نقوس المهدي
كاتب
تمهيد:
تشغل دراسات الجسد مكانة مهمة ومتنامية في علم الاجتماع –وفي غيره من العلوم الاجتماعية والإنسانيات- منذ ثمانينات القرن الماضي، هذه «النهضة» في الاهتمام بالجسد لم تؤد فقط إلى تأسيس منطقة «بينية»interdisciplinary زاهرة لدراسات الجسد، وإنما أدت كذلك إلى تسريع عملية إعادة بناء النظم المعرفية –الأساسية والفرعية- التي تعمل على تحليل أكثر موائمة للطبيعة الجسدية والنتائج المتعلقة بها، ولقد كانت هذه النهضة مسئولة أيضاً عن تحول في الاهتمام الأساسي للنظرية الاجتماعية. (shilling 2005: 761).
والملاحظ أن الاهتمام السوسيولوجي بالجسد يعد أمراً حديثاً نسبياً، فحتى حدود الستينات من القرن الماضي لم يكن الجسد كموضوع معرفة سوسيولوجية يحظى بمكانة «الموضوع المحوري أو الأساسي» بل على العكس من ذلك كان حضوره، لا يتجاوز مستوى الحضور المضمر الافتراضي، أو مستوى محور من ضمن المحاور المدروسة، أو كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي «جون ميشيل بيرتلو» Jean M. Berthelot كان الجسد مادة سوسيولوجية خافتة Le Corps est un objet sociologique eclipse (زينب المعادي 2004: 19)
والواقع أن هناك عوامل معقدة ومتراكمة أسهمت في غياب الجسد عن الوعي السوسيولوجي في مراحله المبكرة ، ربما ترتبط أولى هذه العوامل بذلك التقسيم التقليدي «التاريخي» بين العلوم البيولوجية والعلوم الاجتماعية، فذلك التقسيم كان بمثابة «عقبة» Obstacle كبيرة أمام مشروع تنظير الجسد في الحياة الاجتماعية. (Lyon, 1997: 84)
ويعتقد «تيرنر» أن ثمة عاملين أساسيين أسهماً في إقصاء الجسد عن علم الاجتماع الكلاسيكي، يتمثل العامل الأول في قبول العلوم الاجتماعية للإرث الديكارتي Cartesian Legacy المتعلق بذلك التقسيم الحاد بين العقل والجسد، الذي ارتكز على فرضية جوهرية مفادها أنه لا يوجد تفاعل – أو على الأقل تفاعل ذوبال- بين العقل والجسد؛ ولذا فإن هذين الموضوعين ينبغي أن يدرسا وفق نظامين علميين منفصلين ومتمايزين، فأصبح الجسد موضوعاً للعلوم الطبيعية –بما فيها الطب- بينما أصبح العقل مجالاً لاهتمام العلوم الاجتماعية والإنسانيات. أما العامل الثاني فهو انشغال علماء الاجتماع الكلاسيكيين – مثل فيبر وبارسونز- بالاهتمام بالفعل الاجتماعي والفاعلين الاجتماعيين واعتبار الجسد جزءاً من البيئة كذلك انشغل علم الاجتماع في مرحلته التأسيسية بمفهوم البناء Structure والشـروط اللازمة
لاستقرار النظام العام والمحافظة عليه، والكشف عن العوامل المؤثرة في تغيره، وباعتبار الجسد جزءاً من الظواهر الطبيعية، فإنه موضوع غير اجتماعي، ومن ثم تم استبعاده من التحليل، ولم يكن ذلك وقفاً على علم الاجتماع فقط، وإنما كان شائعاً في معظم العلوم الاجتماعية. (Lyon 1997: 84- 85 & Kelly and Field 1996: 242)
وبالإضافة للعوامل السابقة، يرصد «كريس شلنج» (2003) عاملاً آخر مهماً وهو ما يسميه «النشأة الذكورية لعلم الاجتماع» فتأسيس علم الاجتماع كان مشروعاً اجتماعياً – معرفياً، كما كان مشروعاً أنجزه «رجال» فربما كان للمخاطر التي تواجهها المرأة أثناء الحمل، عدد النساء اللائي يمتن أثناء الولادة، نسب وفيات المواليد التي ميزت الثورة الصناعية أن تتضح عبر اهتمام أكبر بالجسد لو كان ماركس وسيمل، وفيبر ودوركايم نساء، إن ذلك لا يعني أن المعرفة قابلة بأسرها لأن تختزل في الخبرة الجسدية المباشرة، لكن تعني تكريس رابط تكاملي بين المعرفة والجسدية(**). (shilling 2003)
الإرهاصات الأولى للانشغال بالجسد
لقد أسهمت العوامل السابقة في غياب الجسد عن التحليل السوسيولوجي في مرحلته الكلاسيكية بصورة صريحة ومباشرة، غير أن هذا لا ينفي أنه يمكن رصد إرهاصات جنينية لتحول الجسد إلى موضوع تأمل سوسيولوجي مع بدايات العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر، الذي كان وفقاً لرؤية «جون ميشيل برتلو» قرن الاهتمام بجسد العمال وما يعيشونه في ظل ظروف العمل القاسية من استنزاف مبكر وأعطاب وتشوهات، وقد كانت هذه الأعطاب والتشوهات موضوع وصف دقيق ومفصل من جانب «فيليرمي» Villerme في بحثه المتميز عن الحالة الجسدية والنفسية المزرية للعمال المشتغلين في مصانع القطن والصوف والحرير في فرنسا، وكذلك «بيري» Buret في حديثه عن الطبقة العاملة في إنجلترا وفرنسا، وأيضاً قدم «ماركس وإنجلز» وصفاً وتحليلاً للوضعية الجسدية للعمال. (زينب المعادي 2004: 19)
كما عرف الفكر الاجتماعي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر نقاشاً مهماً حول السكان وتنظيم الولادات، ولفت الانتباه إلى أن قضايا الصحة والنسل والجنس مسئولية اجتماعية وليست مسائل تهم الفرد فقط، والملاحظ أنه على الرغم من أن الجسد ضمن الدراسات المشار إليها آنفاً قد أصبح ضمنياً معطى ثقافياً، إلا أن الاهتمام به لم يكن قد وصل إلى مرحلة يشكل فيها موضوعاً لدراسة مستقلة، كما لم يتأسس بعد توجه لتنظير هذا الجانب أو ذاك من التجربة الجسدية، كان الاهتمام بالجسد يشكل فقط جزءاً من اهتمامات متعددة مرتبطة بواقع العامل. (زينب المعادي 2000)
ومن أهم الجهود التي لفتت الاهتمام بالجسد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الأفكار الفلسفية التي طرحها «فردريك نيتشه» F. Nietzsche (1844- 1900). لقد أولت فلسفة نيتشه، الجسد اهتماماً خاصاً، ومجدت قوته، وأعلت من قيمة إرادة القوة وإرادة السيادة، وشددت على تحرير الجسد، وتلبية رغباته الطبيعية، إذ يقول «نيتشه»: «إن الغريزة هي أعظم أنواع الذكاء التي عرفها الإنسان حتى الآن، لقد بالغ الإنسان في تقدير الإدراك العقلي، وليس الإدراك سوى عملية ثانوية لإدارة القوة التي تجسدها الغريزة». (وول ديورانت 1988: 527).
لقد كان «نيتشه» معارضاً عنيداً للاهوت، ومتحيزاً لما يسميه «أخلاقيات النشاط الحيوي» Ethics of vitality المتأصلة في الغرائز والرغبات، والتي تسهم في صفاء التأمل الفلسفي، وكان داعياً Denouncer ومناصراً قوياً لتأكيد قيم الحياة، وقد شن حرباً عنيفة ضد كل أشكال الحقائق الكنسية. (Turnball 2005: 139)
إن القارئ لنيتشه يجد أن مشاعره ورغباته متغلغلة في كلماته، ومقاصده، وواضحة في أساليبه البلاغية، فقد كان يكتب من خلال جسده وروحه معاً، يجمع أصداء خبرته الحياتية المعاشة، إن رجلاً بمثل هذا التفكير، تختفي لديه تلك الثنائيات التقليدية، بين الفكر والمشاعر، وبين العقل والغريزة، إنه يحس أفكاره، ويقع في «حب» الفكرة، ويمكن للفكرة أن تجعله عليلاً. (Hughes 1996: 32)
يرى «نيتشه» أن الجسد هو سلاح في المعركة ضد الميتافيزيقا، وأداة الخطاب الفلسفي نحو حياة وعصر الإنسان الكامل (السوبرمان) إنه النقطة المرجعية Reference point في إعادة تقييم كل القيم، ووسيلة لنقد معطيات الحداثة بكل (أساطيرها) وقيمها ورؤاها. (Hughes 1996: 33)
والحقيقة أن اهتمام «نيتشه» بالجسد قد جاء في فترة مبكرة من حياته، ففي أوائل عام 1872 وهو في الثامنة والعشرين من عمره أصدر أول كتاب له وهو «مولد المأساة من روح الموسيقى» تحدث فيه عن الإلهين الذين كانا موضع تقديس وعبادة اليونانيين، وهما: (ديونيسوس) Dionysus و«أبوللو» Apollo الأول هو إله الخمر والمرح والبهجة والفتنة والعواطف والغريزة والمخاطرة، والثاني هو إله السلام والراحة والسكون والتأمل العقلي والنظام المنطقي، والهدوء الفكري، وقد اتحد هذان المثالان الأعليان فأبدعا أسمى آيات الفن اليوناني. (وول ديورانت 1988: 512)
لقد أدرك «نيتشه» أنه من خلال ذلك التوافق بين المبدأين اللذين يمثلهما «ديونيسوس» و«أبوللو» يمكن أن يظهر المجتمع السليم Healthy society الذي تتصالح فيه الرغبة الطبيعية للأفراد مع نشاطهم العقلي، وقد رأى «نيتشه» ذلك التصالح بشكل محدد في النشاط الجمالي، وخاصة الفن، إن الحياة ينبغي أن تعاش كعمل فني؛ ولهذا فقد انجذب لموسيقى «فاجنر» Wagner. إن الإخفاق في إنتاج توافق سليم لهذين المبدأين في حياة الأفراد يؤدي إلى حدوث المرض والجنون، لقد اعتقد «نيتشه» أن الأمراض العصبية –التي تحدث نتيجة ذلك التناقض بين الرغبة الجسدية والنشاط العقلي- هي أمر متعلق بالإنسان فقط؛ لأنه قد اغترب عن بيئته الطبيعية الفطرية. (Turner 1992: 38 - 39)
يقول «نيتشه» في كتابه (هكذا تكلم زرادشت Thus spoke Zarathustra) الصادر عام 1883 مخاطباً المستهزئين بالجسد، أي الذين يحطون من قدره: «أما أنتم يا أخوتي، فأصغوا إلى صوت الجسد؛ لأنه يخاطبكم بصوت أنقى وأخلص من تلك الأصوات التي تبشركم بالموت، إن الجسد السليم يتكلم بكل إخلاص وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم .. لأقولن للمستهزئين بالجسد كلمتي فيهم، إن واجبهم ألا يغيروا طرائق تعاليمهم، ولكن عليهم أيضاً ألا يهملوا أجسادهم حتى لا يستولى على ألسنتهم الخرس». (فردريك نيتشه 56- 57)
يتضح إذاً أن «نيتشه» يشدد على التوافق بين الجانب العضوي الغريزي (الذي يتم التقليل من شأنه دائماً) والجانب الفكري، إنه يرى أن المرض والجنون هما نتيجة طبيعية لذلك التناقض بين الجسد والعقل، وبالتالي فإنه يرفض الثنائية الديكارتية التي تميز الجسد عن العقل من جهة، كما أنه يرفض التعالي على الرغبة الجسدية العضوية من جهة أخرى. والجدير بالذكر هنا أن آراء «نيتشه» قد أثرت تأثيراً مباشراً وقوياً على العديد من منظري الجسد مثل «ميشيل فوكو»(1926 – 1984) و"بيير بورديو"(1930 – 2002).
