نقوس المهدي
كاتب
ومن لطائف المنقول عن قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان، رحمه الله تعالى، أنه كان يهوى بعض أولاد الملوك، وله فيه الأشعار الرائقة يقال: إن أول يوم زاره بسط له الطرحة وقال ما عندي أعز من هذه طأ عليها ولما فشا أمرهما وعلم به أهل منعوه من الركوب فكتب إليه:
يا سادتي إني قنعت وحقكم ... في حبكم منكم بأيسر مطلب
إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... ورأيتم هجري وفرط تجنبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من كمدٍ إذاً لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالةٍ ... لولاك لم يك حملها من مذهبي
قسما بوجهك وهو بدر طالعٌ ... وبليل طرتك التي كالغيهب
وبقامةٍ لك كالقضيب ركبتُ من ... أخطارها في الحبِّ أصعبَ مركب
لو لم أكن في رتبةٍ أرعى لها ال ... عهد القديم صيانةً للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذلي ... خلع العذار ولجَّ فيك مؤنِّبي
لكن خشيت بأن تقول عواذلي ... قد جنَّ هذا الشيخ في هذا الصبي
فأرحم فديتُك حُرقةً قد قاربت ... كشف القناع بحق ذياك النبي
قال الشيخ جمال الدين بن عبد القادر التبريزي الذي يهواه القاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله الملك المسعود بن الملك الظاهر وكان قد تيمه حبه وكنت أنام عنده بالعادلية فتحدثنا في بعض الليالي إلى أن ذهب الناس، فقال لي: نم أنت ههنا وألقى عليَّ فروة
قرظ وقام يدور حول بركة العادلية ويقول في دورانه:
أنا والله هالكٌ ... آيسٌ من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
وقيل إن قاضي القضاة شمس الدين المشار إليه رحمه الله سأل بعض أهل دمشق المحروسة وكان المسؤول من خواص أصحابه عن ترجمته عند أهل دمشق، فاستعفاه من ذلك فألح عليه؟ فقال: أما العلم والفضل فهم مجموعون عليه وأما النسب فيدعون فيه الأدعاء ويقولون: إن مولانا يأكل الحشيش ويحب الغلمان.
فقال أما النسب والكذب فيه فهذا نوع من الهذيان، ولو أردت أن أنتسب إلى العباس، أو إلى علي ابن أبي طالب، أو إلى أحمد من الصحابة، لأجازوا ذلك وأما النسب إلى قوم لم يبق منهم بقية وأصلهم فرس مجوس فما فيه فائدة وأما الحشيشة فلكل ارتكاب محرم وإذا كان ولا بد فكنت أشرب الخمر فإنه ألذ وأما محبة الغلمان فإلى غد أجيبك عن المسألة انتهى.
ومما يناسب لطيفة قاضي القضاة شمس الدين، ما نقلته من روض الجليس ونزهة الأنيس حكي عن سليمان بن محمد المهدي الصقلي قال: كان بأفريقية رجل نبيه شاعر، وكان يهوى غلاماً جميلا من غلمانه فأشتد كلفه به وكان الغلام يتجنى عليه، ويعرض عنه كثيراً، فبينما هو ذات ليلة وقد انفرد بنفسه ليشرب الخمر إذ ذكر محبوبه فجرى بخاطره ما يفعله به من التجني فزاد سكره، وقام من الفور وقد غلب عليه الغرام وسكر المدام، فأخذ قبس نار وجعله عند باب الغلام ليحرق عليه داره فلما دارت النار بالباب بادر الناس باطفائها واعتقلوه فلما أصبحوا نهضوا به إلى القاضي فأعلموه بفعله فقال له القاضي: لأي شيء أحرقت باب هذا الغلام فأنشد على الفور:
لما تمادى على بعادي ... وأضرم النار في فؤادي
ولم أجد من هواه بداً ... ولا معيناً على السهاد
حملت نفسي على وقوفي ... ببابه وقفة الجواد
فطار من بعض نار قلبي ... أقلٌّ في الوصف من زناد
فاحرق الباب دون علمي ... ولم يكن ذاك من مرادي
قال فاستطرف القاضي واقعته واستملح شعره ورق لحكاية حاله وتحمل عنه ما أفسده من باب الغلام وأطلقه.
ومما يناسب هذه اللطائف قيل: إنه رفع إلى المأمون أن حائكاً يعمل السنة كلها لا يتعطل في عيد ولا جمعة، فإذا ظهر الورد طوى عمله وغرد بصوت عال:
طاب الزمان وجاء الورد فاصطحبوا ... ما دام للورد أزهارٌ وأنوار
فإذا شرب مع ندمائه على الورد غنى:
إشرب على الورد من حمراءَ صافيةٍ ... شهراً وعشراً وخمساً بعدها عددا
ولا يزالون في صبوح وغبوق ما بقيت وردة فإنه انقضى الورد عاد إلى عمله وغرد بصوت عال:
فإن يبقني ربيِّ إلى الرود أصطبح ... وإن مت والهفي على الورد والخمر
سألت إله العرش جلَّ جلاله ... يواصل قلبي في غبوقٍ إلى الحشر
فقال المأمون لقد نظر هذا الرجل إلى الورد بعين جليلة فينبغي أن نعينه على هذه المروءة فأمر أن يدفع له في كل سنة عشر آلاف درهم في زمن الورد.
ومن اللطائف ما حكي عن مجير الدين الخياط الدمشقي قيل: إنه كان يهوى غلاماً من أولاد الجند فشرب مجير الدين في بعض الليالي وسكر فوقع في الطريق فمر الغلام عليه بشمعة وهو راكب فرآه في الليل مطروحا على الطريق فوقع عليه بالشمعة ونزل فأقعده ومسح وجهه فسقط من الشمعة نقطة على وجهه ففتح عينيه فرأى محبوبه على رأسه فاستيقظ وأنشد:
يا محرقاً بالنار وجه محبِّه ... مهلاً فإن مدامعي تطفيه
أحرق بها جسدي وكل جوارحي ... وأحذر على قلبي فإنك فيه
ومن اللطائف ما حكاه الأصمعي
قال: مررت بكناس يكنس كنيفاً وهو يغني ويقول:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
فقلت له أما سداد الثغر فلا علم لنا كيف أنت فيه وأما سداد الكُنُف فمعلوم. قال الأصمعي: وكنت حديث السن فأردت العبث به فأعرض عني مليا ثم أقبل علي وأنشد:
وأكرمُ نفسي إنني إن أهنتها ... وحقك لم تُكرمْ على أحدٍ بعدي
فقلت وأي كرامة حصلت لها منك وما يكون من الهوان أكثر مما أهنتها به. فقال: بل لا والله من الهوان ما هو أكثر وأعظم مما أنا فيه، فقلت له: وما هو فقال الحاجة إليك وإلى أمثالك، فقال: فانصرفت وأنا أخزي الناس ذكرت بقول الكناس غريم الأصمعي ما يضارع ذلك أعني قوله:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
قيل: إنه كان لأبي حنيفة رضي الله عنه جار إسكاف بالكوفة يعمل نهاره أجمع فإذا جنه الليل، رجع إلى منزله بلحم وسمك فيطبخ اللحم ويشوي السمك فإذا دب فيه السكر أنشد:
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
ولا يزال يشرب ويردد البيت إلى أن يغلبه
السكر وينام، وكان الإمام أبو حنيفة يصلي الليل كله، ويسمع حديثه وإنشاده ففقد صوته بعض الليالي فسأل عنه فقيل: أخذه العسس منذ ثلاثة أيام وهو محبوس فصلى الإمام الفجر وركب بغلته ومشى واستأذن على الأمير فقال أئذنوا له واقبلوا به راكبا حتى يطأ البساط فلما دخل على الأمير أجلسه مكانه وقال ما حاجة الإمام فقال لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ثلاثة أيام فتأمر بتخليته فقال نعم وكل من أخذ تلك الليل إلى يومنا هذا ثم أمر بتخليته وتخليتهم أجمعين فركب الإمام وتبعه جاره الإسكاف فلما وصل إلى داره قال له الإمام أبو حنيفة أترانا أضعناك قال لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيراً عن صحبة الجوار ورعايته ولله عليَّ أن لا أشرب بعدها خمرا فتاب من يومه ولم يعد إلى ما كان عليه انتهى.
