... وإن هو أبدى البعاد قريب
ويعرض عني والهوى منه مقبل ... إذا خاف عيناً أو أشار رقيب
فتنطق منا أعين حين نلتقي ... وتخرس منا ألسن وقلوب
ثم قال: أرو يا بني هذا، فإنه من أحسن الشعر وظريفه. وقال بعضهم وقد جعل الدمع كتابه تخاطبه:
ومراعة للبين تحسب أنها ... قمر على غصن تغيب وتطلع
كتبت إليك على شقائق خدها ... سطراً من العبرات ماذا أصنع
فأجبتها بلسان حال معرب ... ما في الحياة مع التفرق مطمع
وما أحسن قول بعضهم في إخفاء المحبة وإظهار الصد:
وخبرك الواشون أن لا أحبكم ... بلى وستور الله ذات المحارم
أصد وما الصد الذي تعلمينهُ ... عزاء بنا إلا اجتراع العلاقم
حياء وتقياً أن تشيع نميمة ... بنا وبكم أفٍ لأهل النمائم
وإن دماً لو تعلمين جنيته ... على الحي جاني مثله غير سالم
أما إنه لو كان غيرك أرقلت ... صعاد القنا بالراعفات اللهاذم
ولكنه والله ما طل مسلماً ... كبيض الثنايا واضحات الملاغم
رمين فاقصدن القلوب فلا ترى ... دماً مائراً إلا جوى في الحيازم
إذا هن ساقطن الحديث حسبته ... سقوط حصى المرجان من كف ناظم
قال الطغرائي: وقد أبدع غاية الإبداع بنظم يستوقف حسنه العيون والأسماع:
خبرها أني مرضت فقالت ... مرضاً طارفاً شكى أم تليدا؟
وأشار بأن تعود وسايدي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا
وأتتني في خفية تتشكي ... ألم الوجد والمزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك ... فأمالت علي عطفاً وجيدا


روي أن المأمون قال للقاضي يحيى بن أكثم ما العشق؟ فقال يحيى: سوانح تسنح للمرء، فيهيم بها قلبه، وتتواتر بها نفسه. فقال له: ثمامة: أمسك أيها القاضي رحمك الله إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق، أو محرم صاد صيدا، وأما هذا فمن مسائلنا نحن فقال المأمون: قل يا ثمامة، فقال: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مالك، ومالك قاهر، مسالكه لطيفة، ومذاهبه متضادة، وأحكامه جائرة، مالك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والنفوس وآراءها وأعطي زمام طاعتها وقياد مملكتها توارى عن الأبصار مدخله، وغميض عن القلوب مسلكه. قال المأمون: أحسنت يا ثمامة. وأمر له بألف دينار.
قال الأصمعي: سئلت أعرابية عن العشق، فقالت: جل والله أن يرى، وخفي عن عيون الورى، فهو في الصدور كامن كمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، أو تركته توارى.
وقيل لأبي زهير المدني: ما العشق؟ فقال: الجنون داء أهل الذل، وهو داء أهل الظرف. وقال بعض الأطباء في صفة الحب: امتزاج الروح بالروح، ولو امتزج الماء بالماء لامتنع تخليص بعضه من بعض فكيف والروح ألطف امتزاجاً، وأرق مسلكاً. وسئل أعرابي عن الهوى، فقال: هو أغمض مسلكا في القلب من الروح في الجسد، وأملك من النفس بالنفس، بطن وظهر، لطف وكثف، فامتنع عن وصفه المسلك والكمون. وروى أهل السير أن الذين علق الحب قلوبهم فماتوا، أو جنوا هم الذين لا يزيل صاحبه أبداً حتى يموت، أو يهم على وجهه، ويشهد بذلك قول المجنون:
وعلقت ليلى وهي ذات موصد ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... صغيران لم نكبر ولم يكبر البهم
ومنه قول جميل:
علقت الهوى منها وليداً ولم يزل ... إلى الآن ينمو حبها ويزيد
وأفنيت عمري في انتظار نواله ... وأفنيت بذاك العمر وهو جديد
وروى سهل بن سعد، قال: كنت بمصر، وخرجت لحاجة، فلقيني صديق لي في بعض الطرق، فقال لي: هل لك أن تعدل إلى عيادة جميل، فقد ثقل مرضه؟ قلت: نعم، فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه، فنظر إلي، فقال: يا ابن سعد ما تقول في رجل لم يزن قط، ولم يشرب مداماً، ولم يسفك دماً حراماً، قد أتت عليه خمسون سنة يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً سول الله؟ فقلت: من هذا؟ فإني أظنه ناجياً من عذاب النار إن شاء الله قال: أنا ذلك. قلت سبحان الله! ما رأيت كاليوم أعجب من هذا، وما أحسبك تسلم، وأنت تشبب ببثينة من عشرين سنة، فقال: إني في آخر يوم الدنيا، وأول يوم من الآخرة، فلا نالتني شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وضعت يدي عليها لريبة، وإنما أكثر ما يكون مني إليها أني آخذ يدها فأضعها على قلبي، فأستريح إليها، ثم أغمي عليه فأفاق وأنشد:
صرخ النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد أجر الذيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة فاندبي بعويل ... وأبكي خليلك دون كل خليل
ثم غمي عليه فمات رحمه الله.