ومع ظهور مدرسة التحليل النفسي على يد «سيجموند فرويد» (1856- 1939) بدأ حديث عن لغة الجسد، حيث تحول الجسد إلى لغة تعكس بشكل غير مباشر العلاقات الفردية والاجتماعية، كما تعكس الرغبات والاحتياجات بطريقة رمزية. لقد حقق «فرويد» قطيعة معرفية أخرجت الاهتمام بالجسد من مجال اللغة «الخشبية» المتصلبة لوضعيي القرن التاسع عشر، ورغم أنه لم يكن عالم اجتماع، إلا أنه أدخل الاهتمام بالجسد كمادة تصنعها وتنتجها العلاقات الاجتماعية، ويساهم في تشكيلها التاريخ الفردي للفاعل الاجتماعي إلى مجال المفكر فيه، فمنذ كتاب «دراسات حول الهستريا» الذي كتبه بالاشتراك مع «بروير» Breuer في عام 1895 وضعت ضمنياً الأسس الأولى لسوسيولوجيا تسمح بنظرة مغايرة للجسد، أو ما يسمى الآن «سوسيولوجيا الجسد». (زينب المعادي 2004: 20)
ففي كتابات «فرويد» ثمة تأكيد جديد على النقش الشخصي Personal inscription على الجسد، فهو يرى أن صورة الجسد Body image –خاصة الجسد الأنثوي الشاب- تبدو هشة Soft ضعيفة الإرادة، فالجسد عرضة لتأثيرات خارجية معقدة، تترك عليه أثراً فيزيقيا طويل المدى Prolonged Trace فالحياة المعاصرة تؤثر على الجسد بصورة كلية، وتسقطه في الهستيريا ... إن صورة الجسد في عالم ما بعد الحداثة أضحت بشكل عام أكثر هستيرية، نتيجة تعرض الجسد لتأثيرات نمطية مرتبطة بالأحداث الخارجية والطارئة. (Ferguson 1997: 14)
النصف الأول من القرن العشرين:جهود متناثرة ممهدة:
مع بدايات القرن العشرين تتبلور «سوسيولوجيا متقطعة» للجسد –حسب تعبير «ديفيد لوبرتون» وذلك من خلال مجموعة دراسات متفرقة تنطلق من افتراض أساس هو أن الإنسان يصنع وينتج خصائص جسده اجتماعياً من خلال اندماجه مع الآخرين، وانخراطه في مجال الرمزي. (زينب المعادي 2004: 21)
من أهم دراسات هذه الفترة ما كتبه «جورج سيمل» (1858- 1918) الذي كان أول من عرف كيف يعطي وصفاً ثميناً للمكانة البارزة للجسد في الحياة اليومية، ففي بحثه حول علم اجتماع الحواس Sociology of sense (1911) يلاحظ أن الإدراكات الحسية -بما لها من سمات- تشكل أساس الحياة الاجتماعية، ويمتزج الإدراك الحسي للعالم بنزعة عاطفية، ويحلل «سيمل» النظرة Glance تحليلاً عميقاً، إنه يرى أن التعاطف أو النفور، الثقة أو عدم الثقة هي أمور تسمح ظاهرياً بأن تقرأ من خلال النظرة، يقول سيمل «من خلال عينيه أستطيع أن أنتزع من ذلك الذي ينظر إليّ شيئاً قليلاً من إمكانية اكتشافي». إن النظرة بالفعل تكتسح وجه الآخر، وتجبره على عقد اتفاق في آن واحد حول الألفة وحول المتعة التي يحصل عليها من التبادل. (ديفيد لوبرتون 1997: 98- 99)
لقد استطاع «سيمل» أن يكتشف الأهمية الجمالية للوجه، إنه يؤكد على أن الوحدة والتناسق في ملامح الوجه هي مفتاح جمالياته، وأن أي تشويه يمكن أن يدمر ذلك التناسق الرقيق. الوجه هو رمز للروحانية ومؤشر على الشخصية، وفي المجتمعات الحديثة، تنامي ذلك التأكيد على الوجه وأهميته. (Turner 1992: 108)
ويستطرد «سيمل» في تحليلاته فيؤكد أن الإدراك من خلال النظرة يجعل من وجه الآخر العنصر الأساسي في هويته، والجذر الأكثر دلالة لحضوره، إن اللقاء بين الأشخاص يبدأ دائماً بتقييم الوجه، فالفترة الأولى هي الفترة التي تلتقي فيها النظرات، يجري فيها تقييم متبادل، وبهذا الاتصال الأول يتحدد غالباً مسار التبادل ونهايته، إن النظرة هي بالفعل اتصال؛ لأنها تشبه اللمسة، إنها نوع من التلامس البصري المتبادل، إن «سيمل» يلاحظ «أن العين تعطينا مؤشراً على كينونة الآخر، راسب ماضيه، من خلال الشكل المادي لسماته، إننا نرى –إذا جاز التعبير- تعاقب أعمال حياته وقد بعثت أمامنا في نفس الوقت». (ديفيد لوبرتون 1997: 99- 100)
ويلاحظ «سيمل» من جانب آخر مدى تأثير الإطار الاجتماعي على التوجهات الحسية، فالبنى الحضرية تشجع على استعمال ثابت للنظرة من خلال المشاهد المتميزة للمدينة (واجهات المحال – تشابك خطوط سير السيارات والمشاة – الاختلاف في أشكال وألوان الأرصفة .. إلخ) أما السمع واللمس والشم فهي حواس غير سعيدة في المدينة؛ لأنها تجابه شتى أنواع الإزعاج، «إن الحياة الاجتماعية في المدينة تحث على نمو متزايد للنظرة، وعلى تعليق أو استعمال محدود للحواس الأخرى، التي لا يجد الإنسان في النهاية الإمكانية في استعمالها بشكل كامل إلا داخل منزله». (ديفيد لوبرتون 1997: 100)
لقد كان «سيمل» ملاحظاً بارعاً للتفاصيل الدقيقة، فهو يصف بدقة ما يكمن خلف الكلمات المنطوقة في مواقف التفاعل الاجتماعي، إنه يتناول ما يمكن أن نسميه «التفاعل الجسدي» Bodily interaction وهي عملية اتصالية بالغة التأثير تتم من خلال الحواس. لقد أسهم «سيمل بملاحظاته تلك في تطوير سوسيولوجيا الاتصال بقدر إسهامه في تطوير سوسيولوجيا الجسد». (Loenhoff 1977: 67)
ومن الإسهامات الهامة في تلك المرحلة البحث الذي كتبه «روبرت هرتز» R. Hertz (1881- 1915) في عام 1909 بعنوان «تفوق اليد اليمنى» Preeminence of the right hand الذي أثر تأثيراً بالغاً في تطور النظريات الأنثروبولوجية المتعلقة بالتقابل الثنائي، خاصة ذلك التقابل بين اليمين واليسار. لقد أوضح «هرتز» الذي كان أحد تلاميذ دوركايم أن التفضيل الفسيولوجي للجانب الأيمن من الجسد مؤسس ثقافياً على التصنيف الأخلاقي للخير والشر، بحيث يصبح الجانب الأيمن رمزاً مركزياً للقيم الإنسانية الايجابية. (Turner 1992: 44)
لقد أوضح «هرتز» أن الميل الفسيولوجي نحو تفوق اليد اليمنى هو فقط «إدعاء» Pretend لغرض التصنيف، وفقاً لوجهة نظره، يعد تفوق اليد اليمنى نظاماً اجتماعياًَ أو بتعبير «دوركايم» ظاهرة اجتماعية، فاستخدام اليد اليمنى يلاقي جزاءً ايجابياً من المجتمع، والانحراف عن اليمين غالباً ما يلاقي عقاباً اجتماعياً. ويعتبر «هرتز» أن التقابل بين اليمين واليسار هو تعبير جوهري عن الثنائية الدينية المتعلقة بالمقدس والدنس، وهي التي أثرت في تشكيل رؤية الجماعات الاجتماعية للجسد، فاليد اليمنى تمثل الجانب المقدس، إنها تمثل قيم الذكورة والحياة والقوة والشجاعة، بينما تمثل اليد اليسرى الشر، الموت، الأنوثة، تشير اليد اليمنى للتفاؤل بينما تجسد اليد اليسرى فكرة التشاؤم. وفي المجتمعات المعاصرة ما تزال توجد هذه التقسيمات، يرتبط اليمين بالجدارة، والمهارة والصواب، والجمال ... إن الجانب الأيمن يمثل علواً أخلاقياً كونياً، لقد صعد المسيح إلى السماء ليجلس على يمين الرب، لأن الجانب الأيسر ملئ بالشياطين والقوى الشريرة. ويخلص «هرتز» من تحليله أن ذلك التباين بين جانبي الجسد هو حالة خاصة وأنه نتيجة لثنائية متوارثة من الفكر البدائي. (Turner 1992: 109 - 110)
وتمثل كتابات «جورج هربرت ميد» (1863- 1931) إحدى الإرهاصات المبكرة في سوسيولوجيا الجسد، ففي تحليله للسلوك الاجتماعي وتطور الذات، يرى أن الإيماءات Gestures تمثل أمراً مهماً في تشكيل الذات اجتماعياً، فالوجه واليد كلاهما أساسيان في عملية تبادل الإيماءات، فوفقاً له، يتوازى الكلام مع اليد في تطور الكائن الإنساني اجتماعياً، وأوضح «ميد» في كتابه «العقل والذات والمجتمع» Mind, self and society الذي نشر في عام 1934(***) أن اليد أداة مهمة تلعب دوراً رئيسياً في التفكير، إنها سمة جوهرية للعقلانية الأداتية Instrumental rationality وتؤدي دوراً مهماً في القدرة الإنسانية على التعاطف، وتخيل أداء الدور، ومن ثم في تأسيس وتطور السلوك الاجتماعي، والواقع أن مناقشة «ميد» لأهمية اليد في علاقتها بالجهاز العصبي المركزي والتفكير الإبداعي قد تم إهمالها في الدراسات التالية للتفاعليين الرمزيين رغم أهميتها. (Turner 1992: 35-37-114)
وقدم «مارسيل موس» (1872- 1950) M. Mauss إسهاماً مهماً في اتجاه تطوير سوسيولوجيا الجسد يتمثل في دراسته «تقنيات الجسد» Techniques of the body التي قدمت كمحاضرة في اجتماع جمعية علم النفس في باريس في عام 1934 ثم نشرت في مجلة علم النفس والباثولوجيا في عام 1935، وظهرت ترجمتها الإنجليزية في عام 1973، وقد أوضح «موس» في هذه الدراسة الموجزة التي لم تتعد تسع عشرة صفحة كيف يؤثر المجتمع على الممارسات الجسدية. (Lyon 1997: 85)
لقد بين «موس» أن الجوانب الأساسية للأنشطة الجسدية كالمشي والوقوف والجلوس هي «بني اجتماعية» فمع أن هذه الأنشطة تستلزم أساساً عضوياً، إلا أن إتقان هذه القدرات يستلزم سياقاً ثقافياً، إن آليات الجسد أو تقنياته رغم اعتمادها على أساس عضوي عام، إلا أنها في ذات الوقت تمثل تطورات ثقافية وشخصية. (Turner 1992: 36)
والحقيقة أن «موس» قد قدم من خلال ملاحظاته للأنشطة الجسدية المختلفة فكرة الطبيعة الاجتماعية للهابيتوس Habitus فالهابيتوس يعني في فكر «موس» القدرة البدنية أو العقلية المكتسبة(****)، ويؤكد «موس» على أهمية التربية والتنشئة الاجتماعية كما يؤكد كذلك على أهمية التقليد في تشكيل الأنشطة الجسدية. ويرى أن تقنيات الجسد تتباين وفقاً للعوامل المجتمعية كالتعليم والملكية والموضة والنفوذ، كما أنها تتباين على المستوى التاريخي. (Lyon 1997: 85)
ولقد تزامن مع دراسة «موس» ظهور كتاب هام ألفه «بول شيلدر» P. Schilder (1886- 1940) بعنوان «صورة ومظهر الجسد الإنساني» The image and appearance of the human body عام 1935 وردت فيه صراحة عبارة «سوسيولوجيا الجسد» فقد قسم كتابه إلى ثلاثة أجزاء، الأول عنوانه الأساس الفسيولوجي لصورة الجسد، الثاني البنية الشهوانية Libidinous structure، والثالث حمل عنوان سوسيولوجيا صورة الجسد Sociology of the body image وقد حاول «شيلدر» في ذلك الجزء الأخير أن يوضح السمة الاجتماعية لصورة الجسد، إذ أكد على أن صورة الجسد هي صورة اجتماعية بالضرورة، وإن كل جوانب صورة الجسد تتشكل وتتطور من خلال العلاقات الاجتماعية، كتب شيلدر «صورة الجسد هي مبدأ اجتماعي، إن صورة أجسادنا ليست منفصلة على الإطلاق عن صورة أجساد الآخرين، ولكنها مقترنة بها دائماً». (Turner 1992: 55- 56)
إن ثمة تأكيد واضح من جانب "شيلدر" على السمة الاجتماعية لصورة الجسد التي يراها قوية وجلية، إن ثمة علاقة عميقة بين صورة جسد الشخص وصورة جسد الآخرين، ويبذل الفرد جهداً متواصلاً ليربط بين صورة جسده وصورة جسد الآخرين، ويمثل التقليد والتماهي Identification والإسقاط Projection الآليات الاجتماعية لتشكيل صورة الجسد. (Ferguson 1997: 26)
والحقيقة أن «شيلدر» قد قطع شوطاً طويلاً في تكامل الفهم السيكولوجي والسوسيولوجي والثقافي لصورة الجسد كجانب جوهري للشخصية والتفاعل الاجتماعي، يقول «شيلدر»: «لا توجد صورة جسد بدون شخصية، غير أن التطور الكامل للشخصية وقيمها تكون ممكنة فقط من خلال الجسد وصورة الجسد». ويؤكد «شيلدر» من جانب آخر على ذلك التكامل بين الجسد الموضوعي «العضوي» والإحساس «الذاتي» بالجسد، يقول شيلدر: «لا ينبغي أن نتعامل مع الجسد الموضوعي ككيان منفصل عن الإحساس الذاتي بالجسد، توجد فقط وحدة واحدة: إنها الجسد الحاضر دائماً في خبراتنا وفي إحساسنا». (Turner 1992: 56)
وتمثل فلسفة «ميرلو-بونتي» M. Merleau-Ponty (1908- 1961) الفينومينولوجية أهمية خاصة في تطور علم اجتماع الجسد، وذلك من خلال كتابيه «فينومينولوجيا الإدراك» The phenomenology of perception الصادر في عام 1942 و«بنية السلوك» The structure of behavior الذي صدر في عام 1945(*****).