ومما يناسب هذه اللطائف ما ذكره الحريري في كتابه الموسوم بتوشيح البيان نقل أن أحمد بن المعدل كان يجد بأخيه عبد الصمد وجدا عظيما على تباين طريقيهما لأن أحمد كان صواما قواماً وكان عبد الصمد سكيراً خمورياً وكانا يسكنان داراً واحدة ينزل أحمد في غرفة أعلاها وعبد الصمد في أسفلها فدعا عبد الصمد ليلة جماعة من ندمائه وأخذ في القصف والعزف حتى منعوا أحمد الورد ونغصوا عليه التهجد فاطلع عليهم وقال أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض فرفع عبد الصمد رأسه وقال وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وذكرت بها الاقتباس الذي خلب القلوب هنا بحسن موقعه اقتباسا خلب قلوب الناس لعظم موقعه وما ذاك إلا أن الحاكم الفاطمي على ما ذكر، لما بني المسجد الجامع بالقاهرة المعزية المجاور لباب الفتوح قيل إنه فسد حاله في آخر أمره وادعى الألوهية وكتب بسم الله الرحمن الرحيم وجمع الناس إلى الإيمان به وبذل لهم نفائس وكان ذلك في فصل الصيف والذباب يتراكم على الحاكم والخدام تدفعه ولا يندفع فقرأ في ذلك الوقت بعض القراء وكان حسن الصوت يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يسنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز. فاضطربت الأمة لعظم وقوع هذه الآية الشريفة في حكاية الحال، حتى كأن الله أنزلها تكذيباً للحاكم فيما أدعاه وسقط الحاكم من فوق سريره
خوفا من أن يقتل وولى هارباً، وأخذ في استجلاب ذلك الرجل إلى أن اطمأن إليه فجهزه رسولا إلى بعض الجزائر وأمر بإغراقه ورؤي بعد ذلك في المنام فقيل له ما وجدت فقال ما قصر معي صاحب السفينة أرسى بي على باب الجنة ومن الاقتباسات التي وقعت للمتأخرين في أحسن المواقع المتعلقة بحكاية الحال ما سمعت وشهدت حكاية حالة بالجامع الأموي وما ذاك إلا أن قاضي القضاة علاء الدين أبا البقاء الشافعي، رحمه الله تعالى، كان قد عزل من وظيفة قضاء القضاة بدمشق المحروسة فعاد إلى وظيفته والبس التشريف من قلعة دمشق وحضر إلى الجامع على العادة، ومعه أخوه قاضي القضاة بدر الدين الشافعي بالديار المصرية فاستفتح الشيخ معين الدين الضرير المقرىء وقرأ قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا إلى آخر الآية فحصل بالجامع الأموي ترنمٌ صفق له النسر بجناحية.
وروى المرزبان بإسناده أن المجنون خرج مع أصحاب له يمتار من وادي القرى فمر بجبلي نعمان فقالوا إن هذين جبلا نعمان وقد كانت ليلى تنزلهما قال فأي ريح تهب من نحو أرضها إلى هذا المكان فقالوا الصبا فقال والله لا أبرح حتى تهب الصبا فأقام في ناحية من الجبل ومضوا فامتاروا له ولهم ثم أتوا فحبسهم حتى هبت الصبا ورحل معهم وفي ذلك يقول:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارةٌ ... على كبدٍ لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريحٌ إذا ما تنسمت ... على نفس مهمومٍ تجلت همومها
وضمن البيت الأول الشيخ صفي الدين الحلي في مليح اسمه نعمان
أقول وقد عانقت نعمان ليلةً ... بنور محياه أنارَ أديمها
وقد أرسلت إلياه نحوي فسوةً ... يروح كرب المستهام شميمها
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
وكان لابن الجوزي رحمه الله تعالى زوجة أسمها نسيم الصبا فاتفق أنه طلقها فحصل له عند ذلك ندم وهيام أشرف منه على التلف فحضرت في بعض الأيام مجلس وعظه فحين رآها عرفها فاتفق أنه جاءته امرأتان وجلستا أمامه فحجبتاها عند فأنشد في الحال:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلصْ إلي نسيمها
قلت وعلى ذكر نعمان
والكناية عنه فما ألطف ما ذكره الشيخ بدر الدين حسن بن زفر الطبيب الأربلي في كتابه روضة الجليس ونزهة الأنيس وهو أن بعض الرؤساء قال: أخبرني بعض الأصحاب قال: كنت يوما جالسا عند صديق لي بالموصل إذ جاءه كتاب من بغداد من صديق له وفيه تشوق وفيه عتاب بهذا البيت:
تناسيتم العهد القديم كأننا ... على جبلي نعمان لن نتجمعا
فأخذ يستحسن هذا البيت ويهتز له فقلت بالله عليك أسألك شيئاً لا تخفه قال سل قلت هذه معشوقتك صاحبة هذا الكتاب هل كنت تأتيها من وراء الدار فقال أي والله ومن أين علمت ذلك فقلت من البيت لأنها ذكرتك فيه بجبلي نعمان وهما كناية عند الظرفاء من أهل الأدب عن جانبي الكفل للمليح والمليحة فقال والله ما أدركت ما أدركت ونقلت من اللطائف المسبوكة في قالب التورية أن بعض الكتاب دخل يسلم على بعض فضلاء النحاة وكان من أصحابه فوجده قائما يلوط بأحد الغلمان الملاح من طلبته في قراءة النحو ولم يره الغلام فجلس النحوي في مكانه وبقي الغلام واقفا مبهوتا فقال الكاتب للنحوي مالي أرى هذا الغلام واقفا فقال النحوي وقع عليه الفعل فانتصب.
ومثل ذلك قصة ابن عنين مع الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل لما كتب إليه في مرضه:
أنظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلافَ قبل تلافي
أنا كالذي احتاج ما يحتاجه ... فأغنم دعائي والثناء الوافي
فحضر إليه المعظم بنفسه ومعه ثلثمائة دينار وقال له أنت الذي وأنا الغائد وهذه الصلة وظرف من قال:
وذي أدبٍ بارعٍ لكنهُ ... أولجت فيه قمداً عتف
فقلت فديتك أعصر عليه ففيه اللذاذة لو تعترف
فقال أجدت ولكن لحنت ... لقولك أعصر بفتح الألف
فقلت لك الويل من أحمقٍ ... فقال وأحمق لا ينصرف
وأظرف منه قول الحسين بن الريان:
أتيت حانة خمار وصاحبها ... مما جنى متقن للنحو ذو لسن
وحوله كل هيفاءٍ منعمةٍ ... وكل علقٍ رشيقٍ أهيفٍ حسن
فقال لي إذ رأى عيني قد انصرفت ... إلى النساء كلام الحاذق الفطنِ
أنت وركب وصف وأعدل بمعرفةٍ ... وأجمع وزد واسترح من عمةٍ وزن
ومثله ما حكي أن بعض الفقراء
وقف على باب نحوي فقرعه فقال النحوي من بالباب فقال سائل فقال ينصرف فقال اسمي أحمد فقال النحوي لغلامه أعط سيبويه كسرة.
ومثله قول ابن عنين:
شكا ابن المؤبد من عزله ... وذم الزمان وأبدى السفه
فقلت له:
لا تذم الزمان ... فتظلم أيامه المنصفه
ولا تعجبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفه
وألطف منه قول القائل:
ورقيعٍ أراد أن يعرف النحو ... بزي العيار لا المستفتي
قال لي لست تعرف النحو مثلي ... قلت سلني عنه أجب في الوقت
قال ما المبتدا وما الخبر المجرور ... أوجز فقلت ذقنك في استي
وأحسن منه وأبدع قول الشيخ زين الدين بن الوردي:
وشادنٍ يسالني ... ما المبتدا والخبر
مثلهما لي مسرعاً ... فقلت أنت القمر
ومن النكت المسبوكة في قالب التورية أيضا ما قيل أن شهاب الدين القوصي حضر عند الملك الأشرف وقد دخل إليه سعد الدين الحكيم فقال الملك الأشرف ما تقول في سعد الدين الحكيم لشهاب الدين فقال يا مولانا السلطان إذا كان بين يديك فهو سعد الدين، وعلى السماط سعد بلع، وفي الخباء عن الضيوف سعد الأخبية، وعند مرض المسلمين سعد الذابح قال فضحك الملك الأشرف واستسحن اتفاقه البديعي وابدع منه في هذا الباب ما نقل عن الشيخ نظام الدين قيس إنه لقي الصاحب عز الدين عبد العزيز بن منصور فسأله الصاحب عن حاله فقال:
حالٌ متى علم ابنُ منصورٍ بها ... جاء الزمان إليّ منها تائبا
قلت إن نظام الدين أحق من أبي الطيب بهذا البيت ومن النكت بالتورية أيضاً قيل إن بعض الماجنات أرادت السفر فلقيها بعض المجان فقال لها خذي معك هذا الكتاب وأشار إلى ذكره فقالت له على الفور إن لم ألق أمك أعطه أختك ومثل ذلك أن الشيخ بدر الدين بن الصاحب لقي شخصاً ومعه مليحان فقال ما اسمك فقال عبد الواحد فقال أخرج منهما فأنا عبد الاثنين. ومثله أن ابن نقيلة المغني مرض وأشرف على الموت فجاء إليه ابن الصاحب يعوده فقال له كيف حال النقيلية فقال ما أخوفني أن تصير مدفونة مثله أن بعض المجان رأى امرأة حاملة سرموجة فقال له متى زوجك حملك تركاشه فقالت له رح لأرميك منه بفردة ومثله أن بعضهم رأى امرأة حاملة فردة سقمان لتخيطه فقال لها: أعتقي هذا الغراب.