وروي عن الأصمعي أنه قال لأعرابية: ما تعدون العشق فيكم؟ قالت: العناق والضمة والمحادثة والغمزة، ثم قالت: يا حضري كيف هو عندكم؟ فقلت: يقعد الرجل بين رجليها، ثم يجهدها، فقالت: يا ابن أخي ما هذا عشقاً، هذا طلب الولد. وسئل أعرابي عن العشق، فقال: هو اللحظة والنظرة، والأخذ من لطائف الحديث بنصيب، فكيف هو عندكم يا حضري؟ فقال: العض الشديد والجمع بين الركبة والوريد، فقال: والله ما يفعل هذا العدو بعدوه، فكيف الحبيب بحبيبه. وقيل لآخر: ما كنت صانعاً بمن أحببت لو ظفرت به؟ فقال أحل الخمار، واحرم ما وراء الأزرار، واطهر الحب ما يرضى الرب. وقيل لآخر: ما كنت صانعاً لو ظفرت بمحبوبك، فقال: أضمها وألثمها، وأعصي الشيطان في إثمها، ولا أفسد عشق عشرين سنة بلذة ساعة، تفنى لذتها، ويبقى عقابها، إني إن فعلت ذلك للئيم، ولم يلدني الكريم بين العرب، وصاروا يضرب بهم المثل في العشق بكثرة من قتل منهم. قال محمد بن جعفر: سمعت رجلاً من عذرة يتحدث عند عروة، فقال له عروة: يزعم الناس أنكم أرق الناس قلوباً. قال: نعم، والله لقد تركت في الحي ثلاثين شاباً خامرهم الموت ليس لهم داء إلا الحب. وعن سعد بن عتبه أنه حضر في مجلسه رجل، فاستغربه، فقال ممن أنت؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا، فقال: عذري ورب الكعبة، ثم قال: لم كان بكم هذا الداء الذي أهلككم؟ فقال: لأن في رجالنا صباحة، وفي نسائنا عفة. وقيل لرجل منهم: إنكم لتعدون موتكم في الحب فضيلة ومزية، وإنما ذلك من ضعف البنية، ووهن العقيدة، وسوء الروية، فقال العذري: أما أنك لو رأيتم المحاجر البلج، ترشق بالأعين العج، من فوقها الحواجب الزنج، من تحتها المباسم الفلج، تفتر عن الثنايا الغر، كأنها البرد والدر، لجعلتموها اللات والعزى.