وحاول «ميرلو-بونتي» الذي تأثر بشكل ما ببعض مفاهيم «بول شيلدر» أن يطور تصوراً مغايراً للجسد يتجاوز ثنائية العقل والجسد، ففي إطار محاولته فهم الإدراك الإنساني، يعتقد أنه لا يمكن الحديث عن الإدراك الإنساني للعالم دون نظرية في «التجسيد» Embodiment باعتباره منظوراً تتم الملاحظة من خلاله. إن إدراكنا لعالم الحياة اليومية يعتمد على الجسد النشط Lived body؛ لأننا نتعرف على الأشياء بداءة من خلال الحواس، وحتى عملياتنا الإدراكية العليا لا يمكن أن تتم بمعزل عن بنيتنا الجسدية. (Turner 1992: 45)
إن «ميرلو-بونتي» يعد –بشكل ما- مؤسساً لنظرية اتصالية إدراكية من خلال الجسد، فهو يصف الإدراك بأنه عملية ذهنية أو فكرية لها جذور جسدية، فنحن ندرك بأجسادنا في ضوء إيماءات الحركة والسكون، ومن ثم الرؤية وتحديد ما هو منظور، أو بعبارة أخرى إن الجسد يضمن لنا حرية الوصول إلى جزئيات العالم وموجوداته، فنظرية الجسد هي نظرية للإدراك، أي أن إدراكنا للعالم الخارجي ما هو إلا مرادف لإدراكنا لأجسادنا بالدرجة الأولى. (جواد الزيدي 2005)
الجسد –وفقاً لميرلو بونتي- هو نقطة الصفر Zero Point ومركز عالمنا، إنه عضو الحس الذي نقبض من خلاله على العالم، وهو أيضاً عضو الإرادة الذي نسلك من خلاله في العالم، وهو الذي يرتبط بالأنا ارتباطا حميماً، ضرورياً وربما غامضاً. (Ferguson, 1997: 2)
إن مساهمة «ميرلو-بونتي» في فهم الجسد كانت قد وصفته بأنه شيئاً معيشاً، وليس سجناً تسكنه النفس كما يرى أفلاطون، أو أنه وحدة وظيفية منسجمة كما يرى أرسطو، أو أنه آله يتم التحكم فيها من خلال محركات داخلية كما يعتقد ديكارت، بل إنه يعاش من خلال توتر قصدي، ويميز «هو سرل» بين الجسد المادي والجسد الحي المتعالي ظاهراتياً، ولكن «ميرلو-بونتي» قد فهم الجسد الإنساني المادي كله بوصفه معيشاً سلفاً بشكل تام، ومتجسداً ومعبراً وإدراكياً وحراً، وأنه شيء مرئي «يرى» أو هو «فعل رؤية» يجعل من اللامرئي مرئياً من خلال «إدراكحسي». (الزيدي 2005)
وثمة دراسة لافتة أجراها «إرنست كانتروفيتش» E. Kantorovich عام 1957 عنوانها «جسدا الملك» The king’s two bodies قدم فيها تحليلاً نابهاً للتطور التاريخي للسيادة السياسية من خلال السمات الرمزية للجسد. يقر «كانتروفيتش» أنه على الرغم من أن النظام الملكي يقوم أساساً على الجسد المادي للملك، إلا انه مع تطور النظرية السياسية ومؤسسة القوة ظهر انفصال بين الجسد المادي للملك وجسده الرمزي، إذ جاء الجسد الرمزي للملك أخيراً ليمثل القوة المسيطرة المجردة، ولهذا كان يعتقد أن للملك جسداً مادياً فانياً، وجسداً رمزياً مقدساً. إن ذلك الجسد الرمزي للملك هو الذي يضمن استمرارية سيادة الدولة على الرغم من الموت الدوري للملوك؛ ولهذا نجد من الشائع في لحظة موت الملك أن ينادي أحد أفراد الحاشية: «لقد مات الملك، ليحيا حياة مديدة»، ولأن رمزية جسد الملك هي أمر هام لاستمرارية ســيادة الدولة، فإن الاعتداء على جســـد الملك يعد اعتداءً على الوطن ذاته. (Turner 1992: 49- 50)
يتضح مما سبق أن ثمة جهود فكرية قد بذلت على مدار قرن تقريباً من توجهات نظرية شتى، وأن نظرة متأنية على تلك الجهود تكشف عن مدى أهميتها في لفت الانتباه نحو قضية الجسد، حيث قدمت تحليلات عميقة ومتنوعة للعديد من القضايا المرتبطة بالجسد، وكشفت عن الأبعاد الاجتماعية والثقافية، والفلسفية له، وساهمت بصورة غير مباشرة في إدخال الجسد إلى دائرة الوعي السوسيولوجي، وأنتجت تراكماً فكرياً مهد التربة لتأسيس سوسيولوجيا الجسد. بيد أن هذه الدراسات ظلت –رغم أهميتها النظرية والمنهجية- مجرد جهود فردية متناثرة لا يوجد رابط فكري يجمعها، ولا تستند إلى إطار نظري متكامل يجمع شتاتها في نسق علمي منظم، بحيث تؤسس نظاما علميا سوسيولوجيا متعلقا بالجسد.
ستينيات القرن العشرين وتبلور ملامح علم اجتماع الجسد:
مع بدايات الستينات من القرن الماضي بدأت ملامح علم اجتماع الجسد في التبلور، وذلك من خلال مجموعة من الدراسات استخدمت الجسد كأداة كشف وتحليل، تتعامل معه كنافذة ينظر من خلالها للمؤسسات والبنى والعلاقات الاجتماعية، وتُقرأ المخيالات والتمثلات الجماعية، وبالتالي وجود اتجاه واضح لتدشين سوسيولوجيا الجسد كأحد فروع علم الاجتماع. (زينب المعادي 2004: 23)
من أهم دراسات هذه المرحلة، أعمال «إرفنج جوفمان» (1922- 1982)، و«ماري دوجلاس» (1921- 2007)، التي شغلت حقبة الستينات، (وأيضاً أعمال ميرلو-بونتي التي ترجمت في تلك الفترة) ثم إسهامات «ميشيل فوكو» التي امتدت حتى منتصف الثمانينات تقريباً (توفي فوكو في يونيو 1984)، و«بيير بورديو» التي امتدت حتى بداية القرن الحادي والعشرين (رحل بورديو عن عالمنا في يناير 2002).
يرى «تيرنر» (1992: 44) أن جوفمان Goffman يعد واحداً من رواد سوسيولوجيا الجسد، فهو أحد القلائل في نطاق علم الاجتماع الذي أخذ مسألة الطبيعة الاجتماعية للجسد مأخذ الجد في وقت مبكر. فمن خلال دراسته حول عرض الذات في الحياة اليومية The presentation of self in everyday life 1962 طرح فكرة أن الحياة الاجتماعية تعرض –جزئياً على الأقل- من خلال الجسد، فعلى سبيل المثال، إن الإحساس بالارتباك يرتبط دائماً بالتغير في لون الوجه، وبمعنى أوسع، إن فكرتنا الاجتماعية حول اليسر أو الراحة يتم التعبير عنها من خلال إيماءات جسدية متنوعة يمكن قراءتها كشكل من اللغة.
وقدمت «ماري دوجلاس» M.Douglas فهماً مفصلياً مهماً لقضية الجسد «كنسق رمزي» وذلك من خلال كتابيها «الطهارة والخطر» عام 1966 Purity and danger والرموز الطبيعية Natural symbols عام 1973، ترى «دوجلاس» أن الجسد هو تمثيل مجازي Metaphor للمجتمع ككل، ويعني ذلك تبعاً أن المرض في الجسد يناظر رمزياً الاضطراب في المجتمع، واتزان الجسد واستقراره مؤشر على التنظيم الاجتماعي وسلامة العلاقات الاجتماعية، إن انشغالنا بالمخاطرة واللايقين في العلاقات الاجتماعية يمكن أن يفهم من خلال نظريات النظام الجسدي. إن مفاهيم الطهارة والنظام، النجاسة، والقداسة لا توجد في جوهر الظواهر أو الممارسات، وإنما في علاقتها بإدراكنا لواقعنا الاجتماعي. إن الأمر «الدنس» إذاً هو اضطراب أو خلل في العلاقات التصنيفية. والواقع أن أفكار «دوجلاس» لم تكن مؤثرة فقط في الأنثروبولوجيا، وإنما أيضاً كانت مؤثرة في علم الاجتماع، حيث تم تبنيها وتطويرها بطرق مختلفة. (Turner 1992: 44)
ويعد «ميشيل فوكو» بحق المنظر الأهم للجسد في القرن العشرين، حيث كشف «فوكو» من خلال رؤاه ما بعد البنيوية الحضور الشامل للسلطة داخل الصياغات الخطابية Discursive formations المتعلقة بالجسد، إن أهمية الجسد لدى فوكو تصل لدرجة أنه يصف أعماله الفكرية بأنها تشكل «تاريخ أجساد» a History of bodies وترصد الطريقة التي يتم من خلالها استثمار الأجساد مادياً وحيوياً. (Shilling 2001: 445)
لقد كان «فوكو» منشغلاً بفهم كيفية دخول الجسد إلى الخطاب السياسي كتمثيل للسلطة، وكيف تُمارس السلطة على الجسد، في المؤسسات المختلفة كالمدرسة والسجن والمصنع والمستشفى، بحيث يتحول الجسد إلى كائن منضبط Regulated (Turner 2006: 42)
إن القضية المحورية التي ينطلق منها «فوكو» هي رصد عملية تطبيع الجسد Normalization of the body ورصد المؤسسات التي تنتج وتفصل المعرفة العلمية المتعلقة بتطويع الجسد، بالإضافة إلى اهتمامه بدراسة كيف يتم تمثيل الجسد في الممارسات المختلفة بضبط وإدارة الكيان الإنساني. (Turner 1992: 52- 53)
والحقيقة أن «فوكو» قد تأثر بداهة برؤى «نيتشه» حول الجسد، كما أن «فينومينولوجيا الجسد» التي فصلها «ميرلو-بونتي» بعد الحرب العالمية الثانية كانت ماثلة في ذهنه أيضاً. (دريفوس ورابينوف 103)
لقد كان «فوكو» منشغلاً على مدار تحليلاته بالكشف عما يكبل الجسد، ويقيده، لأن ذلك في رأيه تكبيل للعقل، ففك أغلال الجسد من آليات التوجيه والنفي والترويض هو إطلاق سراح العقول من سراديب الحجر والزيف والإثارة والحاجيات المزيفة. (حسن المصدق 2007)
ففي أعماله المبكرة، كان «فوكو» يدرس كيف يمكن للجسد أن يظهر في ممارسات مختلفة تساهم في ضبطه وإدارته، ففي ولادة العيادة كان مشغولاً بفهم كيف تنتج المعرفة والممارسة الطبيعة الجسد، وكيف تطوعه داخل شبكة المؤسسات المستقرة للسلطة الطبية، وفي دراسته عن مولد السجن حلل نمو الجسد المنضبط والوديع كنتيجة للممارسات العقابية التي اقترنت بالنظرية النفعية للألم، وفي دراسته عن تاريخ الجنس كشف عن أن بروز خطاب الجنس في القرن التاسع عشر اظهر الجنس كموضوع أو قضية مهمة، وكشف عن أن الجنس قد أضحى مادة للصراع السياسي تمارس من خلال معرفة طبية محددة. (Turner 1992: 53)
أما بورديو فقد أسهم إسـهاماً فعالاً في ظهور علم اجتماع الجسد ، وذلك في سـياق تحليلاته للمفاهيم الجديـدة التي قدمها لعلم الاجتماع مثل الممارسة Practice والهابيتوس Habitus والأشـكال المختلفة لرأس المال(كرأس المال الرمزي والاجتماعي والثقافي) ، وعلاقة كل ذلك بالسلطة الرمزية للجسد .(Turner 1992:23).
وعلى الرغم من أن انشغاله بالجسد لم يكن مباشراً ، إلا أن سوسيولوجيا بورديو تمثل نموذجاً للدراسات التي يحتل فيها الجسد مساحة مهمة ، وخاصة منذ أبحاثه الإثنوجرافية المبكرة في منطقة القبائل بالجزائر الحاضرة في أهم مؤلفاته. (زينب المعادي 27:2004) .
يرصد برديو ما يسميه البناء الاجتماعي للجسد ، حيث يعتبر أن الجسد يخضع لعملية تشكيل أو نحت اجتماعي من خلال استيعابه لعادات المجتمع وقيمه، ويصبح ذلك الاستيعاب وكأنه نظام تعليمي ضمني implicit pedagogy قادر على غرس تصور كامل عن الكون: تصورات فلسفية وأخلاقية وميتافيزيقية من خلال أوامر بسيطة، مثل "قف مستقيماً" أو "لا تمسك سكينك بيدك اليسرى"(Manen 2007:18).