فقالت له رح لأسيبه ينقرك. ومثله أن الشيخ بد الدين المذكور أولا حضر إلى مجلس قاضي القضاة ناصر الدين المالكي فذكروا محاسن القاضي محب الدين ناظر الجيشين وحسن أخلاقه ثم ذكروا محاسن الشعر فأنشده قاضي القضاة:
فكم أبٍ قد علا بابنٍ ذوي شرفٍ ... كما علت برسول الله عدنان
فكل من الجماعة أثنى على هذا البيت فقال الشيخ بد الدين ابن الصاحب والقاضي محب الدين يحب هذا البيت فطربوا له. ومما وقع له بذلك المجلس أنه لما قدم المشروب على العادة كان قد تولى السقيا مملوك له اسمه بكتمر فلما شرب الشيخ بدر الدين قال له قاضي القضاة ما تقول يا شيخ قال رأيت ملك العلماء بكتمر الساقي ومثله أن الصاحب بن سكر أراد قارئا يقرأ بالمدرسة التي أنشأها بالقاهرة فاختاروا له رجلين أحدهما اسمه زيادة والآخر مرتضى فوقع في ظهر القصة مرتضى زيادة وزيادة مرتضى. ومثله أن ابا الحسين الخراز جاء إلى باب الصاحب زين الدين بن الزبير فأذن للناس في الدخول ولم يأذن له فكتب في ورقة:
الناس كلهم كالأير قد دخلوا ... والعبد مثل الخصي ملقى على الباب
فلما قرأها ابن الزبير قال لحاجبه أخرج إلى الباب وقل يا خصي أدخل فدخل أبو الحسين وهو يقول هذا دليل على السعة ومن التنكيت والحشمة بالتورية أن الشيخ صلاح الدين الصفدي قال أخبرني الشيخ فتح الدين بن سيد الناس بالقاهرة قال قلت للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أن بهاء الدين بن النحاس يرجح أبا تمام على المتنبي فما رأيك أنت فسكت فقلت ثانيا فقال كنت كذا في الأول قال الشيخ صلاح الدين ولما حكيت للشيخ جمال الدين بن نباتة قال أنا على رأي ابن دقيق العيد قال الشيخ صلاح الدين وممن رأيته يعظم أبا تمام شيخنا أثير الدين ويرجحه على المتنبي فعذلناه في ذلك فقال أنا ما أسمع عذلا في حبيب.
ونقلت من خط الصاحب فخر الدين ابن الكانس رحمه الله قال سافرت سنة إحدى وستين وسبعمائة مع الصاحب فخر الدين ابن قزوينية إلى دمشق المحروسة وقد ولي نظر مملكتها ووالدي رحمه الله افتاءها وكان له دوادار يسمى صبيحاً وهو من عتقاء جده الوزير أمين الدين بن الغنام وكان لطيفا كثير النوادر فاتفق أن جمال الدين بن الرهاوي موقع دست الوزارة ركب يوما فتقنطر به الفرس وداس على رأس أحليله فحمل إلى داره وأقام أياما إلى أن عوفي وحضر مجلس الوزارة وهو غاص بالناس فقال الصاحب ما سبب تأخرك فقال تقنطر بي الفرس وداس رأس احليلي فكدت أموت والآن فقد لطف الله تعالى وحصل البرء والشفاء فقال له صبيح: الحمد لله على سلامة الخصي فانقلب المجلس ضحكا وخجل ابن الرهاوي وانصرف. وحكي أن بعض الرؤساء كان له خادم وعبد فدخل يوما فوجد العبد فوق الخادم فضربه وخرج فرأى بعض أصدقائه فساله عن غيظه فقال هذا العبد النحس فعل بالخويدم الصغير فقال بل مولانا السيد الكبير فخجل منه وأبرزها في قالب المجون.
وأنشد ابن الجوزي في بعض مجالس وعظه:
أصبحت ألطف من مر النسيم على ... زهر الرياض يكادُ الوهم يؤلمني
من كل معنىً لطيفٍ أجتلي قدحاً ... وكل ناطقةٍ في الكون تطربني
فقام إليه إنسان فقال يا سيدي الناطق حمارٌ فقال أقول له يا حمار اسكت ويعجبني قول برهان الدين القيراطي:
صاح هذي قباب طيبةَ لاحت .. وفؤادي على اللقاء حريص
وتبدت نخيلها للمطايا ... فعيون المطي للنخل خوص
ويطربني ما حكاه أبو الفوارس بن اسرائيل الدمشقي. قال كنت يوما عند السلطان صلاح الدين يوسف بن ايوب فحضر رسول صاحب المدينة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ومعه قواد وهدايا فلما جلس أخرج من كمه مروحة بيضاء عليها سطران بالسعف الأحمر وقال الشريف يخدم مولانا السلطان ويقول هذه المروحة ما رأى مولانا السلطان ولا أحد من بني أيوب مثلها فاستشاط السلطان صلاح الدين غضباً فقال الرسول يا مولانا السلطان لا تعجل قبل تأملها وكان السلطان صلاح الدين ملكا حليما فتأملها فإذا عليها مكتوب:
أنا من نخلةٍ تجاور قبراً ... ساد من فيه سائر الناس طرا
شملتني عناية القبر حتى ... صرت في راحة ابن أيوب أقرا
وإذا هي من خوص النخل الذي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقبلها السلطان صلاح الدين ووضعها على رأسه وقال لرسول صاحب المدينة النبوية صدقت فيما قلت من تعظيم هذه المروحة. وأحسن ما سمع فيها قول عرقلة الدمشقي:
ومحبوبةٍ في القيظ لم تخلُ من يدٍ ... وفي القرٍّ تسلوها أكفُّ الحبائب
إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقاً
.. أتت بالهوى الممدود من كل جانب
وقال غيره وأجاد:
ومروحةٍ أهدت إلى النفس روحها ... لدى القيظ مبثوثاً بإهداء ريحها
روينا عن الريح الشمال حديثها ... على ضعفه مستخرجاً من صحيحها
نقل الحافظ اليعمري أن أبا نصر المنازي واسمه أحمد بن يوسف دخل على أبي العلاء المعري في جماعة من أهل الأدب فأنشد كل واحد منهم من شعره ما تيسر فأنشده أبو نصر:
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو الوالدات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأٍ زلالاً ... ألذَّ من المدامة للنديم
يصدُّ الشمس أني واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم
فقال أبو العلاء أنت أشعر من بالشام.
ثم رحل أبو العلاء إلى بغداد فدخل المنازي عليه في جماعة من أهل الأدب ببغداد وأبو العلاء لا يعرف منهم أحداً فأنشد كل واحد ما حضره من شعره
حتى جاءت نوبة المنازي فأنشد:
لقد عرض الحمام لنا بسجعِ ... إذا أصغى له ركبٌ تلاحى
شجى قلب الخلي فقيل غنى ... وبرح بالشجيِّ فقيل ناحا
وكم للشوق في أحشاء صبٍّ ... إذا اندملت أجدَّ لها جراحا
ضعيف الصبر عنك وإن تقاوى ... وسكران الفؤاد وإن تصاحى
بذاك بنو الهوى سكرى صحاةً ... كأحداق المها مرضى صحاحا
فقال أبو العلاء ومن بالعراق عطفا على قوله من بالشام انتهى.
نادرة مشى البيدق اليزيدي مع شاب موسوم بالجمال فقال له شمس الدين بن المنجم الشاعر أراك يا بيدق تفرزنت حول هذه النفس فقال وإذا كان فقال أخشى عليك من ذلك الرخ لا يقطعك من الحاشية ويرميك عن الفرس ويقطع عليك الرقعة ولو كان في كفك الفيل. ومثله في الظرف أن بعض الأجناد كان كثير اللعب بالشطرنج وكان الجندي خليعاً ظريفاً فأعطاه الأمير في بعض الأيام فرسا وقال له لا تفرط فيها فقال نعم وبعد ذلك التقاه الأمير وهو لابس جوخة فقال ويلك أين الفرس فقال يا خوند ضربني الشتاء شاه مات فتسترت بالفرس. ويعجبني قول الشيخ بد الدين ابن الصاحب:
تأمل تر الشطرنج كالدهر دولةً ... نهاراً وليلاً ثم بؤساً وأنعما
محركها باقٍ وتفنى جميعها ... وبعد الفنا تحيا وتبعث أعظما
قلت ويشبه هذا قول الفاضل وقد أخرج له السلطان الملك الناصر صلاح الدين من القصر من يعاني الخيال أعني خيال الظل ليفرجه عليه فقام الفاضل عند الشروع في عمله فقال له الناصر إن كان حراما فما نحضره وكان حديث العهد بخدمته قبل أن يلي السلطنة فما أراد أن يكدر عليه فقعد إلى آخره فلما إنقضى ذلك قال له الملك الناصر كيف رأيت ذلك قال رأيت موعظة عظيمة رأيت دولاً تمضي ودولاً تأتي ولما طوي الأزار إذا المحرك واحد فأخرج ببلاغته هذا الجد في هذا الهزل انتهى.
وللشيخ بدر الدين الصاحب مضمنا في الشطرنج:
أميل لشطرنج أهل النهي ... وأسلوه من ناقل الباطل
وكم رمت تهذيب لعابها ... وتأبى الطباع على الناقل
ويعجبني قول الشيخ عز الدين الموصلي حيث قال:
جاهل شطرنجٍ ينادي وقد ... أمات نفس اللعب من عكسه
ما تفعل الأفعال في جاهلٍ ... ما يفعل الجاهل في نفسه
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
افديه لاعب شطرنجٍ قد اجتمعت ... في شكله من معاني الحسن أشتاتُ
عيناه منصوبةٌ للقلب غالبةٌ ... والخد فيه لقتل النفس شاماتُ
نادرة لطيفة حكي أن السراج الوراق جهز غلاما له يوما ليبتاع له زيتا طيبا ليأكل به لفتا فأحضره وقلبه على اللفت فوجده زيتا حاراً فأنكر على الغلام ذلك فأخذه وجاء إلى البياع وقال له لم تفعل مثل هذا فقال له والله يا سيدي مالي ذنب لأنه قال أعطني زيتا للسراج انتهى.