نبذة مما وقع للشعراء في الشيب والشباب. قال بعض شعراء أهل العراق، وهو السيد حيدر الحلي المتوفي سنة 1304

رأت الشيب بعارضيك فغاظها ... وثنت بذات البان عنك لحاظها
ريم لآلي نحرها يحكي لآلي ... ثغرها اللائي حكت ألفاظها
هيفاء لو بزت لنساك الورى ... يوماً لأصبى دلها وعاظها
قد كان شملك بالكواعب جامعاً ... أيام سوق صباك كان عكاظها
فتنبهت عين الزمان ففرقت ... بالسيب شملك لا رأت إيقاظها
رقت إليك قلوبهن مع الصبا ... وأعادهن لك المشيب غلاظها
فدع الغواني القاتلات بقدها ... كم فتنة غنج الحسان أفاظها
ولمهيار:
ما أنكرت إلا البياض فصدت ... وهي التي جنت المشيب هي التي
غراء يشفع قلبها في نحرها ... وجبينها ما ساءها في لمتي
أأنست إذ ليل الشباب مصاحبي ... ونفرت إن طلعت عليك أهلتي
وقول البحتري:
ولم أنس إذ راحوا مطيعين للهوى ... وقد وقفت ذات الوشاحين والوقف
ثنت طرفها دون المشيب ومن يشب ... فكل الغواني عنه مثنية الطرف
ومن طريف ما قيل في الشيب قول بعضهم وهو من الهزل المراد به الجد:
تبسم الشيب بذقن الفتى ... يوجب سفح الدمع من جفنه
حسب الفتى بعد الصبا ذلة ... أن يضحك الشيب على ذقنه
وذم الشباب بعضهم بقوله:
لم أقل للشباب في دعة الله ... ولا حفظه غداة استقلا
زائر زارنا أقام قليلاً ... سود الصحف بالذنوب وولى
نبذة غزلية مما تمناه الشعراء في عذب من شعرهم فمن ذلك قول بعضهم:
لقد كنت جلداً قبل أن توقدا النوى ... على كبدي ناراً بطيء خمودها
ولو تركت نار الهوى لتصرمت ... ولكن شوقاً كل يوم يزيدها
وقد كنت أرجو أن تذوب صبابتي ... إذا قدمت أيامها وعهودها
فقد جعلت في حبة القلب والحشا ... عهاد الهوى تولى بشوق يعيدها
بمرتجة الأرداف هيف خصورها ... عذاب ثناياها عجاف قيودها
مخصرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زينته عقودها
وصفر تراقيها وحمر اكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها
يمنيننا حتى ترف قلوبنا ... رفيف الخزامي بات طل يجودها
ويروي منها:
وكنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها
أخلي ما بالعيش عيب لو أننا ... وجدنا لأيام الصبا من يعيدها
ويروي منها:
ولي نظرة بعد الصدود من الجوى ... كنظرة ثكلى قد أصيب وليدها
هل الله عاف عن ذنوب تسلفت ... أم الله لم يعف عنها معيدها؟
ولبعضهم:
ومستخفيات ليس يخفين زرننا ... يسحبن أذيال الصبابة والشكل
جمعن الهوى حتى إذا ما ملكنه ... نزعن وقد أكثرن فينا من القتل
موارق من ختل المحب عوارف ... بختل أولى الألباب بالجد والهزل
مريضات رجع القول خرس عن الخنا ... تألفن أهواء القلوب بلا بذل
ولآخر:
بيض حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام زوانياً ... ويصيدهن عن الخنا الإسلام
ومن قول حيدر الحلي: ذكرت بذات الأثل مضى لنا=زمن به ظل الشبيبة سابغ كواعب ترمي عن قسي حواجب=بأسهم لحظ لا تقيها السوابغ
تدب على الورد الندي بخدها ... عقارب من أصداغهن لوادغ
لوادغ أحشاء يبيت سليمها ... ودرياقه عذب من الريق سائغ
لهوت بها حيناً أطيع بها الهوى ... غراماً وشيطان الصبابة نازغ
إلى أن رأت عيني يد الشيب ناصلاً ... بها من كلا فؤادي ما الله صايغ
فأصبحت لا قلبي من الغيد فارغ ... بلى قلبها مني غدا وهو فارغ
وأمسيت في ليل من الغم تحته ... فؤاد له ضرس من الهم ماضغ
إلى أن جلا عني الهموم بأسرها ... هلال علافي مطلع السعد بازغ
هلال علا تجلوه طوقاً لنحرها ... لهُ ربهُ من جوهر المجد صائغ
فتىً لم تكن أهل المساعي جميعها ... لتبلغ من علياه ما هو بالغ
يقصر كعب عن نداه وحاتم ... ويقصر حتى جرول والنوابغ
وله من صدر أخرى:
ألفتك نافرة الظباء الهيف ... واستوطنت في ربعك المألوف
فأنعم بناعمة الشبيبة غضة ... بيضاء ضامية الوشاح رشوف