إن التشكيل الاجتماعي للجسد _ حسب تعبير بورديو _ يجعل أشكال استخدام الجسد وسيلة من وسائل التعبير عن بنيات وعلاقات اجتماعية، ومرآة للتقابلات الاجتماعية ، سواء تعلق الأمر بالفوارق بين الطبقات الاجتماعية أو الفئات العمرية أو التمايزات النوعية ، وفي نفس الوقت تدعيمها وتطبيعها، أي إظهارها بمظهر التقابلات أو الفروق التي تحتمها طبيعة الأشياء.(زينب المعادي 27:2004 )
وقد أفاض بورديو في شرح تلك الفكرة عند حديثه عن التقابل بين الذكورة والأنوثة ، فهو يرى أن الوسيلة في تطبيع Naturalization التقابل بين الذكورة والأنوثة هي إدخال تلك الثنائية في سلسلة من التقابلات التي تعمل على حصر المرأة في مواقع محددة : منزلية ورعوية في مقابل المواقع الذكورية التي تنتشر في الفضاء العام لمجتمع القبائل في الجزائر .(Mcnay 1999:99) .
إن التقابل بين الذكورة والأنوثة يتجسد أو يتحقق في شكل استعمال الجسد أو اتخاذ أوضاع في أشكال من التصرفات والسلوكيات، وفي أشكال من التقابلات : بين المستقيم والمنحني (أو الذي جُعل منحنياً) الرجل يمشي مستقيماً رافعاً رأسه، والمرأة تفرض عليها الحشمة أن تمشي منخفضة الرأس، طريقة الأكل تعبر كذلك عن تقابل بين الجنسين ، وبشكل خاص طريقة استخدام الفم ؛ الرجل يأكل بملء فمه ويفتحه بشكل واسع ، في حين تأكل المرأة بشكل مخالف بنهاية الفم وكأنها لا تأكل ، كما تتجلى التقابلات في طريقة استقبال الناس : الرجل ينظر مباشرة وجهاً لوجه لمن يستقبله ، في حين لا تستخدم المرأة نفس الحركات ، بل تنظر بمواربة بنوع من الخجل والانحناء .إنها خصائص فيزيقية ترتبط بها صفات أخلاقية متقابلة : الصرامة والاستقامة والصراحة بالنسبة للرجل ، والاحتشام والرقة والانعزال بالنسبة للمرأة. (زينب المعادي 28:2004) .
إن الجسد هنا يعبر عن عالمين متناقضين: عالم الأنوثة الذي يتضمن فضائل نسوية feminine virtue كالحياء ، والاحتشام ، والتحفظ ، والتخفي ، إنها فضائل توجه الجسد الأنثوي إلى الأسفل ، نحو الأرض ، نحو الداخل ، إلى المنزل ، أما عالم الذكورة فيتضمن مزايا مغايرة تماماً ، الحركة نحو الأعلى ، نحو الخارج ، إلى العوالم الأخرى. (Covington 2008:7) .
إن علاقة الرجال والنساء / الذكورة والأنوثة تعكس نوعين من العلاقات مع العالم ، ومع الآخر ، ومع الزمن، ونسقين متقابلين من القيم، فالأخلاق أو"البناء الاجتماعي للجسد" يطبع جسد المرأة بالانحناء ، ويجعل جسد الرجل مستقيماً لأعلى ، إن هذه التقابلات تستمد رمزيتها من حيث كونها تترجم إلى حركات تبدو تلقائية وكأنها تعبر عن طبيعة الأشياء ، فالتشكيل الاجتماعي لخصائص الجسد وحركاته هو في نفس الوقت إضفاء صفة الطبيعي على الاختيارات الاجتماعية الأكثر عمقاً. (زينب المعادي28:2004)
ويستند بورديو إلى مفهوم العنف الرمزي لتعميق فكرة تطبيع الفوارق بين الجنسين _ أي إظهار تلك الفوارق وكأنها فوارق حتمية تحددها طبيعة الأشياء، فالعنف الرمزي هو شكل من السلطة يمارس على الجسد بطريقة مباشرة ، وكأنه يملك مفعولاً سحرياً ، إذ أن تلك السلطة تتم خارج كل "إكراه"، إلا أن هذا "السحر" لا يكون مؤثراً إلا إذا ارتكز على استعدادات كامنة في عمق الجســــد.... إن النساء بصفتهن ضحايا للعنف الرمزي يقبلن علاقات التراتبية الجنسية الاعتيادية بطريقة تلقائية، وهـذه التلقائية هي التي يصفها بورديو كشــــكل من الخضـوع لمفعول السـحر. (فاطمة المرنيسي 2002 :231 -233)
قد كان بورديو منشغلاً بتوضيح كيف أن حركات الجسد تعد مؤشراً على الوضع الاجتماعي، الذي تعيد بدورها إنتاج التفاوت الاجتماعي، من خلال الجسد يصبح الإطار الاجتماعي كالطبقة ، والنوع، والانتماء الاثني فاعلاً عبر الممارسات التي تميل نحو إعادة انتاج اللامساواة الاجتماعية في المجتمع. (Creswell 2002:380)
إن البناء الاجتماعي للجسد يعكس تقسيم العمل الجنسي ، وتقسيم العمل الاجتماعي، والعلاقة مع الجسد تتحدد حسب الشكل الذي يتخذه تقسيم العمل بين الجنسين من جهة، وحسب الوضع الاجتماعي الذي يشغله الفرد _ رجلاً كان أو امرأة _ ضمن تقسيم العمل الاجتماعي من جهة أخرى . (زينب المعادي29:2004).
ويخلص بورديو إلى قضية مهمة وهي أن البناء الاجتماعي للجسد بقدر ما يجعل الفوارق الاجتماعية تبدو طبيعية ، فهو كذلك يريد أن يجعل من الفوارق الطبيعية تبريراً للفوارق الاجتماعية ؛ أو يحول الاختلافات البيولوجية الطبيعية الى اختلافات في المكانات الاجتماعية ، البناء الاجتماعي للجسد حسب تعبير برديو ليس في نهاية الأمر الا تعبيراً عن "ميثولوجيا سياسية" Political mythology تحولت الى استعداد مستمر ، في شكل طريقة دائمة لاتخاذ أوضاع جسدية للكلام والمشي ، ومن ثم الإحساس والتفكير. (المعادي 29:2004 وأيضاً Covington 2008:7).
يتبين من قراءة ما يطرحه برديو حول البناء الاجتماعي لعادات الجسد أن ثمة خلط وقع بين "الطبيعي" naturalو "الاجتماعي _ الثقافي "socio – cultural وأدى ذلك الخلط إلى حدوث نوع من التهميش للجسد الأنثوي _ خاصة في المجتمعات التقليدية _ حيث تعمل الثقافة على جعل الفوارق الطبيعية بين الرجل والمرأة أساساً ومبرراً للفوارق الاجتماعية ، ومن ثم ، يظل الجسد الأنثوي في وضع أدنى، ليس هذا فقط ، بل أنه من خلال العنف الرمزي ، يستقر في وعي المرأة _ وفي لا وعيها أيضاً _ أن ذلك من طبائع الأشياء التي لا يمكن تغييرها ، وبالتالي فإنها تخضع لهذا التمييز النوعي ، وتعتبره أمراً مألوفاً ومقبولاً ؛ ومن ثم يرى برديو أن عادات الجسد لا تعبر فقط عن أوضاع جسدية ، وإنما تعكس بناءً ثقافياً وأخلاقياً راسخاً، وبالتالي فهو يصف البناء الاجتماعي للجسد بأنه "ميثولوجيا سياسية" تبدو من قراءة برديو أنها مصطنعة ومقصودة ، لتحقيق الهيمنة الذكورية وتعميقها.
والحقيقة أن تراكم كل الجهود العلمية السابقة قد أفضى إلى تنامي مقدار الاهتمام السوسيولوجي بالجسد، حيث برز علم اجتماع الجسد Sociology of The body بوصفه مجالاً متميزاً للدراسة، وصدرت في عام 1995 دورية علمية جديدة في انجلترا بعنوان «الجسد والمجتمع» Body and Society وتشغل دراسات الجسد مكاناً مهماً في علم الاجتماع وفي غيره من العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن. (Shilling 2005: 761)
والأكثر من ذلك أن «براين تيرنر» B.S. Turner وهو أحد أهم منظري الجسد قد أقترح أن يوظف الجسد باعتباره مبدأ منظماً لعلم الاجتماع، وفي ضوء ذلك الهدف صاغ «تيرنر» مصطلحاً سوسيولوجياً جديداً وهو «المجتمع الجسدي» The somatic society ليوضح أهمية الجسد الاجتماعية والسياسية في النظم الاجتماعية المعاصرة (Turner 1992: 1-13) ويؤكد تيرنر في موضع آخر (Turner 1997: 103) أنه على الرغم من أن علم اجتماع الجسد قد برز باعتباره واحداً من أهم النظم الفكرية المعاصرة في إطار العلوم الاجتماعية، إلا أنه ما يزال في حاجة إلى برنامج أو «أجندة» بحثية متكاملة.
وقد بدأت ملامح ذلك العلم الوليد في التبلور، فجذب إليه الكثير من الباحثين، الذين حاولوا تحديد أهم المفاهيم والقضايا والإشكاليات التي يهتم بها، وحاولوا كذلك تأصيل الأطر النظرية والمنهجية له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تم كتابة هذا المقال بالاعتماد بشكل أساسي على دراسة سابقة للباحث في المرجع التالي:
حسني إبراهيم عبد العظيم، الجسد والسلطة والمعرفة: دراسة تحليلية لإسهام ميشيل فوكو في تأسيس سوسيولوجيا الجسد، مجلة كلية الآداب - جامعة بني سويف، العدد الثاني عشر، الجزء الثاني، إبريل 2008.
(**)اعتمد الباحث في هذه الفقرة على ترجمة نجيب الحصادي ومنى البحر لكتاب «شلنج» الجسد والنظرية الاجتماعية على شبكة الانترنت.
(***) المعروف أن «ميد» لم ينشر كتاباً واحداً في حياته، وقام تلاميذه بنشر كل إنتاجه ـ الذي كان في أساسه محاضراته في جامعة شيكاغوـ بعد وفاته، ابتداءً من عام 1932، ونشرت آرائه حول العلاقة بين الذات والمجتمع في كتاب العقل والذات والمجتمع في عام 1934، وهو الذي وردت فيه تحليلاته للبعد الجسدي في التفاعل الاجتماعي.
(****) أصبح الهابيتوس فيما بعد مفهوماً محورياً في المشروع النظري لبيير بورديو (1930- 2002) ويعرّفه «برديو»: بأنه بنية أو مجموعة من البنى مستدمجة داخل الفرد مشتقة من العالم الخارجي تحدد كيف يتصرف الفرد ويتفاعل مع العالم المحيط به. (Throop & Murphy 2002: 186)
(*****) لم تترجم أعمال «ميرلو-بونتي» إلى اللغة الإنجليزية إلا بعد وفاته في عام 1961، حيث ترجم كتاب «فينومينولوجيا الإدراك» في عام 1962، وترجم كتاب «بنية السلوك» في عام 1965.
المراجع:
1– أوبيير دريفوس وبول رابينوف (د.ت)ميشــــيل فوكو: مسـيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح،مركز الإنماء العربي ، بيروت .
2– جواد الزيدي (2005) فعل الجســد : من سجن الروح إلى نظرية الاتصال ،جريدة الاتحاد ، أبو ظبي، 14 – 6 – 2005. .
3 – حســن المصدق (2007) البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة،جريدة العرب الدولية ، لندن ،26 – 7 – 2007.
4 – ديفيد لوبروتون (1997) انثروبولوجيا الجســـد والحداثـة ، ترجمة محمد عرب صاصيلا،ا لمؤسســة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،بيروت.
5- – زينب المعادي (2004) الجســد الأنثوي وحلم التنمية : قراءة في التصـورات عن الجســـــد بمنطقة الشاوية ، غير مبين دار النشر.
6-فاطمة المرنيسي (2002) العابرة مكسورة الجناح : شهر زاد ترحل الى الغرب ، ترجمة فاطمة الزهراء أزورويل ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء
.7 - فردريك نيتشه (د.ت) هكذا تكلم زرادشـــت ، ترجمــــة فليكس فارس ،دار القلم،بيروت.
8 Covington, Y. (2008) Embodied histories, Danced religions, performed politics: Kongo cultural performance and the production of history and authority, Ph.D. Dissertation in anthropology, university of Michigan.
9 - -Ferguson ,H. (1997)Me and my shadows n the accumulation of body -image in western society, Part2,the corporeal forms of modernity ,Body & society , Vol.3 , No.4.
10 - Hughes ,B. (1996) Nietzsche : philosophizing with the body , Body & society , Vol.2 ,No. 3.
11 - Kelly , M. & Field , D. (1996) Medical sociology, chronic illness and the body , Sociology of health and medicine, Vol.18 , No.2.
12 -Loenhoff, J. (1997) The negation of the body :a Problem of communication theory, Body & Society, Vol.3 , No.2.
13 - Lyon , M. (1997) The material body , Social process and emotion : Techniques of the body revisited , Body & Society , Vol.3 , No.1.
14 - Shilling, K. (2005) The rise of the body and the development of sociology, Sociology, Vol.39, No.4.
15 - Turnball , N. (2005) Crossing Nietzsche,Theory, Culture & Society,Vol.22,No.3.
16 - Turner, B.(1992) Regulating bodies :Essays in medical sociology, Routledge, London and New York.
17 - Turner, B.(ed.)(2006) The Cambridge dictionary of sociology ,Cambridge University press
.
* تطور الانشغال السوسيولوجي بالجسد(*)
د حسني إبراهيم عبد العظيم
عضو هيئة التدريس – قسم علم الاجتماع – كلية الآداب
جامعة بني سويف – ج.م.ع.