ومثله ما حكاه الصاحب فخر الدين بن مكانس عن صاحبه سراج الدين القوصي أنه كان حصل له طلوع في جسده فتردد إليه المزين وصنع له فتائل على العادة قال فقلت له يوما كيف الحال يا سراج الدين فقال كيف حال سراج فيه سبع فتائل.
ورأيت له في ديوانه يداعب سراج الدين المذكور بقوله:
إذا السراج اشترى أيري فأنت به ... أولى وذلك للأمر الذي وجبا
إسكندريٌّ وتُدعى بالسراج وذا ... مثلُ المنار إذا ما قام وانتصبا
نادرة لطيفة اجتمع محدث ونصراني في سفينة فصب النصراني من ركوة كانت معه في مشربة وشرب وصب وعرض على المحدث فتناولها من غير فكر ولا مبالاة فقال النصراني جعلت فداك هذا خمر فقال من أين علمت أنها خمر قال اشتراها غلامي من خمار يهودي وحلف أنها خمر عتيق فشربها بالعجلة وقال للنصراني أنت أحمق نحن أصحاب الحديث نروي عن الصحابة والتابعين أفنصدق نصرانيا عن غلامه عن يهودي والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد.
نادرة لطيفة نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين فلم يشك أنهم في دعوة ذاهبون إلى وليمة فقام وتبعهم فإذا هم شعراء قد قصدوا السلطان بمدائح لهم فلما أنشد كل واحد شعره وأخذ جائزته لم يبق إلى الطفيلي وهو جالس ساكت فقال له أنشد شعرك فقال لست بشاعر قيل فمن أنت قال من الغاوين الذين قال الله تعالى في حقهم " والشعراء يتبعهم الغاوون " فضحك السلطان وأمر له بجائزة الشعراء.
وحكى الهيثم بن عدي قال ماشيت الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه في نفر من أصحابه إلى عيادة مريض من أهل الكوفة وكان المريض بخيلا وتواصينا على أن نعرض بالغداء فلما دخلنا وقضينا حق العيادة قال بعضنا آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال فتمطى المريض وقال ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج فغمز أبو حنيفة أصحابه وقال قوموا فما لكم هنا من فرج انتهى.
ومن غرائب المنقول أن يحيى بن اسحق كان طبيباً حاذقاً صانعاً بيده وكان في صدر دولة عبد الرحمن الناصر لدين الله واستوزروه نقل عنه من حذقه أنه أتى إليه بدوي على حمار وهو يصيح على باب داره أدركوني وكلموا الوزير بخبري فلما دخل عليه قال ما بالك قال ورم باحليلي منعني النوم منذ أيام وأنا في الموت فقال له اكشف عنه فأذا هو وارم فقال لرجل جاء معه أحضر لي حجراً أملس فطلبه فوجده فقال له ضع عليه الأحليل فلما تمكن أحليل الرجل من الحجر جمع الوزير يده وضرب الأحليل ضربة غشي على الرجل منها ثم اندفع الصديد يجري فلما انقطع جريان الصديد فتح الرجل عينيه ثم بال في أثر ذلك فقال له أذهب فقد برأت علتك وأنت رجل عابث واقعت بهيمة في دبرها فصادفت شعيرة من علفها ولجت في عين الاحليل فورم لها وقد خرجت في الصديد فقال له الرجل قد فعلت ذلك وهذا يدل على الحذق المفرط. ومثله أن ابن جميع الاسرائيلي كان من الأطباء المشهورين والعلماء المذكورين خدم سلطان مصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة نافذ الأمر. ومما نقل عنه في حذقه أنه كان جالسا في دكان وقد مرت عليه جنازة فملا نظر إليها صاح يا أهل الميت إن صاحبك لم يمت ولا يحل أن تدفنوه حيا فقال بعضهم لبعض هذا الذي يقوله لا يضرنا ويتعين أن فمتحنه فإن كان حيا فهو المراد وإن لم يكن حيا فما يتغير علينا شيء فاستدعوه إليهم وقالوا بين لنا ما قلت فأمرهم بالعود إلى البيت وأن ينزعوا أكفانه فلما فرغوا من ذلك أدخله الحمام وسكب عليه الماء الحار وأحمى بدنه نطله فظهر فيه أدنى حسن وتحرك حركة خفيفة فقال أبشروا بعافيته ثم تمم علاجه إلى أن أفاق وصحا فكان ذلك مبدأ اشتهاره بشدة الحذق والعلم ثم إنه سئل بعد ذلك ومن أين علمت أن في ذلك الميت بقية روح وهو في الأكفان محمود فقال نظرت إلى قديمه فوجدتهما قائمتين وأقدام الموتى منبسة فحدست أنه حي وكان حدسي صائبا.
نادرة لطيفة قيل إن المنصور ابن أبي عامر الأندلسي كان إذا قصد غزاة عقد لواءه بجامع قرطبة ولم يسر إلى الغزاة إلا من الجامع فاتفق أنه في بعض حركاته للغزاة توجه إلى الجامع لعقد اللواء فاجتمع عنده القضاة والعلماء وارباب الدولة فرفع حامل اللواء اللواء فصادف ثريا من قناديل الجامع فانكسرت على اللواء وتبدد عليه الزيت فتطير الحاضرون من ذلك وتغير وجه المنصور فقال رجل أبشر يا أمير المؤمنين بغزاة هينة وغنيمة سارة فقد بلغت أعلامك الثريا وسقاها الله من شجرة مباركة فأستحسن المنصور ذلك واستبشر به وكانت العزوة من أبرك الغزوات. ومثل هذا لما خرج المنصور العباسي إلى قتال أبي يزيد الخارجي في جماعة من الأولياء وواجه الحصن سقط الرمح من يده فأخذه بعض الأولياء فمسحه وقال:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
فضحك المنصور وقال لم ما قلت فألقى موسى عصاه فقال يا أمير المؤمنين العبد تكلم بما عنده من إشارات المتأدبين وتكلم أمير المؤمنين بما أنزل على النبي من كلام رب العالمين فكان الأمر على ما ذكره وأخذ الحصن وحصل الظفر بأبي يزيد.
حكي أن الشيخ شهاب الدين ابن محمود قال عدت قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان في دمشق بالمدرسة النجيبية سنة إحدى وثمانين وستمائة فأنشدني لبعض أهل الأدب في نقيب الأشراف بالمدائن رثاء خلب قلبي وهو يقول:
قد قلت للرجل المولى غسله ... هلا أطاع وكنت من نصائحه
جنبه ماءك ثم غسله بما ... أذرت عيون المجد عند بكائه
وأزل أفاويه الحنوط ونحها ... عنه وحنطه بطيب ثنائه
ومر الملائكة الكرام بنقله ... شرفاً ألست تراهمُ بإزائه
لا توهِ أعناقَ الرجال بحمله ... يكفي الذي حملوه من نعمائه
قال الشيخ شهاب الدين فوقع في نفسي أنه أحق الناس بهذا الرثاء وأنه نعى نفسه فمات في ذلك الأسبوع برد الله مضجعه.
نكتة لطيفة قيل إنه لما رجع الشيخ شهاب الدين السهروردي رحمه الله من الشام إلى بغداد وجلس على عادته أخذ يقلل أحوال الناس ويهضم جانب الرجال ويقول إنه ما بقي من يجاري وقد خلت الدنيا وأنشد:
ما في الصحاب أخو وجدٍ نطارحه ... حديث نجدٍ ولا خلٌّ نجاريه
فصاح من أطراف المجلس رجل عليه قباء وكلوتة فقال يا شيخ كم تنتقص بالقوم والله إن فيهم من لم يرض أن يجاريك وقصاراك أن تفهم ما يقول هلا قلت:
ما في الصحاب وقد سارت حمولهم ... إلا محبٌّ له في الركب محبوب
كأنما يوسفٌ في كلٍّ راحلةٍ ... والحيّ في كلِّ بيتٍ منه يعقوب
فصاح السهروردي ونزل عن الكرسي وطلب الشاب فلم يجده.
حكي عن ابن المطرزي الشاعر أنه مر وفي رجله نعل بالية بالشريف الرضي فأمر بإحضاره وقال أنشدني أبياتك التي تقول فيها:
إذا لم تبلغني إليك ركائبي ... فلا وردت ماءً ولا رعت العشبا
فأنشده إياها فلما انتهى إلى هذا البيت أشار إلى نعله البالية وقال هذه كانت ركائبك فأطرق ابن المطرزي ساعة ثم قال لما عادت هبات مولانا الشريف إلى مثل قوله:
وخذ النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
عادت ركائبي إلى مثل ما ترى لأنك خلعت ما لا تملك على من لا يقبل فخجل الشريف وقابله بما يليق من الإكرام.
قلت وأما الأجوبة الهاشمية وبلاغتها في المحل الأرفع.