أبداً يروق العين في وجناتها ... ورد ولكن ليس بالمقطوف
هي قبلة صلى لها غزلي كما ... صلى ثناي لقبلة المعروف
وأجاد في مديحها ومن قوله أيضاً في صدر قصيدة:
حيتك من وجناتها بشقيقها ... وجلت عليك مدامة من ريقها
وتبسمت لك عن ثنايا لم تشم ... عين كبارقها ولا كعقيقها
وحبتك من رشفاتها بسلافة ... ما فض مرتشف ختام رحيقها
وتعطفت لك بانة غير الصبا ... لم يحظ قلبك بانعطاف رشيقها
ورنت بأجفان إليك فواتر ... بأخي الهوى الدنيا تضيق لضيقها
يا أهل رامة ما الجمال وما الهوى ... إلا لشائق ريمكم ومشوقها
نفحتكم بعبيرها ريح الصبا ... ونحتكم ديم الحيا ببروقها
فسقت ملاعبكم بأوطف تردهي ... منهُ يزهر رياضها وأَنيقها
ومن قوله في صدر أخرى مدح بها محمداً الصالح:
وصلت وريعان الشبيبة مونق ... وجفت وقد لبس المشيب المفرق
والغيد طوع نسيم ريعان الصبا ... يهتز غصن شبابهن المورق
والشيب إن حطت عقاب نهاره ... فغراب ليلة وصلهن محلق
أدارت فتاة الحي أني مذ نأت ... قلبي أسير هوى ودمعي مطلق
أنا والجوى والدمع وهي ومهجتي ... طوع البعاد مغرب ومشرق
عافت أخا دمعي العقيق وثغرها ... أمسى يضيء به أخوه الأبرق
لله موقفنا صبيحة أجمعت ... بيناً له جزعاً بريقي أشرق
ومسكت قلبي كي يقر وإنه ... ليكاد يلفظه الزفير فيخفق
وكظمت أنفاسي الغداة وفوقها ... كادت مجامع أضلعي تتفرق
جاذبتها فضل الرداء فأقبلت ... بالعنف تجمع ما جذبت وأرفق
ومذ استقلت بها الفراق دعوتها ... بالدمع إذ هو من لساني أطلق
الله يا ذات النطاق بواجم ... لسن المدامع عن جواه تنطق
وتذكري عهد المودة بيننا ... أيام أوقاتي بلهوك تنفق
متآلفين بحيث لا ظل الهوى ... ضاح ولا صفو الوداد مرنق
في روضة غناء لم يبرح بها ... يمري مذانبه الغمام المغدق
يسري النسيم عليلةٌ أنفاسهُ ... فيها بنشر من عبيرك يعبق
وعيون نرجسها المندى غازلت ... منك المحيا وهو شمس تشرق
فكأن في أجفانهن الطل من ... أنوار وجهك ادمع تترقرق
ولهوت منك بذات خدر زانها ... ثوب الشباب الغض لا الاستبرق
طوراً تعاطيني الحديث وتارة ... راحاً بها شمل الهموم يفرق
قالت وقد عاقرتها من كفها ... صرفاً لها نور يروق ورونق
أَلها نظير؟ قلت: خلق محمد ... في لطفه منها أرق وأروق
خلق لأَبلج غير معقود الندى ... ديم الغمام به غدت تتخلق
ويود أن بكل منبت شعرة ... منه بقول نعم لسان ينطق
وأجاد في مديحها ولولا مراعاة الاختصار لذاكرتها وفيما ذكرت منها كفاية.
ولغيره:
حي عني بالحمى عهداً قديماً ... وتعهد لي به الظبي الرخيما
رشأٌ بالنبل من ألحاظه ... غادر القلب على عمد كليما
إن أقل ريم صريم نافر ... فلكم أخجل بالعينين ريما
لا ومن أرشق قلبي لحظه ... أنا لا أعرف لولاه الصريما
أبلج الخدين ما ألطفه ... قامة هيفاء أو كشحاً هضميا
راع بالرقة من وجنته ... رائق الورد وبالطبع النسيما
خلته لما بدت غرته ... شمس أفق زاحمت ليلاً بهيما
ولغيره:
ما لقلبي تهزه الأشواق ... خبرينا أهكذا العشاق؟
كل يوم لنا فؤاد مذاب ... ودموع على الطول تراق
عجباً كيف تدعي الورق وجدي ... ولدمعي بجيدها أطواق
كم لنا بالحمى معاهد أنس ... والصبا يانع الجنى رقراق
عهدُ لهو به الليالي ترامت ... ماله عرست به الأحداق
يالظعن به النياق تهادى ... نهنهي السير ساعة يانياق
فبأحداجك استقلت ظباء ... آنسات بيض الخدود رقاق
وارحمي يا أميم لوعة صب ... شفهُ يوم ذي الأثيل الفراق
كاد يقضي من الصبابة لولا ... أن تحاماه في الوداع العناق
شعر
ابن نباتة المصري وقد يسر الله لي في هذه الأيام ديوان العلامة جمال الدين محمد بن نباتة المصري، فراقني شعره، فأحببت أن أنقل ما أستجيده من القصائد، وليس هذا موضع ذكره، لكن عدم الظفر بديوانه قبلُ أوجب ذلك.