تشغل دراسات الجسد مكانة مهمة ومتنامية في علم الاجتماع –وفي غيره من العلوم الاجتماعية والإنسانيات- منذ ثمانينات القرن الماضي، هذه «النهضة» في الاهتمام بالجسد لم تؤد فقط إلى تأسيس منطقة «بينية»interdisciplinary زاهرة لدراسات الجسد، وإنما أدت كذلك إلى تسريع عملية إعادة بناء النظم المعرفية –الأساسية والفرعية- التي تعمل على تحليل أكثر موائمة للطبيعة الجسدية والنتائج المتعلقة بها، ولقد كانت هذه النهضة مسئولة أيضاً عن تحول في الاهتمام الأساسي للنظرية الاجتماعية. (shilling 2005: 761).
والملاحظ أن الاهتمام السوسيولوجي بالجسد يعد أمراً حديثاً نسبياً، فحتى حدود الستينات من القرن الماضي لم يكن الجسد كموضوع معرفة سوسيولوجية يحظى بمكانة «الموضوع المحوري أو الأساسي» بل على العكس من ذلك كان حضوره، لا يتجاوز مستوى الحضور المضمر الافتراضي، أو مستوى محور من ضمن المحاور المدروسة، أو كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي «جون ميشيل بيرتلو» Jean M. Berthelot كان الجسد مادة سوسيولوجية خافتة Le Corps est un objet sociologique eclipse (زينب المعادي 2004: 19)
والواقع أن هناك عوامل معقدة ومتراكمة أسهمت في غياب الجسد عن الوعي السوسيولوجي في مراحله المبكرة ، ربما ترتبط أولى هذه العوامل بذلك التقسيم التقليدي «التاريخي» بين العلوم البيولوجية والعلوم الاجتماعية، فذلك التقسيم كان بمثابة «عقبة» Obstacle كبيرة أمام مشروع تنظير الجسد في الحياة الاجتماعية. (Lyon, 1997: 84)
ويعتقد «تيرنر» أن ثمة عاملين أساسيين أسهماً في إقصاء الجسد عن علم الاجتماع الكلاسيكي، يتمثل العامل الأول في قبول العلوم الاجتماعية للإرث الديكارتي Cartesian Legacy المتعلق بذلك التقسيم الحاد بين العقل والجسد، الذي ارتكز على فرضية جوهرية مفادها أنه لا يوجد تفاعل – أو على الأقل تفاعل ذوبال- بين العقل والجسد؛ ولذا فإن هذين الموضوعين ينبغي أن يدرسا وفق نظامين علميين منفصلين ومتمايزين، فأصبح الجسد موضوعاً للعلوم الطبيعية –بما فيها الطب- بينما أصبح العقل مجالاً لاهتمام العلوم الاجتماعية والإنسانيات. أما العامل الثاني فهو انشغال علماء الاجتماع الكلاسيكيين – مثل فيبر وبارسونز- بالاهتمام بالفعل الاجتماعي والفاعلين الاجتماعيين واعتبار الجسد جزءاً من البيئة كذلك انشغل علم الاجتماع في مرحلته التأسيسية بمفهوم البناء Structure والشـروط اللازمة
لاستقرار النظام العام والمحافظة عليه، والكشف عن العوامل المؤثرة في تغيره، وباعتبار الجسد جزءاً من الظواهر الطبيعية، فإنه موضوع غير اجتماعي، ومن ثم تم استبعاده من التحليل، ولم يكن ذلك وقفاً على علم الاجتماع فقط، وإنما كان شائعاً في معظم العلوم الاجتماعية. (Lyon 1997: 84- 85 & Kelly and Field 1996: 242)
وبالإضافة للعوامل السابقة، يرصد «كريس شلنج» (2003) عاملاً آخر مهماً وهو ما يسميه «النشأة الذكورية لعلم الاجتماع» فتأسيس علم الاجتماع كان مشروعاً اجتماعياً – معرفياً، كما كان مشروعاً أنجزه «رجال» فربما كان للمخاطر التي تواجهها المرأة أثناء الحمل، عدد النساء اللائي يمتن أثناء الولادة، نسب وفيات المواليد التي ميزت الثورة الصناعية أن تتضح عبر اهتمام أكبر بالجسد لو كان ماركس وسيمل، وفيبر ودوركايم نساء، إن ذلك لا يعني أن المعرفة قابلة بأسرها لأن تختزل في الخبرة الجسدية المباشرة، لكن تعني تكريس رابط تكاملي بين المعرفة والجسدية(**). (shilling 2003)
الإرهاصات الأولى للانشغال بالجسد
لقد أسهمت العوامل السابقة في غياب الجسد عن التحليل السوسيولوجي في مرحلته الكلاسيكية بصورة صريحة ومباشرة، غير أن هذا لا ينفي أنه يمكن رصد إرهاصات جنينية لتحول الجسد إلى موضوع تأمل سوسيولوجي مع بدايات العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر، الذي كان وفقاً لرؤية «جون ميشيل برتلو» قرن الاهتمام بجسد العمال وما يعيشونه في ظل ظروف العمل القاسية من استنزاف مبكر وأعطاب وتشوهات، وقد كانت هذه الأعطاب والتشوهات موضوع وصف دقيق ومفصل من جانب «فيليرمي» Villerme في بحثه المتميز عن الحالة الجسدية والنفسية المزرية للعمال المشتغلين في مصانع القطن والصوف والحرير في فرنسا، وكذلك «بيري» Buret في حديثه عن الطبقة العاملة في إنجلترا وفرنسا، وأيضاً قدم «ماركس وإنجلز» وصفاً وتحليلاً للوضعية الجسدية للعمال. (زينب المعادي 2004: 19)
كما عرف الفكر الاجتماعي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر نقاشاً مهماً حول السكان وتنظيم الولادات، ولفت الانتباه إلى أن قضايا الصحة والنسل والجنس مسئولية اجتماعية وليست مسائل تهم الفرد فقط، والملاحظ أنه على الرغم من أن الجسد ضمن الدراسات المشار إليها آنفاً قد أصبح ضمنياً معطى ثقافياً، إلا أن الاهتمام به لم يكن قد وصل إلى مرحلة يشكل فيها موضوعاً لدراسة مستقلة، كما لم يتأسس بعد توجه لتنظير هذا الجانب أو ذاك من التجربة الجسدية، كان الاهتمام بالجسد يشكل فقط جزءاً من اهتمامات متعددة مرتبطة بواقع العامل. (زينب المعادي 2000)
ومن أهم الجهود التي لفتت الاهتمام بالجسد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الأفكار الفلسفية التي طرحها «فردريك نيتشه» F. Nietzsche (1844- 1900). لقد أولت فلسفة نيتشه، الجسد اهتماماً خاصاً، ومجدت قوته، وأعلت من قيمة إرادة القوة وإرادة السيادة، وشددت على تحرير الجسد، وتلبية رغباته الطبيعية، إذ يقول «نيتشه»: «إن الغريزة هي أعظم أنواع الذكاء التي عرفها الإنسان حتى الآن، لقد بالغ الإنسان في تقدير الإدراك العقلي، وليس الإدراك سوى عملية ثانوية لإدارة القوة التي تجسدها الغريزة». (وول ديورانت 1988: 527).
لقد كان «نيتشه» معارضاً عنيداً للاهوت، ومتحيزاً لما يسميه «أخلاقيات النشاط الحيوي» Ethics of vitality المتأصلة في الغرائز والرغبات، والتي تسهم في صفاء التأمل الفلسفي، وكان داعياً Denouncer ومناصراً قوياً لتأكيد قيم الحياة، وقد شن حرباً عنيفة ضد كل أشكال الحقائق الكنسية. (Turnball 2005: 139)
إن القارئ لنيتشه يجد أن مشاعره ورغباته متغلغلة في كلماته، ومقاصده، وواضحة في أساليبه البلاغية، فقد كان يكتب من خلال جسده وروحه معاً، يجمع أصداء خبرته الحياتية المعاشة، إن رجلاً بمثل هذا التفكير، تختفي لديه تلك الثنائيات التقليدية، بين الفكر والمشاعر، وبين العقل والغريزة، إنه يحس أفكاره، ويقع في «حب» الفكرة، ويمكن للفكرة أن تجعله عليلاً. (Hughes 1996: 32)
يرى «نيتشه» أن الجسد هو سلاح في المعركة ضد الميتافيزيقا، وأداة الخطاب الفلسفي نحو حياة وعصر الإنسان الكامل (السوبرمان) إنه النقطة المرجعية Reference point في إعادة تقييم كل القيم، ووسيلة لنقد معطيات الحداثة بكل (أساطيرها) وقيمها ورؤاها. (Hughes 1996: 33)
والحقيقة أن اهتمام «نيتشه» بالجسد قد جاء في فترة مبكرة من حياته، ففي أوائل عام 1872 وهو في الثامنة والعشرين من عمره أصدر أول كتاب له وهو «مولد المأساة من روح الموسيقى» تحدث فيه عن الإلهين الذين كانا موضع تقديس وعبادة اليونانيين، وهما: (ديونيسوس) Dionysus و«أبوللو» Apollo الأول هو إله الخمر والمرح والبهجة والفتنة والعواطف والغريزة والمخاطرة، والثاني هو إله السلام والراحة والسكون والتأمل العقلي والنظام المنطقي، والهدوء الفكري، وقد اتحد هذان المثالان الأعليان فأبدعا أسمى آيات الفن اليوناني. (وول ديورانت 1988: 512)
لقد أدرك «نيتشه» أنه من خلال ذلك التوافق بين المبدأين اللذين يمثلهما «ديونيسوس» و«أبوللو» يمكن أن يظهر المجتمع السليم Healthy society الذي تتصالح فيه الرغبة الطبيعية للأفراد مع نشاطهم العقلي، وقد رأى «نيتشه» ذلك التصالح بشكل محدد في النشاط الجمالي، وخاصة الفن، إن الحياة ينبغي أن تعاش كعمل فني؛ ولهذا فقد انجذب لموسيقى «فاجنر» Wagner. إن الإخفاق في إنتاج توافق سليم لهذين المبدأين في حياة الأفراد يؤدي إلى حدوث المرض والجنون، لقد اعتقد «نيتشه» أن الأمراض العصبية –التي تحدث نتيجة ذلك التناقض بين الرغبة الجسدية والنشاط العقلي- هي أمر متعلق بالإنسان فقط؛ لأنه قد اغترب عن بيئته الطبيعية الفطرية. (Turner 1992: 38 - 39)
يقول «نيتشه» في كتابه (هكذا تكلم زرادشت Thus spoke Zarathustra) الصادر عام 1883 مخاطباً المستهزئين بالجسد، أي الذين يحطون من قدره: «أما أنتم يا أخوتي، فأصغوا إلى صوت الجسد؛ لأنه يخاطبكم بصوت أنقى وأخلص من تلك الأصوات التي تبشركم بالموت، إن الجسد السليم يتكلم بكل إخلاص وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم .. لأقولن للمستهزئين بالجسد كلمتي فيهم، إن واجبهم ألا يغيروا طرائق تعاليمهم، ولكن عليهم أيضاً ألا يهملوا أجسادهم حتى لا يستولى على ألسنتهم الخرس». (فردريك نيتشه 56- 57)
يتضح إذاً أن «نيتشه» يشدد على التوافق بين الجانب العضوي الغريزي (الذي يتم التقليل من شأنه دائماً) والجانب الفكري، إنه يرى أن المرض والجنون هما نتيجة طبيعية لذلك التناقض بين الجسد والعقل، وبالتالي فإنه يرفض الثنائية الديكارتية التي تميز الجسد عن العقل من جهة، كما أنه يرفض التعالي على الرغبة الجسدية العضوية من جهة أخرى. والجدير بالذكر هنا أن آراء «نيتشه» قد أثرت تأثيراً مباشراً وقوياً على العديد من منظري الجسد مثل «ميشيل فوكو»(1926 – 1984) و"بيير بورديو"(1930 – 2002).