* كتاب ثمرات الأوراق (مطبوع بهامش المستطرف في كل فن مستظرف للشهاب الأبشيهي)
المؤلف: ابن حجة الحموي، تقي الدين أبو بكر بن علي (المتوفى: 837هـ)
يا سادتي إني قنعت وحقكم ... في حبكم منكم بأيسر مطلب
إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... ورأيتم هجري وفرط تجنبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من كمدٍ إذاً لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالةٍ ... لولاك لم يك حملها من مذهبي
قسما بوجهك وهو بدر طالعٌ ... وبليل طرتك التي كالغيهب
وبقامةٍ لك كالقضيب ركبتُ من ... أخطارها في الحبِّ أصعبَ مركب
لو لم أكن في رتبةٍ أرعى لها ال ... عهد القديم صيانةً للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذلي ... خلع العذار ولجَّ فيك مؤنِّبي
لكن خشيت بأن تقول عواذلي ... قد جنَّ هذا الشيخ في هذا الصبي
فأرحم فديتُك حُرقةً قد قاربت ... كشف القناع بحق ذياك النبي
قال الشيخ جمال الدين بن عبد القادر التبريزي الذي يهواه القاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله الملك المسعود بن الملك الظاهر وكان قد تيمه حبه وكنت أنام عنده بالعادلية فتحدثنا في بعض الليالي إلى أن ذهب الناس، فقال لي: نم أنت ههنا وألقى عليَّ فروة
قرظ وقام يدور حول بركة العادلية ويقول في دورانه:
أنا والله هالكٌ ... آيسٌ من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
وقيل إن قاضي القضاة شمس الدين المشار إليه رحمه الله سأل بعض أهل دمشق المحروسة وكان المسؤول من خواص أصحابه عن ترجمته عند أهل دمشق، فاستعفاه من ذلك فألح عليه؟ فقال: أما العلم والفضل فهم مجموعون عليه وأما النسب فيدعون فيه الأدعاء ويقولون: إن مولانا يأكل الحشيش ويحب الغلمان.
فقال أما النسب والكذب فيه فهذا نوع من الهذيان، ولو أردت أن أنتسب إلى العباس، أو إلى علي ابن أبي طالب، أو إلى أحمد من الصحابة، لأجازوا ذلك وأما النسب إلى قوم لم يبق منهم بقية وأصلهم فرس مجوس فما فيه فائدة وأما الحشيشة فلكل ارتكاب محرم وإذا كان ولا بد فكنت أشرب الخمر فإنه ألذ وأما محبة الغلمان فإلى غد أجيبك عن المسألة انتهى.
ومما يناسب لطيفة قاضي القضاة شمس الدين، ما نقلته من روض الجليس ونزهة الأنيس حكي عن سليمان بن محمد المهدي الصقلي قال: كان بأفريقية رجل نبيه شاعر، وكان يهوى غلاماً جميلا من غلمانه فأشتد كلفه به وكان الغلام يتجنى عليه، ويعرض عنه كثيراً، فبينما هو ذات ليلة وقد انفرد بنفسه ليشرب الخمر إذ ذكر محبوبه فجرى بخاطره ما يفعله به من التجني فزاد سكره، وقام من الفور وقد غلب عليه الغرام وسكر المدام، فأخذ قبس نار وجعله عند باب الغلام ليحرق عليه داره فلما دارت النار بالباب بادر الناس باطفائها واعتقلوه فلما أصبحوا نهضوا به إلى القاضي فأعلموه بفعله فقال له القاضي: لأي شيء أحرقت باب هذا الغلام فأنشد على الفور:
لما تمادى على بعادي ... وأضرم النار في فؤادي
ولم أجد من هواه بداً ... ولا معيناً على السهاد
حملت نفسي على وقوفي ... ببابه وقفة الجواد
فطار من بعض نار قلبي ... أقلٌّ في الوصف من زناد
فاحرق الباب دون علمي ... ولم يكن ذاك من مرادي
قال فاستطرف القاضي واقعته واستملح شعره ورق لحكاية حاله وتحمل عنه ما أفسده من باب الغلام وأطلقه.
ومما يناسب هذه اللطائف قيل: إنه رفع إلى المأمون أن حائكاً يعمل السنة كلها لا يتعطل في عيد ولا جمعة، فإذا ظهر الورد طوى عمله وغرد بصوت عال:
طاب الزمان وجاء الورد فاصطحبوا ... ما دام للورد أزهارٌ وأنوار
فإذا شرب مع ندمائه على الورد غنى:
إشرب على الورد من حمراءَ صافيةٍ ... شهراً وعشراً وخمساً بعدها عددا
ولا يزالون في صبوح وغبوق ما بقيت وردة فإنه انقضى الورد عاد إلى عمله وغرد بصوت عال:
فإن يبقني ربيِّ إلى الرود أصطبح ... وإن مت والهفي على الورد والخمر
سألت إله العرش جلَّ جلاله ... يواصل قلبي في غبوقٍ إلى الحشر
فقال المأمون لقد نظر هذا الرجل إلى الورد بعين جليلة فينبغي أن نعينه على هذه المروءة فأمر أن يدفع له في كل سنة عشر آلاف درهم في زمن الورد.
ومن اللطائف ما حكي عن مجير الدين الخياط الدمشقي قيل: إنه كان يهوى غلاماً من أولاد الجند فشرب مجير الدين في بعض الليالي وسكر فوقع في الطريق فمر الغلام عليه بشمعة وهو راكب فرآه في الليل مطروحا على الطريق فوقع عليه بالشمعة ونزل فأقعده ومسح وجهه فسقط من الشمعة نقطة على وجهه ففتح عينيه فرأى محبوبه على رأسه فاستيقظ وأنشد:
يا محرقاً بالنار وجه محبِّه ... مهلاً فإن مدامعي تطفيه
أحرق بها جسدي وكل جوارحي ... وأحذر على قلبي فإنك فيه
ومن اللطائف ما حكاه الأصمعي
قال: مررت بكناس يكنس كنيفاً وهو يغني ويقول:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
فقلت له أما سداد الثغر فلا علم لنا كيف أنت فيه وأما سداد الكُنُف فمعلوم. قال الأصمعي: وكنت حديث السن فأردت العبث به فأعرض عني مليا ثم أقبل علي وأنشد:
وأكرمُ نفسي إنني إن أهنتها ... وحقك لم تُكرمْ على أحدٍ بعدي
فقلت وأي كرامة حصلت لها منك وما يكون من الهوان أكثر مما أهنتها به. فقال: بل لا والله من الهوان ما هو أكثر وأعظم مما أنا فيه، فقلت له: وما هو فقال الحاجة إليك وإلى أمثالك، فقال: فانصرفت وأنا أخزي الناس ذكرت بقول الكناس غريم الأصمعي ما يضارع ذلك أعني قوله:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
قيل: إنه كان لأبي حنيفة رضي الله عنه جار إسكاف بالكوفة يعمل نهاره أجمع فإذا جنه الليل، رجع إلى منزله بلحم وسمك فيطبخ اللحم ويشوي السمك فإذا دب فيه السكر أنشد:
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
ولا يزال يشرب ويردد البيت إلى أن يغلبه
السكر وينام، وكان الإمام أبو حنيفة يصلي الليل كله، ويسمع حديثه وإنشاده ففقد صوته بعض الليالي فسأل عنه فقيل: أخذه العسس منذ ثلاثة أيام وهو محبوس فصلى الإمام الفجر وركب بغلته ومشى واستأذن على الأمير فقال أئذنوا له واقبلوا به راكبا حتى يطأ البساط فلما دخل على الأمير أجلسه مكانه وقال ما حاجة الإمام فقال لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ثلاثة أيام فتأمر بتخليته فقال نعم وكل من أخذ تلك الليل إلى يومنا هذا ثم أمر بتخليته وتخليتهم أجمعين فركب الإمام وتبعه جاره الإسكاف فلما وصل إلى داره قال له الإمام أبو حنيفة أترانا أضعناك قال لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيراً عن صحبة الجوار ورعايته ولله عليَّ أن لا أشرب بعدها خمرا فتاب من يومه ولم يعد إلى ما كان عليه انتهى.