هو الإمام العلامة جمال الدين محمد بن محمد بن محمد بن حسن بن أبي الحسن، صالح بن يحيى بن طاهر بن محمد الخطيب بن نباتة المصري ولد بمصر سنة 686 وتوفي سنة 768 رحمه الله تعالى قال يمدح المؤيد:
أودت فعالك يا أسما بأحشائي ... واحيرتي بين أفعال وأسماء
إن كان قلبك صخراً من قساوته ... فإن طرفي المعنى طرف خنساء
ويح المعنى الذي أضرمت باطنه ... ماذا يكابد من أهوال أهواء
قامت قيامة قلبي في هواك فإن ... أسكت فقد سهدت بالقسم أعضائي
وقد بكى لي حتى الروض فاعتبروا ... كم مقلة لشقيق الغصن رمداء
وأمرضتني جفون منك قد مرضت ... فكان أطيب من نجح الدوا دائي
يا صاحبي أقلا من ملامكما ... ولا تزيدا بهذا اللوم إغرائي
هذي الرياض عن الأزهار باسمة ... كما تبسم عجباً ثغر لمياء
والأرض ناطقة عن صنع بارئها ... إلى الورى وعجيب نطق خرساء
فما يصدكما والحال داعية ... عن شرب فاقعة للهم صفراء
راحاً غريت برياها ومشربها ... حتى انتصبت إليها نصب إغراء
من الكميت التي تجري بصاحبها ... جري الرهان إلي غايات سراء
سكراً أحيطت أباريق المدام به ... فرجعت صوم تمتام وفأفاء
من كف أغيد يجسوها مقهقهة ... كما تأود غصن تحت ورقاء
حسبى من الله غفر للذنوب ومن ... جدوى المؤيد تجديد لنعمائي
ملك تطوق بالإحسان وفد رجا ... وبالظبي والعوالي وفد هيجاء
ذا بالنضار وهذا بالحديد فما ... ينفك آسر أحباب وأعداء
داع لجود يد بيضاء ما برحت ... تقضي على كل صفراء وبيضاء
يدافع النكبات الموعدات لنا ... حتى الرياح فما تسري بنكباء
ويوقد الله نوراً من سعادته ... فكيف يطمع حساد بإطفاء
لو جاورت آل ذبيان حماه لما ... ذموا العواقب من حالات غبراء
إلى أن قال:
ما زال يرفع اسماعيل بيت على ... حتى استوت غايتا نسل وآباء
مصرف الفكر في حب العلوم فما ... يشفى بسعدى ولا يروى بظمياء
له بدائع لفظ صاحبت كرماً ... كأنهن نجوم ذات أنواء
وأنمل في الوغى والسلم كاتبة ... إنما بأسمر نضو أو بسمراء
تكلفت كل عام سحب راحته ... عن البرية إشباعي وإروائي
فما أبالي إذا استكثرت عائلة ... فقد كفى هم وإصباحي وإمسائي
نظمت ديوان شعر فيه واتخذت ... علي كتابهُ ديوان إعطاء
وعاد قول البرايا عبد دولته ... أشهى وأشهر ألقابي وأسمائي
محرر اللفظ لكن غر أنعمه ... قد صيرتني من بعض الأرقاء
أعطي الزكاة وقدماً كنت آخذها ... يا قرب ما بين إقتاري وإثرائي
شكراً لوجناء سارت بي إلى ملك ... لولاه لم يطو نظمي سمعة الطائي
عال عن الوصف إلا أن أنعمه ... لجبر قلبي تلقاني بإصغاء
يا جابر القلب خذها مدحة سلمت ... فبيت حاسدها أولى بإقواء
مشت على مستحب الهمز مصمية ... نبالها كل هماز ومشاء
بيوت نظم لهم هي الجنات معجبة ... كأن في كل بيت وجه حوراء
وقال يمدح جمال الدين شهاب محمود:
وعدت بطيف خيالها هيفاء ... إن كان يمكن مقلتي إغفاء
يا من يوفر طيفها سهري لقد ... (أمن ازديادك في الدجى الرقباء)
يا من يطيل أخو الهوى لقوامها ... شكواه وهي الصعدة السمراء
أفديك شمس ضحي دموعي نثرة ... لما تغيب وعاذلي عواء
وعزيزة هي للنواظر جنة ... تجلى ولكن للقلوب شقاء
خضبت بأحمر كالنضار معصماً ... كالماء فيها رونق وصفاء