ومع ظهور مدرسة التحليل النفسي على يد «سيجموند فرويد» (1856- 1939) بدأ حديث عن لغة الجسد، حيث تحول الجسد إلى لغة تعكس بشكل غير مباشر العلاقات الفردية والاجتماعية، كما تعكس الرغبات والاحتياجات بطريقة رمزية. لقد حقق «فرويد» قطيعة معرفية أخرجت الاهتمام بالجسد من مجال اللغة «الخشبية» المتصلبة لوضعيي القرن التاسع عشر، ورغم أنه لم يكن عالم اجتماع، إلا أنه أدخل الاهتمام بالجسد كمادة تصنعها وتنتجها العلاقات الاجتماعية، ويساهم في تشكيلها التاريخ الفردي للفاعل الاجتماعي إلى مجال المفكر فيه، فمنذ كتاب «دراسات حول الهستريا» الذي كتبه بالاشتراك مع «بروير» Breuer في عام 1895 وضعت ضمنياً الأسس الأولى لسوسيولوجيا تسمح بنظرة مغايرة للجسد، أو ما يسمى الآن «سوسيولوجيا الجسد». (زينب المعادي 2004: 20)
ففي كتابات «فرويد» ثمة تأكيد جديد على النقش الشخصي Personal inscription على الجسد، فهو يرى أن صورة الجسد Body image –خاصة الجسد الأنثوي الشاب- تبدو هشة Soft ضعيفة الإرادة، فالجسد عرضة لتأثيرات خارجية معقدة، تترك عليه أثراً فيزيقيا طويل المدى Prolonged Trace فالحياة المعاصرة تؤثر على الجسد بصورة كلية، وتسقطه في الهستيريا ... إن صورة الجسد في عالم ما بعد الحداثة أضحت بشكل عام أكثر هستيرية، نتيجة تعرض الجسد لتأثيرات نمطية مرتبطة بالأحداث الخارجية والطارئة. (Ferguson 1997: 14)
النصف الأول من القرن العشرين:جهود متناثرة ممهدة:
مع بدايات القرن العشرين تتبلور «سوسيولوجيا متقطعة» للجسد –حسب تعبير «ديفيد لوبرتون» وذلك من خلال مجموعة دراسات متفرقة تنطلق من افتراض أساس هو أن الإنسان يصنع وينتج خصائص جسده اجتماعياً من خلال اندماجه مع الآخرين، وانخراطه في مجال الرمزي. (زينب المعادي 2004: 21)
من أهم دراسات هذه الفترة ما كتبه «جورج سيمل» (1858- 1918) الذي كان أول من عرف كيف يعطي وصفاً ثميناً للمكانة البارزة للجسد في الحياة اليومية، ففي بحثه حول علم اجتماع الحواس Sociology of sense (1911) يلاحظ أن الإدراكات الحسية -بما لها من سمات- تشكل أساس الحياة الاجتماعية، ويمتزج الإدراك الحسي للعالم بنزعة عاطفية، ويحلل «سيمل» النظرة Glance تحليلاً عميقاً، إنه يرى أن التعاطف أو النفور، الثقة أو عدم الثقة هي أمور تسمح ظاهرياً بأن تقرأ من خلال النظرة، يقول سيمل «من خلال عينيه أستطيع أن أنتزع من ذلك الذي ينظر إليّ شيئاً قليلاً من إمكانية اكتشافي». إن النظرة بالفعل تكتسح وجه الآخر، وتجبره على عقد اتفاق في آن واحد حول الألفة وحول المتعة التي يحصل عليها من التبادل. (ديفيد لوبرتون 1997: 98- 99)
لقد استطاع «سيمل» أن يكتشف الأهمية الجمالية للوجه، إنه يؤكد على أن الوحدة والتناسق في ملامح الوجه هي مفتاح جمالياته، وأن أي تشويه يمكن أن يدمر ذلك التناسق الرقيق. الوجه هو رمز للروحانية ومؤشر على الشخصية، وفي المجتمعات الحديثة، تنامي ذلك التأكيد على الوجه وأهميته. (Turner 1992: 108)
ويستطرد «سيمل» في تحليلاته فيؤكد أن الإدراك من خلال النظرة يجعل من وجه الآخر العنصر الأساسي في هويته، والجذر الأكثر دلالة لحضوره، إن اللقاء بين الأشخاص يبدأ دائماً بتقييم الوجه، فالفترة الأولى هي الفترة التي تلتقي فيها النظرات، يجري فيها تقييم متبادل، وبهذا الاتصال الأول يتحدد غالباً مسار التبادل ونهايته، إن النظرة هي بالفعل اتصال؛ لأنها تشبه اللمسة، إنها نوع من التلامس البصري المتبادل، إن «سيمل» يلاحظ «أن العين تعطينا مؤشراً على كينونة الآخر، راسب ماضيه، من خلال الشكل المادي لسماته، إننا نرى –إذا جاز التعبير- تعاقب أعمال حياته وقد بعثت أمامنا في نفس الوقت». (ديفيد لوبرتون 1997: 99- 100)
ويلاحظ «سيمل» من جانب آخر مدى تأثير الإطار الاجتماعي على التوجهات الحسية، فالبنى الحضرية تشجع على استعمال ثابت للنظرة من خلال المشاهد المتميزة للمدينة (واجهات المحال – تشابك خطوط سير السيارات والمشاة – الاختلاف في أشكال وألوان الأرصفة .. إلخ) أما السمع واللمس والشم فهي حواس غير سعيدة في المدينة؛ لأنها تجابه شتى أنواع الإزعاج، «إن الحياة الاجتماعية في المدينة تحث على نمو متزايد للنظرة، وعلى تعليق أو استعمال محدود للحواس الأخرى، التي لا يجد الإنسان في النهاية الإمكانية في استعمالها بشكل كامل إلا داخل منزله». (ديفيد لوبرتون 1997: 100)
لقد كان «سيمل» ملاحظاً بارعاً للتفاصيل الدقيقة، فهو يصف بدقة ما يكمن خلف الكلمات المنطوقة في مواقف التفاعل الاجتماعي، إنه يتناول ما يمكن أن نسميه «التفاعل الجسدي» Bodily interaction وهي عملية اتصالية بالغة التأثير تتم من خلال الحواس. لقد أسهم «سيمل بملاحظاته تلك في تطوير سوسيولوجيا الاتصال بقدر إسهامه في تطوير سوسيولوجيا الجسد». (Loenhoff 1977: 67)
ومن الإسهامات الهامة في تلك المرحلة البحث الذي كتبه «روبرت هرتز» R. Hertz (1881- 1915) في عام 1909 بعنوان «تفوق اليد اليمنى» Preeminence of the right hand الذي أثر تأثيراً بالغاً في تطور النظريات الأنثروبولوجية المتعلقة بالتقابل الثنائي، خاصة ذلك التقابل بين اليمين واليسار. لقد أوضح «هرتز» الذي كان أحد تلاميذ دوركايم أن التفضيل الفسيولوجي للجانب الأيمن من الجسد مؤسس ثقافياً على التصنيف الأخلاقي للخير والشر، بحيث يصبح الجانب الأيمن رمزاً مركزياً للقيم الإنسانية الايجابية. (Turner 1992: 44)
لقد أوضح «هرتز» أن الميل الفسيولوجي نحو تفوق اليد اليمنى هو فقط «إدعاء» Pretend لغرض التصنيف، وفقاً لوجهة نظره، يعد تفوق اليد اليمنى نظاماً اجتماعياًَ أو بتعبير «دوركايم» ظاهرة اجتماعية، فاستخدام اليد اليمنى يلاقي جزاءً ايجابياً من المجتمع، والانحراف عن اليمين غالباً ما يلاقي عقاباً اجتماعياً. ويعتبر «هرتز» أن التقابل بين اليمين واليسار هو تعبير جوهري عن الثنائية الدينية المتعلقة بالمقدس والدنس، وهي التي أثرت في تشكيل رؤية الجماعات الاجتماعية للجسد، فاليد اليمنى تمثل الجانب المقدس، إنها تمثل قيم الذكورة والحياة والقوة والشجاعة، بينما تمثل اليد اليسرى الشر، الموت، الأنوثة، تشير اليد اليمنى للتفاؤل بينما تجسد اليد اليسرى فكرة التشاؤم. وفي المجتمعات المعاصرة ما تزال توجد هذه التقسيمات، يرتبط اليمين بالجدارة، والمهارة والصواب، والجمال ... إن الجانب الأيمن يمثل علواً أخلاقياً كونياً، لقد صعد المسيح إلى السماء ليجلس على يمين الرب، لأن الجانب الأيسر ملئ بالشياطين والقوى الشريرة. ويخلص «هرتز» من تحليله أن ذلك التباين بين جانبي الجسد هو حالة خاصة وأنه نتيجة لثنائية متوارثة من الفكر البدائي. (Turner 1992: 109 - 110)
وتمثل كتابات «جورج هربرت ميد» (1863- 1931) إحدى الإرهاصات المبكرة في سوسيولوجيا الجسد، ففي تحليله للسلوك الاجتماعي وتطور الذات، يرى أن الإيماءات Gestures تمثل أمراً مهماً في تشكيل الذات اجتماعياً، فالوجه واليد كلاهما أساسيان في عملية تبادل الإيماءات، فوفقاً له، يتوازى الكلام مع اليد في تطور الكائن الإنساني اجتماعياً، وأوضح «ميد» في كتابه «العقل والذات والمجتمع» Mind, self and society الذي نشر في عام 1934(***) أن اليد أداة مهمة تلعب دوراً رئيسياً في التفكير، إنها سمة جوهرية للعقلانية الأداتية Instrumental rationality وتؤدي دوراً مهماً في القدرة الإنسانية على التعاطف، وتخيل أداء الدور، ومن ثم في تأسيس وتطور السلوك الاجتماعي، والواقع أن مناقشة «ميد» لأهمية اليد في علاقتها بالجهاز العصبي المركزي والتفكير الإبداعي قد تم إهمالها في الدراسات التالية للتفاعليين الرمزيين رغم أهميتها. (Turner 1992: 35-37-114)
وقدم «مارسيل موس» (1872- 1950) M. Mauss إسهاماً مهماً في اتجاه تطوير سوسيولوجيا الجسد يتمثل في دراسته «تقنيات الجسد» Techniques of the body التي قدمت كمحاضرة في اجتماع جمعية علم النفس في باريس في عام 1934 ثم نشرت في مجلة علم النفس والباثولوجيا في عام 1935، وظهرت ترجمتها الإنجليزية في عام 1973، وقد أوضح «موس» في هذه الدراسة الموجزة التي لم تتعد تسع عشرة صفحة كيف يؤثر المجتمع على الممارسات الجسدية. (Lyon 1997: 85)
لقد بين «موس» أن الجوانب الأساسية للأنشطة الجسدية كالمشي والوقوف والجلوس هي «بني اجتماعية» فمع أن هذه الأنشطة تستلزم أساساً عضوياً، إلا أن إتقان هذه القدرات يستلزم سياقاً ثقافياً، إن آليات الجسد أو تقنياته رغم اعتمادها على أساس عضوي عام، إلا أنها في ذات الوقت تمثل تطورات ثقافية وشخصية. (Turner 1992: 36)
والحقيقة أن «موس» قد قدم من خلال ملاحظاته للأنشطة الجسدية المختلفة فكرة الطبيعة الاجتماعية للهابيتوس Habitus فالهابيتوس يعني في فكر «موس» القدرة البدنية أو العقلية المكتسبة(****)، ويؤكد «موس» على أهمية التربية والتنشئة الاجتماعية كما يؤكد كذلك على أهمية التقليد في تشكيل الأنشطة الجسدية. ويرى أن تقنيات الجسد تتباين وفقاً للعوامل المجتمعية كالتعليم والملكية والموضة والنفوذ، كما أنها تتباين على المستوى التاريخي. (Lyon 1997: 85)
ولقد تزامن مع دراسة «موس» ظهور كتاب هام ألفه «بول شيلدر» P. Schilder (1886- 1940) بعنوان «صورة ومظهر الجسد الإنساني» The image and appearance of the human body عام 1935 وردت فيه صراحة عبارة «سوسيولوجيا الجسد» فقد قسم كتابه إلى ثلاثة أجزاء، الأول عنوانه الأساس الفسيولوجي لصورة الجسد، الثاني البنية الشهوانية Libidinous structure، والثالث حمل عنوان سوسيولوجيا صورة الجسد Sociology of the body image وقد حاول «شيلدر» في ذلك الجزء الأخير أن يوضح السمة الاجتماعية لصورة الجسد، إذ أكد على أن صورة الجسد هي صورة اجتماعية بالضرورة، وإن كل جوانب صورة الجسد تتشكل وتتطور من خلال العلاقات الاجتماعية، كتب شيلدر «صورة الجسد هي مبدأ اجتماعي، إن صورة أجسادنا ليست منفصلة على الإطلاق عن صورة أجساد الآخرين، ولكنها مقترنة بها دائماً». (Turner 1992: 55- 56)
إن ثمة تأكيد واضح من جانب "شيلدر" على السمة الاجتماعية لصورة الجسد التي يراها قوية وجلية، إن ثمة علاقة عميقة بين صورة جسد الشخص وصورة جسد الآخرين، ويبذل الفرد جهداً متواصلاً ليربط بين صورة جسده وصورة جسد الآخرين، ويمثل التقليد والتماهي Identification والإسقاط Projection الآليات الاجتماعية لتشكيل صورة الجسد. (Ferguson 1997: 26)
والحقيقة أن «شيلدر» قد قطع شوطاً طويلاً في تكامل الفهم السيكولوجي والسوسيولوجي والثقافي لصورة الجسد كجانب جوهري للشخصية والتفاعل الاجتماعي، يقول «شيلدر»: «لا توجد صورة جسد بدون شخصية، غير أن التطور الكامل للشخصية وقيمها تكون ممكنة فقط من خلال الجسد وصورة الجسد». ويؤكد «شيلدر» من جانب آخر على ذلك التكامل بين الجسد الموضوعي «العضوي» والإحساس «الذاتي» بالجسد، يقول شيلدر: «لا ينبغي أن نتعامل مع الجسد الموضوعي ككيان منفصل عن الإحساس الذاتي بالجسد، توجد فقط وحدة واحدة: إنها الجسد الحاضر دائماً في خبراتنا وفي إحساسنا». (Turner 1992: 56)
وتمثل فلسفة «ميرلو-بونتي» M. Merleau-Ponty (1908- 1961) الفينومينولوجية أهمية خاصة في تطور علم اجتماع الجسد، وذلك من خلال كتابيه «فينومينولوجيا الإدراك» The phenomenology of perception الصادر في عام 1942 و«بنية السلوك» The structure of behavior الذي صدر في عام 1945(*****).