ومما يناسب هذه اللطائف ما ذكره الحريري في كتابه الموسوم بتوشيح البيان نقل أن أحمد بن المعدل كان يجد بأخيه عبد الصمد وجدا عظيما على تباين طريقيهما لأن أحمد كان صواما قواماً وكان عبد الصمد سكيراً خمورياً وكانا يسكنان داراً واحدة ينزل أحمد في غرفة أعلاها وعبد الصمد في أسفلها فدعا عبد الصمد ليلة جماعة من ندمائه وأخذ في القصف والعزف حتى منعوا أحمد الورد ونغصوا عليه التهجد فاطلع عليهم وقال أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض فرفع عبد الصمد رأسه وقال وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وذكرت بها الاقتباس الذي خلب القلوب هنا بحسن موقعه اقتباسا خلب قلوب الناس لعظم موقعه وما ذاك إلا أن الحاكم الفاطمي على ما ذكر، لما بني المسجد الجامع بالقاهرة المعزية المجاور لباب الفتوح قيل إنه فسد حاله في آخر أمره وادعى الألوهية وكتب بسم الله الرحمن الرحيم وجمع الناس إلى الإيمان به وبذل لهم نفائس وكان ذلك في فصل الصيف والذباب يتراكم على الحاكم والخدام تدفعه ولا يندفع فقرأ في ذلك الوقت بعض القراء وكان حسن الصوت يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يسنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز. فاضطربت الأمة لعظم وقوع هذه الآية الشريفة في حكاية الحال، حتى كأن الله أنزلها تكذيباً للحاكم فيما أدعاه وسقط الحاكم من فوق سريره
خوفا من أن يقتل وولى هارباً، وأخذ في استجلاب ذلك الرجل إلى أن اطمأن إليه فجهزه رسولا إلى بعض الجزائر وأمر بإغراقه ورؤي بعد ذلك في المنام فقيل له ما وجدت فقال ما قصر معي صاحب السفينة أرسى بي على باب الجنة ومن الاقتباسات التي وقعت للمتأخرين في أحسن المواقع المتعلقة بحكاية الحال ما سمعت وشهدت حكاية حالة بالجامع الأموي وما ذاك إلا أن قاضي القضاة علاء الدين أبا البقاء الشافعي، رحمه الله تعالى، كان قد عزل من وظيفة قضاء القضاة بدمشق المحروسة فعاد إلى وظيفته والبس التشريف من قلعة دمشق وحضر إلى الجامع على العادة، ومعه أخوه قاضي القضاة بدر الدين الشافعي بالديار المصرية فاستفتح الشيخ معين الدين الضرير المقرىء وقرأ قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا إلى آخر الآية فحصل بالجامع الأموي ترنمٌ صفق له النسر بجناحية.
وروى المرزبان بإسناده أن المجنون خرج مع أصحاب له يمتار من وادي القرى فمر بجبلي نعمان فقالوا إن هذين جبلا نعمان وقد كانت ليلى تنزلهما قال فأي ريح تهب من نحو أرضها إلى هذا المكان فقالوا الصبا فقال والله لا أبرح حتى تهب الصبا فأقام في ناحية من الجبل ومضوا فامتاروا له ولهم ثم أتوا فحبسهم حتى هبت الصبا ورحل معهم وفي ذلك يقول:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارةٌ ... على كبدٍ لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريحٌ إذا ما تنسمت ... على نفس مهمومٍ تجلت همومها
وضمن البيت الأول الشيخ صفي الدين الحلي في مليح اسمه نعمان
أقول وقد عانقت نعمان ليلةً ... بنور محياه أنارَ أديمها
وقد أرسلت إلياه نحوي فسوةً ... يروح كرب المستهام شميمها
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
وكان لابن الجوزي رحمه الله تعالى زوجة أسمها نسيم الصبا فاتفق أنه طلقها فحصل له عند ذلك ندم وهيام أشرف منه على التلف فحضرت في بعض الأيام مجلس وعظه فحين رآها عرفها فاتفق أنه جاءته امرأتان وجلستا أمامه فحجبتاها عند فأنشد في الحال:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلصْ إلي نسيمها
قلت وعلى ذكر نعمان
والكناية عنه فما ألطف ما ذكره الشيخ بدر الدين حسن بن زفر الطبيب الأربلي في كتابه روضة الجليس ونزهة الأنيس وهو أن بعض الرؤساء قال: أخبرني بعض الأصحاب قال: كنت يوما جالسا عند صديق لي بالموصل إذ جاءه كتاب من بغداد من صديق له وفيه تشوق وفيه عتاب بهذا البيت:
تناسيتم العهد القديم كأننا ... على جبلي نعمان لن نتجمعا
فأخذ يستحسن هذا البيت ويهتز له فقلت بالله عليك أسألك شيئاً لا تخفه قال سل قلت هذه معشوقتك صاحبة هذا الكتاب هل كنت تأتيها من وراء الدار فقال أي والله ومن أين علمت ذلك فقلت من البيت لأنها ذكرتك فيه بجبلي نعمان وهما كناية عند الظرفاء من أهل الأدب عن جانبي الكفل للمليح والمليحة فقال والله ما أدركت ما أدركت ونقلت من اللطائف المسبوكة في قالب التورية أن بعض الكتاب دخل يسلم على بعض فضلاء النحاة وكان من أصحابه فوجده قائما يلوط بأحد الغلمان الملاح من طلبته في قراءة النحو ولم يره الغلام فجلس النحوي في مكانه وبقي الغلام واقفا مبهوتا فقال الكاتب للنحوي مالي أرى هذا الغلام واقفا فقال النحوي وقع عليه الفعل فانتصب.
ومثل ذلك قصة ابن عنين مع الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل لما كتب إليه في مرضه:
أنظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلافَ قبل تلافي
أنا كالذي احتاج ما يحتاجه ... فأغنم دعائي والثناء الوافي
فحضر إليه المعظم بنفسه ومعه ثلثمائة دينار وقال له أنت الذي وأنا الغائد وهذه الصلة وظرف من قال:
وذي أدبٍ بارعٍ لكنهُ ... أولجت فيه قمداً عتف
فقلت فديتك أعصر عليه ففيه اللذاذة لو تعترف
فقال أجدت ولكن لحنت ... لقولك أعصر بفتح الألف
فقلت لك الويل من أحمقٍ ... فقال وأحمق لا ينصرف
وأظرف منه قول الحسين بن الريان:
أتيت حانة خمار وصاحبها ... مما جنى متقن للنحو ذو لسن
وحوله كل هيفاءٍ منعمةٍ ... وكل علقٍ رشيقٍ أهيفٍ حسن
فقال لي إذ رأى عيني قد انصرفت ... إلى النساء كلام الحاذق الفطنِ
أنت وركب وصف وأعدل بمعرفةٍ ... وأجمع وزد واسترح من عمةٍ وزن
ومثله ما حكي أن بعض الفقراء
وقف على باب نحوي فقرعه فقال النحوي من بالباب فقال سائل فقال ينصرف فقال اسمي أحمد فقال النحوي لغلامه أعط سيبويه كسرة.
ومثله قول ابن عنين:
شكا ابن المؤبد من عزله ... وذم الزمان وأبدى السفه
فقلت له:
لا تذم الزمان ... فتظلم أيامه المنصفه
ولا تعجبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفه
وألطف منه قول القائل:
ورقيعٍ أراد أن يعرف النحو ... بزي العيار لا المستفتي
قال لي لست تعرف النحو مثلي ... قلت سلني عنه أجب في الوقت
قال ما المبتدا وما الخبر المجرور ... أوجز فقلت ذقنك في استي
وأحسن منه وأبدع قول الشيخ زين الدين بن الوردي:
وشادنٍ يسالني ... ما المبتدا والخبر
مثلهما لي مسرعاً ... فقلت أنت القمر
ومن النكت المسبوكة في قالب التورية أيضا ما قيل أن شهاب الدين القوصي حضر عند الملك الأشرف وقد دخل إليه سعد الدين الحكيم فقال الملك الأشرف ما تقول في سعد الدين الحكيم لشهاب الدين فقال يا مولانا السلطان إذا كان بين يديك فهو سعد الدين، وعلى السماط سعد بلع، وفي الخباء عن الضيوف سعد الأخبية، وعند مرض المسلمين سعد الذابح قال فضحك الملك الأشرف واستسحن اتفاقه البديعي وابدع منه في هذا الباب ما نقل عن الشيخ نظام الدين قيس إنه لقي الصاحب عز الدين عبد العزيز بن منصور فسأله الصاحب عن حاله فقال:
حالٌ متى علم ابنُ منصورٍ بها ... جاء الزمان إليّ منها تائبا
قلت إن نظام الدين أحق من أبي الطيب بهذا البيت ومن النكت بالتورية أيضاً قيل إن بعض الماجنات أرادت السفر فلقيها بعض المجان فقال لها خذي معك هذا الكتاب وأشار إلى ذكره فقالت له على الفور إن لم ألق أمك أعطه أختك ومثل ذلك أن الشيخ بدر الدين بن الصاحب لقي شخصاً ومعه مليحان فقال ما اسمك فقال عبد الواحد فقال أخرج منهما فأنا عبد الاثنين. ومثله أن ابن نقيلة المغني مرض وأشرف على الموت فجاء إليه ابن الصاحب يعوده فقال له كيف حال النقيلية فقال ما أخوفني أن تصير مدفونة مثله أن بعض المجان رأى امرأة حاملة سرموجة فقال له متى زوجك حملك تركاشه فقالت له رح لأرميك منه بفردة ومثله أن بعضهم رأى امرأة حاملة فردة سقمان لتخيطه فقال لها: أعتقي هذا الغراب.