واهاً لهن معاصماً مخضوبة ... سال النضار بها وقام الماء
أصبو إلى البرحاء أعلم أنه ... يرضيك أن تعتادني البرحاء
ويبث ما يلقاه من ألم الجوى ... قلبي وأنت الصخرة الصماء
كم من جمال عنده ضر الفتى ... ولكم جمال عنده السراء
كجمال دين الله وابن شهابه ... لا الظلم حيث يرى ولا الظلماء
الماجد الراقي مراتب سؤدد ... قد رصعت بجوار الجوزاء
ذاك الذي أمسى السها جاراً له ... لكن حاسد مجده العواء
عمت مكارمه وسار حديثهُ ... فبكل أرض نعمة وثناء
وحمى العواصم رأيه ولطالما ... قعد الحسام وقامت الآراء
عجباً لنار ذكائه مشبوبة ... وبظله تتفيأ الأفياء
وللفظه يزداد رأي مريده وحجاه وهو القهوة الصهباء
غنى اليراع به وأظهر طرسه ... وكذا تكون الروضة الغناء
يا راكب العزمات غايات المنى ... مغنى شهاب الدين والشهباء
ذي المجدلافي ساعديه عن العلى ... قصر ولا في عزمه إعياء
والعدل يردع قادراً عن عاجز ... فالذئب هاجعة لديه الشاء
والحلم يروي جابراً عن فضله ... والفضل يروي عن يديه عطاء
يا أكمل الرؤساء لا مستثنياً ... أحداً إذا ما عدت الرؤساء
يا من مللت من المعاد له وما ... ملت لدي معادها النعماء
إن لم تقم بحقوق ما أوليتني ... مدحي فأرجو أن يقوم دعاء
شهدت معاليك الرفيعة والندى ... إن الورى أرض وأنت سماء
وقال يمدح مؤيد الدين بن أيوب:
بالغت في شجني وفي تعذيبي ... ومع الأذى أفديك من محبوب
يا قاسياً هلا تعلم قلبهُ ... لين الصبا من جسمه المشروب
آهاً لورد فوق خدك أحمر ... لو أن ذاك الورد كان نصيبي
ولواحظ ترث الملاحة في الظبا ... إرث السماحة في بني أيوب
فتحت بنو أيوب أبواب الرجا ... وأتت بحارهم بكل عجيب
وبملكهم رفع الهدى أعلامه ... وحمى سرادق بيته المنصوب
وإلى عمادهم انتهت علياهم ... وإلى العلاء قد انتهت لنجيب
ملك بأدنى سطوه ونواله ... أنسى ندى (هرم) وبأس شيب
الجود ملء مطامع والعلم مل ... ء مسامع والعز ملء قلوب
ألفت بأنبوب اليراعة والقنا ... يمناه يوم ندى ويوم حروب
فإذا نظرت وجدت أرزاق الورى ... ودم العداة يفيض من أنبوب
كم مدحة لي صغتها وأثابها ... فزهت على التفضيض والتذهيب
وتعودت في كل مصر عنده ... مرعى يقابل جدبها بخصيب
يارب بشر منه طائي الندى ... يلقى مدائحنا لقاه حبيب
وقال يمدحه:
ما ضر من لم يجد في الحب تعذيبي ... لو كان يحمل عني بعض تأنيبي
أشكو إلى الله عذالاً أكابدهم ... وما يزيدون قلبي غير تشبيب
وخاطر خنث الأشواق تعجبه ... سوالف الترك في عطف الأعاريب
كأنني لوجوه الغيد معتكف ... ما بين أصداغ شعر كالمحاريب
كأنني الشمع لما بات مشتعل الفؤاد قال لأحشائي ألا ذوبي
لا يقرب الصبر قلبي أو يفارقه ... كأنه المال في كف ابن أيوب
لولا ابن أيوب ما سرنا لمغترب ... في المكرمات ولا فزنا بمرغوب
دعا المؤيد بالترغيب قاصده ... فلو تأخر لاستدعي بترهيب
ملك إذا مر يوم لا عفاة بهِ ... فليس ذلك من عمر بمحسوب
للجود والعلم أقلام براحته ... تجري المقاصد منها تحت مكتوب
مجموعة فيه أوصاف الألى سلفوا ... كما تترجم أخبار بتبويب
إذا تسابق للعلياء ذو خطر ... سعى فأدرك تبعيداً بتقريب