وحاول «ميرلو-بونتي» الذي تأثر بشكل ما ببعض مفاهيم «بول شيلدر» أن يطور تصوراً مغايراً للجسد يتجاوز ثنائية العقل والجسد، ففي إطار محاولته فهم الإدراك الإنساني، يعتقد أنه لا يمكن الحديث عن الإدراك الإنساني للعالم دون نظرية في «التجسيد» Embodiment باعتباره منظوراً تتم الملاحظة من خلاله. إن إدراكنا لعالم الحياة اليومية يعتمد على الجسد النشط Lived body؛ لأننا نتعرف على الأشياء بداءة من خلال الحواس، وحتى عملياتنا الإدراكية العليا لا يمكن أن تتم بمعزل عن بنيتنا الجسدية. (Turner 1992: 45)
إن «ميرلو-بونتي» يعد –بشكل ما- مؤسساً لنظرية اتصالية إدراكية من خلال الجسد، فهو يصف الإدراك بأنه عملية ذهنية أو فكرية لها جذور جسدية، فنحن ندرك بأجسادنا في ضوء إيماءات الحركة والسكون، ومن ثم الرؤية وتحديد ما هو منظور، أو بعبارة أخرى إن الجسد يضمن لنا حرية الوصول إلى جزئيات العالم وموجوداته، فنظرية الجسد هي نظرية للإدراك، أي أن إدراكنا للعالم الخارجي ما هو إلا مرادف لإدراكنا لأجسادنا بالدرجة الأولى. (جواد الزيدي 2005)
الجسد –وفقاً لميرلو بونتي- هو نقطة الصفر Zero Point ومركز عالمنا، إنه عضو الحس الذي نقبض من خلاله على العالم، وهو أيضاً عضو الإرادة الذي نسلك من خلاله في العالم، وهو الذي يرتبط بالأنا ارتباطا حميماً، ضرورياً وربما غامضاً. (Ferguson, 1997: 2)
إن مساهمة «ميرلو-بونتي» في فهم الجسد كانت قد وصفته بأنه شيئاً معيشاً، وليس سجناً تسكنه النفس كما يرى أفلاطون، أو أنه وحدة وظيفية منسجمة كما يرى أرسطو، أو أنه آله يتم التحكم فيها من خلال محركات داخلية كما يعتقد ديكارت، بل إنه يعاش من خلال توتر قصدي، ويميز «هو سرل» بين الجسد المادي والجسد الحي المتعالي ظاهراتياً، ولكن «ميرلو-بونتي» قد فهم الجسد الإنساني المادي كله بوصفه معيشاً سلفاً بشكل تام، ومتجسداً ومعبراً وإدراكياً وحراً، وأنه شيء مرئي «يرى» أو هو «فعل رؤية» يجعل من اللامرئي مرئياً من خلال «إدراكحسي». (الزيدي 2005)
وثمة دراسة لافتة أجراها «إرنست كانتروفيتش» E. Kantorovich عام 1957 عنوانها «جسدا الملك» The king’s two bodies قدم فيها تحليلاً نابهاً للتطور التاريخي للسيادة السياسية من خلال السمات الرمزية للجسد. يقر «كانتروفيتش» أنه على الرغم من أن النظام الملكي يقوم أساساً على الجسد المادي للملك، إلا انه مع تطور النظرية السياسية ومؤسسة القوة ظهر انفصال بين الجسد المادي للملك وجسده الرمزي، إذ جاء الجسد الرمزي للملك أخيراً ليمثل القوة المسيطرة المجردة، ولهذا كان يعتقد أن للملك جسداً مادياً فانياً، وجسداً رمزياً مقدساً. إن ذلك الجسد الرمزي للملك هو الذي يضمن استمرارية سيادة الدولة على الرغم من الموت الدوري للملوك؛ ولهذا نجد من الشائع في لحظة موت الملك أن ينادي أحد أفراد الحاشية: «لقد مات الملك، ليحيا حياة مديدة»، ولأن رمزية جسد الملك هي أمر هام لاستمرارية ســيادة الدولة، فإن الاعتداء على جســـد الملك يعد اعتداءً على الوطن ذاته. (Turner 1992: 49- 50)
يتضح مما سبق أن ثمة جهود فكرية قد بذلت على مدار قرن تقريباً من توجهات نظرية شتى، وأن نظرة متأنية على تلك الجهود تكشف عن مدى أهميتها في لفت الانتباه نحو قضية الجسد، حيث قدمت تحليلات عميقة ومتنوعة للعديد من القضايا المرتبطة بالجسد، وكشفت عن الأبعاد الاجتماعية والثقافية، والفلسفية له، وساهمت بصورة غير مباشرة في إدخال الجسد إلى دائرة الوعي السوسيولوجي، وأنتجت تراكماً فكرياً مهد التربة لتأسيس سوسيولوجيا الجسد. بيد أن هذه الدراسات ظلت –رغم أهميتها النظرية والمنهجية- مجرد جهود فردية متناثرة لا يوجد رابط فكري يجمعها، ولا تستند إلى إطار نظري متكامل يجمع شتاتها في نسق علمي منظم، بحيث تؤسس نظاما علميا سوسيولوجيا متعلقا بالجسد.
ستينيات القرن العشرين وتبلور ملامح علم اجتماع الجسد:
مع بدايات الستينات من القرن الماضي بدأت ملامح علم اجتماع الجسد في التبلور، وذلك من خلال مجموعة من الدراسات استخدمت الجسد كأداة كشف وتحليل، تتعامل معه كنافذة ينظر من خلالها للمؤسسات والبنى والعلاقات الاجتماعية، وتُقرأ المخيالات والتمثلات الجماعية، وبالتالي وجود اتجاه واضح لتدشين سوسيولوجيا الجسد كأحد فروع علم الاجتماع. (زينب المعادي 2004: 23)
من أهم دراسات هذه المرحلة، أعمال «إرفنج جوفمان» (1922- 1982)، و«ماري دوجلاس» (1921- 2007)، التي شغلت حقبة الستينات، (وأيضاً أعمال ميرلو-بونتي التي ترجمت في تلك الفترة) ثم إسهامات «ميشيل فوكو» التي امتدت حتى منتصف الثمانينات تقريباً (توفي فوكو في يونيو 1984)، و«بيير بورديو» التي امتدت حتى بداية القرن الحادي والعشرين (رحل بورديو عن عالمنا في يناير 2002).
يرى «تيرنر» (1992: 44) أن جوفمان Goffman يعد واحداً من رواد سوسيولوجيا الجسد، فهو أحد القلائل في نطاق علم الاجتماع الذي أخذ مسألة الطبيعة الاجتماعية للجسد مأخذ الجد في وقت مبكر. فمن خلال دراسته حول عرض الذات في الحياة اليومية The presentation of self in everyday life 1962 طرح فكرة أن الحياة الاجتماعية تعرض –جزئياً على الأقل- من خلال الجسد، فعلى سبيل المثال، إن الإحساس بالارتباك يرتبط دائماً بالتغير في لون الوجه، وبمعنى أوسع، إن فكرتنا الاجتماعية حول اليسر أو الراحة يتم التعبير عنها من خلال إيماءات جسدية متنوعة يمكن قراءتها كشكل من اللغة.
وقدمت «ماري دوجلاس» M.Douglas فهماً مفصلياً مهماً لقضية الجسد «كنسق رمزي» وذلك من خلال كتابيها «الطهارة والخطر» عام 1966 Purity and danger والرموز الطبيعية Natural symbols عام 1973، ترى «دوجلاس» أن الجسد هو تمثيل مجازي Metaphor للمجتمع ككل، ويعني ذلك تبعاً أن المرض في الجسد يناظر رمزياً الاضطراب في المجتمع، واتزان الجسد واستقراره مؤشر على التنظيم الاجتماعي وسلامة العلاقات الاجتماعية، إن انشغالنا بالمخاطرة واللايقين في العلاقات الاجتماعية يمكن أن يفهم من خلال نظريات النظام الجسدي. إن مفاهيم الطهارة والنظام، النجاسة، والقداسة لا توجد في جوهر الظواهر أو الممارسات، وإنما في علاقتها بإدراكنا لواقعنا الاجتماعي. إن الأمر «الدنس» إذاً هو اضطراب أو خلل في العلاقات التصنيفية. والواقع أن أفكار «دوجلاس» لم تكن مؤثرة فقط في الأنثروبولوجيا، وإنما أيضاً كانت مؤثرة في علم الاجتماع، حيث تم تبنيها وتطويرها بطرق مختلفة. (Turner 1992: 44)
ويعد «ميشيل فوكو» بحق المنظر الأهم للجسد في القرن العشرين، حيث كشف «فوكو» من خلال رؤاه ما بعد البنيوية الحضور الشامل للسلطة داخل الصياغات الخطابية Discursive formations المتعلقة بالجسد، إن أهمية الجسد لدى فوكو تصل لدرجة أنه يصف أعماله الفكرية بأنها تشكل «تاريخ أجساد» a History of bodies وترصد الطريقة التي يتم من خلالها استثمار الأجساد مادياً وحيوياً. (Shilling 2001: 445)
لقد كان «فوكو» منشغلاً بفهم كيفية دخول الجسد إلى الخطاب السياسي كتمثيل للسلطة، وكيف تُمارس السلطة على الجسد، في المؤسسات المختلفة كالمدرسة والسجن والمصنع والمستشفى، بحيث يتحول الجسد إلى كائن منضبط Regulated (Turner 2006: 42)
إن القضية المحورية التي ينطلق منها «فوكو» هي رصد عملية تطبيع الجسد Normalization of the body ورصد المؤسسات التي تنتج وتفصل المعرفة العلمية المتعلقة بتطويع الجسد، بالإضافة إلى اهتمامه بدراسة كيف يتم تمثيل الجسد في الممارسات المختلفة بضبط وإدارة الكيان الإنساني. (Turner 1992: 52- 53)
والحقيقة أن «فوكو» قد تأثر بداهة برؤى «نيتشه» حول الجسد، كما أن «فينومينولوجيا الجسد» التي فصلها «ميرلو-بونتي» بعد الحرب العالمية الثانية كانت ماثلة في ذهنه أيضاً. (دريفوس ورابينوف 103)
لقد كان «فوكو» منشغلاً على مدار تحليلاته بالكشف عما يكبل الجسد، ويقيده، لأن ذلك في رأيه تكبيل للعقل، ففك أغلال الجسد من آليات التوجيه والنفي والترويض هو إطلاق سراح العقول من سراديب الحجر والزيف والإثارة والحاجيات المزيفة. (حسن المصدق 2007)
ففي أعماله المبكرة، كان «فوكو» يدرس كيف يمكن للجسد أن يظهر في ممارسات مختلفة تساهم في ضبطه وإدارته، ففي ولادة العيادة كان مشغولاً بفهم كيف تنتج المعرفة والممارسة الطبيعة الجسد، وكيف تطوعه داخل شبكة المؤسسات المستقرة للسلطة الطبية، وفي دراسته عن مولد السجن حلل نمو الجسد المنضبط والوديع كنتيجة للممارسات العقابية التي اقترنت بالنظرية النفعية للألم، وفي دراسته عن تاريخ الجنس كشف عن أن بروز خطاب الجنس في القرن التاسع عشر اظهر الجنس كموضوع أو قضية مهمة، وكشف عن أن الجنس قد أضحى مادة للصراع السياسي تمارس من خلال معرفة طبية محددة. (Turner 1992: 53)
أما بورديو فقد أسهم إسـهاماً فعالاً في ظهور علم اجتماع الجسد ، وذلك في سـياق تحليلاته للمفاهيم الجديـدة التي قدمها لعلم الاجتماع مثل الممارسة Practice والهابيتوس Habitus والأشـكال المختلفة لرأس المال(كرأس المال الرمزي والاجتماعي والثقافي) ، وعلاقة كل ذلك بالسلطة الرمزية للجسد .(Turner 1992:23).
وعلى الرغم من أن انشغاله بالجسد لم يكن مباشراً ، إلا أن سوسيولوجيا بورديو تمثل نموذجاً للدراسات التي يحتل فيها الجسد مساحة مهمة ، وخاصة منذ أبحاثه الإثنوجرافية المبكرة في منطقة القبائل بالجزائر الحاضرة في أهم مؤلفاته. (زينب المعادي 27:2004) .
يرصد برديو ما يسميه البناء الاجتماعي للجسد ، حيث يعتبر أن الجسد يخضع لعملية تشكيل أو نحت اجتماعي من خلال استيعابه لعادات المجتمع وقيمه، ويصبح ذلك الاستيعاب وكأنه نظام تعليمي ضمني implicit pedagogy قادر على غرس تصور كامل عن الكون: تصورات فلسفية وأخلاقية وميتافيزيقية من خلال أوامر بسيطة، مثل "قف مستقيماً" أو "لا تمسك سكينك بيدك اليسرى"(Manen 2007:18).