فقالت له رح لأسيبه ينقرك. ومثله أن الشيخ بد الدين المذكور أولا حضر إلى مجلس قاضي القضاة ناصر الدين المالكي فذكروا محاسن القاضي محب الدين ناظر الجيشين وحسن أخلاقه ثم ذكروا محاسن الشعر فأنشده قاضي القضاة:
فكم أبٍ قد علا بابنٍ ذوي شرفٍ ... كما علت برسول الله عدنان
فكل من الجماعة أثنى على هذا البيت فقال الشيخ بد الدين ابن الصاحب والقاضي محب الدين يحب هذا البيت فطربوا له. ومما وقع له بذلك المجلس أنه لما قدم المشروب على العادة كان قد تولى السقيا مملوك له اسمه بكتمر فلما شرب الشيخ بدر الدين قال له قاضي القضاة ما تقول يا شيخ قال رأيت ملك العلماء بكتمر الساقي ومثله أن الصاحب بن سكر أراد قارئا يقرأ بالمدرسة التي أنشأها بالقاهرة فاختاروا له رجلين أحدهما اسمه زيادة والآخر مرتضى فوقع في ظهر القصة مرتضى زيادة وزيادة مرتضى. ومثله أن ابا الحسين الخراز جاء إلى باب الصاحب زين الدين بن الزبير فأذن للناس في الدخول ولم يأذن له فكتب في ورقة:
الناس كلهم كالأير قد دخلوا ... والعبد مثل الخصي ملقى على الباب
فلما قرأها ابن الزبير قال لحاجبه أخرج إلى الباب وقل يا خصي أدخل فدخل أبو الحسين وهو يقول هذا دليل على السعة ومن التنكيت والحشمة بالتورية أن الشيخ صلاح الدين الصفدي قال أخبرني الشيخ فتح الدين بن سيد الناس بالقاهرة قال قلت للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أن بهاء الدين بن النحاس يرجح أبا تمام على المتنبي فما رأيك أنت فسكت فقلت ثانيا فقال كنت كذا في الأول قال الشيخ صلاح الدين ولما حكيت للشيخ جمال الدين بن نباتة قال أنا على رأي ابن دقيق العيد قال الشيخ صلاح الدين وممن رأيته يعظم أبا تمام شيخنا أثير الدين ويرجحه على المتنبي فعذلناه في ذلك فقال أنا ما أسمع عذلا في حبيب.
ونقلت من خط الصاحب فخر الدين ابن الكانس رحمه الله قال سافرت سنة إحدى وستين وسبعمائة مع الصاحب فخر الدين ابن قزوينية إلى دمشق المحروسة وقد ولي نظر مملكتها ووالدي رحمه الله افتاءها وكان له دوادار يسمى صبيحاً وهو من عتقاء جده الوزير أمين الدين بن الغنام وكان لطيفا كثير النوادر فاتفق أن جمال الدين بن الرهاوي موقع دست الوزارة ركب يوما فتقنطر به الفرس وداس على رأس أحليله فحمل إلى داره وأقام أياما إلى أن عوفي وحضر مجلس الوزارة وهو غاص بالناس فقال الصاحب ما سبب تأخرك فقال تقنطر بي الفرس وداس رأس احليلي فكدت أموت والآن فقد لطف الله تعالى وحصل البرء والشفاء فقال له صبيح: الحمد لله على سلامة الخصي فانقلب المجلس ضحكا وخجل ابن الرهاوي وانصرف. وحكي أن بعض الرؤساء كان له خادم وعبد فدخل يوما فوجد العبد فوق الخادم فضربه وخرج فرأى بعض أصدقائه فساله عن غيظه فقال هذا العبد النحس فعل بالخويدم الصغير فقال بل مولانا السيد الكبير فخجل منه وأبرزها في قالب المجون.
وأنشد ابن الجوزي في بعض مجالس وعظه:
أصبحت ألطف من مر النسيم على ... زهر الرياض يكادُ الوهم يؤلمني
من كل معنىً لطيفٍ أجتلي قدحاً ... وكل ناطقةٍ في الكون تطربني
فقام إليه إنسان فقال يا سيدي الناطق حمارٌ فقال أقول له يا حمار اسكت ويعجبني قول برهان الدين القيراطي:
صاح هذي قباب طيبةَ لاحت .. وفؤادي على اللقاء حريص
وتبدت نخيلها للمطايا ... فعيون المطي للنخل خوص
ويطربني ما حكاه أبو الفوارس بن اسرائيل الدمشقي. قال كنت يوما عند السلطان صلاح الدين يوسف بن ايوب فحضر رسول صاحب المدينة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ومعه قواد وهدايا فلما جلس أخرج من كمه مروحة بيضاء عليها سطران بالسعف الأحمر وقال الشريف يخدم مولانا السلطان ويقول هذه المروحة ما رأى مولانا السلطان ولا أحد من بني أيوب مثلها فاستشاط السلطان صلاح الدين غضباً فقال الرسول يا مولانا السلطان لا تعجل قبل تأملها وكان السلطان صلاح الدين ملكا حليما فتأملها فإذا عليها مكتوب:
أنا من نخلةٍ تجاور قبراً ... ساد من فيه سائر الناس طرا
شملتني عناية القبر حتى ... صرت في راحة ابن أيوب أقرا
وإذا هي من خوص النخل الذي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقبلها السلطان صلاح الدين ووضعها على رأسه وقال لرسول صاحب المدينة النبوية صدقت فيما قلت من تعظيم هذه المروحة. وأحسن ما سمع فيها قول عرقلة الدمشقي:
ومحبوبةٍ في القيظ لم تخلُ من يدٍ ... وفي القرٍّ تسلوها أكفُّ الحبائب
إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقاً
.. أتت بالهوى الممدود من كل جانب
وقال غيره وأجاد:
ومروحةٍ أهدت إلى النفس روحها ... لدى القيظ مبثوثاً بإهداء ريحها
روينا عن الريح الشمال حديثها ... على ضعفه مستخرجاً من صحيحها
نقل الحافظ اليعمري أن أبا نصر المنازي واسمه أحمد بن يوسف دخل على أبي العلاء المعري في جماعة من أهل الأدب فأنشد كل واحد منهم من شعره ما تيسر فأنشده أبو نصر:
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو الوالدات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأٍ زلالاً ... ألذَّ من المدامة للنديم
يصدُّ الشمس أني واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم
فقال أبو العلاء أنت أشعر من بالشام.
ثم رحل أبو العلاء إلى بغداد فدخل المنازي عليه في جماعة من أهل الأدب ببغداد وأبو العلاء لا يعرف منهم أحداً فأنشد كل واحد ما حضره من شعره
حتى جاءت نوبة المنازي فأنشد:
لقد عرض الحمام لنا بسجعِ ... إذا أصغى له ركبٌ تلاحى
شجى قلب الخلي فقيل غنى ... وبرح بالشجيِّ فقيل ناحا
وكم للشوق في أحشاء صبٍّ ... إذا اندملت أجدَّ لها جراحا
ضعيف الصبر عنك وإن تقاوى ... وسكران الفؤاد وإن تصاحى
بذاك بنو الهوى سكرى صحاةً ... كأحداق المها مرضى صحاحا
فقال أبو العلاء ومن بالعراق عطفا على قوله من بالشام انتهى.
نادرة مشى البيدق اليزيدي مع شاب موسوم بالجمال فقال له شمس الدين بن المنجم الشاعر أراك يا بيدق تفرزنت حول هذه النفس فقال وإذا كان فقال أخشى عليك من ذلك الرخ لا يقطعك من الحاشية ويرميك عن الفرس ويقطع عليك الرقعة ولو كان في كفك الفيل. ومثله في الظرف أن بعض الأجناد كان كثير اللعب بالشطرنج وكان الجندي خليعاً ظريفاً فأعطاه الأمير في بعض الأيام فرسا وقال له لا تفرط فيها فقال نعم وبعد ذلك التقاه الأمير وهو لابس جوخة فقال ويلك أين الفرس فقال يا خوند ضربني الشتاء شاه مات فتسترت بالفرس. ويعجبني قول الشيخ بد الدين ابن الصاحب:
تأمل تر الشطرنج كالدهر دولةً ... نهاراً وليلاً ثم بؤساً وأنعما
محركها باقٍ وتفنى جميعها ... وبعد الفنا تحيا وتبعث أعظما
قلت ويشبه هذا قول الفاضل وقد أخرج له السلطان الملك الناصر صلاح الدين من القصر من يعاني الخيال أعني خيال الظل ليفرجه عليه فقام الفاضل عند الشروع في عمله فقال له الناصر إن كان حراما فما نحضره وكان حديث العهد بخدمته قبل أن يلي السلطنة فما أراد أن يكدر عليه فقعد إلى آخره فلما إنقضى ذلك قال له الملك الناصر كيف رأيت ذلك قال رأيت موعظة عظيمة رأيت دولاً تمضي ودولاً تأتي ولما طوي الأزار إذا المحرك واحد فأخرج ببلاغته هذا الجد في هذا الهزل انتهى.
وللشيخ بدر الدين الصاحب مضمنا في الشطرنج:
أميل لشطرنج أهل النهي ... وأسلوه من ناقل الباطل
وكم رمت تهذيب لعابها ... وتأبى الطباع على الناقل
ويعجبني قول الشيخ عز الدين الموصلي حيث قال:
جاهل شطرنجٍ ينادي وقد ... أمات نفس اللعب من عكسه
ما تفعل الأفعال في جاهلٍ ... ما يفعل الجاهل في نفسه
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
افديه لاعب شطرنجٍ قد اجتمعت ... في شكله من معاني الحسن أشتاتُ
عيناه منصوبةٌ للقلب غالبةٌ ... والخد فيه لقتل النفس شاماتُ
نادرة لطيفة حكي أن السراج الوراق جهز غلاما له يوما ليبتاع له زيتا طيبا ليأكل به لفتا فأحضره وقلبه على اللفت فوجده زيتا حاراً فأنكر على الغلام ذلك فأخذه وجاء إلى البياع وقال له لم تفعل مثل هذا فقال له والله يا سيدي مالي ذنب لأنه قال أعطني زيتا للسراج انتهى.