وإن المال إلى الهيجاء سمر قنا ... أجرى دماء الأعادي بالأنابيب
قد أقسم الجود لا ينفك عن يده ... إلا لعافيه أو للنسر والذيب
أما حماه فقد أضحى بدولته ... ملاذ كل قصي الدار محروب
غريبة الباب تقري من ألم بها ... فخل بغداد واترك بابها النوبي
وانعم بوعد الأماني عند رؤيته ... فإن ذلك وعد غير مكذب
وأعجب لأيدي جواد قط ما سئمت ... إن البحار لآباءُ الأعاجيب
كل العفاة عبي في صنائعه ... ودار كل عدو دار ملحوب
يامانحي منناً من بعدها منن ... كالماء يتبع مسكوباً بمسكوب
من كان يلزم ممدوحاً على غرر ... فما لزمتك إلا بعد تجريب
أنت الذي نبهت فكري مدائحه ... ودربتني والأشيا بتدريب
حتى أقمت قرير العين في دعة ... وذكر مدحك في الآفاق يسري بي
مدح يغار لمسود المداد به ... (حمر الحلى والمطايا والجلابيب)
وقال يمدحه:
عوض بكأسك ما أتلفت من نشب ... فالكأس من فضة والراح من ذهب
وأخطب إلى الشرب أم الدهر إن نسبت ... أخت المسرة واللهو ابنة العنب
غراء حالية الأعطاف تخطر في ... ثوب من النور أو عقد من الحبب
عذراء تنجز ميعاد السرور فما ... تومي إليك بكف غير مختضب
مصونة تجعل الأستار ظاهرة ... وجنة تتلقى العين باللهب
لو لم يكن من لقاها غير راحتنا ... من حرفة المتعبين العقل والأدب
فهات واشرب إلى أن لا يبين لنا ... أنحن في صعد نستن أم صبب
خفت فلو لم تدرها كف حاملها ... دارت بلا حامل في مجلس الطرب
يا حبذا الراح للأرواح سارية ... تقضي بسعد سراها أنجم الحبب
من كف أغيد تروي عن شمائله ... عن خده المشتهى عن ثغره الشنب
حمالة الحلي والديباج قامته ... تبت غصون الربى حمالة الحطب
يا تالي العذل كتباً في لواحظه ... (السيف أصدق أنباء من الكتب)
كم رمت كتم الهوى فيه فنمّ به ... إلى الوشاة لسان المدمع السرب
جادت جفوني بمحمر الدموع له ... جود المؤيد للعافين بالذهب
شادت عزائم اسماعيل فاتصلت ... قواعد البيت ذي العلياء والرتب
ملك تدلك في الجدوى شمائله ... على شمائل آباء له نجب
محجب العز عن خلق تحاوله ... وجود كفيه باد غير محتحب
قد أتعب السيف من طول القراع به ... فالسيف في راحة منه وفي تعب
تلقاه للحلم معنى في خلائقه ... لا تستطيل إليه سورة الغضب
يغضي عن السبب المردي بصاحبه ... عفواً ويعطي العطا جماً بلا سبب
ويحفظ الدين بالعلم الذي اتضحت ألفاظه فيه حفظ الأفق بالشهب
يمم حماه تجد عفواً لمقترف ... مالاً لمفتقر، جاهاً لمقترب
ولا تطع في السرى والسير ذا عذل ... واعكف بذلك الثرى الملثوم واقترب
وعذ من الخوف والبؤسى بذي همم ... مدائح فيه عند الله كالقرب
نوع من الصدق مرفوع المنار غدا ... في الصالحات من الأعمال في الكتب
وواهب لو غفلنا عن تطلبه ... لجاءنا جوده الفياض في الطلب
أسدى الرغائب حتى ما يشاركه ... في لفظها غير هذا العشر من رجب
واعتاد أن يهب الآلاف عاجلة ... وإن سرى لالوف الجيش لم يهب
كم غارة عن حمى الإسلام كفكفها ... بالضرب والطعن أو بالرعب والرهب



* عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن درهم



 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...