إن التشكيل الاجتماعي للجسد _ حسب تعبير بورديو _ يجعل أشكال استخدام الجسد وسيلة من وسائل التعبير عن بنيات وعلاقات اجتماعية، ومرآة للتقابلات الاجتماعية ، سواء تعلق الأمر بالفوارق بين الطبقات الاجتماعية أو الفئات العمرية أو التمايزات النوعية ، وفي نفس الوقت تدعيمها وتطبيعها، أي إظهارها بمظهر التقابلات أو الفروق التي تحتمها طبيعة الأشياء.(زينب المعادي 27:2004 )
وقد أفاض بورديو في شرح تلك الفكرة عند حديثه عن التقابل بين الذكورة والأنوثة ، فهو يرى أن الوسيلة في تطبيع Naturalization التقابل بين الذكورة والأنوثة هي إدخال تلك الثنائية في سلسلة من التقابلات التي تعمل على حصر المرأة في مواقع محددة : منزلية ورعوية في مقابل المواقع الذكورية التي تنتشر في الفضاء العام لمجتمع القبائل في الجزائر .(Mcnay 1999:99) .
إن التقابل بين الذكورة والأنوثة يتجسد أو يتحقق في شكل استعمال الجسد أو اتخاذ أوضاع في أشكال من التصرفات والسلوكيات، وفي أشكال من التقابلات : بين المستقيم والمنحني (أو الذي جُعل منحنياً) الرجل يمشي مستقيماً رافعاً رأسه، والمرأة تفرض عليها الحشمة أن تمشي منخفضة الرأس، طريقة الأكل تعبر كذلك عن تقابل بين الجنسين ، وبشكل خاص طريقة استخدام الفم ؛ الرجل يأكل بملء فمه ويفتحه بشكل واسع ، في حين تأكل المرأة بشكل مخالف بنهاية الفم وكأنها لا تأكل ، كما تتجلى التقابلات في طريقة استقبال الناس : الرجل ينظر مباشرة وجهاً لوجه لمن يستقبله ، في حين لا تستخدم المرأة نفس الحركات ، بل تنظر بمواربة بنوع من الخجل والانحناء .إنها خصائص فيزيقية ترتبط بها صفات أخلاقية متقابلة : الصرامة والاستقامة والصراحة بالنسبة للرجل ، والاحتشام والرقة والانعزال بالنسبة للمرأة. (زينب المعادي 28:2004) .
إن الجسد هنا يعبر عن عالمين متناقضين: عالم الأنوثة الذي يتضمن فضائل نسوية feminine virtue كالحياء ، والاحتشام ، والتحفظ ، والتخفي ، إنها فضائل توجه الجسد الأنثوي إلى الأسفل ، نحو الأرض ، نحو الداخل ، إلى المنزل ، أما عالم الذكورة فيتضمن مزايا مغايرة تماماً ، الحركة نحو الأعلى ، نحو الخارج ، إلى العوالم الأخرى. (Covington 2008:7) .
إن علاقة الرجال والنساء / الذكورة والأنوثة تعكس نوعين من العلاقات مع العالم ، ومع الآخر ، ومع الزمن، ونسقين متقابلين من القيم، فالأخلاق أو"البناء الاجتماعي للجسد" يطبع جسد المرأة بالانحناء ، ويجعل جسد الرجل مستقيماً لأعلى ، إن هذه التقابلات تستمد رمزيتها من حيث كونها تترجم إلى حركات تبدو تلقائية وكأنها تعبر عن طبيعة الأشياء ، فالتشكيل الاجتماعي لخصائص الجسد وحركاته هو في نفس الوقت إضفاء صفة الطبيعي على الاختيارات الاجتماعية الأكثر عمقاً. (زينب المعادي28:2004)
ويستند بورديو إلى مفهوم العنف الرمزي لتعميق فكرة تطبيع الفوارق بين الجنسين _ أي إظهار تلك الفوارق وكأنها فوارق حتمية تحددها طبيعة الأشياء، فالعنف الرمزي هو شكل من السلطة يمارس على الجسد بطريقة مباشرة ، وكأنه يملك مفعولاً سحرياً ، إذ أن تلك السلطة تتم خارج كل "إكراه"، إلا أن هذا "السحر" لا يكون مؤثراً إلا إذا ارتكز على استعدادات كامنة في عمق الجســــد.... إن النساء بصفتهن ضحايا للعنف الرمزي يقبلن علاقات التراتبية الجنسية الاعتيادية بطريقة تلقائية، وهـذه التلقائية هي التي يصفها بورديو كشــــكل من الخضـوع لمفعول السـحر. (فاطمة المرنيسي 2002 :231 -233)
قد كان بورديو منشغلاً بتوضيح كيف أن حركات الجسد تعد مؤشراً على الوضع الاجتماعي، الذي تعيد بدورها إنتاج التفاوت الاجتماعي، من خلال الجسد يصبح الإطار الاجتماعي كالطبقة ، والنوع، والانتماء الاثني فاعلاً عبر الممارسات التي تميل نحو إعادة انتاج اللامساواة الاجتماعية في المجتمع. (Creswell 2002:380)
إن البناء الاجتماعي للجسد يعكس تقسيم العمل الجنسي ، وتقسيم العمل الاجتماعي، والعلاقة مع الجسد تتحدد حسب الشكل الذي يتخذه تقسيم العمل بين الجنسين من جهة، وحسب الوضع الاجتماعي الذي يشغله الفرد _ رجلاً كان أو امرأة _ ضمن تقسيم العمل الاجتماعي من جهة أخرى . (زينب المعادي29:2004).
ويخلص بورديو إلى قضية مهمة وهي أن البناء الاجتماعي للجسد بقدر ما يجعل الفوارق الاجتماعية تبدو طبيعية ، فهو كذلك يريد أن يجعل من الفوارق الطبيعية تبريراً للفوارق الاجتماعية ؛ أو يحول الاختلافات البيولوجية الطبيعية الى اختلافات في المكانات الاجتماعية ، البناء الاجتماعي للجسد حسب تعبير برديو ليس في نهاية الأمر الا تعبيراً عن "ميثولوجيا سياسية" Political mythology تحولت الى استعداد مستمر ، في شكل طريقة دائمة لاتخاذ أوضاع جسدية للكلام والمشي ، ومن ثم الإحساس والتفكير. (المعادي 29:2004 وأيضاً Covington 2008:7).
يتبين من قراءة ما يطرحه برديو حول البناء الاجتماعي لعادات الجسد أن ثمة خلط وقع بين "الطبيعي" naturalو "الاجتماعي _ الثقافي "socio – cultural وأدى ذلك الخلط إلى حدوث نوع من التهميش للجسد الأنثوي _ خاصة في المجتمعات التقليدية _ حيث تعمل الثقافة على جعل الفوارق الطبيعية بين الرجل والمرأة أساساً ومبرراً للفوارق الاجتماعية ، ومن ثم ، يظل الجسد الأنثوي في وضع أدنى، ليس هذا فقط ، بل أنه من خلال العنف الرمزي ، يستقر في وعي المرأة _ وفي لا وعيها أيضاً _ أن ذلك من طبائع الأشياء التي لا يمكن تغييرها ، وبالتالي فإنها تخضع لهذا التمييز النوعي ، وتعتبره أمراً مألوفاً ومقبولاً ؛ ومن ثم يرى برديو أن عادات الجسد لا تعبر فقط عن أوضاع جسدية ، وإنما تعكس بناءً ثقافياً وأخلاقياً راسخاً، وبالتالي فهو يصف البناء الاجتماعي للجسد بأنه "ميثولوجيا سياسية" تبدو من قراءة برديو أنها مصطنعة ومقصودة ، لتحقيق الهيمنة الذكورية وتعميقها.
والحقيقة أن تراكم كل الجهود العلمية السابقة قد أفضى إلى تنامي مقدار الاهتمام السوسيولوجي بالجسد، حيث برز علم اجتماع الجسد Sociology of The body بوصفه مجالاً متميزاً للدراسة، وصدرت في عام 1995 دورية علمية جديدة في انجلترا بعنوان «الجسد والمجتمع» Body and Society وتشغل دراسات الجسد مكاناً مهماً في علم الاجتماع وفي غيره من العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن. (Shilling 2005: 761)
والأكثر من ذلك أن «براين تيرنر» B.S. Turner وهو أحد أهم منظري الجسد قد أقترح أن يوظف الجسد باعتباره مبدأ منظماً لعلم الاجتماع، وفي ضوء ذلك الهدف صاغ «تيرنر» مصطلحاً سوسيولوجياً جديداً وهو «المجتمع الجسدي» The somatic society ليوضح أهمية الجسد الاجتماعية والسياسية في النظم الاجتماعية المعاصرة (Turner 1992: 1-13) ويؤكد تيرنر في موضع آخر (Turner 1997: 103) أنه على الرغم من أن علم اجتماع الجسد قد برز باعتباره واحداً من أهم النظم الفكرية المعاصرة في إطار العلوم الاجتماعية، إلا أنه ما يزال في حاجة إلى برنامج أو «أجندة» بحثية متكاملة.
وقد بدأت ملامح ذلك العلم الوليد في التبلور، فجذب إليه الكثير من الباحثين، الذين حاولوا تحديد أهم المفاهيم والقضايا والإشكاليات التي يهتم بها، وحاولوا كذلك تأصيل الأطر النظرية والمنهجية له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تم كتابة هذا المقال بالاعتماد بشكل أساسي على دراسة سابقة للباحث في المرجع التالي:
حسني إبراهيم عبد العظيم، الجسد والسلطة والمعرفة: دراسة تحليلية لإسهام ميشيل فوكو في تأسيس سوسيولوجيا الجسد، مجلة كلية الآداب - جامعة بني سويف، العدد الثاني عشر، الجزء الثاني، إبريل 2008.
(**)اعتمد الباحث في هذه الفقرة على ترجمة نجيب الحصادي ومنى البحر لكتاب «شلنج» الجسد والنظرية الاجتماعية على شبكة الانترنت.
(***) المعروف أن «ميد» لم ينشر كتاباً واحداً في حياته، وقام تلاميذه بنشر كل إنتاجه ـ الذي كان في أساسه محاضراته في جامعة شيكاغوـ بعد وفاته، ابتداءً من عام 1932، ونشرت آرائه حول العلاقة بين الذات والمجتمع في كتاب العقل والذات والمجتمع في عام 1934، وهو الذي وردت فيه تحليلاته للبعد الجسدي في التفاعل الاجتماعي.
(****) أصبح الهابيتوس فيما بعد مفهوماً محورياً في المشروع النظري لبيير بورديو (1930- 2002) ويعرّفه «برديو»: بأنه بنية أو مجموعة من البنى مستدمجة داخل الفرد مشتقة من العالم الخارجي تحدد كيف يتصرف الفرد ويتفاعل مع العالم المحيط به. (Throop & Murphy 2002: 186)
(*****) لم تترجم أعمال «ميرلو-بونتي» إلى اللغة الإنجليزية إلا بعد وفاته في عام 1961، حيث ترجم كتاب «فينومينولوجيا الإدراك» في عام 1962، وترجم كتاب «بنية السلوك» في عام 1965.
المراجع:
1– أوبيير دريفوس وبول رابينوف (د.ت)ميشــــيل فوكو: مسـيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح،مركز الإنماء العربي ، بيروت .
2– جواد الزيدي (2005) فعل الجســد : من سجن الروح إلى نظرية الاتصال ،جريدة الاتحاد ، أبو ظبي، 14 – 6 – 2005. .
3 – حســن المصدق (2007) البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة،جريدة العرب الدولية ، لندن ،26 – 7 – 2007.
4 – ديفيد لوبروتون (1997) انثروبولوجيا الجســـد والحداثـة ، ترجمة محمد عرب صاصيلا،ا لمؤسســة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،بيروت.
5- – زينب المعادي (2004) الجســد الأنثوي وحلم التنمية : قراءة في التصـورات عن الجســـــد بمنطقة الشاوية ، غير مبين دار النشر.
6-فاطمة المرنيسي (2002) العابرة مكسورة الجناح : شهر زاد ترحل الى الغرب ، ترجمة فاطمة الزهراء أزورويل ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء
.7 - فردريك نيتشه (د.ت) هكذا تكلم زرادشـــت ، ترجمــــة فليكس فارس ،دار القلم،بيروت.
8 Covington, Y. (2008) Embodied histories, Danced religions, performed politics: Kongo cultural performance and the production of history and authority, Ph.D. Dissertation in anthropology, university of Michigan.
9 - -Ferguson ,H. (1997)Me and my shadows
10 - Hughes ,B. (1996) Nietzsche : philosophizing with the body , Body & society , Vol.2 ,No. 3.
11 - Kelly , M. & Field , D. (1996) Medical sociology, chronic illness and the body , Sociology of health and medicine, Vol.18 , No.2.
12 -Loenhoff, J. (1997) The negation of the body :a Problem of communication theory, Body & Society, Vol.3 , No.2.
13 - Lyon , M. (1997) The material body , Social process and emotion : Techniques of the body revisited , Body & Society , Vol.3 , No.1.
14 - Shilling, K. (2005) The rise of the body and the development of sociology, Sociology, Vol.39, No.4.
15 - Turnball , N. (2005) Crossing Nietzsche,Theory, Culture & Society,Vol.22,No.3.
16 - Turner, B.(1992) Regulating bodies :Essays in medical sociology, Routledge, London and New York.
17 - Turner, B.(ed.)(2006) The Cambridge dictionary of sociology ,Cambridge University press
.
* تطور الانشغال السوسيولوجي بالجسد(*)
د حسني إبراهيم عبد العظيم
عضو هيئة التدريس – قسم علم الاجتماع – كلية الآداب
جامعة بني سويف – ج.م.ع.