ومثله ما حكاه الصاحب فخر الدين بن مكانس عن صاحبه سراج الدين القوصي أنه كان حصل له طلوع في جسده فتردد إليه المزين وصنع له فتائل على العادة قال فقلت له يوما كيف الحال يا سراج الدين فقال كيف حال سراج فيه سبع فتائل.
ورأيت له في ديوانه يداعب سراج الدين المذكور بقوله:
إذا السراج اشترى أيري فأنت به ... أولى وذلك للأمر الذي وجبا
إسكندريٌّ وتُدعى بالسراج وذا ... مثلُ المنار إذا ما قام وانتصبا
نادرة لطيفة اجتمع محدث ونصراني في سفينة فصب النصراني من ركوة كانت معه في مشربة وشرب وصب وعرض على المحدث فتناولها من غير فكر ولا مبالاة فقال النصراني جعلت فداك هذا خمر فقال من أين علمت أنها خمر قال اشتراها غلامي من خمار يهودي وحلف أنها خمر عتيق فشربها بالعجلة وقال للنصراني أنت أحمق نحن أصحاب الحديث نروي عن الصحابة والتابعين أفنصدق نصرانيا عن غلامه عن يهودي والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد.
نادرة لطيفة نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين فلم يشك أنهم في دعوة ذاهبون إلى وليمة فقام وتبعهم فإذا هم شعراء قد قصدوا السلطان بمدائح لهم فلما أنشد كل واحد شعره وأخذ جائزته لم يبق إلى الطفيلي وهو جالس ساكت فقال له أنشد شعرك فقال لست بشاعر قيل فمن أنت قال من الغاوين الذين قال الله تعالى في حقهم " والشعراء يتبعهم الغاوون " فضحك السلطان وأمر له بجائزة الشعراء.
وحكى الهيثم بن عدي قال ماشيت الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه في نفر من أصحابه إلى عيادة مريض من أهل الكوفة وكان المريض بخيلا وتواصينا على أن نعرض بالغداء فلما دخلنا وقضينا حق العيادة قال بعضنا آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال فتمطى المريض وقال ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج فغمز أبو حنيفة أصحابه وقال قوموا فما لكم هنا من فرج انتهى.
ومن غرائب المنقول أن يحيى بن اسحق كان طبيباً حاذقاً صانعاً بيده وكان في صدر دولة عبد الرحمن الناصر لدين الله واستوزروه نقل عنه من حذقه أنه أتى إليه بدوي على حمار وهو يصيح على باب داره أدركوني وكلموا الوزير بخبري فلما دخل عليه قال ما بالك قال ورم باحليلي منعني النوم منذ أيام وأنا في الموت فقال له اكشف عنه فأذا هو وارم فقال لرجل جاء معه أحضر لي حجراً أملس فطلبه فوجده فقال له ضع عليه الأحليل فلما تمكن أحليل الرجل من الحجر جمع الوزير يده وضرب الأحليل ضربة غشي على الرجل منها ثم اندفع الصديد يجري فلما انقطع جريان الصديد فتح الرجل عينيه ثم بال في أثر ذلك فقال له أذهب فقد برأت علتك وأنت رجل عابث واقعت بهيمة في دبرها فصادفت شعيرة من علفها ولجت في عين الاحليل فورم لها وقد خرجت في الصديد فقال له الرجل قد فعلت ذلك وهذا يدل على الحذق المفرط. ومثله أن ابن جميع الاسرائيلي كان من الأطباء المشهورين والعلماء المذكورين خدم سلطان مصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة نافذ الأمر. ومما نقل عنه في حذقه أنه كان جالسا في دكان وقد مرت عليه جنازة فملا نظر إليها صاح يا أهل الميت إن صاحبك لم يمت ولا يحل أن تدفنوه حيا فقال بعضهم لبعض هذا الذي يقوله لا يضرنا ويتعين أن فمتحنه فإن كان حيا فهو المراد وإن لم يكن حيا فما يتغير علينا شيء فاستدعوه إليهم وقالوا بين لنا ما قلت فأمرهم بالعود إلى البيت وأن ينزعوا أكفانه فلما فرغوا من ذلك أدخله الحمام وسكب عليه الماء الحار وأحمى بدنه نطله فظهر فيه أدنى حسن وتحرك حركة خفيفة فقال أبشروا بعافيته ثم تمم علاجه إلى أن أفاق وصحا فكان ذلك مبدأ اشتهاره بشدة الحذق والعلم ثم إنه سئل بعد ذلك ومن أين علمت أن في ذلك الميت بقية روح وهو في الأكفان محمود فقال نظرت إلى قديمه فوجدتهما قائمتين وأقدام الموتى منبسة فحدست أنه حي وكان حدسي صائبا.
نادرة لطيفة قيل إن المنصور ابن أبي عامر الأندلسي كان إذا قصد غزاة عقد لواءه بجامع قرطبة ولم يسر إلى الغزاة إلا من الجامع فاتفق أنه في بعض حركاته للغزاة توجه إلى الجامع لعقد اللواء فاجتمع عنده القضاة والعلماء وارباب الدولة فرفع حامل اللواء اللواء فصادف ثريا من قناديل الجامع فانكسرت على اللواء وتبدد عليه الزيت فتطير الحاضرون من ذلك وتغير وجه المنصور فقال رجل أبشر يا أمير المؤمنين بغزاة هينة وغنيمة سارة فقد بلغت أعلامك الثريا وسقاها الله من شجرة مباركة فأستحسن المنصور ذلك واستبشر به وكانت العزوة من أبرك الغزوات. ومثل هذا لما خرج المنصور العباسي إلى قتال أبي يزيد الخارجي في جماعة من الأولياء وواجه الحصن سقط الرمح من يده فأخذه بعض الأولياء فمسحه وقال:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
فضحك المنصور وقال لم ما قلت فألقى موسى عصاه فقال يا أمير المؤمنين العبد تكلم بما عنده من إشارات المتأدبين وتكلم أمير المؤمنين بما أنزل على النبي من كلام رب العالمين فكان الأمر على ما ذكره وأخذ الحصن وحصل الظفر بأبي يزيد.
حكي أن الشيخ شهاب الدين ابن محمود قال عدت قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان في دمشق بالمدرسة النجيبية سنة إحدى وثمانين وستمائة فأنشدني لبعض أهل الأدب في نقيب الأشراف بالمدائن رثاء خلب قلبي وهو يقول:
قد قلت للرجل المولى غسله ... هلا أطاع وكنت من نصائحه
جنبه ماءك ثم غسله بما ... أذرت عيون المجد عند بكائه
وأزل أفاويه الحنوط ونحها ... عنه وحنطه بطيب ثنائه
ومر الملائكة الكرام بنقله ... شرفاً ألست تراهمُ بإزائه
لا توهِ أعناقَ الرجال بحمله ... يكفي الذي حملوه من نعمائه
قال الشيخ شهاب الدين فوقع في نفسي أنه أحق الناس بهذا الرثاء وأنه نعى نفسه فمات في ذلك الأسبوع برد الله مضجعه.
نكتة لطيفة قيل إنه لما رجع الشيخ شهاب الدين السهروردي رحمه الله من الشام إلى بغداد وجلس على عادته أخذ يقلل أحوال الناس ويهضم جانب الرجال ويقول إنه ما بقي من يجاري وقد خلت الدنيا وأنشد:
ما في الصحاب أخو وجدٍ نطارحه ... حديث نجدٍ ولا خلٌّ نجاريه
فصاح من أطراف المجلس رجل عليه قباء وكلوتة فقال يا شيخ كم تنتقص بالقوم والله إن فيهم من لم يرض أن يجاريك وقصاراك أن تفهم ما يقول هلا قلت:
ما في الصحاب وقد سارت حمولهم ... إلا محبٌّ له في الركب محبوب
كأنما يوسفٌ في كلٍّ راحلةٍ ... والحيّ في كلِّ بيتٍ منه يعقوب
فصاح السهروردي ونزل عن الكرسي وطلب الشاب فلم يجده.
حكي عن ابن المطرزي الشاعر أنه مر وفي رجله نعل بالية بالشريف الرضي فأمر بإحضاره وقال أنشدني أبياتك التي تقول فيها:
إذا لم تبلغني إليك ركائبي ... فلا وردت ماءً ولا رعت العشبا
فأنشده إياها فلما انتهى إلى هذا البيت أشار إلى نعله البالية وقال هذه كانت ركائبك فأطرق ابن المطرزي ساعة ثم قال لما عادت هبات مولانا الشريف إلى مثل قوله:
وخذ النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
عادت ركائبي إلى مثل ما ترى لأنك خلعت ما لا تملك على من لا يقبل فخجل الشريف وقابله بما يليق من الإكرام.
قلت وأما الأجوبة الهاشمية وبلاغتها في المحل الأرفع.
* كتاب ثمرات الأوراق (مطبوع بهامش المستطرف في كل فن مستظرف للشهاب الأبشيهي)
المؤلف: ابن حجة الحموي، تقي الدين أبو بكر بن علي (المتوفى: 837هـ)
صورة مفقودة